• Default
  • Title
  • Date
الجمعة, 03 آذار/مارس 2017

رحلات الصد... ما رد

  عماد حياوي المبارك
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

يلفتُ نظري سلوك حيوان أسير تقوم منظمات حماية البيئة والحفاظ على الحياة البرية بإطلاقه نحو بيئته الأصلية، غابةٍ أو أحراش وما شابه، حيث أول ما يقوم به هو أستطلاع ما يحوط به بسرعة، تائه لا يعرف كيف يتصرف، بعد حين يبدأ التعوّد ويبحث عن مأوى وعن مصدر طعام، أي أنه يقوم بالتأقلم مع المحيط من حوله. لو نُطلق نحن البشر في بمكان غريب لا ندري ما يحيط بنا ولا نعرف إلى أين تتجه الطرق أمامنا، أول ما سنفعله أن نترقب ونستطلع ما حولنا لغاية ما تصبح لدينا فكرة، ثم وبدافع الفضول وحب المعرفة نستمر بأستبيان الأماكن الأبعد، نتعرف أكثر لنشعر بأمان وطُمأنينة أكثر. إذاً هو سلوك فطري ممزوج بفضول وحب أستطلاع من جهة، ولديمومة الحياة بالبحث عن مستلزماتها من ناحية أخرى، هي أمور يجاهد الأحياء في أستبيانها.
من هذه المقدمة، لنتخيل أنفسنا في زمان ومكان محددين، القرن الخامس عشر وبأوربا بالتحديد، الشغل الشاغل للناس، ملوك وأمراء، مستكشفين ومجازفين وعامّة ناس، البحث وأستبيان أطراف العالم من حولهم، فلا كروية الأرض قد أثبتت بعد، ولا هم يعرفون ما خلف البحار المحيطة بهم، كل ما يعرفوه أن الشرق يمتد إلى الهند والصين وكأنها حافات العالم، وأن الشمال يغوص ببحر من الجليد مترامي الأطراف يصعب الغور فيه، وليس هناك في جنوب الشواطئ الأفريقية غير صحراء ولا شيء غير كثبان من رمال تطمس بها القوافل، والمحيط الأطلنطي يمتد جهة الغرب بلا نهاية.
كل الإتجاهات والدروب كانت توحي بأنها تصد مستكشفيها ولا تردهم. أنقسم العالم حينذاك، بين من يأخذ برئي الكنيسة بأن الأرض مستوية وما نعرفه هي حدود العالم وعلينا التسليم بذلك، وبين رافض لها ومقتنع بوجود سر لم تصله يد المستكشفين الشجعان بعد، وهو بحاجة لإثباتات عملية غير تلك النظريات التي جاء بها الإيطالي (غاليلو غاليلي) مكتوبة على ورق سرعان ما أحرقته الكنيسة لطمس أي أجتهاد يصل بالعالم لنتيجة قد تكون مخالفة لكلامها، بقي الكل يتساءل ويلح في البحث عن جواب، جواب واحد محدد... (إلى أين تمتد الأرض من حولنا، وهل لها حافة أو هاوية أو لبحارها جدار، أم أنها تذهبُ بنا إلى ما لا نهاية، وهل يا تُرى يسكنها أقوام أخرى من البشر لم نتعرف عليهم بعد؟).
أسئلة كثيرة لم يستطِع أحد الإتيان بإجابة قاطعة لها، فمَن ذهب في عمق الصحراء الأفريقية أبتلعته رمالها، ومن تحدى ثلوج الشمال دفنته متجمداً، ومن ركب البحر أنقطعت أخباره وأختفت آثاره. لم يعُد من المغامرين العدد الكافي ليروي لنا تفاصيل ما حصل في بحثه عن جواب، ومن عاد إدراجه، كان قد خانته جرأته في الغور أكثر في الأعماق. كان الملوك يتلهفون لكشف الحقيقة، وصارت حدود العالم المترامية الأطراف تُشعرهم بأنهم في سجن كبير ما لم يعرفون نهاياته مهما تكن بعيدة، الجميع منقسم حول القناعة بكروية الأرض ولا أحد يعلم مدى حجم الأرض وكيف هي والى أين تمتد؟ فمولوا أي وسيلة يمكنها الظفر بإجابة فيما لو مخر الإنسان بعباب بحارها ودخل في مجاهلها دون أن تلفه منية، وهل لعاقل أن يقتنع بأن من يبحر بإتجاه الغرب يمكن أن يعود لدياره من الشرق؟ أي هراء هذا الذي يتبادله العقلاء، الأيام تمر والتاريخ لا يسجل أي تقدم يُذكر.
كانت خارطة العالم ترسم على أرض مستوية متكونة من ثلاث قارات مجهولة الأطراف، ومحيطين أطلسي مغلق من الشمال وهندي مغلق من الجنوب، وهو ما كان معتمد حتى القرن الثالث عشر دون نقاش، لا وجود للأمريكتين وأستراليا، ولا حتى لشرق قارة آسيا أو جنوب قارة أفريقيا. المحيط الأطلنطي هائجاً كئيباً مليء بمكامن الرُّعُب والمجهول ومادة دسمة للأساطير بغرق قارات وبلع سفن. كان على الربابنة أن يحسبون التموين لو جازفوا وأبحروا فيه شهوراً بلا هدى ثم قرروا العودة أدراجهم، هذا لو بقوا أحياءاً، كان الغالبية على يقين بأن سفن المجازفون ستصل حافة الأرض فتهوي في هوةٍ ليس لها قرار!
× × ×
التوابل، هي كما يقولون لو فُقدت من على المائدة فقد الطعام نكهته، وهو أمر مهم في أيامنا هذه، لكن في السابق كان لها فائدة أساسية أخرى، حفظ اللحوم فترات أطول، فبغياب وسائل حفظها التي نعرفها اليوم كالتجميد والتعليب والتفريغ وغيرها، ولولاها لا يمكن أن نأكل لحم الجمل بأوربا ولا لحم وعل الرنة القطبي بالجزيرة العربية. تتبيل لحم الضّان يحفظها لفترة أطول ويمنحها النكهة لتـُثير الشهية أكثر، وهو أمر بالنسبة للمائدة الأوربية هام جداً.
كل أنتاج التوابل (الفلفل الأسود* والقرفة وجوزة الطيب والزنجبيل وغيرها) وخبرة زراعتها وجَنيها وتجفيفها وتهيئتها وتصنيفها يتم بالهند، والأنسجة الحريرية الفاخرة الناعمة الملمس تُنسج في الصين بأسعار رخيصة، يقوم التجار الأوربيين بشرائها من التجار العرب أو أستيرادها خلال (طريق الحرير)، وهما وَسيلتي إيصالها لأوربا في ذلك الزمان لا ثالث لهما، فطريق البحر الذي يبدأ من موانئ غرب الهند (كلكتا وكراجي ومومباي) يحتكره العرب* حيث ينقلون بسفنهم التوابل والشاي إلى شواطئ الجزيرة العربية أو من خلال البحر الأحمر لمصر وعن طريق البحر المتوسط تُوَزّع لأوربا والجزر البريطانية. أما طريق الحرير فكان أبطأ وباهظ الثمن ـ لأنه برّي ـ ولا يتسع لطلب المتزايد على ثروات الهند والصين، كما أن خضوع قوافله لمزاج حكام المناطق ولغزوات قطاع الطرق، مهد الفرصة للتجار العرب بإحتكار* السوق أمام المستورد الأوربي الذي كان بحقيقة الأمر هو من يدفع المغامرين لإيجاد طُرق بديلة وكان لا يتوانى بإستخدام حتى الدين للحصول على مواطئ قدم له داخل المدن المنتشرة ببلاد العرب وبلاد فارس، فتبنّى التجار الأوربيون حملات تبشيرية خططوا لها وقالوا أنه يقابل المد الإسلامي الذي يبشر به التجار العرب.
إذاً كان التمويل لرحلات الإستكشاف، ظاهره الدين حُب المعرفة، لكن باطنه أقتصادي بحت... حُب للتوابل!
× × ×
أولى محاولات البحث عن طريق بديل للهند، هي من قِبل تجار (جنوا) بإيطاليا بالعام 1455 وقد بائت بالفشل لتكون أولى رحلات (الصد ما رد)، بعد ذلك وصل مغامران بإبحارهما بالمحيط الأطلسي جنوباً باتجاه خط الإستواء ليصلا جزر (فيرد) هي اليوم (جمهورية الرأس الأخضر) ليعودا ويصفا كيف وصلا للمجهول في رحلة رُعب. عام 1488 أستطاع بحار برتغالي يدعى (دياز) من الإبحار جنوب بحر العرب بموازاة الجروف الشرقية لأفريقيا، ووصف بعض التجمعات البشرية عند مصاب الأنهار، ولما أستقبلته عواصف هوجاء وهيجان بحر، عاد إدراجه ليقول بأن ثمة دلائل تُشير إلى نهايةٍ ما للبر الأفريقي، لكنه أضاف بأن ثمة سنون جبلية أسماها (صخرة الشيطان) قد بدت له بين الضباب من بعيد وكأنها تنبهه بضرورة التقهقر والعودة، فسمّى نقطة الأفق تلك بـ (رأس العواصف). رفض ملك البرتغال هذه التسمية كونها ستُخيف البحارة وبالتالي لم يتسنَ إيجاد متطوعين لرحلات تالية، كما أنه سيخسر دعم الشركات وتمويلها لتلك (المغامرات)، وعليه فقد سمى النهاية المفترضة لليابسة من قارة أفريقيا بـ (رأس الرجاء الصالح) للتشجيع على الإستمرار بإستكشاف ما يمكن، قائلاً بأن الأبواب باتت مشرعة عن طريق اللأطلسي للهند وهي بأنتظار من يفتحها، وأسدى شرف رحلة في عام 1497 بانت بوادرها بأن تكون تاريخية للملاح المخضرم (فاسكو دي جاما) وأخوه (باولو دي جاما) ممولة من شركة (فلورنتين) مكونة من أربع سفن أثنتين بقيادتهما وأخريتين للتموين، تنطلق من لشبونة بإتجاه خليج (غينيا) فجزر (ماديرا) فرأس (ناو) ثم رأس (بوجادرو)، وهذا الرأس يوصف سابقاٌ بأنه نهاية العالم وأن ما بعده أرض شياطين مشؤومة على من يقترب منها. أستمرا الرجلان وطاقمهما بالإبحار بلا خوف ولا تردد غير مكترثين بما جابههم من عواصف وأعاصير حتى أضحت سفنهم الأربع تتقدم من سن صخري خلال طقس قاسي وضباب، حين أشرقت الشمس عليهم كانت سفنهم تدور حول شبه الجزيرة سعتها 75 كلم مربع، فيتبين لهم بأنه فعلاً (رأس الرجاء الصالح) وليجدوا أمتداد لا منتهِمن البحر ولقاء حميم بين مياه الأطلسي الباردة والهندي الدافئة.
كان المحيط الهندي بهذه اللحظة يبدو كمن فتح لهم ذراعيه ليدعوهم لتكملة المسيرة حيث الفردوس المنشود، الهند والصين، فبدا لهم طريق الشرق سالك، ليشمّون من بعيد عبير روائح توابله ويلمسون نعومة حريره الذي ستنقله سفنهم دون اللجوء لإحتكار* التجار العرب. تنفس الأخوين (دي جاما) الصعداء وراحا يتبختران بسفنهما بمحاذاة شواطئ أفريقيا الشرقية ليرسماها على الورق، فهي فرصتهما بأن يخلدهما التاريخ، وبإكمالهما رسم خارطة أفريقيا التي عصيت على الرحالة وعلى الجغرافيين ووصلا لأول مرة بالتاريخ لمصب نهر (الزامبيزي) ونجحا بعرض تجارتهما على السكان المحليين هناك والحصول على بهارات هندية.
وهكذا أنعكس المَثـَل العربي القائل... (مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ)، ليصيح... (فوائدُ قومٍ عند قومٍ مصائبُ)، فرأس الرجاء الصالح أصبح حقيقة بدل رأس الشيطان الذي باركه التجار العرب في السابق للحفاظ على تجارتهم، ولينقلب عليهم الدهر حيث أهملت تجارتهم وهُجرت موانئهم ومدنهم وأسدل الستار عن مغامرة خاضها العالم لإستكشاف طريق بحري يربط أوربا بالهند وظل التساؤل واللغط حول كروية الأرض لبعد حين.
كانت (حفنة الفلفل الأسود) التي أحضرها الأخوين عند عودتهما للديار، أول بضاعة تصل عن طريق البحر لأوربا من دون لمسة عربية، وهو يعني نجاح التاجر الأوربي بالوصول عن طريق البحر للهند والعودة سالماً ليثبت للعالم بأنه لا وجود (لدرب الصد ما رد).


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
× فوبيا الأستكشاف في وقتها: في العام 1486 حصل الإيطالي (كريستوفر كولمبس) الإذن من ملك أسبانيا بالإبحار غرباً لشق المحيط الأطلنطي، ونجح بمغامرة فريدة بالوصول إلى كوبا (أحد جزر البحر الكاريبي) ظناً منه بأنه وصل شرق آسيا، ولم يتوقع حينها أن أمامه قارة عظيمة، فسماها جزر الهند الغربية وأقفل عائداً يحمل البشرى وبعض الذهب مما وجده على مصاب الأنهار هناك، هذا الذهب هو ما دفع الأسبان لغزوها لاحقاً.
× لا تعني كلمة (إحتكار) هنا حالة جشع التاجر العربي، وإنما هي وسيلة مشروعة للحفاظ على مصادر رزقه والدفاع عنها في مقابل أية منافسة شريفة أخرى.
× الفلفل الأسود (ليس له علاقة بالفلفل المتعارف) هو ثمرة على شكل عناقيد ناعمة حُمر اللون لأشجار تزرع بكثرة في الهند، تُجفف فتصبح سوداء ثم تطحن، تشكل تجارتها 22% من تجارة التوابل الهندية، له القابلية ـ بالإضافة لنكهته ـ على حفظ اللحوم ومنعها من التفسخ لفترة من الزمن.

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014