• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 12 أيار 2019

الصابئة المندائيون و النخـــلة

  مؤيد مكلف سوادي
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

كان العراقُ ، وما يزالُ ، بلدَ الخصبِ والخيرِ ، والدفءِ والحياةِ ، بيئتُهُ زراعيةٌ ، لكنّهُ موعودٌ بِآن يتطوَّر صناعياً لو استُغِّلتْ جميعُ طاقاتهِ ، وما يمتلكُ من مواردَ اوليةٍ مُهملةٍ ... وأَجملُ ما يُميُّز هذا البلدُ ، غزارةُ آنهارهِ ، وكثرةُ رَوافدهِ وَجداولهِ ، وخصوبةُ تُربتهِ ، كما آنّهُ يتميزُّ منذُ القِدمِ ، بِشجرةٍ مُباركةٍ اسمها (النخلةُ) ، تُغطي سُهولَهُ ووديانَهُ وضِفافَ آنهارهِ ، وآفاقَهُ الشّاسعةَ على شكلِ مِظَلَّةٍ واسِعةٍ ، رائعةِ الحسنِ ، يتدّلى من آعذاقِها الذهبيةِ سكَّرٌ وعَسَلٌ ، حُلوُ المَذاقِ ، لذيذُ الطعمِ ، يُشبِعُ الجائعَ ، وَيُغيثُ الظمآنَ .. وبسببِ ذلكَ رَفرفتْ ظلالُ السعادةِ على ساكني هذا البلدِ ، فاستطاعوا ، منذُ القِدَمِ ترسيخَ وجودِهم ، ورفعَ سَقفِ حضارتِهم ، حتى باتوا اساتذةً لِآهلِ العلمِ والمعرفةِ ... وكانَ اجدادُنا الصابئة المندائيونَ جُزءً من هذا الجمعِ المبارَكِ ، التصقوا بِأَديمِ هذهِ الآوطانِ منذُ فجرِ التأريخِ وساهموا بِبناءِ حضارتِها ... ووجدتْ ديانتهمُ المندائيةُ لها مكاناً بينَ مختلفِ الدياناتِ ... وبسببِ فيضِ خَيراتِ هذا البلدِ وقناعةِ سُكّانهِ ، كانوا بِمنأىً عن المجاعاتِ والقحْطِ والجَفافِ يُقنِعُهمُ القَليلُ ويكفيهمُ اليسيرُ .. ومَنْ يتصفحُ الكتبَ الدينيةَ المندائيةَ ، ويطّلِعُ على تعاليمها ، يَجدُ تعابيرَ تنمُّ عن الرضى والاطمئنانِ ، وشكرٍ لِلخالقِ ، واهبِ كُلِّ تلكَ الخيراتِ الجمّةِ.

والصابئة المندائيونَ يُشيرون دائماً باعتزازٍ الى النخلةِ ويُطلقونَ عليها رمزاً مُمَيّزاً تحت اسمِ (سَندركة) ، مَقرونَةً بالماءِ (أَينة) آي عينُ الماءِ ، فآصبحَ شعارُهم (أَينة وسندركة) اي (عينُ الماءِ والنخلةُ) ... كما انَّ الوقائع تُشيرُ الى آنهّم دائماً ، كانوا سَبّاقينَ لزراعةِ النخيلِ ، فَهُمُ أَينما حَلّوا وَسكنوا ، زَرعوها خَلفَ مَنازِلهم ، لِما لها من اهمّيةٍ ، فَجعلوا من دورهم بذلكَ جنائنَ تَنبُضُ بالجمالِ والحياةِ ، وتزخرُ بِأَشجارِ فاكهةٍ من كُلِ صِنفٍ ، وأَنواعٍ من الخُضَرِ يتخذّونها طعاماً يومياً لهم ... هكذا فعلوا حينما استوطنوا مواطنَهم الاولى في مدن المشرح وقلعة صالح والقرنة والبصرة والكحلاء والمجر والناصرية وسوق الشيوخ ومدن عربستان ، وقد ساعدَ على ذلكَ دِفءَ المناخِ ووفرةُ المياهِ العذبةِ وخصوبةُ التُربةِ ، فأصبحتِ الارضُ سَخّيةً معطاءَةً ، سريعةَ الأِنباتِ. وكانت هذه التمورُ مُتَعَّددةَ الأنواعِ ، رخيصةَ الأثمانِ ، مُقاوِمَةً لِلتَلَفِ ، مما ساعدَ على خَزنِها ، والأحتفاظِ بها طَرّيةً كانتْ ام جافَّةً ام مُعَلَّبَةً طيلةَ فصولِ السنةِ ... ولهذا السببِ ، غَدتْ النخلةُ بنظرِهم (سيدةً للشجرِ) ، ورمزاً لسائرِ العراقيين ... ومّما يدلُّ على اعتزازِهم بها ، اهتمامِهُم بِتجميلِها وتزيينها وتَشذيبِها وصيانِتها ، وأبرازِ مفاتِنها ، فكانوا ينتزعونَ ، كُلَّ سنةٍ ، آجزاءَها الخارجيةَ ، اِبرازاً لِحسِنها وَبهائِها ، ثم يَنتفعونَ بِكُلِّ ذلكَ ، حَطباً وسقوفاً لِلمنازلِ ، وقناطِرَ تُنصَبُ فوقَ الجداولِ ، وأَسِرّةً لِلنَّومِ ، وأدواتٍ منزليةً متنوِّعَةً .

كما تميَزَّ الصابئة المندائيونَ بِميزةٍ اخرى ، اختصّوا بِها دونَ غيرهم ، تتمَثَّلُ بِمعيشَتِهم مُتجاورينَ في مَحّلاتٍ خاصّةٍ بهم ، مِمّا يّدّلُ على أُلفتِهم وحُبّهم للعَيشِ سَوّيةً ، اِدراكاً منهم بِأنَّ ذلكَ يُحقِّقُ لهم الأَمنَ والطمأنينةَ ، ويُشعِرُهم بطَعمِ السعادةِ والتماسكِ والأنسجامِ ، اِضافةً الى تقويةِ الروابطِ العائليِة ، وتتمثّلُ تلكَ الأَلفةِ بِوضوحٍ بما يُسّمى (الدواوين) ، وهي مجالسٌ يلتقونَ فيها ليلاً لِلسَمَرِ والتسليةِ وشربِ القهوةِ وتبادلِ الاحاديثِ والشعرِ والأَدبِ ، وحلِّ المشاكلِ الطارئةِ. كما كانت تتمَّيزُ بتقديمَ وِجباتِ طعامٍ خفيفةٍ ، في آخرِ اللَّيلِ ، يتكوّنُ مُعظَمُها من (التمرِ والراشي) آو (اُلمكسَّراتِ) آو (اللفتِ المطبوخِ) آو (الخبزِ المصنوعِ من دقيقِ الرُزِّ معَ البيضِ) ، وجَرّاءَ ذلكَ كانوا يَستأَنِسونَ جداً بهذهِ المجالسِ ويَتشَّوقونَ اليها ... كما كانَ الكُرَماءُ من أَصحابِ البَساتينِ من المندائيينَ يُغدِقونَ العطاءَ لِلأيتامِ ، والفقراءِ عن طيبِ خاطرٍ ، وهذه الاعمالُ الخَيريةُ ما هيَ اِلآ ترجمةٌ لتعاليمِ دينهِم في تقديمِ الصَدقاتِ للمحتاجينَ ، كما تدلُّ على الأحساسِ بالتعلّقِ بالمشاعرِ الأنسانيةِ الجّياشةِ التي تدلُّ على المحّبةِ والشَفقةِ .. وقد بقيتْ ذكرى تلكَ الجَلساتِ في ذاكرتِنا ، استفدنا منها حكمةً وشعاراً جميلاً كانوا يُردّدونهُ فيقولونَ (المجالسُ مدارِسٌ) .

ولكن كانت هناكَ مُشكلَةٌ تُؤرِّقُ الصابئة المندائيين ، وَتُنَغِّصُ عليهم عَيشَهم ، أَلا وهي استهدافهُم من قبلِ اللصوصِ والأشرارِ ، فهمُ بالرغمِ من وَداعِتهم ، وميلِهم للسلامِ كانوا يتعرضّونَ من حينٍ لِآخرَ لشرِّ وخطرِ اؤلئكَ اللصوصِ الطامعينَ في الاستيلاءِ على تمورِ بساتينهم ، وأحياناً لِلسَطوِ على منازلهم ومواشيهم ، وقد أدَّتْ تلكَ الاحداثُ احياناً الى مصرعِ البعضِ من ابناء الصابئة. وحينَ كُنا في عُمرِ الصِّبا طرقَت آسماعَنا اخبارٌ عن ضحايا من الصاغةِ أَيضاً سقطوا صرعى بِأيدي مجرمين في بعض القرى اثناء تجوالِهم هناك ، من اجل كسبِ لقمةِ العيشِ .. وتلكَ الاحداثُ كانت شائعةً في بقيةِ المدنِ التي يقطنُها الصابئة المندائيون مثل سوق الشيوخ والبصرة والناصرية وقلعة صالح ومدن عربستان . وخلاصةُ القولِ ، ان علاقةَ الصابئة خُصوصاً ، والعراقيينَ عموماً بالنخلةِ، انما هي علاقةٌ أزليةٌ ، تحملُ الودَّ والعرِفانَ لهذه الشجرةِ المعطاءةِ الخالدةِ اعتزازاً بها.

 

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014