• Default
  • Title
  • Date
السبت, 24 آب/أغسطس 2019

الموسيقى وأثرها على الدين والتراث ..ج1

  عزيز عربي ساجت
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

( ان الموسيقى والتراتيل هي الجزء الفاصل بين السماء والأرض ) قول حكيم .
يمكن تعريف الموسيقى ، هي فن مآلفة الأصوات والسكوت عبر فترة زمنية ، أما خصائص الصوت التي تصف الموسيقى هي طبقة الصوت وتشمل اللحن والتجانس الهارموني ، الإيقاع ( بما فيه الميزان ) ، الجودة الصوتية لكل من جرس النغمة ، الزخرفة ، الحيوية ، العذوبة ، والفكرة ..
لقد اقترنت الموسيقى بالرقص منذ الأزل مع عدد من الطقوس والعقائد الدينية المبكرة ، وكانت اكثر تلك العقائد صلة مع الرقص ، هي العقائد السحرية وطقوسها التي عرفتها الحضارات الأولى ، وذلك باعتبارها - العقائد السحرية - العتبة الاولى في سلسلة المراحل الفكرية التي عرفتها الحضارات ، وبشكل ادق عرفتها الديانات .
لقد لعبت الممارسات السحرية دورا خطيرا وكبيرا في الإبتداء الحضاري ، وقدمت عونأ روحيا للإنسان عندما استعان بها من اجل مقاومة حياته وصعوباتها ومخاطرها ، التي واجهته في الغابات ، مثلما استعان بها لإقامة حواره الطبيعي مع الظواهر الطبيعية والأنواء ، الامطار / العواصف / الرعود / الاصوات الغريبة ، الغير معروفة له قبلا ، حتى ابتدا يتألف مع مكانه وظروفه ، وكان بدون وعي يقوم بحركات ورقصات حول فرائسه او طرائده لحظة التمكن منها ، ليعبر عن فرحته وسعادته بتحقق الفوز والانتصار ، وابتدات هذه الممارسات تتطور وتأخذ أشكال مختلفة او صارت محكومة بوقت معني ، وان اتساع هذه الممارسات والطقوس ، ساهم بتطور الألفة الفردية باتجاه علاقة جمعية مع مثيله ، وحصل الترابط مع غيره من بني البشر ، وتطورت لديه أيضا الممارسات السحرية المصحوبة بالحركة والرقص ، وتحولت بمرور الوقت خصائص معبرة عن الفرح والسعادة ، كذلك مصاحبتها لاي ممارسة دينية / احتفالية ، لان الاحتفالات والطقوس لا تكون ابدا بمعزل عن الرقص .
يكرس الرقص طقسا دينيا مصاحبا لبعض الترانيم والأدعية وخصوصا في الفترات اللاحقة والتي صارت فيها للمرأة مكانة في الحياة والدين / الحضارة ، اي في فجر المرحلة الحضارية التي كانت فيها السلطة للالوهية المؤنثة ، عندما لعبت الأم وممثلاتها دورا مهما في تطوير الرقص وجعله فناَ ملازما للعقائد الدينية والممارسات السحرية . لان المرأة دخلت عنصرا حيويا فيه مشاركة للرجل وذلك من اجل تطويره ، كما ان للام الكبرى وجدت في الممارسة الرقصية وسيلة للاغواء والاغراء ، مثلما صار فناَ خاصا بها ولها ، استطاعت من خلاله إدامة طقس الاتصال الثنائي ، وتطوير عقائد الجنس المقدس ، كما كان وما زال للرقص عند كثير من الشعوب والقبائل وظائف ما تزال إلى الآن محافظة على طابعها السحري / التوسلي بالآلهة والطبيعة من نزول المطر او درء خطر ما ، ان اكثر الوظائف اقترانا بالرقص وارتباطا به لدرجة الاندماج الكامل ، هبة الوظائف ذات العلاقة بنظام الخصوبة الكلي ، اي المنظومات والوحدات ذات الصلة بخصب النساء ، الأرض ، الأشجار ، الحيوانات ، السماء .
يمكننا القول ، ان التراتيل الدينية ليست وليدة اليوم بل كانت موجودة منذ ازمان بعيدة في التاريخ الانساني ، كانت شائعة في بلاد الرافدين منذ زمن السومريين والبابلين والآشوريين حيث وجدت مخطوطات وكتابات بهذا الخصوص تتعلق بالتراتيل الدينية الرافدينية ، وعثر على نصوص منها في مكتبة الملك الآشوري اشور بانيبال بنينوى ( 668-633 ق.م ) ، وكانت عبارة عن صلاة وتوسل لإله الشمس (شَمَشُ) باعتباره قوة كونية شمولية ، والهاً للقانون والنظام والعدالة ، فهو يشرق على الأرض بجميع أقطارها ، وعلى البحار فيخترق اعماقها ، كما وانه يشرق على العالم الأسفل ايضا ، وهو يطلع على اعمال البشر فيحسن الى الأخيار ويعاقب الأشرار ، وهناك ترتيلة من تاليف الملك الآشوري اشور بانيبال وضعها في تسبيح إله الشمس ( شمش ) وهي عبارة عن ترتيلة تتعلق بالنصوص النذرية والنصوص الملكية واستجلاب البركات ، وفي مقدمتها يقول : ( انت نور الآلهة العظمى ، نور الأرض ، الذي يضيء اقطار العالم . انت القاضي المبجل ، المحترم في العالم الأعلى والاسفل . تنظر من علاليك واشعتك تفحص كل البلاد . تعطي الوحي والالهام ، وفي كل يوم تصنع قرارات السماء والأرض .. إلى آخر الترتيلة ) .
وهناك ترتيلة إلى إله القمر نانا / سن ، عثر عليها في موقع مدينة نينوى الآشورية . وهناك ترتيلة موضوعة على لسان الكاهنة أنحدوانا ابنة الملك صارغون الكبير موسس السلالة الاكدية (2371- 2316 ق.م ) ، وهي كاهنة عليا للآله نانا ( سن ) في معبده الرئيسي بمدينة اور السومرية ، وهناك ترتيلة عشتاروت ركزت على خصائص عشتار .
اما الصلوات والتراتيل المصرية الفرعونية كانت تراتيل اخناتون ( امينحوتب الرابع ) وهي تمجد الاله الواحد خلال فترة حكمه ( 1369 - 1353 ق.م ) وهي عبارة عن تحويل الارهاصات التوحيدية في الديانة المصرية التقليدية الى عقيدة توحيدية صافية تدور حول إله خاف يتجسد في العالم من خلال قرص الشمش أتون ، وهما الترتيلة الطويلة تخص مدح الاله والتي مطلعها : ( كم جميل شروقك في افق السماء ، اي اتون الحي ، مبتدا الحياة . عنما تظهر في الافق الشرقي ، يملا جمالك كل قطر .. الى اخر الترتيلة ) وهنالك الترتيلة القصيرة وهي تخص مدح الاله ذاته والتي مقطعها : ( انك تشرق بجلال يا اتون الحي ، رب الابدية .جمالك ينعش كل قلب ، جمالك حياة .عندها كل الاذرع ترتفع اليك في ابتهال وصلاة . المغنون والمغنيات والجوقات تهلل لك في معبد المسلة . وفي كل معبد في مدينة ( اخيت اتون ) مقر الحقيقة . ويؤدي ابنك الطاهر ما ترغب به من طقوس .. الى اخر الترتيلة القصيرة ) .
كانت التراتيل طقوسا لانها كانت تؤدى بطريقة طقسية ووفق ضبط موسيقي في الكثير من الأحيان ، وكان السومريون يسمون الترتيل ب ( شير SHIR ) وربما في هذه الكلمة ما يشير الى الشعر رغم ان كلمة شعر بالسومرية هي ( سر SIR ) ، ويقابل كلمة تراتيل الاكدية (ZAMARU) اما كلمة شعر بالاكدية فهي (شيرو SHIRU) . وكانت التراتيل متفاوته الطول وهناك منها ما هو غير ديني خصوصا التراتيل الموجهة للملوك.
وتختلف التراتيل عن الادعية والتعاويذ في كونها ، اناشيد طقسية روحية يشحنها التامل في صفات الاله والترك بقواه ومناشدته للحب والاتصال . اما الادعية فتقوم على اساس التوسل بالاله ومطالبته بشيء محدد كالصحة او النجاح او رفع الظلم وغيرها ، في حين تبدو التعاويذ نوعا من النصوص الطقسية التي تطرد الشياطين باستحضار الاله وتطرد الاذى باستحضارالروح الخيرة للاله .
وتنقسم التراتيل السومرية الى قسمين اساسين هما التراتيل الكهنوتية والتراتيل الملكية ، وتتضمن التراتيل الكهنوتية مدائح تقديس وتمجيد للاّلهة السومريين العظام منهم بشكل خاص ، اما الملكية فقد نظمت بحق الملوك وتمجيد اعمالهم الا انها لا تخلوا من المديح والاطراء على إله عاصمة الملك او الاله المسبب لدوافع المديح، وكانت التراتيل بصورة عامة تتكون من ابيات منظومة كل بيت ينقسم الى شطرين ، بوزن متشابه ومعنى متقارب ولكل منهما رفعتان صوتيتان او ثلاث رفعات لغرض الغناء وكثيرا ما تزداد هذه الارتفاعات الصوتية فتبلغ الستة رفعات في شطر واحد ، ولكن يعقب كل رفعتين صوتيتين انخفاض صوتي واحد او انخفاضان وبعض الاحيان ثلاث خفضات صوتية ، وكانت التراتيل تؤدى وفق الحان معينة معروفة على ضربات الموسيقى بين دق الطبول ونقر الدفوف ، والحان القيثارة تتعالى منها نغمات العذارى من راقصات المعبد .
اثناء تقديم واقامة الصلوات الرسمية فان المتعبد او الكاهن يخاطب الاله في نغمة شعرية نجدها مرتبة في فصولها ونسميها ( ترانيم ومزامير ) . اما اللغة المستخدمة في ذلك فهي السومرية غالبا ، ونفس الصلاة الموروثة ايضا من السومريين والمؤلفة بلغتهم اصبحت من الطقوس البابلية واضافوا اليها اضافات تقليدية بين السطور وبلغة عامية ، ولكنهم مع ذلك فقد كتبوا باللغة الاكدية مجموعة كبيرة من الصلوات والاناشيد ، وتكون هذه اما على شكل ترانيم تعظيمية ، او كلمات خطابية للصلاة ، القصد منها التوسل والطلب ، ويمكن تمييزها وتصنيفها في مراتب حسب انغامها وحسب استعمالها في الطقس ومن هذه ( رفع اليد اثناء الصلاة ) او عمل ( انين بواسطة المزمار ) او اغاني شعبية ( في موضوع الصلوات ) لانعاش قلوب الالهة ، وكذلك اطلاق ( الصرخات طلب الرحمة ) او تعديد مطول بالخطايا ، ومن هذه الاناشيد والتراتيل الدينية ( نشيد التوبة ) وكان مطلعه ( يا مردوخ الشجاع الذي غضبه مثل غضب العاصفة ، ولكن نعمته اب رؤوف ! دعائي ، لم يستمع اليه احد : وهذا ما يفجعني ، صرختي ، لم يجب عليها احد ، وهذا ما يعذبني ، فارقت قلبي كل شجاعتي : واصبحت منطويا على نفسي عجوزا ، سيد القوة ، مردوخ اله الرحمة بين البشر.... الى اخر التريلة ).
ان طقس العبادة الرسمي وهذه المزامير نفسها كانت تنشد من قبل فرقة تصاحبها فرقة موسيقية تعزف اما على المزمار او على الدف او السنطور وهذه الالات الموسيقية كانت مقدسة ايضا وهناك نص مكتوب بالكتابة المسمارية وهو محفوظ الان في متحف اللوفر وهو يرشدنا الى طقس معقد وصعب يفسر طريقة تطبيقة بخصوص تغطية الدف البرونزي الخاص بالمعبد بغطاء جلدي جديد لعجل وفق طقوس خاصة لاقامة مثل هذا النوع من التراتيل الدينية .
ونلاحظ هذه الحالة موجودة بشكل واضح لا يقبل الجدل في الازمنة البابلية حيث اوكلت مهمة الادعية والتراتيل والاناشيد الطقسية الى الكهنة خدام المعبد البابلي ، والتي كانت مراتبهم اقل واخفض من المراتب العليا ، ويظهر ان كهنة الايريب - بيتي هم المسؤولون عن الاحتفالات العادية بالنسبة للاضحيات المنتظمة للالهة ولمساعدة الموظفين الاخرين في انواع اخرى من الاحتفالات ، فالاريبو - بيتي الريس يقود حملة المشاعل الاتين من الزقورات ومعهم كهنة الماشماشو وكانوا هم الراقين والمنشدين ، او يذهب الملك ومعه الاريبو - بيتي الى قدس الاقداس ويملا الاريبو - بيتي حوض الماء لكي تغسل الالهة عشتار يديها ، وكان الماشماشو والاشيبو طبقتين من الكهنة يهتمان بالادعية والابتهالات .
وكان عدد كبير من الطقوس والابتهالات المذكورة اعلاه يتم عن طريق الماشماشو ولكن ليس في المعبد بل في منزل الرجل المصاب ، مكا هم مسؤولون ايضا عن اتمام طقوس التنقية او التنظيف في المعبد وتطهيره وكان الكالو من الراقين وكان جزء من عملهم تهدئة قلوب الالهة عن طريق الموسيقى وهناك نصوص خاصة لهذه الطقوس يقدم تقارير مفصلة عن تحضير الطبل المقدس الذي يستخدمه هذا النوع من الكهنة ..
وكان النارو ، هو المنشد وكان هناك منشدان ومنشدون ، وقد كان هؤلاء مرتبطين بالكانو وكانت الطبقتان تشتركان في انشاد قصائد الرثاء ، وفي طقس المعبد كان الموجه الرئيسي هو الشيشاغالو وهو الذي كان يوجه المرتلين في اعياد راس السنة في بالبل وكان موزع شارات السلطة والشرف ، وكانت الضحايا تذبح عن طريق الكهنة الذين يدعون الشائقو ، وهناك موظفين ايضا لتادية بعض المظاهر العملية في طقس المعبد ويدعون ماري - اون ماني ( الحرفيون ) ، اضافة الى الكهنة المختصين بغسل وتزييت الطقوس وكانت طقوس الغسل تحدث في احد اجزاء المعبد او القصر ويدعى بيت - يميكي ( بيت الغسل ) .
لقد لعبت الموسيقى دورا مهما في الطقوس في كل من الهيكل والدولة ، وبالاضافة الى ذلك في التراتيل التي كان يقدمها الكالو ومعناها ( كاهن الابتهالات ) ، وكان هناك طبقة من الناس قد كرّسو انفسهم للموسيقى ، وكانوا يقدمون موسيقى الصوت والعزف على الاّلات الموسيقية ، وكان الشخص من هذا النوع يدعى (نارو) والمؤنث نارتو ، وكان الموسيقيون يذكرون الى جانب الكالو في الطقوس في المعابد ولكن مراتبهم الاجتماعية كانت ادنى من هؤلاء .
وكانت مسؤولية ترتيب التراتيل تقع على الكالو ، وكانت واجبات النارو ان ينشدوا الاناشيد بشكل جيد وان يعزفوا على الاّلات الموسيقية ، وقد كان الموسيقيون سواء كانوا ذكورا ام اناثا يذكرون باعداد كبيرة بما يختص بشؤون القصور ، اذ ان الملوك الاشوريون كانوا حريصين على جمعهم .
ولدى الإستيلاء على بلاد اخرى كان الاّشوريون يجلبون احيانا مجموعات من مثل هؤلاء الناس باعتبارهم جزءأ من الغنائم ، وكان الموسيقيون يرافقون الملك الاّشوري اثناء غزواته دائماً.
كلمة أخيرة : " الموسيقى هي حركة أصوات للوصول بالروح للتربية والفضيلة " قول للفيلسوف اليوناني افلاطون .

 

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014