• Default
  • Title
  • Date
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013

ثنائية العلم والدين في فكر الإنسان المعاصر

  عبداللـه الداخل
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

 مقدمة: 

1- هذه نظرة سريعة الى موضوع على درجة كبيرة من الأهمية. أنه أمر يشغل بال اعداد كبيرة من العلماء والمفكرين والمثقفين والعاملين في التربية وغيرهم في كل أرجاء العالم خاصة في الولايات المتحدة وأوربا.

2- من الواضح صعوبة تغطية الموضوع بكل جوانبه، لذا فهو يدعو الى مواصلته وإكماله والإفاضة فيه . إن المتتبع الجاد لهذا الموضوع الشيق قد يعثر على ضالته المنشودة في الجمع بين المعلومات العلمية والاقتراب من الحقائق وبين التسلية.

 ****

 من الطريف أن بعض "العلماء" و "أساتذة الجامعات" الذين يظهرون في قناة "التأريخ العالمي" International History Channel أو في الجغرافي الوطني National Geographic ينفذون أحدث التقليعات "العلمية" المبنية على اسس قديمة وذلك بمحاولاتهم ايجاد تفسيرات "علمية"لبعض الملاحم التي وردت تفاصيلها في العهد القديم، والتي تقول إحداها، مثلا، أن موسى، الذي قاد اليهود خارج العبودية من مصر، رمى بعصاه فانشق البحر ونشف وسطه فعبر اليهود المطارَدون من جيش الفرعون، وعندما حاول هذا الجيش اللحاق بهم، عاد البحر فاطبق عليه فهلك كل أفراد الجيش عن بـِكرة أبيهم. وقد أوضح "عالم" بريطاني امكانية ان ريحاً قوية قد هبّت في تلك اللحظة وازاحت البحر، فلكي يثبت لنا نظريته هذه وضع منفاخاً كهربائيا ليدفع الماء في داخل حوض زجاجي، و"نجح" في وصفه! ثم راح آخر يتحدث عن احتمال "تسونامي"، الموج العملاق، ربما شبيه بما حصل في بندرآجي بإندونيسيا، جاء بسبب زلزال او بركان دون ان يذكر كيف يمكن لهذه الصُّدْفة العظيمة ان تزيح مياه البحر الأحمر وتجففها لا أن تزيدها اضطرابا. 

 إن مشكلة هؤلاء ( ولا أدري ِلمَ خُيِّل لي أن بعضهم كان على وشك الانفجار بالضحك مثلما يفعل الممثلون عند احساسهم بفشل تصوير مشهد من المشاهد وسط انغمارهم فيه) تكمن في محاولتهم أن يصوروا للمُشاهد بأن هذا قد حصل فعلا لكنه إنما كان بحاجة الى تفسير علمي! وهم الآن يقدّمون هذا التفسير؛ لكن فاتهم ان المشاهد البسيط يدرك ان هذا في الواقع التفاف من نوع ما، لأن الكتاب القديم يقول نصا وبوضوح ان ذلك حصل بتاثير العصا ، ولابد ان يكون ايّ تفسير آخر خروجاً واضحاً عن المعتاد في الدين، وقد يعدّه البعضُ نوعاً من الهرطقة! 

 لا يستطيع احد ان ينفي باي شكل اي حدث تاريخي يدعيه البعض مع ادلة معقولة ما لم يثبت احدٌ بشكل معقول خلاف هذا، ومن المحتمل ان تكون هجرة اليهود من مصر قد حدثت فعلا، لكن الذي يصعب تصديقه هو ان البحر يمكن ان يُزاحَ من مكانه لأن راعياً رمى بعصاه هناك ، فلو حدث هذا في افلام الصور المتحركة (الكارتون) او في بعض افلام قصص الخيال "العلمي" science fictionاو ما شابه لما اعترض أحد، لكن عندما يقف أمامي عدد من "العلماء" للحديث باسلوب شبه علمي لمحاولة اثبات ان هذا قد حصل فعلاً مستخدمين بعض الاساليب العلمية والعلم الحديث بالذات مثل 3D pictures صور بابعاد ثلاث مولدة بالكومبيتر فان هذا لا ينفعهم بشئ بل يزيد في شكي ليس فقط باحتمال حصول الحدث وانما يزيد في تساؤلي عن السر في الاصرار على الخطأ التاريخي ومحاولة تبرير الخرافة علمياً. 

 

وسرعان ما تتضح المعضلة: اذا تم الاعتراف بانهيار واحدة من هذه القصص المقدسة فان الدّور سياتي ليشمل القصص الاخرى وبذا ستتعرض اسس الدين الى ما يسمى بمفعول االدومينو Domino effect ( أي ستكون الحالة شبيهة بقطع الدومينو الواقفة طولياًً جنب بعضها، ما أن تـُسقِط الاولى باتجاه الاخرى حتى تتهاوى جميعا الى النهاية، وهي لعبة معروفة) بمعنى آخر وضع الكتاب المقدس في مهب الريح لتنزع اوراقه واحدة واحدة ، ثم يصرخ طفلٌ في الشارع : إن الملك بدون ملابس!! ولهذا يتوجب الدفاع عن جميع القصص دون استثناء والى النهاية (وهو موقف يوضح الفارق بين الحكمة والحماقة ، والحماقة الحقيقية تكمن في الاصرار لان كثيرا من البالغين أوضحوا، منذ زمن طويل، وضع الملك تماماً) وان افضل وسيلة للدفاع هي استعمال أساليب الغريم الذي ثبت نجاحه: العلم. 

 

وكذلك الأمر بالنسبة لاسطورة نوح حيث حرص "علماء" مشابهون على تفسير ظاهرة المطرالذي استمر لأسابيع، وهذا ممكن تصوره في حالة شبيهة بامطار الرياح الموسمية التي تهطل على شبه القارة الهندية، لكن هذا يتطلب كثيراً من التخيل والمبالغة إذ ينبغي أن تتم تغطية "الكرة الأرضية" بمياه الأمطار (وبقائها في مكانها، دون تسربها الى البحار) تغطية تامة وبارتفاع يكفي للقضاء على كل اثر للحياة عدا ما يصطحبه نوح في سفينته؛ بيد أنهم لا يتطرقون الى كيفية جمع ذلك العدد الغفير من ملايين اجناس الحيوانات millions of species وكيفية معيشتها على ظهر السفينة أو ماذا كان حجم السفينة وهندستها وأي حوض بنيت فيه وكيفية بنائها...الخ ( يقول "الكتاب المقدس"استغرق بناؤها 120 سنة، ونوح عاش 900 سنة!!)، ثم يستدرك البعض من هؤلاء "العلماء" قائلاً أن الجيولوجيين لا يوافقون على هذا! لأنهم يعتقدون ان عمر الأرض يقرب من اربعة بلايين ونصف من السنين بينما يقول العهد القديم ان الله قد خلق الكون قبل ستة آلاف سنة فقط! ليس هذا وحسب، انما نظم هؤلاء حملات الى جبل آرارات لمحاولة العثور على بقايا فـُلـْك نوح ونترك الباقي لخيال القارئ! (أود التنبيه الى ان هذا النوع من "العلم" هو ما يُطلـِق عليه العلماء مصطلح "العلم المزيَّف" pseudoscience ، ومن أمثلته المسلسل التلفزيوني "علم الكتاب ’المقدس‘" Science of the Bible والاطباق الطائرة UFOs وظهور التخطيطات الهندسية في حقول الحبوب ومثلث برمودا وغيرها.)

 

ان موضوع الصراع بين العلم والدين يحتاج الى كثير من الصبر والحِـلـْم من لدن القراء الذين لم يتمكنوا بعد من حسم الصراع في داخلهم لصالح الفكر العلمي وأنماط التفكير الحديثة. لديّ قناعة كبيرة بأن هناك أعداداً غفيرة جداً من مثقفي العراق وأمم الشرق الأخرى قد تخطت مرحلة حسم هذا الصراع، وأعتقد بأنهم سعداء جدا بما توصلوا اليه، على الرغم من أن هذا الحسم يغلب عليه أحيانا طابع السرية بسبب الظروف الاجتماعية في بلدانهم.

قد ننتبه الى حقيقةٍ في منتهى الأهمية والخطورة، قد تـُصبح من الظواهر، تتمثل في بدء الرأسمالية بتبني واستعمال بعض "المواقف" من الفلسفة، وحتى بعض المواقف "اللادينية" غير المرتبطة علميا، وتطبيقيا بصورة خاصة، بالفلسفة، كبدائل محتملة للدين، أي للمسيحية بالذات، وقد يبدو كلامي هذا منطوياً على بعض المبالغة او الإبهام، لكني أرى تباشيرَ ظاهرةٍ جديدة، على المدى القريب تاريخياً. فتطرُّف المواقف الرئاسية والإدارية الأميركية عامة من العلم والدين في الفترة منذ عام1980 (رئاسة رونالد رَيـْكَن الى اليوم) بلغت مرحلة خطيرة لاأعتقد ان العلم سوف يلتزم جانب الصمت إزاءَها الى أجل غير مسمى ، وعند ذاك سوف يدخل الصراع شبه الخفي مرحلة جديدة تؤذن بأفول المسيحية في الولايات المتحدة ، التي تمثل إحدى أكبر وآخر معاقلها. 

 

فما هي المرحلة التي سوف تلي، وهي آتية، تسخير السودا ساينس والمناورة "العلمية"؟ ألن تكون منسجمة مع التطور التاريخي وتسلسل الأحداث؟ ألن تكون المرحلةُ القادمة تمثيلاً جديداً "لإرتقاء" السدَساينس الى "فلسفة" لادينية سائبة؟

 

لكن يبدو ان السُّودَساينس هو اليوم حجر الزاوية البديل والعظيم، وسيظل كذلك ردحاً من الزمن لايُستهان به، كمحاولة للإبقاء على الخرافات وإلباسها لبوس العِلم، وهو ما يسمى أحياناً "بالتوفيق" بين العلم والدين، وهي عملية شائكة وشاقة، وتبدو مستحيلة تماماً، ولا تخلو تناقضاتها ودقائقها (للمراقب الحَذِر والملم بالأمور العلمية والدينية على حد سواء) من كونها مصدراً للمتابعة والتسلية. 

 

أرى أن من الحكمة، قبل الخوض في بعض تفاصيل هذه الثنائية، في عصرٍ صعب كالذي نعيش فيه، أن نولي الأسئلة التالية بعض الإهتمام، محاولين الاجابة َعليها بكل الصدق والاخلاص الممكنـَيْن مع أنفسنا (وربما بالتصوّر المعقول أيضاً)، ويجدر التنويه الصريح هنا ان هذه الأسئلة مصاغة لمساعدة القارئ على الحسم المنطقي لصالح العلم:

 

أ- هل أن الكون cosmos لانهائي infinite حقاً؟ أم أنَّ هناك حدوداً أو نهاياتٍ من نوعٍ ما في كل "الجهات" ؟ أو ربما بعضها؟!! وأية "جهات"؟ وإن وُجدت حدودٌ، فما إحتمالاتُ طبيعتِها؟ وماذا يأتي بعدها؟ فراغ vacuum؟ هل الفراغ جزءٌ من الكون؟ وهل للزمن بداية أو نهاية؟ وإذا كان الأمرُ كذلك، فمتى كان من المحتمل أن يكون قد بدأ الزمن؟ ومتى سيكون من المحتمل أن ينتهي؟ ولنتوقف قليلا بعد هذا السؤال الصعب المعقد لاستحضار بعض ما أ ُتيحت لنا معرفته من علم الفيزياء.

 

ب- هل نعتبر الانسان كائناً عضوياً organism؟ (ما هو الكائن العضوي أوالكائن الحي؟) أم هل نعتبره غير عضوي؟ ( هل هناك "كائنات" لاعضوية على هذا الكوكب؟ وإن وُجدت، فما طبيعتها؟) وماذا عن بقية الحيوانات، من ذوات الخلية الواحدة الى الفيلة والحيتان الزُّرق؟ و ماذا عن النباتات، من ذوات الخلية الواحدة الى السِـكـْوويا sequoia ، أكبر الأشجار؟

لنتوقف هنا أيضا ً لتذكـّر ما تـَسَـنـّت لنا معرفتـُه من علوم الأحياء (الحيوان والنبات) والكيمياء.

 

ج- فيما يتعلق بالبقاء survival، وكذلك موضوع "السعادة" :

 

1- هل نعتبر الفرد (البشري) أكثر أهمية ًمن المجموعة community ؟ ولماذا؟ قد يبدو هذا الشق من السؤال تبسيطاً متعمداً، فمن المفهوم أن الفرد لا يستطيع العيشَ وحيداً إذ لا بُد من شريك (زوج) أوّلا ً لغرض التكاثر (نقل الجينات)، لكنَّ العصرَ قد تغير فهو لم يَعُـدْ بحاجة الى مجموعة أكبر لأغراض الصيد أو درء الأخطار؛ فهل ان انتفاء هذه الحاجة تجعله اقل التصاقا بالكوميــُنـِـتي أم العكس ولماذا؟

 

2 - أم هل أن تنظيم حياة الكـُميـُنـِتي، على كل صعيد، من قِـبَل الجميع، تنظيما ًعادلاً، حكيماً، مبنيّاً على ضرورة بقاء (وإسعاد) المجموعة، ككل، أولاً، هو الأهم، لأنه سيُفضي بدوره الى سعادة الفرد أيضاً، فالفرد سيُبدع حقاً فقط من خلال الشعور السامي اتجاه الكوميـُنـِتي ولأن عمل الأفراد لمصالحهم الذاتية فقط (بحجة الحرية)، يؤدي عادةً الى فوضى، الى انقسام الكـُمـْيـُنِتي الى فقراء وأغنياء (انقسام المجتمع والبلاد الى طبقات، بما يحتويه هذا الإنقسام من فوضىً في كل أركان الحياة إلى مآس ٍ وبؤس وعلل وغياب "الضمير" و"الأخلاق"، ومخاطر اخرى عديدة، كما يتضح للجميع بشكل صارخ في المدن الرأسمالية الكبيرة على وجه الخصوص)؟ 

 

إنَّ إجابتي على هذا السؤال الطويل، بشقيه، سوف تشير الى ما تعلمتـُه من كثير من المعارف الإنسانية، والى نوع هذا التعلم وطبيعة المعارف، وتأثيرهذا فيَّ، ومستوى استيعابي واهتمامي بتطويري لما تعلمتُ؛ أي قد توضح كيف أفكر الآن، وربما تـُلمّـح الى احتمالات تغيـّـُري فكرياً، لكنها، وهذا مهم، ستكشف موقعي في الكـُـمْـيُـنِتي، وأين يمكن أن أقف في الإصطفافات الطبقية (وربما السياسية) في المكان حيث أحيا؛ باختصار: قد تحدد من أنا.

 

سؤال يفرض نفسه الآن: هل استطاعت البيئة (التي عشتها وأعيشها)، بضمنها النظم التربوية المسؤولة عن خَـلـْق نمط الثقافة الذي أحملُه، أن تربط بوضوح في ذاكرتي بين هذه الأمورالثلاثة، وأن ترافق هذا الوضوح بتفصيل صادق، وأقرب ما يمكن من الحقيقة، في المهم منها؟ أم هل أنها شوّشت المفاهيم عليَّ بذكاء وتخطيط، ونجحت في تضليلي بالنزِر اليسير من العلوم الصرفة، كالرياضيات، وبقليل ٍلم يُشْفِ غليلي من العلوم الاخرى ومن هنا وهناك، والإهمال الواضح لعلوم الفلك، وإلغاء كل إشارة الى نظرية النشوء والارتقاء في البايولوجيا، أو التطور وأصل الأنواع لدارْوِن Charles Darwin، لكن بالإكثار، الى حد الإشباع، من التافه من المعلومات، ومن العلم الزائف، وبخلق التناقضات في رأسي، فأحس بأن الأمور ليست على ما يُرام، إذ أن هنالك شيئاً ما يعوزني، فلربما كنتُ بحاجة الى تنظيم أفكاري؟ وغير هذا من المشاعر الانسانية والتساؤلات والتطلعات المشروعة.

 

ألا يصدق هذا التساؤل في حياة كثيرين من الضامئين للمعرفة؟

 

هذه التساؤلات تفرض على الكاتب أن يلبي رغبة قرائه المشروعة بأن تكون مواضيعهُ واضحة ً كل الوضوح الممكن من ناحيتين: وضوح الفكرة الرئيسية، ومجموعة الأفكارالأخرى المطروحة والمتعلقة بها؛ ثم وضوح اللغة: وضوح الأسلوب، وضوح الجملة، وضوح العبارة ووضوح المفردات. إنما الوضوح هو ما يقود الكاتب الى تماسك الموضوع cohesion ، التحام أجزائه ببعضها البعض؛ إنما الوضوح هو ما يرشد الكاتب الى الترابط المنطقي coherence الذي يتجلى في انتظام وتطور الفحاوى الفكرية للموضوع ككل. ان وضوح الفكرة ينبغي ان يصاحبه وضوح اللغة ؛ وفي الاختصاص ينبغى على القارئ ان يُلِـم بالرطانة jargon أي "اللغة" الخاصة بذلك الموضوع كي يستطيع المواكبة. 

 

لكن الوضوح بحد ذاته موضوع مُشكِل problematic، فماذا يفعل كتاب الشرق في مجتمعات تعيش عقلياتِ القرون الوسطى؟ هل هم يسلكون ككتاب عصر النهضة الأوربية؟ هل يُسمح لهم بذلك؟ أم ان كثيراً منهم قد تخطوا هذه المرحلة ايضا (بصورة أقرب الى السرية) كي يواكبوا متطلبات الفكر الحديث فخُلقت هوة واسعة بينهم وبين مجتمعاتهم؟ من ذا الذي يَفيد من منع الكتـّاب من ان يكتبوا بحرية تامة في الدين كواحد من أهم الامثلة؟ من يقف وراء هذا المنع في اقطار الشرق وهل لبعض حكومات الغرب ضلع في المنع من خلال الأنظمة السياسية في الشرق (التي يُطلق عليها أحيانا دول الساتالايت، أي التي تدور في افلاك دول اخرى، وهي نفطية خاصة) والتي تسن الممنوعات؟ 

 

ولابد من التأكيد هنا الى ان الأمم الغربية َ مبتلية ٌ بذات الداء، لكنَّ هناك قوانيناً تحمي حرية كتـّابها، وهذه القوانين جاءت نتيجة كفاح طويل ومرير خاضه الكتاب والفنانون وعموم السكان استغرق عقوداً كثيرة من السنين، فقد بُدِئَ بحسم كثير من الأمور بالنسبة لنقد المسيحية ووضع النقاط على الحروف منذ القرن الثامن عشر، لكننا في الشرق ما زلنا نحبو في بداية الطريق، وهي طريق اكثر وعورة ً واشد خطرا. 

 

بيد ان الفرق بين الغرب والشرق في محاولات الحسم في هذا النمط من الازدواجية يكمن في طابع أو درجة تسخير احد طرفي المعادلة او كليهما من قبل الدولة المعنية. مثلا: لم تتخلَّ الدولُ الرأسمالية الغربية عن تسخير الدين، الذي ورثته عن الاقطاع، بنفس المستوى والحماس الذي تـُسخـّّر فيه العِلـْم، اي انها لا تحاول ان تميل الى الاقتصار على استخدام احدهما فقط (الدين) كما تفعل دول الشرق. تستعمل معظم دول الغرب الديانة َالمسيحية وتحميها لوظيفتها الفذة في الاستهلاك الشعبي لأنها تكاد تكون الآيديولوجيا الشعبية الرئيسية في النظام الإجتماعي، إذ ليس لها من منافسٍ قوي يمكن ان يُسَخـَّر كبديل لها في الوقت الحاضر. ومن مكاسب الأمم الغربية ان الناس عموما لا يبالغون في استعمال الدين كما نفعل في الشرق. ونرى هذا الفرق واضحا في ما يجري في بدء المؤتمرات على سبيل المثال. فكيف يبدأ مؤتمرٌ ما في الغرب؟ بالطبع يحرص مدير المؤتمر (او عريف الحفل) على ان يُشيع البهجة َ في نفوس المؤتمِـرين بكلمة جميلة او حتى بنكتة، فتعلوالوجوهَ بشاشةٌ ويباشر المؤتمر أعماله بجو من الود. أما في معظم الشرق فيبدأ مؤتمرٌ مماثل بتلاوة من القرآن، فيطأطئ الحاضرون رؤوسَـهم، وتـُضطر الوجوه الى اتشاح وَقار من نوع ما، ويُمنـَح الحشدُ جواً مجانياً من التوتر يسوده حزنٌ وكآبة لا مبرر لهما؛ أما إذا كان المؤتمر علمياً او ذا طابَع ٍ علمي أو فكري، فهذا الاستهلال يُؤْذِن بنسفه حتى قبل أن يبدأ!

 

لا ينبغي أن يدخل في رَوْعنا عند ملاحظتنا لسلوك الناس في الغرب أن السكان قد تجاوزوا في قرارة أنفسهم مرحلة انهاء التناقض الفكري لصالح التفكير العلمي، فهذا أقرب الى الخيال؛ فعلى الرغم من أنَّ على المرء، كي يستطيع مواصلة العيش ضمن النظام الاقتصادي القاسي في فوضاه ، في معظم أنواع المهن، أن يسلك على الضد من كثير من الإرشادات السطحية الموجودة في كتاب الدين، والتي يتطرق اليها القسس أحيانا كثيرة، بشأن المحبة والصدق والاستقامة في التعامل مع الآخرين، ولايمكن اعتبار السلوك المعاكس لهذه الارشادات حصيلةً للتفكير العلمي، بل هو خرابٌ عميق للنفس البشرية مصحوبٌ بكارثة الإنعدام التام للثقة بين الأفراد؛ لأن من نتائج التفكير العلمي، المقترن بالفلسفة، هو تفضيل مصالح المجموعة البشرية ونكران الذات والحب والاستقامة الحقيقية، حيث تكمن امكاناتٌ هائلة ورائعة للأخلاق البديلة السامية في ظل نظام اقتصادي بديل يسوده العدل ويحل السلام والنظام فيه محل الفوضى. وإذا اعتبرْنا هذا الكلام تبشيراً بطوباوية أو اشتراكية صعبة التطبيق (وقد يعزز البعضُ هذا الرأي بأمثلة من انهيار انظمة اشتراكية في الشرق لعوامل سياسية) فما هو الحل؟ ما هو البديل؟ ماذا يجب على البشرية ان تفعل؟ 

 

من الطبيعي أن تلعب بعض الإعتبارات السياسية والضرورات الآنيّة دوراً في السلوك القطيعي للأفراد حتى وإن كان البعض منهم في مواقع قيادية معينة، في غاية الأهمية أحياناً؛ فليس من الغريب أن نرى هـِـلــَري كْـلِـنـْـتـِن (زوجة الرئيس السابق) وبَراك أوباما أو قبلهما آل كَور أو جون كــَري وغيرهم من تقدميّي قادة الولايات المتحدة يتبارون في إثبات أنهم يؤمّون الكنائس أصباح الآحاد، فلا يَسمح لهم عصرُهم أن يجهروا بالوضوح الفكري الكامل، رغم الاحتمال الكبير بأنهم شخصياً يعانون هذا الكابوس، أو أنهم يفضلون قراءة "العدد الصيفي الجديد"! من هاري بوترHarry Potter مع بعضٍ من أطفالهم على القراءة قي كتابٍ بالٍ ممل مع بالغين يبدون أقل فطنةً من بعض الأطفال المتخلفين! بأي شئٍ يختلف هذا الموقف من حيث الجوهرعن تظاهر صدام وهو يصلي بمرقدٍ في النجف (دون مسدسٍ على إلـْيـَتِهِ)؟ في الحقيقة ان هذا السلوك هو استمرار وإكمال للكذب في التعامل التجاري اليومي بين الناس في كافة شؤون المجتمع الرأسمالي، الذي ينسحب على الثقافة والفنون أيضا(200 كذبة في اليوم للفرد الواحد حسب بعض الاحصائيات الطريفة!) إن هذه البانوراما الداكنة والكئيبة هي امتداد لطبيعة العلاقات في الكولونيّات (المستعمَـرات) الإنكليزية القديمة، التي أسسها "الحجاج" القادمون من بريطانيا للإستقرار في أميركا سعياً وراء "الحرية الدينية" منذ بداية القرن السابع عشر، ويساهم فيها اليوم ربع مليون كنيسة وآلاف المعابد الأخرى. (من الطريف ملاحظة أنه كان من الممكن تقويم الوضع بعض الشئ في منتصف الطريق، أي بـُعيد الثورة، 1776 ، لكن القيادة الأساسية، بقيادة العسكري جورج واشنطن أصرت، رغم نضج الظروف، على عدم اجراء اصلاحات جذرية مثل اعتاق الأفارقة من العبودية والذي صدر قرار به بعد حوالي مائة عام مسببا حرباً أهلية أوشكت أن تقضي على السكان) .*

 

لابد من التوقف للتنويه الى نقطتين: 

 

أ - هناك في القراءة الإنتقادية أمورٌ ممتعة، لا تُحصى في غزارتها ووفرة تفرعاتها وهي تدعو القارئ بالمقابل الى أن يتحلى بسعة الصدر والتتبع وروح الدعابة. ومن الأمثلة على ذلك هو التظاهر باتخاذ موقف "وسط"، على قاعدة "خير الأمور اوسطها"، أي بالإدعاء بعدم وجود أي صراع بين العلم والدين، فيقوم هؤلاء بسَوْق الأدلة "العلمية" على "صحة" كثير من النصوص الدينية، وينتهي المطاف بهم إلى صياغة "نظريات" و "فلسفات" جديدة "تعزز" مواقفهم القديمة ذاتـَها! 

 

ب - ان الاطلاع على ما يكتبه رجال الدين (أوالدخول في نقاش مع "مؤمنين") قد يكون مفيداً وقد يكون كارثياً، فهم يتكلفون الجد، فيضيفون لك وهماً جديداً. ولكنَّ القارئ اللبيب ذا العقلية العلمية، الذي يعتمد القراءة الإنتقادية ولا "يسلـّم جدلاً" أو يعتبر كل ما يقرأ أمراً مفروغاً منه قد تم اثباته مسبقاً take things for granted، بل يشك بكل ما يقرأ، مهما كان،(بضمنه هذا المقال طبعا!) الى ان يتسنى له رؤية ما يدعو الى اعتباره أقرب ما يمكن الى الحقيقة (ولا أقول اعتباره صحيحا)، أو أقرب ما يمكن الى اعتباره معقولا في تلك الساعة. 

 

أنت لا تستطيع مناقشة امور الدين بحرية بسبب ارهاب الدولة وارهاب المنظمات الدينية والرعب الذي ساد المجتمع قروناً ، ولا يزال؛ فاذا استطعتَ نقاشَ أمورٍ من الخارج ( كما أفعل هنا)، أو من الداخل (ان تكون واحدا منهم)، فأنت مخطئ مائة بالمائة وقبل أن تفتح فمك، وقبل أن تبدأ فانك ستـُقابَل بالشك اولا ثم الادانة بتهمة "الإلحاد"، وربما العزلexcommunication والتهديد وربما أخطار أخرى بدنية؛ وعند العرب المسلمين تشبه هذه الحالة ما يصفه الدكتور فرج فوده، الكاتب المصري المعروف الذي اغتاله "مؤمنون" في شارع بالقاهرة. يقول في مقدمة كتابه"زواج المتعة": (هذا الكتاب العاصف متوفر على الإنترنت)

 

"ان أسوأ خصائصنا الفكرية، في تقديري، تتمثل في الاعتقاد بالصواب المطلق، حتى في فروع الفروع وتفصيلات التفصيلات، واعتقادٌ هذا شأنه لابد وان ينعكس في نتيجة منطقية وهي الاعتقاد بالخطأ المطلق لمن يختلف معنا؛ أما أسوأ خصائصنا (التفكيرية) فهي في اسلوب التفكير احادي الاتجاه، حيث لا سبيلَ للحقيقة غير اسلوبنا في التفكير، ولا احترامَ لأسلوب الآخرين ولا اعتقاد بأن لهم منهجاً أو عقلاً أو أسانيد، فالمنهج لدينا هو ما ننهج والعقل في مفهومنا هو ما نعقل والأسانيد في تصورنا هي ما يساند أفكارَنا ومنهجَنا ونتائجنا." انتهى كلام الدكتور فوده.

 

إن طبيعة المعركة شبه السرية التي تدور رحاها هذه الأيام بين العلماء والإدارة الأميركية التي يهيمن عليها اليمين الديني سوف تنتهي بخذلان الادارة. لقد اعتادت الادارات الاميركية، والجمهورية خاصة، أن تقوم بكبح جماح التقدم العلمي بصورة دورية ومنتظمة، لكنها في عهد جورج بش الابن قد بلغت مرحلة العداء الواضح. وهذا الصراع الحساس، العريض، الذي اصبح واضحا لكل ذي عينين، يبدو من الخارج صراعاً أميركياً تقليدياً يتسم رسمياً، من الخارج، بتقريب كبار رجال الدين (بـِلي كَـْـرَيْهام مثلا) من قبل رؤساء الجمهورية. لكنه بدأ باتخاذ بعدٍ جديد في عهد الرئيس بُـش الإبن.

 

حتى كْرِسْ مووني Chris Mooney ، في كتابه "حرب الجمهوريين على العلم" الصادر عن دار "بَيْسِك بـُكـْـس" Basic Books 2006 ، الذي يستعرض ويحلل بدقة المواقف المعادية للعلم، وتغلغل الادارة الأميركية في التدخل ضد العلم في كل اركانه، يقدم جواز سفره نحو ترشيحه من قبل نيويورك تايمز كأكثر الكتب المباعة في العالم، وذلك بإلقائه اللوم على العلماء في كثير من الفقرات، (التي كان باستطاعته حذفـُها من فصول كتابه)، في محاولة توفيقية لاسترضاء الذين خصّهم الكتاب بالكشف والنقد!

 

يبدو لبعض الناس، من خلال ما تقوله وسائل الاعلام، أن الصراع هو خلاف حول بحوث الخلايا الجذعية stem cell researches كما يجري الحديث عن الخلاف على الاجهاض والإنتحار المؤازر طبياً euthanasia ( هذه تـُترجَم الى العربية بعبارة "القتل الرحيم"، بسبب اهمال الفرق بين القتل والانتحار، فيتذكر القارئ (في مشهد سينـَمي) حصاناً يُـقتل برصاصة رحمة في راسه coup de grace "كو دي كَراص"). 

 

لكن مووني يوضح ان العلم في الولايات المتحدة يتعرض الى ما يلي: (باختصار)

 

1- الإضعاف والتشويه، والادعاء بأن الداروينيات والتطور البيولوجي هي "مجرد نظرية" ، بالمفهوم العامي لكلمة "نظرية"، ويشترك في هذا الهجوم الساسة وعلماء "نظرية الخليقة" ووسائل الاعلام ورجال الدين.

2- القمع، ويتمثل بالغاء التقارير العلمية او تشويهها لأغراض سياسية وهذا يسئ الى سمعة العلم اساءة جدية.

3- استهداف العلماء كأفراد بحجة شؤون أمنية.

4- التلاعب بالعملية العلمية: من خلال ممثلي السلطة، حشر مؤيديهم السياسيين في اللجان الاستشارية، تغيير القوانين وغيرها.

5- التغليط وتحريف الحقائق وتشويه الاعمال العلمية.

6- تضخيم الشك العلمي (مبدأ الريبة ومواصلة الإثبات) وتزييف معناه النبيل، وذلك لجعل الشك ذاته يشمل اموراً أنفق العلماء سنين طويلة لإثبات صحتها، كمسألة النشوء والإرتقاء وتطور الأجناس، وهذا قد سبب ويسبب الأذى والإساءة الى العلم.

7- استحداث وتوطيد "العلم" النقيض : يتمثل بجهود بعض الصناعات (كشركات التبوغ) والفئات السياسية والدينية لتوليد "العلم البديل" لخدمة اغراضها، ويتجلى ذلك بالانفاق بسخاء على كتابة مقالات مزيفة ذات طابع علمي ونشرها في الادبيات العلمية الدورية. ان غزارتها ومظاهرها العلمية جعلت فلاسفة العلم يجدون صعوبة في رسم خط واضح بين العلم الحقيقي من ناحية وبين العلم المزيف والشعوذة والدجل من ناحية اخرى. (إنتهى ملخص الكتاب)

 

من الممكن، على العموم، تعريف سودَساينس او العلمُـزيَّف (العلم المزيَّف) بانه العلم الردئ الذي يقدّم ادعاءات باطلة غير مدعومة بالحجة الواقعية ثم يرفض التخلي عنها واحيانا يرفض مناقشتها عند تقديم البراهين المخالفة لها. وهو يخاطب عامة الناس لا المنتديات العلمية. إن العمود الفقري للعلمزيف يبدو واضحاً في الأشعة العلمية: انه الدفاع المستميت والملتوي عن الخرافات والأكاذيب. إنه النصّاب (أو رجل الدين) بمعطف أبيض.

 

إن مُنـَظـِّري "العلم" الخليقوي الغيبي قد جاءوا بمصطلح جديد- قديم وهو "التصميم الذكي" intelligent design ، وهو تعبير مختلس من كتاب قديم، ونسخة من نظرية الخليقة، والتي هي عقيدة دينية وليست علماً، وطالبوا بتدريسها الى جانب نظريات التطور البايولوجي، بمعنى آخر أنهم طالبوا بتدريس الدين في دروس البايولوجي: تحرُّش يؤْذِن بردّةٍ في الساحة العلمية وذات روابط سياسية واضحة، وهي بالذات سمة مهمة من سمات الإعاقة الدورية أو كبح الجماح الذي ذكرتـُه والذي تمارسه الادارات اليمينية دورياً.

وبقدر تعلق الأمر بالشرق فتجدر الاشارة الى ان الغرب حريص على الوضع الديني هناك خاصة في دول الساتالايت النفطية؛ وما نسمعه من "حرب على الاسلام" ما هو الا محض هراء، لأن أنظمة دول الساتالايت النفطية هي نفسها حريصة كل الحرص على بقائها في السلطات من خلال استمرارية الوضع الذهني لسكانها دون تغيُّر. أما "الارهابيون" أو "المتطرفون" أو"السلفيون"..الخ، فدورهم معروف، وهو ضمان بقاء السلطات الثيوقراطية وشبه الثيوقراطية وذلك بمطالبتها بأن تكون اكثر ثيوقراطية ً وإلا جاءوا ليحلوا محلـَّها! وكلاهما (الدولة الثيوقراطية الارهابية وغلاة الإرهاب خارجها ، وهما واحد) في هيمنة شبه تامة من خلال تعريض السكان للرعب بشكليه السري والعلني؛ لكن السكان بدأوا بالتذمر هناك أيضاً. (هناك دراسات في سلوك "المطاوعة" كمثال، وهي جديرة بالتأمل، لقد بدئ بالمطالبة بالغاء حركة المطاوعة منذ فترة ليست بالقصيرة). 

وفي المعركة السرية العالمية يُسنِد رجالُ الدين الشرقيون نظراءَهم في الغرب، والقراءة الدقيقة لكتاباتهم تشيرالى هذا بوضوح، وربما كان مرجع هذا الموقف، ظاهرياً، هو العلاقة العضوية للأديان الإبراهيمية الرئيسية الثلاث (تطورها من بعضها البعض)؛ لكن تشابه ملامحها الأساسية ، وأحياناً عدة تماثلـها الصارخ، لايكفي لأن يضع اتباعَها المتنازعين في خندقٍ واحد، فهذه ليست مسألة ًدينية بقدر ما هي سياسية، إذ ينبغي الفحص الدقيق لطبيعة العلاقات التي تربط المنظماتِ الدينيةََ في الشرق عموماً، وقادتـَها خاصة، بالجهات السياسية داخلَ البلد المعني وخارجَه، وهذه مهمة ليست باليسيرة، بل مُشكِلية. أن الصراع الأساسي هو في الواقع هو صراع اقتصادي، وأطرافه واضحة والمشكلة في ما يسمى ب"عصر العولمة" هي مشكلة تبعية اقتصاد البلدان الشرقية لاقتصاد الغرب ؛ أما الخلافات الظاهرية بين الأديان الثلاثة (مثلاً قضية كون عيسى هو المسيح ام لا، وهي مشكلة مسيحية- يهودية؛ وقضية كون عيسى هو ابن الله، أو الله نفسه، ام لا، وهي في الغالب مشكلة مسيحية-اسلامية...الخ ، وهي مشاكل كثيرة إذ يعتقد أتباع كل من هذه الأديان الثلاثة أن دينهم هو الحق وأن نبيهم هو الصادق ثم يلصقون شتى النعوت بالدينَيْن الآخرَيْن، بضمنها الكذب والكفر والجريمة وغيرها) فهي خلافات سطحية تفيد غالباً في الاستهلاك الشعبي، بين الأتباع ، وتُستخدم أحيانا لأهداف سياسية متباينة.

ولا ينبغي أن تجعلنا هذه الملاحظة أو الاستنتاج السابق بشأن دور المتطرفين في الساتالايتات ان ننظر بعين الريبة الى كثيرٍ من "الكتاب" البسطاء الذين تبدو البراءةُ واضحةً على كتاباتهم، فهؤلاء الأبرياء، ببساطة، يعانون من مشكلتين: الأولى أنهم لم تـُتـَح لهم الفرصُ الجيدة للإطلاع الكامل وغير المشوّه على نظرية التطور وأصل الأنواع لأنّ تداوُلَ هذا النوع من الكتب والمعلومات هو من المحرمات القانونية في بعض البلدان والدليل الواضح على هذا هو عدم السماح بتدريسها الكامل واهمالها التام أو شبه التام في المناهج التعليمية، وكذلك موقف الرقابات في العديد من الأقطار العربية من ملخص النظرية بقلم المربِّي المصري الدكتور سلامة موسى والذي صدر في الخمسينات من القرن الماضي! أتذكر أن هذا الكتيّب المفعم بالتبسيط والصور كان يُتداول في العراق بصورة شبه سرية، وليس هنالك الآن ما يشير الى ان تلك البلدان قد أبدلت سياستها تلك. بالمقابل من هذا فان هؤلاء الأبرياء قد تعرضوا منذ طفولتهم الى نوعٍ واحد من "الثقافة"، وهو نفس النوع الذي يحجب المرء عن التجديد بسبب من هالة القدسية المضفاة على طريقة التفكير ذاتها، رغم كون طريقة التفكير هذه لا تخلو من العجرفة الواضحة ورفض النقاش العلمي الهادئ والمتواضع. 

ان العِلم، على خلاف الدين، يتسم بالإصغاء الى آراء الآخرين واحترامها والأخذ بها، إن إعتـُبـِرتْ معقولة، وتبادل المعلومات الجديدة وتطويرها ثم نشرها ليتناولها آخرون بالشك والأسئلة والنقد والتجريب الذي يؤدي الى أفكار ومعلومات جديدة وهكذا؛ أما الدين فيرفض أن يحرك ساكناً ويظل ملتصقاً بهموم محددة (مدونة عادةً في كتابٍ أساسي واحد) يرفض أن يناقشها بحجة كونها مقدسة. لقد تمكن العلماء والكتاب والفنانون في الغرب من "توسيع صدر" المسيحية، لكن هذا كان قد كلف الكثير من التضحيات والعناء والوقت بسبب كون المسيحية "دين الدولة الرسمي"، أما في الشرق فالحدود القديمة ما زالت تضرب أطنابها في كثير من البلدان والصدر الضيق يصر على أن يضيق أكثر فأكثر، واحياناً يُعمَـد الى حد السيف "لتصحيح الأمور" أو "اعادة الأمور الى مجاريها الطبيعية"، فالسلطات الثيوقراطية وشبه الثيوقراطية والمدّعية بالدين والمتملقة لرجال الدين ولثلك الشرائح المستفيدة من أممها التي يغط الكثيرون منها بالنوم العميق، كانت وما زالت ترفض أي تحديث في المجتمع، وان أبلغ دليل على هذا هو وضع المرأة في الشرق إذ يتم الاصرار على عبودية وعزل وتغليف نصف المجتمع وتشيـيئِه، حيث يقتصر "التحديث" الذي تقوم به الدول على ما يقوم به فاحشو الثراء من رجال الأعمال من مشاريع لا إنتاجية وما تقوم به الطبقات الأرستقراطية "المؤمنة"، الغارقة الى أذنيها في الغرام مع الراسمالية الغربية، من خلق مطبات(طبقات بورجوازية تعمل كزيت التشحيم في المكائن) أو وسائد طبقية عازلة تكون بمثابة الحزام الواقي بينها وبين غالبية شعوبها. أما المشكلة الثانية التي يعاني منها اؤلئك الكتـّاب الأبرياء فهي واضحة : إنه إرهاب الدولة الديني المعهود: فإن حاول أحدٌ منهم أن يجدد في فكره أو أسلوبه في التفكير، فإنه يكون كمن يُصْدِر على نفسه حكم الإعدام، إذ سيُعَد مرتداً عن الدين فتتعرض حريته الشخصية، وربما سلامته الى الخطر. 

 إن الإختبار العملي (litmus test) أو ما نطلق عليه بالعربية "المحك" (لمعرفة عيار الذهب) للمثقف هو عادةً موقفـُه مِنْ، او طبيعة فهمهِ لمسألة النشوء والارتقاء، وان ايمانه بلامحدودية "الزمكان" فقط تجعل منه مثقفاً متضبـّباً. (من المفهوم لماذا ينظر المثقفون باستغراب الى الطبيب اوعالم الأحياء أو مدرس العلوم أو الفيلسوف اذا كان متديناً، على سبيل المثال.) 

 وعلى الرغم من أهمية الاقتناع التام بلانهائية الكون فإن هاتين المسألتين مرتبطتان ببعضهما تماماً، بل إنهما موضوعٌ واحد، فالمادة العضوية، بضمنها الجسم البشري، هي في حقيقة الأمر مواد نجومية star stuff، وكلُّ ما نحتاج هنا سيكون الربط الزمني وقراءة بعض التاريخ (العلمي) وشيئاً من عِـلمَيْ الأحياء والجيولوجيا، وقليلاً من التأمل، وذلك لكي نتأكد بشكلٍ قاطع من انتفاء أي نوع من التدخل الخارجي بما حصل ويحصل على هذا الكوكب، خلال الأربعة ونصف بليون سنة الماضية عدا ما وصله ويصله من اشعة ونيازك وجاذبية ...الخ من هذه المنظومةالشمسية او ربما من مجرتنا (الطريق الحليبية أو درب التبانة Milky Way ) أو من المجموعة المحلية للمجرات local group. 

 ولكي نتأكد تماماً من مِـحَكـّنا هذا، لنذهب الى الكومبيوتر ونـَنقر على عبارات مثل "النشوء والإرتقاء" أو "التطور وأصل الأنواع" أو "داروِن"، وما نكاد نفعل ذلك حتى نسمع صليل السيوف "دفاعاً عن الدين"، وهجوماً عنيفاً موتوراً ضد النظرية العلمية الجبارة، وضد شخص داروِن، وكثرة المواقع من هذا النوع توحي بأن هؤلاء يدركون تأثير الكم على النوع، وهي مليئة بتشويه يعتمد في الأساس على ما يلي (باختصار):

 

1- اعطاء صورة غير صحيحة ومشوهة عن النظرية من خلال شرحٍ سريع لها بلغة غير علمية ومن زاوية الناقد فقط (كالادعاء بان النظرية تقول ان الكلب يتحول الى أسد ثم الى قرد ثم الى انسان!) 

2- التركيز على ما كان يُدعى"الحلقة المفقودة" رغم اعلان العلماء عن العثور على حلقات مفقودة (انسان جاوه، النياندرتال، ..الخ) قبل أكثر من قرن.

3- تحميل النصوص الدينية معانيَ علمية ً مقوِّضة لِذات النصوص، أو الاستشهاد بنصوص لا علاقة لها البتة بسياق الكلام وانما الغرض منها هو ان الكاتب يحاول ان يثبت للآخرين انه يكتب ما "يرغبون" قراءته!

4- تحريض القراء البسطاء ضد المؤمنين بالنظرية والتأليب الرخيص عليهم بتسميتهم بالملحدين، وحتى تهديدهم وارهابهم وغيرها من الأساليب القرووسطية المدانة. 

 

هذه المواقع تتحاشى، بل تخشى، ان تقدم لقرائها تفسيراً علمياً او وصفاً دقيقاً او على الأقل مُنـْصفاً بعض الشئ لعملية التطور process of evolution ، تلك العملية البطيئة جداً، التي استغرقت مئات ملايين السنين، على الأرض تماماً وفي مياهها تماما؛ كما تخشى الاشارة الى انتقال الجينات في مجموعات الأجيال، والأسلاف المشتركة common ancestors وموضوع الإنتقاء الطبيعي natural selection ولا تريد مناقشة ان علم الجينات، والجينوم الذي توطدت أركانه عام 2000، وما يليها، ما هي إلاّ امتدادات طبيعية للداروينيات التي تؤكد كل البحوث العلمية (لا العلمزيفية) صحتـَها، كونـَها حقيقة، يوما بعد يوم. إن هذه المواقع، الغريبة في مراوغاتها، تفسر وجود حقائق علمية يعلن العلم عن اكتشافها فتوعزها مباشرة الى قوة خارقة للطبيعة موجودة خارج الأرض أو المنظومة الشمسية، وهي جاهزة دائماً لمثل هذا الاعلان في أي وقت وبأي شكل، لكنها تُصر على أن توجه الإهانات الى ذكاء قرائها بتقديم طروحات كـَسْـلى في تفسير الكون وتطور الأحياء، مما يقدم تفسيرا متخلفا للتأريخ البشري عامة (احدى المشاكل هي أن القول بان الكون قد "خُـلـِـق" قبل ستة آلاف سنة فقط أدى الى القول بان عمر الأهرام المصرية هو أقل من هذا، مثلاً، هو أربعة آلاف سنة فقط والاصرار على هذا الادعاء، وغيرها من المشاكل الكثيرة التي ترتبت على الإصرار على التصور المجافي للمعقول في تفسير الطبيعة والتاريخ..الخ والتي تنتظر الحل) ؛ هذا التفسير الذي لابد ان يُفضي الى تفسير تاريخٍ وأحداثٍ في بلدٍ ما بنهج مماثل، حيث تكمن الأخطار الجمة للتربية المغلوطة للأجيال. وكمثالٍ صغير جدا: تأريخ الصف الثاني المتوسط في العراق ( وُضعت لـَبـِناتـُه الأولى ابان الاحتلال البريطاني)، وكمثال مصغـّرجداً منه: اعمال الخليفة، ايِّ خليفة،( فكل الخلفاء تقريباً قاموا بنفس الأعمال!!) ذلك الرجل "المؤمن" الذي قاد الأمة وكان "عادلاً"، "يعطف" على الفقراء !! فما هي اعماله؟ (ألا ترون معي ان صدّاماً كان شديد التأثر بتاريخ الثاني المتوسط بالإضافة الى عدم تخطيه هذه المرحلة؟ ):

 

أولاً – قضى على الفِتـَن والإضطرابات! (توطيد الدكتاتورية الفاشية)

ثانياً – قام بالفتوحات: وسّع حدود المملكة ! (الإعتداء على الجيران) 

ثالثاً – أسس البريد! (تشكيل خط مخابرات جديد)

رابعاً – بنى القصور والمساجد !! (لم يبلغ عددُ قصورأي خليفة عددَ قصوره) 

خامساً – سك النقود !! (انيطت المهمة بالخَـلـَفِ الصالح!)

سادساً – شجع العلماء ! (في الغالب "علماء" الدين والفقه ورجال السفسطة)!

 ولستُ هنا بصدد هذا الكتاب-الكارثة، ولا المناهج الكارثية عامة، انما العقلية والخلفية الفكرية لمخططيها وواضعي الستراتيجية التربوية والسياسة التي تقف خلفهم والتي هي أوطأ بكثير من مستوى أحد موظفي الامبراطور العثماني قبل 200 سنة تقريبا والذي تمكن من اقناعه آنذاك بالموافقة على ترجمة ونشر العديد من الكتب الغربية التي اعتقـَـدَ انها كانت من اهم العوامل في تطور الغرب موضحا له المخاطر التي كانت تهدد الأمبراطورية بسبب الفوارق الثقافية والعلمية. 

 إن الإنترنت تضج بمواقع مليئة بتـَجَنٍّ وبتحامُلٍ، مع سبق الإصرار، على نظرية التطور البيولوجي، تجدهما جنباً الى جنب مع الاعلانات التجارية الرخيصة والمواضيع الغثـّة والدعوات الجنسية المبطنة والفاضحة والإلهاء السَّمْج. وهذا ما يدفعني هنا للإهابة بعلماء واساتذة البايولوجي العرب لتشكيل مجموعاتهم لمراسلة بعضهم والمساهمة في نشر الفكر العلمي في الانترنت والاكثار من المقالات البناءة والهادفة، ولأجل توطيد اركان نظرية النشوء والارتقاء (التطور البيولوجي) في الفكر العربي، فهذه الأمة لن تنهضَ ما لم تعرفْ أهم ركنٍ من أركان الحقيقة على الاطلاق، كخطوة مهمة، الى جنب التحرر السياسي والاقتصادي، في طريق التقدم.

___________________________

* هذا التعبير يرد في بعض كتب التاريخ الاميركي بالانكليزية، وهو صحيح الى حد كبير، لكن يبدو ان هذا التعبير ملتصقٌ بأذهان البعض مثلما كانت ملتصقة ً "أعمال الخليفة" في ذهن صدام حسين كما يرى القارئ في نهاية هذا المقال.

مراجع:

1 - الدكتور فرج فوده - زواج المتعة ، المقدمة ، الكتاب متوفر على الانترنت

2. Exodus Decoded - History Channel Program

3. Chris Mooney, The Republican War on Science, Basic Books, 2006.

4.Cosmic Perspective , Bennett et al , Pearson Education, 2004.

5. NCSE Resources مصدر رائع لقراء الانكليزية متوفر على الانترنت

__._,_.___

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014