• Default
  • Title
  • Date
الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2013

العراق.. الصابئة المندائيون استغاثة طيور الماء

  د. رشيد الخيون
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

 إن المشترك ما بين طيور الماء والصابئة المندائيين، وهم فِرقة دينية عاشت على ضفاف دجلة والفرات منذ القِدم، هو مجاورة الأنهار، والتنسك في مياهها، وما بينهما أيضاً من طباع المسالمة. فلا أجد بين هذه الطيور نوعاً كاسراً، ولا بين المندائيين قاتلاً حتى في سبيل الدفاع عن النفس، حسب تعاليم ديانتهم! قال لي الضليع في تاريح دينه زهرون السام: إن الآية نزلت فيهم: «يا يحيى خُذِ الكتابَ بقُوَّةٍ وآتيَناهُ الحُكمَ صَبيّا» (مريم 12). فهم يعتبرون يحيى بن زكريا الرباني الوحيد، وهي أعلى درجة دينية لا تنطبق شروطها إلا على يحيى. وهو حسب تاريخهم أحيا الدين المندائي بعد انقراض. يدعونه في لغتهم الآرامية، التي ما زالت حية على شفاه شيوخهم: يهيا يهانا. وما أقربها من التسمية العربية: يحيى! ويقرأ المندائيون لهذا الرباني كتاب «دراشة أد يهيا». أي تراتيل يحيى. 

يحفظ شيوخهم نصوص القرآن عن ظهور قلوبهم، وبلغة ومخارج حروف سليمة. يحتمون بظله من جهالة تناول منهم. إن هددوا بعدم اعتراف رتلوا: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا والنَّصَارَى والصَّابِئين مَنْ آمَنَ بالله» (البقرة 62). وما بعدها في «المائدة 69»، و«الحج 17». وإن تعرضوا للقتل تضرعوا بقوله تعالى: «مَنْ قَتلَ نَفسَاً بَغَيرِ نَفسٍ أو فَسَادٍٍ في الأرضِ فكَأنَّمَا قَتلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة 32). وإن طاردتهم جماعة متعصبة ردوا بالآية: «لا إكراه في الدين» (البقرة 256). وقد حصل أن ذَكَّرَ أحد شيوخهم مؤذن مسجد تعالى عن رد تحيته تعصباً: «وإِذَا حُيّيتُم بِتحيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحسَنَ مِنها أَو رُدُّوهَا» (النساء 86). وتبسط معه حتى أقنعه بأنها لا تميز بين إنسان وإنسان! 

عاش المندائيون على أرض العراق، ولم يعرف عنهم أنهم سفحوا دماً، أو مارسوا باطلاً. تغاضوا عن تحرشات المحيط، رغم «مزاياهم العقلية»: أطباء وفلكيون، ويصنعون القوارب الجواري في ماء الفراتين، ولا يُنافسون في فن الصياغة. لا تبتعد بسملتهم عن بسملة المسلمين: «بشميهون أد هيي ربي»، أي «بسم الحي ربي». وجاء في بوثة (آية) التوحيد من كتابهم: «الحمد لك! مسبح ومبارك ومعظم... إنه رب الملوك جميعاً، لا وجود بدونه، وما مِن شيء لولاه، أزلي ليس له بداية، وأبديُّ ليس له نهاية» (الكنز ربّا، القسم الأيمن). 

صحيح أن القتل طال كل فئات الشعب العراقي، وما سمعته من شيوخ دين ومثقفي الصابئيين أن ما يجري على هذا الشعب يجري علينا! لكن ما يتعرض له هؤلاء سيؤدي إلى انقراضهم، فقد أخذ العدد يتنازل إلى بضعة آلاف، والضغط عليهم مستمر في الجانب الإيراني أيضاً، حيث سواحل نهر كارون بالأهواز، ولم يعترف بهم مثلما تم الاعتراف بالمجوس. جاء في الدستور (الفصل الأول، المادة 13): «الإيرانيون الزرادشت، واليهود، والنصارى، والمسيحيون وحدهم الأقليات المعترف بها». بينما يعيش بإيران خمسة وعشرون ألف مندائي. 

ربما يعود الأمر إلى ما جاء في رسالة آية الله الخميني «تحرير الوسيلة»: «فلا يقبل من غير الطوائف الثلاث (اليهود والنصارى والمجوس) إلا الإسلام أو القتل». بينما اعترف لهم مرشد الدولة آية الله خامنئي بأنهم من أهل الكتاب. قال: «بحسب الأدلة أن الصابئيين يعدّون من أهل الكتاب» (الصابئة حكمهم الشرعي). والمتقدمان، كما هو معروف، قطبا ولاية الفقيه المطلقة بإيران. أحسب كم هي ورطة رجال الدين في السياسة والدولة، وخصوصاً إذا تباينت وتضاربت الفتاوى حول دماء الناس! 

وفي العراق، يتعرض المندائيون لتهديدات ومقاتل، من قبل متشددين سُنَّة وشيعة (أطلعت على تهديدين: من كتائب التحرير بالكرخ، ومن مكتب الصدر بالبصرة باسم الشيخ ميثم العقيلي). هددت الجماعتان بتصفيتهم، ومحو وجودهم الديني، وتهمتهم ممارسة السحر والتنجيم والزنى والكفر باطلاً. بينما حرم كتابهم السحر: «لا تستشيروا العرافين والمنجمين والساحرين والكاذبين في أموركم مخافة أن يرمي بكم أسوة بهؤلاء إلى الظلمات» (الكنز ربا). وحرم الزنى: «لا تعشقوا نساء الآخرين. ولا تقترفوا الزنى...احذروا أن يستحوذ على قلوبكم الشيطان، المملوء بأحابيل السحر والخذاع والغواية. ذلك أنه يستطيع أن يقلب نوايا الصالحين المحمودة إلى عكسها، ويجعل قلوب المؤمنين تتعثر وتتحول» (الكنزا ربا). وحرموا عبادة الكواكب: «لا تسبحوا للشمس والقمر» (الكنز ربا). ومَنْ لم يعرف الآرامية فكتابهم المقدس مترجم إلى اللغة العربية، وهو «الكنز ربا» أو «الكنز العظيم»، وهم يعتقدون أنه نزل على أول الأنبياء وأبي البشر، ويسمونه «سدرة آدم» أيضاً، أي كتاب آدم. أقول أليس من العدل على مَنْ أفتى، عن جهل، ضدهم مراجعة الكتاب؟! 

لجأ شيوخ الصابئة المندائيين، بعد وصول القسوة والإيذاء الذروة ضدهم، وهم ليسوا من حملة السلاح ولا من رعاة الميليشيات، إلى مراجع النجف شاكين حالهم، طالبين مراعاتهم بما راعى به المرجع الشيعي الشريف الرضي (ت 406هـ) إبراهيم بن هلال الصابئي (ت 384هـ)، وكانت صداقة عميقة ربطت بين العالمين. 

وبما عامل الإمام أبو القاسم الخوئي (ت 1992) شيخهم عندما كان يزوره، وكان الخوئي يدرك أن ضيفه لا يشرب إلا من ماء النهر الجاري (اليردنا) حسب لغتهم، وإلا سقطت عنه درجته الدينية، فيأتي له بماء حي من فرات الكوفة. 

ولجأ شيوخ المندائيين إلى هيئة علماء المسلمين والوقف السُنَّي، طالبين مراعاتهم بما حكم فيهم الإمامان صاحبا المذهبين. قال أبو حنيفة (ت 150هـ): «إنهم ليسوا بعبدة أوثان، وإنما يعظمون النجوم كما نعظم الكعبة» (الآلوسي، روح المعاني). ومع ذلك هم يستدلون بالقطب الشمالي صوب قبلتهم، حيث المكان المتسامي شمال الكون. وأفتى الشافعي (ت204هـ) فيهم: «الصابئون والسامرة مثلهم يؤخذ من جميعهم الجزية» (كتاب الأم)، أي يحمون أسوة بأهل الكتاب. 

تحاول هذه الشريحة المستضعفة، في زمن القوة وإشاعة القتل وتعطيل اللوائح التي كانت تحميها بالعراق، إسماع صرختها إلى العالم. نرى اهتماماً لانقراض نبات أو حيوان، فكيف بكتلة بشرية ما زالت لغة يحيى وعيسى الآرامية جارية على ألسنتها. ناهيك مما بينها من ثروة فنية متصلة بمزايا عقلية عبر التاريخ. كم خسر العراق بهجرة وتهجير اليهود من قبل. وكم خسر بحملات التهجير المريعة في الثمانينات. وها هي العصابات المتطرفة، ولا دولة يُجار بها، تدفع المزيد من الأُصلاء إلى المذابح أو الهجرة. فماذا عساه فاعلاً مَنْ «قل في أرض العراق» مساعده!

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014