• Default
  • Title
  • Date
الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2013

الصابئة المندائيون في العراق: روحانيون مسالمون وسط غابة من الحراب

  علي عبد العال
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

كنت في صدد كتابة موضوع عن الصابئة المندائيين في العراق قبل فترة وجيزة؛ وشعرت بالحيرة في تناول المادة ومفتاحها وأهدافها الرئيسية العامة. لي صديق عزيز هو الأستاذ حسام جبر، وهو أكاديمي مختص في مجال هندسة السدود ومشاريع تنقية المياه وجعلها صالحة للاستخدام البشري. وهو عراقي أصيل من الطائفة المندائية. وعلى فنجان قهوة مع أصدقاء آخرين طلبت منه بعض الكتب والمراجع التاريخية عن طائفة الصابئة المندائية في العراقي وعنده الكثير. جميع الأصدقاء الذين عرفتهم سابقا من أبناء هذه الطائفة كانوا من الوطنيين العراقيين الشرفاء. وكنا زملاء في العمل الطلابي في الجامعة ورفاق في أعتق حزب وطني في العراق، الحزب الشيوعي العراقي. وبعضهم نال الشهادة والخلود وهو يدافع عن بلده وعن أرضه وعن عزة وكرامة وحرية المواطن العراقي وحقوقه بالعيش الكريم. 

الحافز الذي كان يدفعني للكتابة في هذا الموضوع ظل غامضاً على نحو ما. ربما هو شعور بالوفاء لأصدقاء قدامى أكلنا الزاد معنا في بيتنا أو في بيوتهم. أو حنين إلى رفقة قديمة وصداقة حلوة عزيزة لم يعد بالإمكان استرجاعها الآن إلا عبر الأوراق والوجدان. فوضعت بعض الأسئلة التي رأيت أن أبدأ كتابة مادتي ضمن أطرها ومحورها. وحاولت أصباغ المادة ببعد تاريخي وشيء من الأسى الذي تعانيه الطوائف الدينية الصغيرة وسط بحر مختلف ومتلاطم لدين لا زال يتمخض عن إرهاصات عنيفة بلغت درجة من الدموية وحالات كثيرة متناقضة من الاجتهادات بين المذاهب كالدين الإسلامي في العراق. ولخصت المادة برؤوس الأقلام التالية: 

• كيف يعيش بعض الناس في العراق منذ قرون من دون "قرآن"؟ 

• كيف يتسنى لأفراد في المجتمع العراقي التعايش مع أفراد آخرين لا يعرفون الله كما يعرفونه هم؟ 

• ما هو الشعور الجمعي لأفراد طائفة دينية عريقة وجدت قبل الإسلام وقبل السيد المسيح تكتفي بزادها الروحي من وحي فلسفتها وتعاليمها الدينية الخاصة، الغامضة، وسط أكثرية واضحة تدين بدين النبي محمد؟ 

•  ما هي القيم الدينية الروحية لهذه الطائفة العريقة التي تنبئ بالقوة من غير تشدد، وتجعل أبناءها ينخرطون بشكل تام في المجتمع ويشاركون بحيوية في جميع مرافق الدولة والمجتمع وهم يحافظون بذات الوقت على تلك الخصوصية الروحية الفذة من دون الشعور بالتعالي الأجوف، أو الانمحاق الرخيص؟ 

تلك بعض الأسئلة، وغيرها الكثير كان يخطر على بالي وأنا أفكر بكتابة مقال بسيط عن الأصدقاء والرفاق والزملاء والمواطنين العراقيين الأصليين الذين نطلق عليهم نحن العراقيين تسمية "الصُبْة". وكان قاموس "المنجد في اللغة" أول ما رجعت إليه لغرض تحديد مصدر الاسم: الصابئة. جاء في كتاب المنجد ما يلي: 

(صبأ ـ 1 ، صَبَأ ، صَبُؤَ ـ صَبْأ وصَبُبؤاً: خرج من دين إلى آخر/ تدين بدين الصابئين، فهو صابئي ج صابئون وصابئة). 

ليس في هذا المصدر اللغوي ما يُشفي الغليل. لذا رجعتُ إلى "كتاب الملل والنحل" للإمام محمد بن عبد الكريم المشهور بـ  الشهرستاني 479 ـ 548 هـ . وأود التنويه مقدما بما سيرد من الاقتباسات هي في المحصلة آراء الأمام المسلم الشهرستاني. وهي، بغض النظر عن عدم حيادها الكامل وتحليلها المبني على أساس ديني يتخذ من الإسلام دينا متكاملا في الجوهر، تظل في الحساب التاريخي أنفع وأجدى مما نسمعه اليوم ونشاهده من تعصب أعمى لا يقبل بالآخر ويؤمن بتصفيته جسديا على أساس عقيدة دينية لا تقول بمثل هذه الأحكام التعسفية البغيضة. 

 جاء في كتاب الملل والنحل القسم الثاني تحت عنوان: أهل الأهواء والنحل من الصابئة؛ والفلاسفة؛ وآراء العرب في الجاهلية؛ وآراء الهند. وهؤلاء يقابلون "أرباب الديانات" تقابل التضاد؛ كما ذكرنا. واعتمادهم على: الفطرة السليمة؛ والعقل الكامل؛ والذهن الصافي. 

ملاحظة: نقل النص يتم بجميع حركاته كما ورد في النص.

 

   وفي الفقرة ب تحت عنوان: والتقسيم الضابط أن نقول: 

من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول؛ وهم:السوفسطائية. 

ومنهم من يقول بالمحسوس، ولا يقول بالمعقول؛ وهم الطبيعية. 

ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول، ولا يقول بحدود وأحكام؛ وهم:الفلاسفة الدهرية. 

ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام، ولا يقول بالشريعة والإسلام؛ وهم الصابئة. 

ومنهم من يقول بهذه كلها وبشريعة ما وإسلام، ولا يقول بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهم المجوس، واليهود، والنصارى. 

ومنهم من يقول بهذه كلها؛ وهم: المسلمون. ص 4 ـ القسم الثاني ـ من الطبعة الثانية. من تخريج محمد بن فتح الله بدران ـ أستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف. الناشر مكتبة الأنجلو المصرية 16 من شوال سنة 1375 هـ. 26 مايو سنة 1956 م

 

 سوف لا نتطرق إلى النصوص التي تبين عمق المناقشات الفكرية والفلسفية بين هذه الأقطاب من الملل والنحل المذكورة الواردة في كتاب الأمام الشهرستاني. وهي في مجملها واحة فكرية تقبل بالآخر وتعتمد روح النقاش العلمي بما يتبعه من حجج وأدلة وبراهين بين الروحاني والمادي وكل فريق يتخذ لنفسه الحجج والبراهين والأدلة التي تعزز وجهة نظره مقابل الطرف الآخر. لست بحاجة للقول أنني لا ألتزم أي جانب من هذه الجوانب الفلسفية في هذا السياق التاريخي الخاص بالديانات وعالمنا الشرقي شديد الحساسية. لكن أسجل الإعجاب الكبير بهذا التراث الفكري والفلسفي والمعرفي الذي يعتمد على التحليل والنظر والتمحيص بما يدعيه الرأي الآخر من دون الحاجة إلى محقة وتصفيته ومصادرته كما يجري الآن على يد شرذمة جاهلة بالدين وفقهه، وتتخذ من "الشعائر" والطقوس الدينية بديلا عن الفكر والفقه الذي فقست جميع الأديان والمذاهب الروحية ضمن حاضنته وبوتقته الفلسفية الواسعة. 

 نستطرد قليلا في كتاب الملل والنحل بالرغم من "المَلل" الذي يشعر به القارئ، لكنه استطراد فيه فائدة. جاء في الكتاب تحت عنوان "2 ـ مناظرات بين الصابئة والحنفاء": 

(وقد جرت مناظرات بين "الصابئة" و "الحنفاء"، في المفاضلة بين "الروحاني المحض" وبين "البشرية النبوية". ونحن أردنا أن نوردها على شكل سؤال وجواب. وفيها فوائد لا تُحصى ـ الكلام للشهرستاني ـ : 

قالت الصابئة["الروحانيات" أبدعت إبداعا، لا من شيء: لا من مادة؛ ولا هيولي، وهي كلها جوهر واحد؛ على سْخ واحد ـ والسْخ بكسرٍ فسكون ـ : الأصل ـ ، وجواهرها أنوار محصنة لا ظلام فيها، وهي من شدة ضيائها: لا يدركها الحس؛ ولا ينالها البصر، ومن غاية لطافتها: يحار فيها العقل، ولا يجول فيها الخيال. 

ونوع الإنسان: مركب من "العناصر الأربعة"؛ مؤلف من "مادة" و "صورة" و "العناصر" متضادة ومزدوجة بطباعها: اثنان منها مزدوجان، واثنان منها متضادان. ومن التضاد يصدر الاختلاف والهرج، ومن الازدواج يحصل الفساد والمرج. فما هو مبدع من لا شيء؛ لا يكون كمخترع من شيء. 

و "المادة" و "الهيولي" سْخ الشر، ومنبع الفساد؛ فالمركب منها ومن الصورة: كيف يكون كمحض الصورة؟، والظلام: كيف يساوي النور؟ والمحتاج إلى الازدواج؛ والمضطر في هوة الاختلاف: كيف يرقى إلى درجة المستغنى عنهما؟!]). 

ثم يرد "الحنفاء" ويدلوا بدلوهم، ليرد عليهم علماء الصابئة، وهكذا دواليك.

 

***

 

سوف أعود إلى الحاضر الذي نعيش مأساته وقد تنازلنا عن التاريخ وعن الجغرافيا وعن العلم؛ أو على الأقل هكذا يُراد لنا أن نكون. وهذا عسير، عسير جدا على المثقف والسياسي والشيخ والأمام من أهل العراق أن ينتهي إليه تحت وابل هجمات هي مزيج من خبط عشوائي، وزعيق فارغ يطل من على منابر وجوامع شيدتها الأحزاب القومية العنصرية لتتخمها بالسلاح والقنابل بدلا من الكتب والعبادة والصلاة والتقوى. زعيق غربان يتلفع بزي الدين ووشاحه زورا وبهتانا. دعوات هستيرية همجية تدعو للعنف وهي تتلفع بستار الدين لتخفي عصبيتها القبلية ومصالحها المادية التي لم ترْ من الدعوة المحمدية سوى الاستيلاء على "عرش الفرس والروم". 

 قال الشاعر الهندي الكبير طاغور: "الدين فتنة". لم يكن يقصد دينا بعينه، لكن الأديان برمتها جعلت ساحة البشرية مسرحا لسفك الدماء فضلا عن إثارة النعرات المزمنة من أجل بسط سيادة هذا الدين على ذلك. لماذا يجعل الدين الأخ يكره أخاه؟ فكرة "التوحيد" في الأديان ليست من اكتشاف الدين الإسلامي كما يريد أن يوهمنا الجهلة. ولم يكن معنى ومفهوم الخالق "الله" ببعيد عن تفكير البشرية كما يظن نفر من "الجاهلية" المعاصرة. التوحيد موجود منذ زمن الفرعون المصري الشاعر إخناتون. وأبو الأنبياء العراقي سيدنا إبراهيم الخليل أدرك التوحيد. ولم يكن أسم الجلالة "الله" غائبا في الجاهلية الأولى. إذ كان والد النبي اسمه "عبد الله"، فهو محمد بن عبد الله. فلماذا يبتغي هذا النفر الأخرق بتعميم جاهليته وتعصبه الأعمى بوهم من ثقة كاذبة وكأنه مكتشف الذرة والنيترون وحمض الـ DNN ؟  

  

هكذا، يُتاح للممسوسين والمهووسين من الشباب الضائعين، بفضل زمر من الرجال الأكثر خبرة بالضياع جراء تعاطيهم الحشيشة ليل نهار على مرابع الجبال في أفغانستان الساحرة لتقودهم أوهام السيطرة على طريق الحرير، ومضغ الترياق الإيراني الأصلي الطيب في أروقة الحكم في إيران، للصعود إلى الجنة عبر قتل الناس من مختلف الأجناس تحت راية لا يؤمنون بها ولا يقيمون وزنا لحرمتها هي راية الإسلام. الإسلام براء من هؤلاء الناسوت من الطاغوت المجانين والمهووسين الموسوسين من هذه الملل وتلك النحل. 

 يريدون بث الذعر في نفس مواطن عراقي أسمه عربي الخميسي، وعبره إلى طائفته المسالمة التي عاشت عشرات القرون بحكم فضائلها الفلسفية ورؤيتها الجميلة للحياة والخلق والسلام الروحي الحقيقي للإنسان. هو مواطن عراقي من طائفة الصابئة."مجاهدون" مزعومين يتمتعون بالكومبيوتر، وبكل أشكال وأنواع التكنولوجيا العلمية الحديثة التي يتظاهرون بالنفور منها، وهي التي أتاحت لهم إرسال التهديدات بالقتل لبشر خلقهم الله على شاكلتهم، ويعرفون النور والظلام في وجه بشر لا يرون سوى الظلام. أولئك النافرون عن الدين، عن كل دين، والنافرون عن الأخلاق البشرية كل الأخلاق. أولئك لا ينطقون باسم الكندي وأبن سينا والفارابي وجابر بن حيان الكوفي والنفري ومحي الدين بن عربي وعلي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري وعمر بن الخطاب وأبي حنيفة والمالكي والحنبلي وشيخهم الجليل الأمام جعفر الصادق. هؤلاء أصحاب أبو جهل وأبو لهب ممن يشتغلون دوما على حط قدر الإسلام كدين للحسنى إلى أسفل درك من الجهالة والعبودية بعيدا عن كل فكر وعلم ودراية بالتاريخ.

 

صابئة العراق كنز فلسفي وروحي وفكري عظيم يختزنه هذا البلد وهذه الأرض المعطاء المقدسة: العراق.وهم من أتباع النبي يحيى بن زكريا، وعدّهم القرآن الكريم من أصحاب الكتب المقدسة في إشارة إلى كتابهم الديني المقدس "الزبور"* أسوة باليهود والنصارى من أصحاب الكتاب الذين بشرهم القرآن بأن: (..لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). 

  يجب علينا التواضع كثيرا كي نبلغ المحبة التي يدين بها هؤلاء البشر لموطنهم وموطن أجدادهم العراق، بالقرب من المياه المقدسة، مياه دجلة والفرات. يجب أن نتعلم المحبة وشروط الحياة البسيطة التي تعتمد على تخليص الروح من الشوائب وجعلها تماثل النور. يجب علينا فهم كيف بمستطاع الإنسان البسيط المجرد من كل عنصر للقوة والجبروت الفكري أو الديني العيش وسط محيط مخيف لا يؤمن بالآخر إلا من باب الخضوع بحد السيف، أو من باب الشفقة، وليس من باب الاحترام أو الاعتراف الحقيقي الذي يجب أن تكفله القوانين ويضمنه الدستور.  

 

*ملاحظه:

ان الكتاب الديني للصابئه هو (الكنزا ربا) او الكنز الكبير و ليس الزبور كما ورد في مقالة الاستاذ علي عبد العال و لذا اقتضى التنويه و شكراً

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014