• Default
  • Title
  • Date
الأربعاء, 10 تموز/يوليو 2013

عشتاروت ... الانثى المقدسة

  عزيز عربي ساجت
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

لعل من اشهر الملاحم المقدسة تلك التي جسدت اَلهة الخصب والحب والنماء هي ( عشتار ) او عشتاروت السومرية في مدينة الوركاء عاصمة بلاد سومر ، تلك الملحمة التي خلّد فيها كهنة عشتار الكثير من اَياتها على شكل تماثيل مجسمة ، ولوحات فنية ، ونقوش مسمارية محفورة في الصخر ، ومخطوطات حفظت بعناية لدرجة لم تستطع عوامل التعرية ان تمحو معالمها . باعتبارها مركز عبادة عشتار ، وكان شكل معابدها يمثل انوثة الام والذي يرمز للإنجاب والإخصاب والخَلق الاول والإثمار والعطاء ، وفي هذه المدينة السومرية نشأت عبادة كوكب الزهرة ونمت ، حيث اطلق عليها اللسان السومري (إنانا ) الذي يعني سيدة السماء ، ففي اللسان السومري ( إن ) تعني سيدة ، و ( أن ) تعني السماء ، وبدخول الساميين الى بلاد الرافدين وتأسيس الدولة الاكدية تحول اسمها من ( إينانا ) الى ( عشتار ) او ( عشتاروت ) .

دلت الكشوفات الاثرية في حوض الفرات ان الشعوب السومرية التي كانت تقطن تلك المنطقة قد مارست عبادة الانثى منذ ما يزيد عن اربعة الاَف سنة قبل الميلاد ، عندما صوروا قوى السماء العظمى في صورة امرأة ، تجسدت لهم باشكال عدّة ، وهياكل مختلفة .

تلك المراة الكاعب شديدة الجمال ، ذات العقل النير ، ساحرة الحُسن، ممشوقة القوام ، تتدفق الجاذبية من كل جزء من جسدها ، لتُحطم بسحرها قلوب عُشاقها ، وتأسر رائحتها الزكية ، وصوتها العذب أفئدة كل ذكور الارض .

لقد امتلا قلبها بالحب والحنان ، وفاض جوفها بالامومة والعطاء ، فلا تلمس أقدامها الألهيتين أرضاً جرداء ، حتى اخضرت وأنبتت ، وفاضت خيراتها عطاءً وثماراً . ان هياكل عشتار ، من اكثر الهياكل دغدغة لمشاعر الفنانين والادباء ، الهاماً والهاباً لمشاعرهم  وأحاسيسهم على مر الازمنة .

ان عشتار عندما تتحدث عن نفسها  تقول : ( أنا الاول ، وانا الاخر ، انا البغي ، وانا القديسة ، انا الزوجة ، وانا العذراء ، انا الأم ، وانا الأبنة ، انا العاقر ، وكُثّر هم ابنائي ، انا في عرس كبير ولم اتخذ زوجاّ ، انا القابلةُ ولم انجب احداَ ، وانا سلوة أتعاب حَملي ، انا العروس وانا العريس ، وزوجي من انجبني ، انا أُُم أبي ، واخت زوجي ، وهو من نسلي ) .

لقد كانت عشتار اول قوة إلهية توجه اليها الانسان بالعبادة ، وكانت تماثيلها اول صورة مقدسة نحتها ، وقد استمرت عبادة القوة الالهية في شكلها الانثوي خلال العصر النيوليتي ، والتي كانت تمثل الام الكبرى مترافقة مع ظهور المستوطنات الزراعية الاولى ، باعتقادهم ان مسألة الحمل والولادة والاخصاب كانت هي الدافع الاكبر الذي حمل الانسان القديم الى تقديس الانثى ، حيث ترسخت في اذهانهم أن الانسان مخلوق من أمه ، مصنوع منها ، وان المرأة هي التي تُحدد بدرجة كبيرة طبيعة طفلها ، وخصائصه العرقية والجسدية والعقلية والنفسية ، بل الروحانية ايضا ، الا انه خلال الف السابع ق.م بدأت التماثيل الذكرية المقدسة بالظهور على نطاق محدود جدا ، وبشكل متزامن مع تماثيل الامومة ، وهذه الحالة تعتبر البداية التدريجية لظهور الثنائي الإلهي ، الام الكبرى وابنها ، وقد كانت المنحوتات الجدارية على هيئة ثور يولد من رحم الام الكبرى ، ورغم ان ان كل الاَلهه الذكور في الثقافة الذكرية ، قد نشأوا عن الإله الابن ، ثم اتخذوا لأنفسهم شخصيات مستقلة وارتفعوا نحو السماء ناكرين أصلهم الارضي ، إلا ان هذا الأله قد بقى ابناً لعشتار ، محافظاً على وضعه القديم كظل للأم الكبرى ، ومكمل لها ، حامل جزاً من صفاتها وصلاحياتها ، فهو ( دوموزي ) في سومر  و ( تموز ) في بابل و ( أدونيس ) في سورية و ( أوزوريس ) في مصر و ( اّتيس ) في فرجيا وروما ، و ( ديونيسيوس ) عن الاغريق ، وكل هؤلاء يلعبون دورهم المزدوج كأبناء وأزواج . وقد بنيت الهياكل في المعابد على شكل الذكورة تقديسا وايمانا بشراكته في الخصب والنماء .

ففي النصوص الرافدينية نقرأعلى لسان (إنانا ) عددا من المزامير الموجهه لدموزي الحبيب ، وفي نصوص اخرى يشار الى تموز على انه الزوج ، كما نلاحظ ذلك في نص هبوط عشتار الى العالم الاسفل ، وقد وردت كذلك في ملحمة كلكامش حين يخاطب جلجامش عشتار ( على تموز زوجك الشاب قضيت بالبكاء عاما إثر عام ... ) ، ففي بكائيات عشتار على حبيبها تموز القتيل فيظهر على انه الإله الابن ، حيث تصرخ عشتار ومعها الندابات ( ويلي عليك يا دامو .. ويلي عليك يا بني ...) . في الملحمة السومرية ( هبوط إنانا الى العالم الاسفل ) التي إعاد البابليون صياغتها في ملحمة ( هبوط عشتار الى العالم الاسفل ) ، ومع بدء الاشوريين على صفحة التاريخ ، وتكوين الدولة الاشورية الفتية لم تعد عشتاروت ربة اللذة والحب الشهواني فقط ، وانما اصبحت ايضا ربة السيف والحرب ، لان الشعب الاشوري ، شعب محارب بفطرته ، لقد وجد الاشوريون لطبعهم واعتقادهم الجديد سنداً في طبيعة الزهرة ذاتها ، فهي تظهر في اليوم مرتين ، صباحا مع الشروق ومساءا مع الغروب ، ومن هنا اعتبروها الهة الحب واللذة حين تكون في المساء ، ولكنها الهة الحرب والقتل حين تكون في الصباح ، حتى لقبوها بلقب ( سيدة الحرب ) .

وفي الميثولوجيا الكنعانية ، كانت الإلوهية في الديانة الفينيقية غير محصورة بالالهة الذكور ، انما تعدتها الى الألهة الاناث ، ولعل اول امراة  ، كانت هي الارض زوجة السماء ووالدة الإله ( إيل ) ، لكن المرأة لم تصل الى مرتبة الكهنوت في الديانة الكنعانية – الفينيقية الا بعد ان قدسها الإله الرجل وجعلها في مقامه بحيث اصبحت الألهات ، شقيقات الإله إيل ، زوجات او مؤيدات له . اما الألهة عشتاروت فكانت من نسل العمالقة كجدها عليون ووالدها ايل واخواتها بعل وعنات وداغون حسب المعتقدات الكنعانية ، وعندما جاءت المسيحية قامت بتقديس مريم العذراء بدلا من الألهة عشتاروت ، كان ذلك بداية لانتهاء عبادة العمالقة ، ولقد لقيت قداسة مريم العذراء قبولا من جميع الاديان نظرا لان الطهارة كانت عنوانها وكونها حبلت دون دنس بعكس حواء ام البشر التي تزوجت من نسل العمالقة وجاءت ذريتها لتدمر الارض .

والمقصود بحواء جميع النساء اللواتي عشن في تلك المرحلة ، ومن هنا نفهم لماذا رفض الكنعانيون تزويج بناتهم من الإيليين الذين سبقوهم ، وعندما قال السيد المسيح : الملائكة لا يتزوجون ، كان ذلك نهاية الاعتقاد بإمكان زواج الملائكة ، اي غير الارضيين ، بنساء من الارض ، وبالتالي نهاية الشعور بذنب الخطيئة الاولى التي لا يمكن ان تغتفر الا بالعفاف والصوم .

ان عبادة عشتاروت التي جاءت لتمثل الخصب والنماء والامومة ، قد نشطت بعد حادث الطوفان ، خاصة بعد فراغ الارض من سكانها ، وذلك بهدف اعادة احياء الجنس البشري من جديد ، ان الشعوب القديمة قدست عشتاروت وجعلتها بمصاف الألهة ، وباسماء متعددة وصلت الى ثلاثمائة اسم من ( هيرا ) الى ( ارتميس ) و ( افروديت ) و( الزهرة ) .... الخ ، والسبب ان عشتاروت استطاعت ان تسكن اللاوعي البشري وتترك فيه حافزا يتلهف على النسل والاستمرار ، وبالتالي كانت اعظم امراة في التاريخ القديم .

المصادر :

-سيد محمود القمني – الاسطورة والتراث

- محمد ابراهيم سرتي – الانثى المقدسة وصراع الحضارات – المرأة والتاريخ منذ البدايات .

- فراس السواح – لغز عشتار – الالوهة المؤنثة واصل الدين والاسطورة .

- مجموعة من كبار الباحثين – موسوعة عالم الاديان .

- فراس السواح – مدخل الى نصوص الشرق القديم .

 

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014