• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 11 آب/أغسطس 2013

الصَّابئة المندائيون ومسلسل «حْفّيَظ».. لو كنت من مازنٍ!

  د.رشيد الخيُّون
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

رض على شاشة الفضائية «العراقية»، في رمضان الفائت، مسلسل «حْفّيَظ»، ومن أول مشهد وأول حلقة منه يُفهم أنه يتعرض للصابئة المندائيين بالسوء. فبعد طقوس العماد في ماء الأهوار يظهر مشهد فتاتين، من فتياتهم: حسن، وشذر، تحبان شابين من غير ديانتهما، خزعل ابن الشَّيخ وسالم الشّرطي، ثم تأتي المشاهد الأُخر، ولو كان غير الصَّابئة المندائيين لما عاش مؤلف المسلسل العراقي سعد هدابي ولا مخرجه السُّوري سامي الجنادي، ولا الفتاتان اللتان جسدتا شخصيتي حسن وشذر، ناهيك عن ممثلي دوري ابن الشَّيخ والشّرطي. لم أرَ حلقات المسلسل كافة، لكن رأيت معظمها، وتفهمت ألَم مواطنينا المندائيين، ودار في خُلدي بيت الشَّاعر الجاهلي قريط التميمي: «لو كنت من مازن لم تستبح إبلي..»..

 

معلوم أن الصَّابئة المندائيين قومٌ عراقيون قدماء المقام بهذه البلاد، لغتهم الدّينية هي الآرامية الشَّرقية، يعبدون الله، الحي الأزلي، يبسملون بلغتهم: «بشمادهي ربي»، أي باسم الحي ربي، يعتقدون أن كتابهم «الكنزا ربا» هو سدرة آدم أي كتاب آدم، وأنهم أول ديانة موحدة، والبشر مندائيون في الأول وسيعودون هكذا، يقدسون يحيى المعمدان، وله الدرجة الدّينية الكبرى «الرباني»، فدرجاتهم الدّينية: حلالي، وتلميذة، وكنزبرا، وريش أمة، ثم رباني، والأخيرة ما زالت محتكرة ليحيى المعمدان، وأن اسمه في لغتهم «يهيا يهانا»، والاسم يأتي مركبا يهيا: يحيى، ويهانا: يوحنا، ويسمونه أيضا يهيا مصبانا، أي يهيا المعمدان أو المُعمد، ولديهم كتاب «دراشة يهيا» أي أحاديث يحيى.

 

على أية حال، لستُ بصدد الحديث عن هذه الطَّائفة ذات الجذور العميقة في الأرض العراقية، فقد كتبتُ عنها الكثير والكثير، ولي معهم صلات طفولة وشباب وتشرفتُ بصّداقات معهم، من أصغرهم إلى أكبرهم (الريش أمة جبار ستار حلو) لذا استغربت وتألمتُ قبل استغرابهم وألمهم ما قدمه المسلسل المذكور عنهم، وإن كان بلا قصد، فطباعهم كطباع بقية فئات المجتمع العراقي، فلماذا يستثنون بالتركيز عليهم في مثل هذه المشاهد الفنية التي تقدمهم بالدُّونية دون سواهم؟

أقول: إن العلاقات الإنسانية من حُب وعشق، أو وجود شخصيات غريبة الطباع ليست مقتصرة على هذه الطَّائفة، ففي المجتمعات المختلطة تحدث علاقات بين المختلفين في الديانة أو المذهب، لكن لماذا تجسدت شخصيات وطقوس صابئية دون غيرها؟ يمكن لمؤلف القصة، التي تبدو متواضعة جدا، أن يجعل شخصياته عامة، من دون تحديد ديانة بذاتها.

 

لكني أعطيه الحق أنه اختار الطَّائفة التي ليست لديها ميليشيات أو عصابات، أي لا أصحاب كواتم ولا مفخخات، بل إن جنوحهم إلى السّلم لا حد له، ولهم ملاك اسمه «ششلام ربَّه»، أي ملاك السَّلام، وليس لديهم حيلة في الرد على مَن يعتدي عليهم، أو تقاليدهم تمنعهم من الاعتداء، وسمعت من أحد شيوخهم أنهم لا يحبذون بل يحرمون القتل حتى في الدّفاع عن النفس! لهذا عنونت المدونة «لو كنت من مازن..»..

 

الفنانة العراقية سهى سالم شاركت في بطولة المسلسل

الفناة العراقية سهي سالم شاركت في بطولة المسلسل

 

أما قصة حْفّيَظ المبالغ بها في المسلسل، فهي مشهورة بين أهل الأهوار، لكن العمل الدرامي يحتاج إلى الإثارة، وهو اسم يُطلق على مناطق متعددة بالأهوار، والمكان المتعدد الوجود، يُعرف بـ«إيشان حْفّيَظ»، ويُقال إن إيشان مفردة عراقية قديمة، وتعني التل الترابي وسط الماء، والإشن كثيرات، وإذا أهل المجر التابعة لمحافظة ميسان عرفوا «حْفّيَظ»؛ حيث حوادث المسلسل، فكنا في هور «الحمَّار» ننظر إلى أفق الهور ونرى نارا يُقال لنا إنها نار حْفّيَظ، بينما هي حرائق يشعلها الأهالي في القصب والبردي لغرض النبت الجديد، ولابن المنطقة الروائي المعروف فهد الأسدي (ت 2013) قصة جميلة عنوانها «حْفّيَظ».

 

وصلني بيان شكوى رئيس الطَّائفة الرّيش أمة (رئيس الأمة) ستار جبار حلو، يطالب فيه بوقف هذا المسلسل لأنه يتجاوز على طائفته، جاء في بيانه: إن «الطائفة الصابئة المندائية تميزت منذ الأزل بتماسك نسيجها الاجتماعي، الذي حددته أسس الشريعة الدينية المندائية الأساس، وذلك ما أبقى هذا النسيج صامدا أمام عاتيات الزمن وصروفه على الرغم من الاضطهاد المركب الذي عانت منه وما تزال نتيجة جهل أو تجاهل تعاليم الديانة المندائية من قبل الآخر.. الظاهر الملموس أن تلك المعاناة لن تنتهي تماما على الرغم من التغيير الديمقراطي الذي شهده العراق بعد سنة 2003، مما اضطر الكثيرين من أفراد الطائفة لأن يكونوا عرضه للتهجير القسري، والتشريد، والقتل، والتهميش، والهروب خارج الوطن طلبا للنجاة والأمان.. في ظل هذا الواقع الأليم يظهر علينا مسلسل (حْفّيَظ) المنتج من قبل قناة فضائية (العراقية)، مشيعا ثقافة الدونية والإقصاء ليمنح الغطاء الفني والإعلامي لقوى الجهل والظلام للنيل من أبناء الطائفة وبناتها».

 

في هذه الشَّكوى يظهر رئيس الطَّائفة المندائية متألما من استغلال منتجي المسلسل لبعض رجال الدّين، تحت غطاء أنه عمل فني نزيه يُقدم الطَّائفة بحسن نية، لكن هذه النّية تبرز سيئة عندما يتعرض المسلسل لبنات الطَّائفة على أن همهنَّ هو الخروج عن الطَّائفة بالزواج من غيرها! وإظهار شخصية زهرون مغبولا، وهو الذي يظهر ممارسا للمهنة التي اقتصرت على هذه الطَّائفة لصناعة أدوات الإنتاج من الزورق (المشحوف) إلى المنجل والمسحاة.

 

أقسم أن المؤلف والمخرج ليس لهما الجرأة باستغفال مع يُخشى صولته بتفجير أو كاتم صوت؟ إنه إساءة مفضوحة من قبل منتجي هذا المسلسل ومن قبل الفضائية «العراقية»، التي لو مارست هذا الفعل مع آخرين لصعب على قوات «سوات» حمايتها. ليس في المسلسل فن ولا ثقافة تعايش، بل فيه اعتداء على الطَّائفة المندائية، في ظرف لا يجد فيه قليلو العدد وضعيف العدة ما يحتمى به، بل لا أجد في هذا المسلسل فرقا بينه وبين الاعتداء على المندائيين بالتهجير من ديارهم.

يخطئ مؤلف المسلسل ومخرجه والممثلون، ولهم شراكة في هذا الاعتداء، بأنهم قدموا عملا فنيا، إنما قدموا ما يوصم به العمل الفني من رداءة. فالصابئة المندائيون لم ينزلوا من كوكب آخر؛ أخلاقهم وعاداتهم وطباعهم من هذا المجتمع، فلماذا التركيز عليهم في مسلسل يمكن أن تدور أحداثه على «حْفّيَظ» فقط؟

أخيرا إن تقديم هذه الطَّائفة بانسحاب فتياتها منها برغبتهن الجامحة، إلى حد الوله، بزواجهنَّ من خارج الطَّائفة، وبشخصية زهرون المغبول، وفي هذا الظَّرف بالذات، يغفل أن رجال الطَّائفة ونساءها كانوا الشعراء والأطباء والمهندسين وعلماء الفلك والفيزياء والأساتذة الجامعيين، في الحاضر والتَّاريخ.

 

أقول: هل للمؤلف والمخرج أن يقلبا الرواية ويُظهرا اسما آخر غير زهرون وفتاتين غير حسن وشذر؟ لو كانت لهما هذه الشّجاعة، أعتذر لهما عما دونته في هذه المدونة! لكن هيهات أن تستباح إبل مَن كان من مازنٍ.

 

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014