• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 05 أيلول/سبتمبر 2013

عصر الفولاذ

  عماد حياوي المبارك
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

 لكلمة (((عَصرْ))) في اللغة العربية أكثر من معنى ، لو قلنا عصر النهضة ، قصدنا بذلك زمن النهضة ، لكن لو قلنا عصر الفواكه ، فأننا بالتأكيد نقصد ضغطها للحصول على خلاصتها ، والعصر أيضاً هو وقت النهار الذي يسبق غروب شمسه ... وعلى أي حال فإن (عصر الفولاذ) الذي أنا بصدده ، هو بالتأكيد ليس معاملته للحصول على عصير منه ، وإنما  الإشارة لزمن بزوغ شمسه وجني منافعه من خلال التوسع بإستخداماته في الصناعات المختلفة 

  وما جعلني في الواقع أكتب هذا البحث الجاد ، هو ماتحدثـَتْ به الصحافة منذ أيام عن إضراب نحو مائة وخمسون عاملاً ، هم مجمل العاملين ببرج (إيفل) الشهير بباريس ، للمطالبة برفع إجورهم ،  الأمر الذي حرم قرابة ثلاثين ألف زائر من  إرتياده يومياً

 

دعونا  نبدأ بداية خفيفة للولوج للموضوع ...

 فمن بين (ضربات) الحظ التي لم أنسَها في خدمتي العسكرية في مطلع حرب ايران في العام 1981 ، هو تنسيب رئيس عرفاء (مسلكي) كبير السن طيب القلب لتدريب فصيل كان يضمني ، خلال فترة الإعداد الأساس بكلية الضباط الإحتياط .

وهذا تدريب رياضي شاق تحت شمس خريفية مائلة مزعجة ، ودروس في الهواء الطلق على كيفية إستخدام السلاح الخفيف والأبيض بأنواعه .

خمسة عشر فصيل نُسّبَ إليهم نوّاب ضباط قُساة ، يحقدون على الخريجين وعلى كل خلق الله ، وهم نفسهم يعودون يتملقون ـ بعد حين ـ لنفس طلابهم حين يضعون على أكتافهم بعد التخرج ... نجمة !

لكن رئيس عرفاء (صاحب) يختار ظل الأشجار لنا ، ويمنحنا فترات إستراحة أطول نسبياً ، فطبع هذا الرجل أنه مُسالم جداً ، ولأن له ولدين بأعمارنا يحن إليهما كلما جالسَنا وتسامر معنا .

هذا الرجل حين يكون بمجلس يجمعه بنا ، يأخذه الحديث عن ذكريات ولايته (المجر الكبير) حتى ينسى نفسه ، فنتركه يسترسل كي نكسب وقت راحة أطول ، فيحكي لنا عن مدينته وكيف أن الهور بخيراته يحدها من الخلف ، وأنه لايزال الإسكافي يُخيط بيده والطبخ على الحطب والنقل على الدواب والتجوال بالعربات والمشاحيف وأن الطرق ترابية ماعدا الشارع الرئيس بمدخلها الذي بلطه الانكليز ، وزرعوا أشجار كالبتوز على جانبيه ، حين أنشأوا معملي السكر والورق للإستفادة من وفرة القصب بالمنطقة 

 

 أحد الطلبة المتدربين ـ وهو الأول على قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة للعام 1981 وقد اُسّر بالجبهة بُعيدَ منحنا الرُتب ـ علّق سَاخراً ...

ـ ليش شوارعكم كلها تراب ، ما عدكم مؤسسة عامة للطرق والجسور ؟

أجابه (ريّس صاحب) بحرقة وبغيظ لم نألفه ...

ـ عمي الآلة بعد ما وصلتنا ، يا طروق يا جسور !

إنفجر الكل ضاحكاً ، وعقّب آخر : يعني يا ريّس نبطـّل مَ نبني بعد جسور ولا ... طروق !

إستمرت الجلسة خفيفة الظل ، لكن ذلك لفت نظر الضابط المسؤول ، وعاقبنا مع (ريّس) عرفاءنا يومين حجز وعدم نزول للبيت !

 

الجسور و(الطروق) كما يحلو لرئيس عرفاء صاحب تسميتها ، كانت تُبنى على مر العصور من الحجر ، حتى جاءت الثورة الصناعية والتي كانت ثورة عقول وإبداع وتفاني بالعمل

 

والثورات العلمية بحاجة لتطورات وبنى تحتية تصاحبها وتوازيها ، في مجال التخطيط وإدارة الأعمال وفي دعمها وتزويدها بالطاقة والمواد الأولية وغيرها ، وكل هذا بحاجة لمستودعات ومخازن ترتبط بشبكة طـُرق وسكك حديد وجسور ...

 

 كثير من المهندسين المبدعين الذين  فجروا الثورة (الصناعية) لم يتحدث لنا التاريخ الشيء الكثير عنهم ،  ، واحداً منهم نبغ في ما سُمي بـ (عصر الفولاذ) وذلك من خلال أعماله وإعجازاته المعمارية الكثيرة ، ملك الفولاذ ... المهندس الفرنسي (غوستاف إيفل) .

 

 

رقمين متطابقين يصادفان هذا العام بشأن المهندس (غوستاف إيفل 1832 ـ 1923)* ، فقد عاش هذا الرجل تسعين عاماً ومات منذ ... تسعين عام .

ولأن العالم يعرف هذا المهندس القدير من خلال برجه الشهير في قلب الدائرة السابعة بباريس ، فقد غضّ النظر عن أعماله الرائدة التي قام بها في خدمة البشرية ، لذا علينا بإختصار ان نتعرف عليه ، كأحد المبدعين الذين فتحوا الباب لعصر الإستخدام الحديث للفولاذ  

 

 أحد مفجري عصر الفولاذ ، غوستاف إيفل

  1760 هو العام الذي دخلت فيه الآلة لأول مرة مضمار الصناعة لتسدل الستار على عصر ولتعلن بزوغ فجر جديد ، حلـّت فيه الماكنة بدل ألانسان وصار الإنتاج أسرع وأوفر وأسهل وأرخص ، عصر استُعيض فيه عن الجهد البدني والعضلي بطاقة هائلة إستُهلت بقوة البخار ...

فأصبحت الحاجة ملحة لمناقلة المواد الأولية ولنقل الإنتاج مئات الأميال ، مما تطلب مد طرق وبناء مزيد من الجسور لإختصار الزمن والوقود ،  وبُذل جهد  عملاق عجَزَ الخشب والحجر عن مسايرته .

 

والثورة الصناعية عند نشأتها ، يمكن تعريفها بجملتين ، أنها الثورة التي إستبدلت ...

 اليدين والسواعد وقوة الخيل ، بالعجلات والتروس وقوة البخار .

 

 جسر حجري قديم

 (غوستاف إيفل) أول من فكر بطريقة عملية لربط القضبان الفولاذية مع بعض لتكوين أشكال مجسمة ،  ليس باستخدام اللحام وإنما بإستخدام مسامير حديدية تُعامل بالحرارة لتصبح كتلة واحدة ، وخطط وبنى صروحاً من الفولاذ (تشبه لعبة الميكانو) للهياكل والأبنية والجملونات والجسور ، اتصفت  بسرعة إلانجاز ومرونة ورشاقة في الشكل ،

وكل ذلك تم بموجب حسابات هندسية دقيقة    

 وإنتشرت طريقته هذه على إمتداد قارات العالم ، وواكبت الثورة الصناعية ، ذلك بعد أن كان البناء بطيئاً ومقتصراً على الحجر والخشب

 

جسر حديدي

 ومع أن الهياكل الفولاذية وليدة وأحد إبتكارات عصر الفولاذ الناجحة ، لكن الناس لم تتحمس في البدء لها كبديل لفن العمارة الذي ورثوه أجيالاً متعاقبة ، كما أنهم شعروا بأن نحافة الجسور والمباني الفولاذية إنما تنم عن عدم متانة وضعف في تحمّل الأوزان أو في مواجهة غضب الطبيعة ، وهي عِرضة للصواعق ، كما أن هياكل الحديد ستكون فريسة سهلة ـ على مدى السنين ـ للتأكسد ، وسينخرها الصدأ  نخراً !

لكن (غوستاف) ، لم يقف مكتوف اليد ازاء هذه ألمزاعم، فأراد إثبات العكس ، .

ولما أعلنتْ (باريس) بأنها بصدد تشييد نصباً شامخاً يُخلد (فرنسا) ،  وجد (غوستاف)في ذلك فرصته الذهبية ليبرهن للباريسيين بأنهم سوف لن يندموا ، وسوف لن يكونوا ـ كما يُقال ـ عرضة للإنتقاد والسخرية بسبب هكذا برج ، ولن يستطِع أحداً بعد أن ينتصب البرج ، أن يلعن الفولاذ ولا أن يُقلل من شأنه

 وهكذا فقد فاز في العام 1887 بعطاء إنشاءالبرج وسط باريس* بعد أن اُعجبه التصميم ، وأكد بأن هكذا صرحاً سيكون شاهداً على متانة الفولاذ ، ببناءه وإرتفاعه الذي سيتعدى أبراج كنيسة (نوتردام) القريبة .

قال غوستاف حينها

ـ الزمن البطيء الكسول ولّى وجاء زمن القوة والطاقة ، وكثيرة هي البلدان في العالم التي تبغي النفاذ لعالم الحداثة هذا ، هذه فرصة وعلى الفرنسيين أن يكونوا السباقون ، هذا البرج سيمثل العهد الجديد لفرنسا والعالم ، ليس بمستطاع أحداً أن يثنيني عن غايتي ببناء هذا العملاق المارد الجبار ... الأنيق الرشيق الجميل 

 

كان معرض باريس الدولي للمخترعات الحديثة الذي اُقيم في العام 1889 يمثل الفرصة الذهبية المواتية له ، والوقت وإن لم يكن مُتّسِع ، لكن (غوستاف) وبكل ثقة قال بأنه سيغالبه وسينجح .

 كثيرة العقبات التي توالت واحدة تلو الاخرى ، فنية وإدارية ، أهمها عدم قدرة الحكومة المحلية  لباريس تمويل الكلفة الباهضة لكامل المشروع ، فتكفل هو شخصياً تمويل التكلفة المتبقية من ماله الخاص ومن بعض الإعتمادات الاخرى .

في مقابل ذلك ، إشترط على البلدية أن لاتكون فترة نصبه وسط باحة المعرض لستة أشهر فقط ، وإنما لعشرون سنة كي يمكن أن يجني هو ومدينته المردود الذي يتناسب وفخامة المشروع .

عمل بإتقان مع مصانع الصُلب والسّباكة ، قريبة كانت أم بعيدة ، وسخّر له إمكانيات ضخمه من نقل وتحميل ورفع  

 

 

لبرج الباريسي كما يبدو لنا اليوم

 

 

 

في العام 1989 كان برج (باريس) قد إنتصب على إرتفاع شاهق ، وشكلت عملية ربط آخر قطعتين بمسمار ـ على إرتفاع 317 متراً ـ أعلى قطعة معدنية على وجه الأرض ـ آنذاك ـ * .

هذا المسمار هو واحد من مليوني ونصف المليون مسمار إستُخدمت لربط مفاصله ، ولم تستخدم الخرسانة الا لاسس القواعد الاربعه للبرج  

 

 

 اضغط هنا لترى الصورة بحجمها الطبيعى 

 

قمة البرج

 

 

 

في أدناه ، مخططات بقلم الفنان البريطاني (هوبرت) الذي واكب بناءه خلال فترة دراسته في باريس

 

اضغط هنا لترى الصورة بحجمها الطبيعى

اضغط هنا لترى الصورة بحجمها   الطبيعى

 

اضغط هنا لترى الصورة بحجمها الطبيعى

اضغط هنا لترى الصورة بحجمها الطبيعى

اضغط هنا لترى الصورة بحجمها الطبيعى

 

اضغط   هنا لترى الصورة بحجمها الطبيعى

 

عملية ربط المسامير الحرارية

 

 

 

أن مسألة رفع 18 ألف قطعة معدنية تزن مجتمعة 7300 طن لإرتفاعات شاهقة أمر في غاية الصعوبة والتعقيد ، وينجم عنها مخاطر بحياة العمال وبرؤوس الأموال المُسخرة للعمل ، .

كسبَ غوستاف وفريقه المكون من 300 عاملاً و 50 مهندساً الرهان ، وصدق مع مؤيديه وأدحض إدعاءات مناوئيه ، وصار البرج المعدني تحفة معمارية ، فإستقطب من السياح لباريس ما لم يكن بالحسبان ، وبعد عشرين سنة لاحقة إستُخدم  كبرج لخدمات الإتصالات والأبحاث العلمية .

 

اضغط هنا لترى الصورة بحجمها الطبيعى

 

 لاحظ طريقة الرفع

 

 

دحض هذا النصب العملاق أية إدعاءات ضد متانة الفولاذ وصموده أمام الرياح ، وهاهو اليوم ، برغم تقادم عمره ، لكن ومن خلال أعمال الصيانة وإستبدال التالف ببدائل مطابقة للأصل ، إنما يحيي الرجل الكبير (غوستاف) ويحاكي الآخرين ، بأن العقل المبدع لا يقف عند حدود ، ولا يخاف لومة لائم .

 

 

× × ×

 

 

(شاصي) معدني في أحشاء تمثال الحرية

 

إستمرت العروض تنهال على كوستاف لبناء أبراج في مدن مختلفة ، أبراج يمكن رؤيتها من مسافات بعيدة ، وساهم بإحدى الأعمال المميزة في وقتها وذلك بتثبيت تمثال الحرية بنيويورك  على قاعدة وهيكل فولاذي متين يصمد وسط مياه وأعاصير المحيط لأجيال قادمة ، يُحاكي في متانته البرج الرائع الذي أسماه الباريسيين ،، برج إيفل) .

تيمنا بالمهندس كوستاف ايفل

 

 

 

موقع قناة بنما

 

هناك بين الأمريكتين ، في خاصرة قارتي العالم الجديد ، تقع إحدى دول أمريكا اللاتينية تدعى بنما ، إليها إرتحل غوستاف للإشراف على اللمسات الأخيرة لقناة بنما ، حيث ستلتقي مياه المحيطين الهادي والأطلسي في حدث تاريخي في العام 1912 ، قناة لايستهان بطولها ولا بتقنية البوابات الفولاذية الضخمة المتعددة التي تضمها ، كانت يد هذا المهندس الفرنسي حاضرة منذ بداية إنشاءها في العام 1881 .

 

 

بوابات حديدية ضخمة وجسور حديدية متحركة في قناة بنما اُنشأت لتنظيم حركة السفن

 

 لكن كان لطول فترة الإنجاز (ثلاثون عام) والكـُلف والنفقات المرتفعة لتشييدها قد فتح أبواباً غير تلك الأبواب المعدنية التي تحتويها ، أبواب فساد أرباب العمل ، وقع (غوستاف) ضحية لها ، ولم تنتهي المشكلة ولم تُسد إلا بحكم سجن لسنتين تلقاه غوستاف من قاضٍ بنمي رغم حجج براءته .

 

لكن كان لأعماله وخدمته للبشرية ما شفع له  ليعفوالحاكم عنه بعد إسبوع واحد فقط ، وعاد يرتحل بين قارات المعمورة لمزاولة عمله حتى وافته المنيّة بعمر التسعين ، تاركاً رصيداً ثر من العطاء وأكداس من التصاميم الهندسية لمئات الأفكار والتي بقي بعضها في الورق ولم يتحول لفولاذ .

 

كانت لمساته السحرية التي أثارت أكثر من تساؤل ، ومشاركته بهندسة وتصميم ومن ثم بناء برج إيفل ، الدافع الأكبر والأعظم واللمسة السحرية لفتح آفاق جديدة للعالم في الإستخدام الأمثل للفولاذ ، ودرّ لباريس النفع حيث زار البرج عشرات الألوف في عامه الأول ، ومئات الألوف في أولى عشر سنوات ، وعشرات الملايين على مدى عمره البالغ 125 عام .

 

عماد حياوي المبارك

 

 

× أول من تخيّل البرج هو رئيس مكتب الدراسات بباريس (موريس كشلن) ومدير الطرق (إيميل نوفوي) ، هذا يعني      بأن فرنسا أرادت تخليد مهندسها (غوستاف) من خلال تسمية البرج بإسمه ، بعد أن كان إسمه (برج باريس) لعدة     سنوات 

×  يزور البرج سنوياً بحدود عشرة ملايين سائح ، ومجموع من زاره حوالي 240 مليون زائر .

× كـُلفته الباهضة كانت بحدود 7.8 مليون فرنك .

× أدخلته منظمة اليونسكو كواحداً ضمن التراث العالمي .

× ظل لفترة أربعين عام ، البناء الأكثر إرتفاعاً في العالم ، حتى تفوق عليه مبنى (الكرايسلر) بنيويورك عام 1930 ثم     ناطحة السحاب الأجمل عبر الزمن (الإمباير ستيت) منتصف الثلاثينات .

 

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014