• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 29 أيلول/سبتمبر 2013

الحضارة الاتروسكية

  موسى الخميسي
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

      دراسات ومعارض وندوات  حضرها العديد من علماء الآثار من كل ارجاء العالم لتسليط الضوء على غموض اصول الشعب الاتروسكي وحضارته العظيمة، والتي مثلت واحدة من اولى الحضارات على الارض الايطالية. تمخضت في عقد التسعينات من القرن الماضي عن نتائج حاسمة ومهمة ،وسلطت الانوار على اقدم وادهش حضارة صاحبها الغمور والنسيان، وظلت مغلفة بطلاسمها ولغتها حتى سنوات قريبة، بعد ان عاشت قبل اكثر من الفي سنة على شبه الجزيرة الايطالية ولفترة امتدت اكثر من عشرة قرون، فمن هم الاتروسكيون؟

 

في اغلب الاحيان يعتبر الايطالي المعاصر الاتروسكيون وكأنهم مخلوقات من المريخ بسبب قلة المعلومات والدراسات، وبسبب الغموض الذي احاط بأصلهم ولغتهم ومنبع مجيئهم الى الارض الايطالية. والدراسات الاخيرة تؤكد على ان اولى هجراتهم جاءت من آسيا الوسطى، ويعود تاريخ نشوئهم الى منتصف العصر الحديدي. وقد استطاعوا التعبير عن ثقافة اصيلة خاصة بهم وتركوا اثرا محددا في الانتقال من عصر ما قبل التاريخ الى التاريخ.

 

يكشف لنا الدارسون عن الاستمرارية التاريخية التي تربط المرحلة الاخيرة من وجودهم والتي تمتد اكثر من 1000 سنة قبل الميلاد بزمن نشوء مدينة روما.

 

وتتحدث الاساطير الرومانية عن المعارك التي دارت بين الجيوش الاتروسكية والهجمات المتكررة على روما. وقد عرف الاتروسكيون بناء المدن النموذجية على شكل ( بولس) اي المدينة الاغريقية وذلك من خلال رحلاتهم البحرية في مناطق الكولينا الايطالية الجنوبية التي كانت تابعة للاغريق. كما تؤكد الدراسات على الميزات الارستقراطية في الحياة الاجتماعية. والان ترفض كل الطروحات التي  شاعت فترة طويلة من الزمن بانهم قد اختفوا بشكل مفاجىء، اذ تؤكد النظريات الجديدة على ان اسباب اختفائهم تعود الى التوسع الكبير لوسائل الاتصالات الداخلية وتعزز مواقع القوة، وتطور مراقبة التجارة البحرية، نحو الشمال وروما التي مثلت المركز، ونحو الجنوب حيث المستعمرات الاغريقية مما اضطر الاتروسكيين الى الاستسلام بعد ان زادت حدة الصراع ما بينهم وبين الاقوام الجديدة مثل الاسنيين واللاتين والمارسيين وغيرهم، وظلوا ملاحقين بالعبودية والحروب الدموية، فتداخلوا بالازمنة الجديدة، فكانت بمثابة الوسيلة لتشتيتهم بالاندماج بالحياة الاجتماعية الجديدة.

 

لقد بنت القرصنة والتجارة البحرية عظمة الاتروسكيين، الا ان توسع مدينة ( سيراقوصة) في جزيرة صقلية وخصومتها مع مدينة اثينا اليونانية عجل في انهيار ذلك المد التجاري والمهم، ورسم بذلك بداية الاندحار الحلزوني من دون رجعة، ولم ينفع الاتروسكيين تحالفاتهم مع القرطاجيين ولابحثهم لايجاد منفذ تجاري عن طريق البحر الادرياتيكي، فقد اغلق عليهم شعب( الجيلتيون) من الشمال وحاصرتهم روما التي احكمت بسيطرتها على نهر التيفر، وهو الطريق الحيوي للاتصالات داخل ايطاليا القديمة مما اجبرهم على الموت اختناقا.

 

ان مدينة( تشيفتري) الموجودة على التلال الشمالية في مدينة روما هي احدى ابرز المعالم الحضارية التي بامكانها ان تقود المشاهد الى معرفة  ذلك الظل الحضاري العظيم، وقدرة هذا الشعب الذي لو كانت قد اتيحت له ظروف اخرى لانتشل من روما العظيمة هيمنتها الايطالية.

 

ان مقاطعتهم الصغيرة لم تكن متحدة، وغالبا ما كانت في صراع دائم فيما بينها، مما سهل على قوم ( اللاتين) فرض سيطرتهم على الاماكن الاستراتيجية من نهر ( التيفير) وبعد ذلك لم يتحمل هؤلاء وجود خصوم لهم على الضفاف المقابلة.

 

لقد انتهى القرن الرابع قبل الميلاد من دون منتصرين او خاسرين من كل الاطراف، ودخلت روما في معاهدات وتحالفات مع العديد من المقاطعات الصغيرة التي كانت تحت سيطرة الاتروسكيين، الا ان تلك التحالفات كانت بمثابة المهد الاساسي لالغاء الشخصية الاتروسكية التي انفصلت عن مجتمعها القديم وبدات تشعر بانها عاجزة ومنعزلة عن مواجهة سطوة الواقع الجديد، حيث كان القرن الاول قبل الميلاد شاهدا على نمط ايطالي جديد في الحياة اتحدت فيه اقوام وشعوب كثيرة كانت تعيش على شبه الجزيرة الايطالية.

 

في قرى منطقة ( تركونيا) الخضراء التي شهدت العصر الذهبي للشعب الاتروسكي لاتزال الى زمننا هذا العديد من الرموز الحضارية المتقدمة التي تشهد على العلائق الانتاجية واساطير الخصب والاولادة والاساطير التي تفسر احداثا تاريخية او طبيعية متمثلة بالمنحوتات والرسوم الجدارية التي تنتشر على جدران القبور التي اكتشفت مؤخرا والتي فتح قسم منها للزائرين والقسم الاخر مازال تحت الترميم والصيانة.

 

منذ احقاب طويلة والعلماء يحاولون كشف النقاب عن لغز الرموز اللغوية لهذا الشعب، حتى استطاعت اخيرا مجموعة من علماء اللغات القديمة كشف هذا السر العظيم لهذا الشعب الحضاري، ولم تكن عملية البحث والترجمة امرا سهلا، فقد وقفت امامها عوائق عديدة خاصة فيما يتعلق باسماء اسياد وحكام ومدن وحقب.

 

وقد اكتشفت ثلاث شيفرات هي عبارة عن الواح ذهبية مكتوبة باللغة الاتروسكية، ويعتقد بان هذه الالواح من الممكن ان تكون المفتاح الجديد لمعرفة لغة هذا الشعب، حيث يعتقد بان حروف هذه اللغة هي قريبة الى اللغة الاغريقية من جهة والاشورية من جهة اخرى، الا ان المشكلة التي اعاقت العديد من الباحثين فيما مضى لحل رموز هذه اللغة هي عدم توفر نصوص طويلة كافية لغرض تشكيل اللغة، وتعدد لهجات القبائل المختلفة، كما ان تغيرات كبيرة طرأت على نظام الكتابة الاتروسكية، وهذا بالضبط مالم يحسب العلماء له حسابا في عمليات رصد اللغة، فعلى سبيل المثال كان الاتروسكيون القدماء يخلطون في اسماء العديد من الفواكه والمعاول الزراعية وادوات الزراعة والحدادة، وهذه الاخطاء اوقعت علماء الآثار اللغويين باخطاء كبيرة جعلتهم ولسنوات طويلة امام الغاز. وقد بحثت مجموعة من علماء الآثار عن نصوص متقاربة زمنيا وطويلة نسبيا، وبهذه الطريقة استطاعوا ان يجدوا الرموز المتشابهة والمترابطة من خلال النصوص.

 

واللغة الاتروسكية كانت لغة منطوقة في منطقة حوض البحر الابيض المتوسط قبل الغزو الهند- اوربي في العصر البرونزي في الالفين سنة قبل الميلاد، ويعتقد العلماء بهذا الخصوص بان شيئا من هذا القبيل قد حصل مع اللغة الباسكية.

 

ويوجد العديد من الآثار الفنية تضمها متاحف متخصصة ومتفرقة في مناطق الوسط الايطالي وخصوصا في مدن مثل روما وفلورنسا وفولتيرا وجيفيتا فيكيا وكيوزي وتشرفيتيري وغيرها. وتضم هذه المتاحف التماثيل الصغيرة والكبيرة والمصوغات الذهبية بالغة الدقة في صنعتها والذي تفرد لها المتاحف صلات خاصة، كذلك الصناديق الحجرية المنقوشة لدفن الموتى، وهناك شواهد حجرية منقوشة تبين جميعها التأثيرات الشرقية الاشورية والاغريقية والفرعونية، وهذه الآثار اضافة الى صناعاتهم الحديدية للاواني والاسلحة والتي كانت احدى الوسائل الكبيرة التي دعمت سلطتهم، تكشف لنا عن اساليب الحياة اليومية التي كانت متطورة وكذلك عن الواقع الطبقي في العلاقات الاجتماعية، كذلك تحكي لنا عن الاساطير والاعتقادات والمآسي والانكسارت التي حلت بهم.

 

وتبين العديد من منحوتاتهم على سطوح الرليف الحجري، استخداماتهم في حقول معرفية كثيرة تتعلق بالولادة والموت والبعث ومعالجة الامراض والاوبئة، كما اشتهروا بالطب والمعرفة البيولوجية الدقيقة وكذلك اشتهروا بمستواهم العلمي وبكل ما يتعلق بالارقام، فهم كانوا علماء بالجبر والحسابات والمنجزات الفلكية الباهرة كتشخيص ظاهرتي الكسوف والخسوف، ومراقبة مجرى العديد من الكواكب والاجرام السماوية، وانجازات مرموقة في مجال التقويم السنوي. وتصور العديد من الجداريات الكبيرة المنقوشة وهي من اللوائح الحجرية الفخمة التي يبلغ طول بعضها اكثر من ثلاثة امتار، العديد من الكوارث الطبيعية والحروب والانتصارات وتاريخ واعمال وانجازات الاسياد، والاحتفالات الدينية، وتنصيب الرؤوساء، وطرق واساليب استخداماتهم للسلاح.

 

لقد تمكن البحث الآثاري والاثني في السنوات الاخيرة من تحقيق ثورة حقيقية في معرفة وفهم هذه الحضارة الهامة، فدارسو هذه الحضارة يدركون اليوم على سبيل المثال- ان المناطق التي احتلتها حضارة الاتروسكيون كانت بمثابة القاعدة التي هيأت لحضارات عظيمة ابرزها الحضارة الرومانية، وان الاتروسكيين كانت لهم صلاتهم وتداخلاتهم الاقتصادية والسياسية والايدويولوجية الضخمة مع شعوب مناطق آسيا الصغرى التي نزحوا منها.

الدخول للتعليق

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014