يمكننا أن نقول بأن قلة قليلة من المثقفين, والمنظمات, والأحزاب السياسية اليسارية العراقية, هي التي لم تتورط في الانسياق وراء ظاهرة التمييز والعنف ضد المرأة العراقية, إذ لا أحد يحتمل تحرر المرأة في مجتمعاتنا العربية كافة الا نظريا ، وإن القلة هم من كتبوا ودافعوا بجرأة, وبأس, وحمية عن قضايا المرأة وأوضاعها في الأسرة, والتعليم, والعمل, والمجتمع، وعن عطائها الفكري وإبداعها، في مجال العلم, والأدب, والفن، وعن أهمية الدور الذي تلعبه مشاركتها في عملية الإنتاج الاجتماعي.
فمنذ عشرات السنين, والمرأة العراقية خاضعة لسيطرة المجتمع الذكوري الذي يقوم على أساس السطوة, لا على أساس المساواة، ويجري التحكم بمصيرها بأساليب معقدة, منذ لحظة ولادتها, وحتى دخولها عش الزوجية، فهي لا زالت عند الكثيرين مجرد بضاعة بشرية، يدفع الزوج مهراً ثمناً لها. كما انها "حرمة" من كلمة الحرام لأنها تعتبر مكلفة بتأدية التزامات الحرام منذ أول يوم يدركها الحيض، كما يضربها هذا الحرام في فترة النفاس، وهي" مرة" بمعنى تصغيري للمرأة، ولقد ظلت التقاليد الاجتماعية تقضي ببقائها معزولة ومكرسة للبيت، فأمرها مقصور على النقص في الدين والعقل، وهي ليست الا عامل من عوامل الفتنة وحبائل الشيطان، ومصدر للاثم يوقع في الخطيئة.
وقد سبب التخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي ارتبط مع السياسات الرجعية إضافة الى التقاليد والعادات، في تقليل قيمتها داخل النمط الاجتماعي الذي أقرته بعض الاجتهادات الدينية والتبخيسات المتراكمة والتاريخية, فأبعدت عن المساهمة بالحياة العامة لتبقى أسيرة نفوذ العائلة، كما أصبح جسدها مستعمرة اجتماعية من حيث صور السيطرة والاحتلال والاضطهاد والقسوة والاستغلال الاقتصادي والسياسي والتخلف الاجتماعي والثقافي، ففرضت عليها القيود والضغوط للحد من كفاءتها وقدرتها.
ومع ان الدور التقليدي لمكانة المرأة في المجتمع قد تعزز في بداية الخمسينات من القرن الماضي ، بعد ثورة 14 تموز عام 1958 وبداية النظام الجمهوري ، وظهور حركات نسائية مثل " رابطة المرأة العراقية" ارتبطت بالنهوض الكبير لليسار العراقي، تدعو الى تحرر المرأة ورفع مستوى وعيها، وتضييق الفجوة بين الجنسين في المجتمع، وتغيير نظرة المجتمع الدونية لها، وبعد ان أصبح التعليم إلزاميا للذكور والإناث على السواء وأصبحت نسبة التعليم الذي ساهم بتوسيع آفاق النساء، متساويا بين الجنسين، كما أصبحت أعداد كبيرة من النساء أكثر انفتاحا وأكثر سعيا لاحتلال مكانة اجتماعية مرموقة، الأمر الذي حولها الى شريك مستقل بعض الأحيان عن الرجل، كما أصبح عمل المرأة طريقا الى اكتساب المكانة الاجتماعية وتحسينها، الا ان رفض الرجل لتحسين وضع المرأة لم يغير السيطرة الذكورية التي ظلت متمثلة في العديد من التشريعات وقوانين المجتمع وتوجهات المناهج التربوية ووسائل الإعلام والمؤسسات الرسمية والأهلية والدينية.
لقد رسم شعار التقدم والتحرر سؤالاً حول قدرة المرأة على اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتها ومقدراتها بنفسها بحرية، الا اننا اذا دققنا هذا الشعار سنجد ان المرأة حاليا وبعد انهيار النظام الفاشي العراقي تعاني حقا من ردة كبيرة، وهي ما زالت تسير سير السلحفاة على طريق التحرر والتقدم، والسبب يعود الى جملة عوامل يقف في مقدمتها تصاعد الحركات الدينية نتيجة حالة اليأس والإحباط العام ،الذي اثر بصورة سلبية على موضوع عمل المرأة وتعليمها، رغم أن الدين بجوهره يحث على طلب العلم، اذ ليس في تعاليم الدين ما يمنع خروجها للعمل وليس في الدين ما يحجب عنها آفاق التعلم والتقدم.
ثم انهيار التنظيمات النسائية التقدمية التي كانت داعية الى تحرر المرأة، ما قبل مجيء النظام الديكتاتوري، وحلت محلها تنظيمات اسمية أقامها النظام السياسي السابق تحمل سلبياته، حيث تمت من خلال تنظيمات السلطة الفاشية مصادرة الحريات الديمقراطية, وبالتالي مصادرة مكتسبات المرأة العراقية التي حققتها بفعلها النضالي وتضحياتها الكبيرة.
ثم إيجاد عدد من التشريعات التي أكدت التمييز ضد المرأة في القوانين العراقية وفي الحياة الأسرية, وفي التعليم والعمل وشجعت كل ما من شأنه إهانة المرأة وشل قدراتها، كما شجعت ممارسات التيارات الظلامية التي شدت المجتمع الى القرون الوسطى، اذ لا يمكن الحديث عن تقدم مجتمع ما وتنامي دور المرأة في غياب الديمقراطية وأهوال الكوارث التي سلطهتها الانظمة الحاكمة على شعبنا وما عكس ذلك من خيبات ونكبات تعاني منها النساء العراقيات.
والمرأة وان شاركت في جميع الوظائف الحكومية, وبعض المناصب العليا على قلتها، الا انها لم تحظى بمواقع رسم وصنع القرار، لان النظام الإداري العراقي ظل خاضعا للتأثيرات القبلية والعشائرية التي زادت انتهاكاتها للحق في المساواة .
مع ان المرأة العراقية ساهمت بفعالية في الانتفاضات الشعبية والتظاهرات المطلبية، ودخلت السجون والمعتقلات، واستشهدت الكثير من النساء في أقبية التعذيب, واستطاعت عبر نضالها المرير فرض جزء من تحررها وإقرار بعض حقوقها, وأول مكسب حققته المرأة العراقية هو قانون رقم 72 لسنة 1936 الذي تضمن بعض حقوقها حيث جاء في المادة الأولى تعريف العامل" بان كل لفظ عامل يرد فيه وفي الأنظمة الصادرة يشمل الذكر والأنثى" أعقبه قانون رقم 1 لسنة 1958 الذي شكل خطوة متقدمة، ثم أصدرت الحكومة في 1961 نظاما خاصا باستخدام النساء والمراهقين، وبعد عقود من النضال ضد مستغليها تمكنت من الحصول على قانون العمل رقم 151 لسنة 1970 يحوي قوانين التقاعد والضمان الاجتماعي.
الا ان المرأة العراقية وبعد انتهاء عقد السبعينات عانت من آثار حروب النظام المدمرة، اذ فقدت عشرات الألوف من النساء العراقيات معيلهن، فاضطررن، وهن غير مؤهلات عادة، الى طرق أبواب العمل في ظل ظروف الاستغلال المكثف، وابتدعت السلطات الفاشية مختلف الأساليب لاستنزاف قدرة المرأة وزُج بأعداد كبيرة من النساء في أعمال السخرة وإرغامهن على الانضمام في صفوف حزب السلطة، كما ألغيت العديد من الخدمات التي كانت تقدم للمرأة، وألغيت إجراءات السلامة المهنية ودور الحضانة التابعة للمعامل وإلزامهن بالعمل الإضافي، وإلغاء سن التقاعد الذي حدده قانون التقاعد والضمان الاجتماعي رقم 39 لسنة 1971 والذي كان قد حدده بعمر 55 سنة، كما ألغيت المخصصات والأجازات، ولم يراع في عملها الحقوق التي تنص عليها القوانين المحلية والعالمية.
لقد تردى وضع المرأة العراقية مع بدايات تدشين النظام الديكتاتوري، فنفيت المرأة داخل واقعها لتتعلق في المتن الأسطوري الممثل لوجدان وأفكار الأسلاف، ووقعت النساء العراقيات تحت مطرقة مؤسسات الحكم بكل تعقيداتها ووقائعها ومسبباتها، وفرضت حالة الاستبداد، وفرضت قوانين العرف الاجتماعي بأكلح صورها، فأصبحت كل نزعة تحررية للمرأة تمثل رديفا للرذيلة، ولم تقف هذه المفاهيم عند الحاكم الأعلى الذي هو رئيس القبيلة، بل اتصلت بمن حوله، ومنهم الى دونهم، وكان من اثر هذا الاستبداد ان الرجل اخذ يستعيد دورته القديمة في احتقار المرأة وإضعافها ليهضم حقوقها.
ومع الحملة البعثية التي أطلقها النظام السابق تحت اسم" الحملة الإيمانية" في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كان يهدف من خلالها إشاعة الخرافات والأفكار القدرية, والأوهام الدينية, كطريقة سهلة لاستسلام الجماهير، وكانت المرأة هي أول الأهداف لمثل هذه الحملة الهمجية، حيث صدر قرار من مجلس قيادة الثورة, خول بموجبه الرجل بقتل كل من يشك في سلوك ذويه من النساء مثل الزوجة والأم والأخت دون محاسبة جنائية.
وتجسدت الحملة البربرية بتنظيم جماعات فدائيي صدام بالتنسيق مع الاتحاد العام لنساء العراق الذي أوجدته السلطة آنذاك, وفي عدد من المدن العراقية المهمة كبغداد والبصرة والموصل بقطع رؤوس أكثر من180 امرأة بشكل علني وأمام الناس في الساحات العامة, ودون محاكمة بتهمة أنهن" عاهرات" وصاحبت ذلك تظاهرات إحتفالية ديماغوجية صاخبة, نظمتها منظمات الحزب الفاشي للاحتفال بهذه المناسبة.
كما توجت هذه الحملة الشرسة عام 1987 بصدور قانون" الفائض من العمل وترشيق مؤسسات الدولة" حيث سرحت حكومة البعث آلاف النساء من العمل استعدادا لمواجهة تبعات الحرب العراقية الإيرانية ومئات آلاف من الجنود العائدين من جبهات القتال من الباحثين عن العمل .
لقد عانت المرأة العراقية من العنف بنوعيه الأسري والعام، وهو عمل عدائي ومؤذ ومهين تدفع أليه عصبية الذكر وسطوته التي يمنحها اليه المجتمع ليرتكب بأساليب ووسائل متعددة, ما يمكن ان يسبب بإلحاق الأذى النفسي والبدني، إضافة الى الأفعال التي تتسم بالقسر, والحرمان, والتخويف, والابتزاز, والاغتصاب, والتحرش, والمضايقة, والإكراه في الحد من حرية المرأة.
ويعتبر الصعود السريع للتيارات الأصولية في العراق, واحداً من أشد المعوقات لتطوير أوضاع النظام السياسي, ووضع المرأة العراقية بعبودية جديدة تعرضت من خلالها الى حملة سياسية وفكرية شعواء ضد