• Default
  • Title
  • Date
الأربعاء, 03 نيسان/أبريل 2013

الميثولوجيا المندائية

  ياسين الناشئ
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

الميثولوجيا المندائية

ياسين الناشئ

الادب المندائي.. الأنياني والقلستا نموذجين

هدوء الهور، وامتداد سطحه الذي يفترش الافق، أعواد القصب والبردي وهي تتمايل مع النسائم الندية هامسة السحر الغامض والطيور التي ترتفع وتحط على المياه، تعوم مبتهجة بسلام يسكن ارجاءه.. وعند الغروب تذوب أشعة الشمس الراحلة في سمرة المياه فيمسي الهور بأبعاده الرهيبة موطن سحر وايحاءات تنجذر وراء تحوم الطبيعة.

والمندائي الانسان الرافديني الاول .. كان يفتش عن مكان لعيش مطمئن ، فتنقله قدماه الى ارض الاهوار وشطآن الانهار التي زودته بالغذاء ووسائل الحياة الضرورية وعرف التنقل ووسائطه البدائية فأخذ يلاحق صيده ويكمل معارفه ويبدد اوهامه.. انها المنطلق نحو الاعالي لاستكشاف ماهيات الجدل في علاقته مع بيئته المتحركة الماء (اليردنا) والمندائيون جدلية الديمومة في تفسير الارتباط المصيري وفلسفة مزاوجة الماء مع الطقوس المندائية، فلا زواج ولاصلاة ولا تعميد بعيدا"عن اليرادن المياه الجارية ابدا"والمقدسة على الدوام هي من تعطي الديمومة، والخصب، السلام والخير، النور والانفتاح على الحقيقة، شاهده (الدرفش) المركوز على الشاطئ يرتل انغام الموجات وتراتيل المختارين وهي تحتضن بتولة الضفاف..

من الماء خلق كل شيء وتطور وهو الاساس في تكون الحياة واستمرارها .

وفي الليل والاماسي والسهوب الممتدة في كل اتجاة يتجلى سحر اللحظة في اكتشاف المجهول ويبدو المندائي في الجنوب الرافديني متكئا على مركنته رافعا" رأسه وعيناه تعانقان غبش الفجر الهوري او عتمة المساء الحالمة المتلفعة ببنفسجية اذيال الشعاع الفاني وهو يحاول اكتناء الاسباب والنتائج لحياته وموته الصيرورة والفناء وعملية الخلق المعقدة .. وتصب هذه التصورات في مفهوم العبادة والطقوس المندائية في صيغ أدبية رائعة .

تمثل المثولوجيا المندائية مكانا متميزا"في تاريخ وحضارة وادي الرافدين ومن خلال هذا الادب الرفيع والابداع المذهل في التأليف والنظم طرح المندائي المثقف هذه الرؤى والافكار والتصورات على شكل شعرصيغ بتراتيل تحكي الطقوس المندائية على مسرح الطبيعة البكر واكثر هذه المؤلفات أهمية في الادب القديم هما كتاب (الأنياني) الادعية والصلوات و(القلستا) ترانيم الزواج المندائية اللذان كتبا في زمن الميثولوجيات السومرية والبابلية ..

وأمام نصوص (الانياني) ترى الشاعر المندائي يتلو قصيده القدسي وهو يقف باجلال وخوف أمام الصانع العظيم الذي انبعث من ذاته فيقول في صلاة الفجر : فمي نطق بالدعاء والتسبيح

ركبتي مثنية وساجدة للحي العظيم

ويعتمد المندائي على الملائكة في ايصال دعائه ورجائه الى ملك النور السامي

وتصعد الكلمات الشعرية مرتجفة واجفة نحو الاعلى :-

)ايها الملاك برياويس .. اليردنا العظيم للماء الحي

طهرنا أيدينا بالحق ، وشفاهنا بالايمان

وتكلمنا بكلمات الضوء

والافكار استطابت بعقيدة النور)

وفي الانياني فلسفة مندائية تخص الخلق الاول متطابقة في جوهرها مع الفرضيات لبدايات الكون باسم ذلك الرجل الاول الذي وجد قبل الماء والضوء والنور والوقار الرجل الذي نادى بصوته، وتكلم بكلماته من صوته وكلماته كانت قد نمت الكروم وأقيمت الحياة الاولى في مساكنها

وتتقارب التصورات المندائية مع الفرضيات عن نشوء الكون بوصف في غاية الروعة والاتقان اللغوي عن اللحظات الاولى للانفجار العظيم .

الوجود ليس له حدود

في ذلك الحين ماكانت الارض صلبة

وما كان الساكنون الذين في جوف المياه السود

منهم ومن تلك المياه السود

كونت واخرجت الشر

تلك الواحدة كان فيها الاف الاسرار

وبتطور المجتمع البشري وانقسامه الى طبقات يظهر الاستغلال والظلم والعيش على كدح الاخرين ومن هذا الفرز الاجتماعي في بنية التكوين الاول للمجتمعات ظهر التسلط والحرمان وقسوة السادة الاشرار والاغنياء على المضطهدين، ويتعايش المندائي المفكر والمثقف بما يجري حوله من أحداث ويعاني من القسر الوحشي الذي لايرحم وتأتي هذه المعاناة على لسان الشاعر المندائي المؤمن الصادق مع نفسه والهه.

في ( الانياني ) يتوجه الى الحي الازلي شاكيا اولئك الذين ارتضوا طريق الشر وحاربوا فكره المستنير واقف لأقص عليه شيئا

مما اضطهدتني به العوالم

اكثر العوالم اضطهدوني

واخواني ابناء العهد ،لم يخففوا من ذلك

فالعوام رجمتني بالاحجار واخوتي اغضبوني بالاقوال

ثم يسترسل في ادانته بمباشرة واضحة

جلسوا على عروش الغطرسة

واعمالهم تنجز بالسوط

عبيد للذهب والفضة.. غوغاء يثيرون النزاع في العالم

ويذهبون الى النار الحارقة ..

وحينما يدوم الظلم، ويعم الدمار، ويقف الشاعر امامه عاجزا، ولاملجأ له الا ايمانه وصلاته وطقوسه .. في رمادية المساء وانبلاج الفجر .. يرتفع صوته على الشطآن وهدوئها المبارك ،يطلب المغفرة والخلاص ويعود الى صومعته مقتنعا ان الفرج قريب بعد مناجاة ايمانية راسخة معانيها في نفسه .

ياحبيبي أثبت ، قف بجانبي

يا عارفي كن كالدعامة الحجرية في العواصف

حيث الرياح الغادية والرياح الاتية

وفي خضم الصراع القاسي يصر على تمسكه بمبادئه ودينه ويصبح داعية لها فيقول :

يا أحبائي لاتغيروا ما يقوله الرجال الصادقون لكن في هذا الصراع الذي يدوم تتلاشى النجاة ويطغى العجز في ايجاد حلول للتغيير، فينزوي في ركنه الايماني متعبدا وداعيا الازلي أن يجنبهم السوء ويطرد الشر.. وتنبثق هنا فكرة المخلص أو المنتظر الذي سيأتي ويملأ الارض عدلا

سيأتي قول واحد ويوضح جميع الاقوال

ستأتي كلمة واحدة وتوضح جميع الكلمات

سيأتي رجل واحد ويشرح لكل واحد

أما نحن الذين نسبح سيدنا ستغفر خطايانا وذنوبنا

ويمر الزمن عابرا"المتاريس ودولابه يدور بلا توقف ، وفي مسيرته تتطور الاشياء .

ويستقر الناس في مواطنهم فتؤسس القرى والمدن الصغيرة وتتغير اساليب الانتاج التي تسمح بالاستيطان في السهول الجنوبية ، وفي رحم المجتمع الجديد تبدأ علاقات اجتماعية جديدة تتشكل بين أفراده.. وتأخذ الحياة سمات جديدة تعكس ظلالها على آداب وعادات وأفكار المجتمعات الوالدة في بطن الانتاج المتلاشي .

ويتفاعل المندائي بفكره وأدبه وطقوسه مع هذا الكم الزاخر من الوشائج الاجتماعية .

يحتل الزواج المندائي في المفاهيم القديمة أهمية كبيرة باعتباره احد أركان الايمان المفروضة على الانسان وفي كتاب (القلستا) ترانيم الزواج المندائي يتجلى الشاعر المندائي بأسلوب جميل في وصف المراسيم الخاصة بالزواج وتراه منتشيا"وهو يكتب قصائده ببهجة مع افراح جوقة الكهنة والعرسان وترتبط الملابس الخاصة للعروس والعريس بمواصفات لكل قطعة منها وتسمى (الرستة) وتفصل حسب أجزائها بقياسات ونسب محددة، وبالتالي فهي مباركة من نور المنبع العظيم .

وترتفع ترانيم الشاعر المندائي وتحلق في سماء المجتمع القديم كنجوم زاهرة في دجى الليل البهيم ،ناشرة أردية الخير والجمال والفرح في منازل المختارين.

ويقترن وصف ( الرستة ) برؤيا الدين المندائي الذي يعطي هذه الملابس قدسية خارج نطاق البشر فهي رداء النور الذي يرتديه ( منداهيي) رب المعرفة.

ويطل الشاعر المندائي شاهدا"على عصره ومجتمعه ففي (القلستا) صور اجتماعية كتبت برشاقة تصف حالات من المعارف والعادات التي كان مجتمع المندائيين يتعاطاها في مناسبات الزواج .

فالكحلة واللؤلؤ والذهب والفضة والثوب الملون وحتى المرآة آلة الادب في القصص الاسطورية مفردات تأتي في السرد الشعري في كتاب ترانيم الزواج .

نعم يا سيدتي ان الثوب بجانب حذائك

هل خبأته للعريس كي يتبختر في الطريق ويضحك

لقد خزنوا له قباء"أنيقا"

ملونا"بلون أبيض ووردي

برقبته الذهب وبأذياله اللؤلؤ

نعم يا سيدتي الصغيرة التي تحمل مرآة صافية

هل نظرت في داخلها ؟

فانك أجمل منها

لكن الشاعر يعتبر الانتماء للمندائية هو الجمال والكمال فليس جمال المرأة الكحلة والدهان وانما هي الزينة الايمانية من (ليبات بنت السماء).

كيف وصل المندائيون الى هذه الدرجة من الكمال الأدبي فيقول رجال الدين الافاضل لقد اقتبست مما أنزله الله على أبينا آدم عليه السلام ووصلت إليهم بطريق الرواية والتلقين .. وقسم آخر يفسره بانهم ارتقوا تدريجيا باجتهادهم ونظرتهم الثاقبة وما استنتجوه من المبادئ التي تطورت بهم حتى وصلوا الى هذه الدرجة المبدعة

الدخول للتعليق