• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 04 نيسان/أبريل 2013

زدقـــا بـريــخــا الصدقة المباركة

  د. قيس مغشغش السعدي
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

خـُلق الإنسان ليكون كيانا. لذا حين خـُلق آدم خـُلقت معه حواء. ولكي لا يبقيا خلقا بهيما فقد كشفت لهما ولذريتهما المعرفة " وفرش مادا لآدم ولهوا زوا وشرباتا " . هذا ما يرد في نصوص عقيدة الديانة المندائية. وبعد معرفة الخالق كانت معرفة شأن الحياة. ومن شأن كيان الحياة التراحم والبر بعضا ببعض الى اليوم العظيم " رهوم وزبر هداديا وبريا ليوما ربا". ومن علامات التراحم أن تكون قريبا من أخيك سائلا حانيا متقاسما الرغيف. وقسمة الرغيف أبرز علامات المشاركة والإتحاد، لذلك ترى أن في إقامة طقس " اللوفاني" يتقاسم كل شخصان متقابلان جالسان على سماط هذا الطقس رغيف الخبز بينهما ومنه يأكلان ويشاركان المقام له ذلك الطقس. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حين ننظر في أركان العقيدة المندائية الخمسة نجد أن الصدقة المباركة" زدقا بريخا" ركنا منها. وما وجود هذا الركن، الذي لا تكتمل العقيدة المندائية دونه ولا يكتمل إيمان المندائي إلا بالحرص على إجرائه، إلا دليلا على قيمة كيان المندائيين فيما بينهم وعلى تنفيذ وصايا الدين بالبر والتراحم. 

فكيف يبر أحدنا بالآخرين ويتراحم معهم إن لم يكن قريبا منهم وهم قريبون منه. ومن هذا القرب تتحسس إحساس أخيك ويتحسس إحساسك. وليس المقصود بأخيك هنا أخوّة النسب والجسد فهذه زائلة باطلة، بل أخوّة الحق والمحبة تلك التي ترفع الى عليين " إد بيسرا وزما باطلا، وإهيا إد كـُشطا متقيمهون أناتون، إهي إد كـُشطا ماسقتون رهمتكن لريش". وحتى يتحقق ذلك ويكون لزاما على المندائي الحرص على أخوة الحق والمحبة، كانت الصدقة المباركة وصارت ركنا من أركان الديانة. 

تقوم كلمة الصدقة " زدقا " على الفعل الآرامي المندائي " زدق " صدق الذي يرد معناه في اللغة المندائية كما في اللغة العربية. والمعنى يقوم على أن تصدق نفسك أولا وتصدق دينك وإيمانك لتصدق ربك. فما من صدق للرب إلا بصدق النفس والإيمان. وبما أن الإيمان الحق يطلب منك أن تتراحم وتبر مع إخوتك، يكون صدقا عليك" زدقوتا" أن تظهر ذلك لنفسك وبنفسك. ومن هنا صارت التوصية بأن تكون تأدية هذا الركن ليست علانية. 

تحض جميع الديانات على أداء الصدقة والديانة المندائية أولها. وربما وردت في الديانات الأخرى بتسميات أخرى فهي الهبة والعطية وهي الزكاة وهي الخـُمس في أخرى. ويشار الى أن حروب الردة التي دارت في صدر الإسلام قامت في جملة ما قامت إثر امتناع بعض القبائل التي سبق وأعلنت إسلامها عن أداة الزكاة الى بيت المال بعد أن عُدّ أحد أركان الدين أيضا. وتجاوزت الدول المتقدمة الأمر اليوم ولم تتركه دون سيطرة انطلاقا من أهميته في حفظ عيش الآخرين ووجودهم فأوجدت نظام التكافل الاجتماعي. بل وشرعت القوانين التي تلزم بالضريبة ليكون فيها مصدر عيش للمعوزين وغير القادرين على العمل كمصدر للحياة، ليس بصفة المنـّة ولا هي مكافأة للتكاسل، بل واجبا للتكافل حين لا يقدر المرء - على ما يسعى- من العمل وتدبير متطلبات العيش. 

والصدقة حق ومحبة وتكافل، وما من عيب في قبولها في وقت وظرف، حتى قيل أن الكلمة الطيبة صدقة. ولأن الديانة المندائية لا تحض على اكتناز المال، فلم توص شريعتها بزكاة لهذا المال لأنه أصلا غير موجود، بل أوصت بالصدقة ، فإن أمتلك المرء رغيف خبز عليه أن يتصدق بجزء منه لأخيه الجائع .. وهكذا. 

ولأهمية الـ" زدقا " نجدها مؤكدة بنصوص عديدة في كتب الديانة المندائية وتعاليمها. فهذه وصايا النبي يحيى تؤكد (ع) على أن:" رأس صدقاتك ونعمتك أن تطعم الجائع وتسقي العطشان". وتذكرة بأهمية هذا الركن وتوعية بالالتزام به وبيان ذلك نورد نصوصه في الكتب الدينية . 

أما في" الكنزا ربا" فيرد في القسم اليمين : 

1- " أيها المؤمنون والكاملون: إذا رأيتم أسيرا مؤمنا صادقا فافتدوه، ولا تحسبوا الذهب والفضة منقذين نشماتا، إنما ينقذها الصدق والإيمان والتسبيح والإحسان...

2- يا أصفيائي، أيها المؤمنون: أرشدوا الأعمى، وأحسنوا الى الفقير، وإذ تهبون صدقة يا أصفيائي لا تـُشهدوا عليها، لا تعلم يمينكم بما وهبت شمالكم، ولا شمالكم بما وهبت يمينكم، بئس من وهب صدقة فأفسدها بالتشهير. 

3- يا أصفيائي: إذا رأيتم جائعا فأطعموه، وإذا رأيتم عطشانَ فاسقوه، وإذا رأيتم عاريا فاكسوه. 

طوبى لمن وهب فإنه لمأجور، طوبى لمن كسا فسيكسى أردية من نور، طوبى لمن أنقذ أسيرا فسيستقبله رسل ملك النور". 

4- " أما المندائيون الذين هم على اسم مندادهيي مقيمون، ولكنهم في أعماق قلوبهم لا يؤمنون، ولا الى المندي يَقدمون، ولا أبناءهم وبناتهم بصبغة الحي يصبغون، والصدقة لا يمنحون، ويعظهم رجال دينهم فلا يسمعون، أولئك 

نـُشهد عليهم الحي الأزلي العظيم.." 

وأما في القسم اليسار منها فيرد: 

1- " يا نشمثا.. ماذا فعلت في دنياك، لنصطحبك في أ ُخراك؟ 

أبي فرّق الخبز على الجائعين، وأمي وهبت الصدقة للمحتاجين... 

يا نشمثا، عن نفسها يد أبيك الخبز فرّقت.. وعن نفسها يدُ أمك تصدّقت... فماذا فعلت أنت لكي نكون لك مصاحبين؟ 

أنا أحببت هيي.. وأحببت مندادهيي، لقد حلا في قلبي، وملكا عليّ لبي، وفي كل يوم أحد، أحمل الصدقة لا يدري بي أحد، أسير الى المشكنا.. أهب الخبز لليتامى، وللأيامى، إن هيي يعلم كم جائعا أطعمت، وكم عطشانا سقيت، وكم عريانَ كسوت، يعلم كم مسبيا حررته، والى وطنه أعدته، وبزاد الطريق زودته.. إنه بكل شيء عليم، وهو المحسن الكريم."

2- تقول النشمتا: 

" باهر الصدق سأناديه.. وسأعطي الصدقة بإيمان. إن من يعطيها بإيمان يثبـّته صاحب الميزان. 

سمع مندادهيي صوتي فناداني من موتي: 

هلـّم هلـّم يا باهر الصدق 

هلـّم يا صاحب الرحمة والشفقة يا مانح الصدقة، بإيمان وقلب حي

هلـّم يابن الحي المحطات سأعديك، والروهة والمحاسبين أعديك، وسأصعدك وأزكيك.." 

3- " قل لنا يابن الحياة.. حين نغادر الضيق، ماذا يكون زادنا في الطريق؟ 

الصدقة والإحسان.. وثبات قلبك في الإيمان.. ذاك هو زادك في طريقك الى الدّيان"

وأما في كتاب يحيى " دراشا إد يهيى" فنجد أن يحيى عليه السلام يوصي تلاميذه وأتباعه مخاطبا: 

" يا تلاميذي تريثوا وإهدأوا، كونوا رحماء بعضكم لبعض، أحبوا ملاك الأحد، وعظمـّوا يومه، أعطوا الصدقة العظيمة التي هي أفضل من الزوج والأبناء.. الصدقة تـُطلب في الطريق، هي كاليد للفم، الصدقة ترتجى في الطريق، هي كالدليل للأعمى، فإذا انعدمت الصدقة ليس هناك من أجر ولن يكون للنفس معبر على نهر الحياة. إذا انعدمت الصدقة، ليس هناك من أجر، وسوف لن تمتلئ العيون بالنور. 

ويل للذين يتناسون الصدقة ولم يمنحوها، ويل لمن نسوا أمر الخالق بأدائها. 

أيها المختارون: امنحوا الصدقات، وأحبوا ملاك الأحد الذي وضع معبرا على البحر، يقف الجميع عند ضفافه، من بين كل ألف يعبر واحد، النفوس الصادقة المتصدقة التـّواقة للنور وحدها ستعبره ". 

تأسيسا على ما تقدم يكون التبصر بقيمة الصدقة ملزما، فزوادة "النشمتا" في رحلتها الى عالم الأنوار حيث المستقر والخلود هو إيمانها بالحي خالقها وباريها، وصباغتها في اليردنا، وعملها الصالح، والصدقة التي قدمتها. ليس من مـُلزم لك في أن تؤديها سوى إيمانك ومعرفتك بأن لا معبر للنيشمتا الى عالم الأنوار إلا بها. فما من صدقة إلا ومباركة من الحي الكريم وما من عطاء إلا مـُثاب منه. 

ثم أليست هي علامة المحبة؟ أليست هي علامة القناعة والرضا؟ أليست هي علامة المشاركة والتوحد؟ أليست هي علامة نشاط الذاكرة في أنها ما زالت تحفظ ويحفظ لها؟ أليست هي علامة أن تـَذكر فتـُذكر، أليست هي خير من ألف كلمة تقال. 

أيها المندائيون، يا أحبة الحي الأنقياء، لا يَبيتن لكم رغيف خبز إلا واذكروا به في اليوم الثاني إخوان لكم جائعون، ولا تضموا قرشا فوق قرش إلا أن تفرقوا أحدها على محتاج ذو عسر، ولا تدخروا معرفة وعلما إلا وتدلوا به السائلين وتنفعوا به الطالبين. فنحن اليوم أحوج ما نكون فيه الى الصدقة المباركة ذلك أن فينا الشَبع والجائع، وفينا القادر والمحتاج، وفينا المهتدي والضال، وفينا العارف وغير العارف. اعملوا على أن يكـّمل بعضنا بعضا بالصدقة. فالصدقة تشمل كل هذا وزيادة.

الدخول للتعليق