• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 09 حزيران/يونيو 2013

نشوء و تطور المعتقدات الدينية وأصل فكرة التوحيد -القسم الأول

  حامد خيري الحيدر
تقييم هذا الموضوع
(4 عدد الأصوات)

ظهرت الأفكار الدينية أي الأعتقاد بوجود قوة أو قوى خارقة غير منظورة في عوالم ماوراء الطبيعة تسيطر على مقدرات الكون ، منذ فترة مبكرة من ظهور الأنسان على الأرض1 ، ثم رافقت تطوره الجسماني و العقلي طيلة مسيرته التاريخية اللاحقة . فبعد أن أخذت بوادر تفكيره العقلي بالنضوج و التأمل لمحيطه و بيئته القاسية فلم يجد نفسه إلا وحيداً ضعيفاً أمام جبروت الطبيعة الهائل . فقد كانت حالة الضعف الجسماني الذي يمتاز بها الأنسان مقارنة مع الكائنات الحية الأخرى التي تشاركه بيئته و التي وجد نفسه عاجزاً عن مقارعتها و التغلب عليها دعته أن يبحث عن قوى غيبية ذات أمكانات غير محدودة تعينه وتزيد من أمكاناته لمواجهة تلك البيئة القاسية و تعظم من قدراته على أستمرارية و تطوير جنسه البشري الجديد (و هذا الشئ ظل يلازم تفكير الأنسان حتى يومنا هذا) . وهنا كانت البداية الأولى لهذه المعتقدات الغيبية . و با لرغم من التباين النسبي و طول الفترة التي أستغرقها تطور و نضوج تلك المعتقدات بين مناطق العالم المختلفة ألا أنها كانت متشابهة في أطارها العام ، و سيكون التركيز هنا على وادي الرافدين كونها أقدم بقعة حضارية في العالم القديم و أيضاً أن ماسيتم ذكره عنها يشبه بشكلٍ أو بآخر المراكز الحضارية الأخرى في الشرق الأدنى القديم و وادي السند و من ثم الحضارات اللاحقة في بلادي اليونان و الرومان ، مع ذكر بعض الأشارات و التشابهات .
من خلال تتبع تطور المعتقدات الدينية يمكن القول أنها مرت بمرحلتين أساسيتين هما :

السحر


وهو عبارة عن مجموعة من الطقوس و الممارسات يعتقد الأنسان من خلالها أنه يستطيع السيطرة على القوى الطبيعية و الأخرى المنافسة له في بيئته و أخضاعها لأرادته . ولعل من أقدم و أوضح الأمثلة على ذلك الطقوس الجنائزية التي مارسها أنسان (النيادرتال) خلال عمليات دفن موتاه . فقد كشفت التنقيبات الأثرية في كهف (شانيدار) في شمال العراق حيث عاش ذلك الأنسان هناك قبل حوالي 45 الف سنة أنه كان يُسجي موتاه في قبورهم بطريقة تشبه وضع الجنين في رحم الأم معتقداً بذلك أمكانية عودتهم للحياة مرة أخرى . ومن الأمثلة الأخرى ما كان يفعله الأنسان الحديث (الهوموسيبينس)2 الذي ظهر قبل حوالي 25 الف سنة ، كان يرسم صور الحيوانات التي يروم صيدها على جدران الكهوف و المغاور التي سكنها لجعلها قريبة منه و تحت نظره لغرض السيطرة عليها و بالتالي يتمكن من صيدها . كما كان هذا الأنسان أيضاً يصبغ جثث موتاه باللون الأحمر لأعطائها علامة من علامات الحياة لنفس غاية سلفه (النيادرتال) .

الديانة


لقد بدأت المراحل الأولى لمفهوم الديانة في الفترة التي رافقت أستقرار الأنسان في قرى سكنية بعد أكتشافه الزراعة و أنتقاله من طور (جمع القوت) الى طور (أنتاج القوت) في مطلع الألف التاسع ق.م ، وما صاحب ذلك من تطور فكري أقنعه بعقم فكرته الأولى (السحر) وفشله الذريع في أخضاع القوى الطبيعية لمقدراته ، فبدأ فكرته الثانية و المتمثلة بالتخضع و التقرب لتلك القوى لتمنحه متعطفة ً قواها و طاقتها ، و التي كان الأنسان حينذاك في أمس الحاجة لها في حياته الزراعية الجديدة .
لقد تصور الأنسان في بداية تبنيه فكرة الديانة القوى الطبيعية بهيئة آلهة تسيطر على بيئته و بالتالي على أقداره و مجريات حياته و معيشثه . و نظراً لتعدد تلك القوى المحيطة بالأنسان مثل ... الهواء ، الماء ، الشمس ، القمر ، الأرض ... الخ فقد تعددت بالمقابل الآلهة التي تمتلك تلك القوى ، فأصبح لكل منها ألاهها الخاص بها . حتى المرأة في بداية تبلور الفكر الديني أحيطت بها هالة من القدسية بأعتبارها العنصر الولود (منبع الحياة) . و قد تم العثور في العديد من مواقع العصر الحجري الحديث في وادي الرافدين و هضبة الأناضول و غرب أيران على دمى أنثوية بولغ في أبراز أثدائها و أعضائها التناسلية ، عرفت لدى الآثاريين و عموم الباحثين بأسم (الآلهة الأم) . و بالمقابل ظهرت أيضاً ممارسة تقديس العنصر الذكري بأعتباره الطرف الثاني من عملية الخصب . و أيضاً عثر من نفس الفترة و المناطق التي سبق ذكرها على دمى لحيوانات مقرّنة مثل الثيران و الوعول (رموز الخصب) داخل بعض البيوت و المزارات البدائية ، كما عثر أيضاً داخل عدد من قبور النساء على نماذج تجريدية للعضو الذكري معمولة من الحجر أو الطين و خاصة مناطق سامراء . و يمكن أعتبار هاتين الممارستين البدايات الأولى لفلسفة الخصب و آلهتها لدى الأنسان . و من الممارسات الدينية التي يجدر ذكرها و التي ظهرت خلال هذه الفترة و المناطق أيضاً ، تلك الرقصات الطقوسية التي تتمثل بهز شعور النسوة بطريقة مماثلة لرقصات فتيات الغجر ، كانت الغاية منها طلب أستسقاء الأمطار عند أنحسارها ، حيث أن الزراعة البدائية كانت بطبيعتها زراعة ديمية ، و أنقطاع الأمطار يعني حلول القحط و المجاعة لسكان المنطقة . و هذا ما توضحهه الرسوم و النقوش على الأواني والفخارية من هذه الفترة و التي صورت تلك الرقصات و الى جانبها أشكال محورة لعقارب (رمز الجفاف) .

المعبد


لقد كان ظهور المعبد أنتقالة و طفرة كبيرة في تطور الفكر الديني ، حيث اصبح بمثابة مؤسسة تدير و تنظم و توحد المعتقدات و الأفكار الدينية بشقيها الفكري أو الأعتقادي وذلك بتوجيه عقول الناس نحو فكر محدد الأطار واضح المعالم ، وطقوسي أجرائي و المتمثل بالشعائر و المراسيم المترجمة لذلك الفكر و المعتقد ، بعد أن كانت مجرد أفكار محدودة تمارس بشكل عفوي وعشوائي و شخصي من قبل الناس كل حسب درجة تفكيره و مستواه الأقتصادي ، مما ساعد على أنتشار تلك المعتقدات و نظوجها تدريجياً تبعاً لتطور الحياة و أفكار سكانها . و يمكننا أن نحدد فترة العصر الحجري المعدني حوالي 5000 ق.م بأنها كانت الفترة التي ظهرت فيها البدايت الأولى للمعابد . حيث كشفت التنقيبات الأثرية لهذا العصر وتحديداً في الدور المعروف بأسم (حلف)3 وفي موقع قرية (ألأربجية) قرب الموصل عن أبنية دائرية كبيرة مشيدة في وسط القرية قطرها حوالي سبعة أمتار لها مدخل طويل بأسلوب يشبه بيوت (الأسكيمو) سُميت من قبل الآثاريين بأسم (ثولوس) . عثر داخلها على العديد من دمى المعبودات المختلفة الأشكال و التي كانت موضوعة بشكل مرتب و منظم على دكاك من الطين و الى جانبها بقايا عظام حيوانات و آثار رماد أمامها مما يشير الى هذه الأبنية كانت مخصصة للتعبد ولتقديم القرابين و النذور لمعبودات معينة . و الملفت للنظر أن هذه المعابد البدائية كانت تشبه الى حد بعيد القبور اليونانية في منطقة (مايسيني) و لنفس الفترة الزمنية . لقد أدى أنشاء المعبد الى ظهور الشخص القائم و المُنظم و المدير لهذه المؤسسة فظهرت وظيفة (السادن) أو (الكاهن) و التي من المرجح أنه كان يتولاها كبير أو زعيم القرية الذي تولى سلطتين أدارية و دينية ، وكانت هذه هي البدايات الأولى لأرتباط الدين بالسلطة السياسية . وما يرجح هذه الفكرة أن الملوك و الأمراء في الفترات اللاحقة ظلوا يحتفظون بمكانتهم الدينية أضافة لسلطتهم الحاكمة و بدرجات متفاوتة و أحياناً بشكل رمزي فقط . و قد شهدت الفترات اللاحقة تطور و أنتشار ملحوظ في بناء و تشييد المعابد وتغير في تصاميم بنائها حتى أخذت شكلها العام الذي أستمر طيلة الفترات التاريخية اللاحقة . و الذي تميز بأحتوائه على خلوة الأله و دكة القرابين و الفناء الوسطي و موقع المدخل الرئيسي المواجه لخلوة الأله ، و أيضاً أتجاه زوايا البناء الى الجهات الرئيسية الأربعة . وذلك منذ فترة دور (العُبيد) 4500 ق.م 4 مروراً بفترة عصر الوركاء 3500 ق.م و الذي ظهرت فيه البدايات الأولى لتشييد الزقورات و المتمثلة بتشييد المعابد على دكاك عالية ، من المرجح أن الغاية منها هو لدرء أخطار الفيظانات المنتشرة أنذاك في جنوب وادي الرافدين ، ثم أضفيّ على شكلها وتصميمها نوع من الصبغة الدينية الفلسفية . لقد كان المعبد أضافة الى كونه مؤسسة دينية بالدرجة الأساس إلا أنه كان لها بذات الوقت طابع ثقافي و سياسي و أقتصادي و كان له الدور الرئيسي في أدارة المدينة و تنظيم أقتصادياتها . وقد كانت فترة عصر الوركاء التي شهدت ثورة الأستيطان المدني عند منتصف الألف الرابع ق.م الطفرة الكبيرة في تطور المفاهيم الفكرية للأنسان و التي توجت بأبتكار أقدم وسيلة للتدوين لتكون أنعطافة كبيرة في تاريخ الأنسانية تمت داخل غرف المعابد ، كان الغرض منها تدوين وارداتها الأقتصادية . لقد ظهرت نتائج هذا الأبتكار واضحة في عصر فجر السلالات في مطلع الألف الثالث ق.م عندما أصبح التدوين يعبر عن افكار الناس الدينية و الأدبية و العلمية فكتبت الكثير من النصوص التي ألقت الضوء على تلك الأفكار . و عندها تم تكوين فكرة مفصلة عن المعتقدات الدينية من خلال تلك النصوص و التي أستمرت الى آخر عهود وادي الرافدين ، خاصة بعد أن أصبح المعبد السند القوي و الداعم للسلطة السياسية الحاكمة التي أصبحت تعتمد على المعتقدات الدينية في تثبيت سلطة الملك أو الأمير و نظامه الحاكم .

تأثير المعتقدات الدينية القديمة


لقد أصبحت الأفكار الدينية بعد الألف الثالث ق.م أي بعد تكوين المجتمعات المدنية من أهم العوامل المؤثرة في سير حياة الشعوب القديمة و أسلوب تطور حضاراتها . وغدت تحدد الأطار العام لسلوك الأنسان و الخلفية المؤثرة في حياته الأجتماعية والأقتصادية وتوجه عاداته وتقاليده و أعرافه وقوانينه التي شرعها فيما بعد . وكان تغلغل هذا الأفكار في حياة الناس قد تجسدت بشكل واضح في الآثار الفنية و الأدبية والعمرانية التي خلفوها ، فكانت التصاميم لبيوت العامة والقصور فيها صبغة دينية من خلال مشابهتها لتصاميم المعابد و المزارات . و كانت الملهمة أيضاً للنحاتين و الفنانين لأبراز أبداعهم الفني عند تجميل واجهاتها الأبنية بمنحوتات و رسوم تمثل الآلهة و أساطيرها و الطقوس الدينية المتعلقة بها . وفي الجانب الأدبي نجد المعتقدات الدينية كانت العمود الفقري في بناء النصوص الأدبية ، سواءً في الفكرة و المضمون أم في العبرة النهائية لتلك النصوص . و ماينطبق في العمارة والأدب نجده أيضاً في باقي العلوم و الفنون الأخرى ، حيث تذكر النصوص الكتابية أنها أتت بوحي من الآلهة . لكن كان أهم تأثير للفكر الديني هو عند تداخله بالفكر السياسي وذلك لدعم المصالح السياسية التي أخذت بالتعاظمم لدى الطبقات المُترفة و المُسيطرة على مجريات حياة تلك المجتمعات ، خاصة بعد النمو الأقتصادي الكبير للمدن و تقسيم المجتمع الى طبقات أجتماعية متفاوتة المستوى . وذلك بعد صورت المعتقدات الدينية أن الآلهة قد خلقت البشر ليقوموا بدلاً عنها بأعمار وزراعة الأرض وخدمة مصالحها فيها ، وأختارت أحدهم (الملك أو الأمير) ليكون ممثلاً و نائباً عنها في أدارة شؤونها على الأرض ، و بذلك فقد أصبح له حق ألهي بأعتباره معين من قبل الآلهة و بالتالي فأن جميع الأوامر و التشريعات التي يصدرها تكون واجبة التنفيذ لأنها تمت بوحي منها . بينما نجد المعتقدات الدينية في وادي النيل قد صورت الفرعون على أنه أحد الآلهة وجبت عبادته و تقديسه من قبل عموم المجتمع .

يتبع في القسم الثاني

الهوامش


1....يُعتقد أن الأنسان قد ظهر قبل حوالي أربعة ملايين سنة ، و هي الفترة التي حدثت فيها طفرته الوراثية التي حددت هيئته العامة الجديدة التي ميزته عن سائر المملكة الحيوانية.
2....سلسلة التطور البشري.....1)الأنسان البدائي/هومونيد... وعاش قبل 4 مليون سنة حتى 1,750 مليون سنة ....2)الأنسان القادر أو المتمكن/هوموهابيلس...و عاش قبل 1,750 مليون سنة حتى 150 ألف سنة....3) الأنسان القرد المنتصب القامة/هوموأيركتس ....وعاش قبل 150 ألف سنة وحتى 120 ألف سنة....4) أنسان النيادرتال.... وعاش قبل 120 ألف سنة حتى 25 ألف سنة..... 5)الأنسان الحديث أو العاقل/هومو سيبينس.... وعاش منذ 25 ألف سنة وحتى الآن .
3....دور (حلف) ، نسبة الى تل (حلف) الأثري الذي يقع على نهر الخابور عند الحدود السورية التركية .
4....دور (العُبيد) ، نسبة الى تل (العُبيد) الأثري الذي يقع الى الشمال من مدينة (أور) الأثرية .

الدخول للتعليق