• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 31 كانون2/يناير 2013

شعب غريب الأطوار

  الليدي دراور
تقييم هذا الموضوع
(0 عدد الأصوات)

الفصل الخاص بالصابئة المندائيين الذي ضمنته الليدي دراور، أثيل ستيفانا،

كتابها على ضفاف دجلة والفرات

On Tigris and Euphrates

المطبوع سنة 1920

ترجمة الدكتور صباح مال الله ـ لندن

رجل منكبٌ فوق عمله في حانوته الصغير وبجانبه آتون جمر يأجج أواره صبي صغير بمنفاخ مصنوع من جلد الماعز . الرجل ذو لحية طويلة سوداء ناعمة وعيونه هي الأخرى سوداء بعيدة الغور . جميل الطلعة ، معتدل الملامح ذو بشرة مائلة للبياض. يخرج دورق فضة ( دلّـة ) من الصندوق الزجاجي (الفاتية) التي يحتفظ فيها بمصنوعاته ، ويتأملها بعناية . كانت الدلة مزدانة بنقوش ، فهنا جامع، وهناك مهيلة (سفينة خشبية) تنوء بأشرعتها، وعلى البعد جمالا و نخيل . لمسة فنية تحس بها من خلال معاينتك لهذه اللوحات الصغيرة، المهيلة تمخر عباب اليم باشرعتها والجمال تسير الهوينا والنهر يجري، كل هذا منقوش بدقة عالية وحرفية راقية. تسأله عن السعر فيرد عليك بصوت خفيض ، لأنه تعلم منذ صغره بأن خفض الصوت فضيلة. كانت هناك لوحة (يافطة) معلقة على جانب الدكان تقول بانجليزية ركيكة :

Zt John Babtiz zilver zmith of Amara

(صائغ فضة من اتباع يوحنا المعمدان من مدينة العمارة )

ولم تكن حوانيت رفاقه تختلف عن حانوته بشيء . اصحابها حسني المظهر، ذوو سحنة ووقار لا تختلفان عنه. مثل هذه الحوانيت تجدها في الكثير من البلدات العراقية، ويندر ان تجد اجنبيا لا يقتني تذكارا مصنوعا من قبل هؤلاء القوم الغامضين ، فمن هم يا ترى؟؟

العرب يطلقون عليهم لفظة (صُـبّـي)، اما هم فيقولون بأنهم (مندايي) أو معرفيون Gnostics ، وقد تمتعوا بحماية نسبية حين اعتبرهم المسلمين انهم الصابئة الذين ذكرهم القرآن ، أي من أهل الكتاب الموحدين . وهم يدعون بأن لهم صلة روحية مع المسيحيين ويطلقون على انفسهم تسمية: "مسيحـيـو يوحنا المعمدان" بالرغم من انه لا توجد سوى اشارات بسيطة للمسيحية في تعاليمهم وفلسفتهم المثيرة للاهتمام. يعيش الصبة منعزلين عن جيرانهم، ولديهم لغة وكتابة خاصة بهم، ونادرا ما يتصاهرون مع الأقوام أو العقائد الأخرى. وإذا كانت النظافة مقترنة بالتقى، فإن الصبة هم اقرب من غيرهم الى السماء لأنهم يقضون جزءً كبيرا من حياتهم في اغتسال وطهارة تامة، وهم يمارسون طقوس النظافة هذه منذ القدم. ولهذا السبب لا يشيد الصبي بيته الا بقرب نهر او عند ماء جاري .

لقد أثار هؤلاء الناس الغريبين فضولي منذ فترة، لهذا عقدت العزم على التعرف عليهم قبل مغادرتي أرض الرافدين . لقد قيل عنهم بأنهم يحافظون بشدة على دينهم ويحرصون على كتمان اسرارهم وطقوسهم ، وقد لمست شيئا من هذا التحفظ لدى الصبة الذين سألتهم في بغداد. ولكن عندما سنحت لي الفرصة لزيارة العمارة تعرفت عليهم بشكل اكبر وراقبتهم وهم يقومون بطقوسهم الدينية، وجلست وتحادثت معهم كثيرا واطلعت عن كثب على اراء الشيخ جودة ، كبير رجال دينهم ، وكان هو وبقية زملائه الشيوخ من اكثر الناس طيبة ودعة ودماثة خلق، شاء حسن الطالع ان التقي بهم في العراق .

وبالرغم من زيارتي القصيرة، فإن الشيخ جودة لم يبخل على بالإجابة عن أي سؤال دار في ذهني، فاستطعت الحصول منه على أكبر قدر من المعلومات كنت ارغب بالحصول عليها . لقد علمت بأن الصبّي لا يمكن ان يُكرس رجل دين مالم يكن خاليا من أية عاهة أو مرض أو تشويه، وبالنسبة للشيخ جودة فهو ينحدر من عائلة كهنوتية توارثت هذه المهنة أباً عن جد، ولعدة أجيال . وبالرغم من تجاوزه العقد السادس من العمر الا ان الشيخ جودة يبدو بهي الطلعة ، حسن المنظر ، وحينما يجلس ، يجلس بوقار كأنه بطريارك كنيسة جالس بهيبة امام رسام يقوم برسمه. بيت الشيخ جودة يقع بجوار بيت زهرون ، الصائغ الصُبّـي الذي وصلت شهرته لبلدان عديدة . ان وجود توقيعه على قطعة فضية او ذهبية تخرج من بين يديه يرفع سعرها اضعاف مضاعفة . وبمناسبة عودة أمير ويلز (ولي عهد بريطانيا) الى العراق قادما من الهند ، بعث زهرون الى الأمير بتحفة فنية كانت عبارة عن علبة (قوطية) سجاير من صنعه، الوجه الأول للعلبة موشحا بمنظر من العراق والوجه الثاني منقوشا عليه صورة الأمير نفسه.

وتقول الشائعة بأن هذا الفنان ، كغيره من الرجال العظماء قبله ، شغوف بالخمرة المعتقة . وقد حدث ذات مرة ان قدم زهرون هدية من صنعه الى السير بيرسي كوكس Percy Cox المندوب السامي البريطاني ، وعندما تسائل السير بيرسي عما يرسله لزهرون في مقابل هديته، قيل له: "صندوق من الـپـورث" ـ (نوع من الخمور) . كان زهرون طويل القامة جميل المحيا ذو ابتسامة لا تفارق فمه ، ميسور الحال، يشتغل عنما يروق له، ويعمل تحت اشرافه العديد من الأسطوات والصناع المهرة وهم ينهلون من صنعته ويتبعون ارشاداته.

الشيخ جودة ، مثله مثل باقي رجال الدين، لا يقرب الخمرة، ولا يتناول الشاي أو القهوة ولا يدخن التبغ، فهذه الأمور من المحظورات على رجال الدين. وفي الوقت الذي يجوز فيه لرجال الدين الزواج وأنجاب الأطفال، لا يجوز لزوجاتهم اداء أعمال معينة كاعداد الخبز الذي يتناوله الكاهن مثلا، حيث لا يسمح لهن بصنعه او حتى لمسه . كما لا يجوز لهن، في حالات أخرى، الاتصال بأزواجهن، لكون دينهم، فوق كل شيء، دين طهارة ونقاء ، ليس فقط طهارة الجسد ولكن طهارة النيات و الأعمال ايضا.

إن طقوس الاغتسال والتطهير والتعميد الدقيقة تظفي أهمية أخلاقية وصوفية كبيرة على افراد هذه الجماعة، فهي تحتم على الصُــّبي الورع ان يكون قادرا على التحكم في رغباته، كما تحتم عليه اتباع حياة منزهة عن الشهوات.

في معظم الأيام يجلس هذا الأسقف (الكَنزورا) الفاضل ، تحت ظل الشرفة الخشبية لداره الصغيرة ، عاقدا ساقيه (متربعا) على بارية القصب وأمامه طاولة مجهزة بأدوات الكتابة وبجانبه صندوق خشبي يضم الكتب المقدسة و مرگـنته (صولجانه) مركونة على الحائط الطيني خلفه، وبعض من الآنية والأوعية المعدنية موضوعة عشوائيا في الزاوية البعيدة. باحة الدار الصغيرة تعج بتشكيلة من الحيوانات، ففي السقيفة المفتوحة تتمدد بقرة تمضع طعامها وهي تراقب الكنزبرا يغير اكتراث وهو يكتب أو يصلي. وهنا خروف يسرح ويمرح ومعه بعض الدجاج يبحث بأرجله وهو يقرق ، وعند الحائط وز يتطلع الى الضيفة (الليدي دراور) بغير اهتمام، و هناك قطة تنظف نفسها وهي راقدة تحت ظل الشرفة بجانب سيدها الكَنزبرا. أما المطبخ فيقع خارج الدار وتزين جدرانه الخارجية أقراص المطـّال (الروث)، والتي تستخدم وقودا عندما تجف . وفي الركن الآخر أقيمت خيمة من ازر نظيفة كي تكون مأوى للضيفة الأجنيبة التي جاءت لزيارتهم. العديد من افراد الدار يذرعون الباحة جئية وذهابا وهم يتحدثون بأمور بيتية بصوت مسموع غير آبهين كثيرا بالشيخ سواء كان منهمكا بصلاته ام بكتبه.

الشيخ متزوج من امرأتين، زوجتة الثانية شابة وسيمة كونت له اسرة ثانية ، وبيته تطغو عليه الألفة والمحبة ونساؤه تعلو وجوههن الابتسامة دوما. ولكن السلطة الحقيقية ، كما اعتقد، هي بيد أخت الشيخ. وأخته هذه امرأة طويلة القامة دمثة الأخلاق وقد تجاوزت سن الشباب، وهي تبدي رأيها دوما بالأحاديث التي تدور حول الدين وتساعد أخوها الكَنزورا في التفسيرات المتصلة بالطقوس ، والتي كنت اسأل دوما استفسر عنها وعن معانيها.

ان الشيء الأساسي في هذه الطقوس هو الرسته . والرستة هي ثوب القداسة الذي يرتديه الصَـبّي في الصباغة (التعميد)، ويلبسها العريس والعروس خلال طقوس الزواج والاحتفالات الدينية الأخرى، وتكون آخر مايرتديه المحتضر. كافة رجال الدين يرتدون الرسته خلال الطقوس ، الجميع يرتدوها، رجالا ونساء، في التعميد والزواج والمناسبات الدينية الأخرى.

أنا ذكرت ان الرسته رداء ولكنها في الحقيقة زي كامل مصنوع من عدة قطع ، وعند ارتداءها لا يجوز ارتداء لباس آخر ـ عدا العباءة للمرأة احيانا ـ وأول اقسام الرستا هو الشروال قطني ويشد على الوسط بزنار قطني، ثم السدرو وهوقميص قطني طويل، وثالثا: الدشه وهي رقعة من نفس القماش تخاط من الخارج من أعلى الناحية اليمنى من فتحة الصدر ، ثم البرزنقا (العمامة) التي يبلغ طولها حوالي أربعة ياردات ونصف، قسم منها يلف على الرأس وتترك احدى النهايتين مدلاة فوق الكتف الأيسر، وخامسا : الهميانة أو الزنار وهي نسيج مجوف محاك من ستون خيطا من الصوف، وسادسا: النصيفة أو القبوعة ، وهي قطعة طويلة ، غير عريضة ، من القماش (الخام) تلقى على الكتفين كالطبرشيل ـ يجعلها الكاهن حول عنقه وعلى صدره عند الطقوس ـ وعادة ما تدس في الزنار . وعندما يقترب الصُـبّـي من أجله المحتوم يُـلبس الرسته وتوضع الكنزالا فوق رأسه ثم تخاط سوية تحت الحنك. وينبغي ان تكون الرسته ناصعة البياض، ولكن الرستات التي شاهدتها، في الواقع، لم تكن بيضاء تماما وانما مائلة للاصفرار نتيجة لغمرها بماء النهر الموحل. ومع ذلك فهي نظيفة من الناحية الطقسية، وهذا هو المطلوب. وسابعا : التاغة (وهي تستخدم من قبل الكاهن فقط) اي التاج وهي قطعة قماش بعرض بوصة ونصف وبطول نصف ياردة محاكة حياكة خشنة من الحرير الأبيض أو القطن على شكل طوق وتوضع تحت العمامة. كما يلبس الكاهن خاتما ذهبيا( إيساختو) في خنصر يده اليمنى، ويحمل مرگـنته (صولجانه) التي لا تفارقه اثناء قيامه بعمله الديني .

والصُبـّي لا يتعمد (يصطبغ) عند الولادة فقط ، وانما يمكنه تناول العماد في أيام الأحد، أو كلما تعرض لنجاسة او اذا خالف قواعد النظافة . فعلى الصَبّي ان يتعمد مثلا إذا تناول لحم حيوان مذبوح بطريقة تخالف طقوس الذبح المتبعة من قبلهم، أو اذا مس جثة ميت صُـبّي من قومه (جثة الغير صـبّـي ، حالها حال جثة أي حيوان، لا تنجس لأنها مثل الطين العادي). وإذا قبل طفله الرضيع قبل تعميد الطفل ، واذا تناول فاكهة أو خضارا قبل غسلها، ومن كان محبوسا، او من لدغته حية أو قرصه عقرب، او اذا أكل زبدة أعدها كافر. وعليه ان يتعمد اذا خرج عن طوره ولم يستطع كظم غيظه أو خوفه . ان طقوس الصباغة (التعميد) طقوس طويلة تستمر لأكثر من ساعتين . وتذهب هذه الجهود المضنية هباءً وتعاد من البداية اذا تم نسيان بعض من تفاصيلها أو اهمل جزء منها، وكذلك اذا تعرضت عملية التعميد لنجاسة ما.

ان أكثر شخصية يجلها الصَـبّة هي يهيا ، الذي يسميه المسيحيون القديس يوحنا المعمدان . ويقول الصَـبّة بأنهم يمارسون التعميد منذ القدم، ولهذا فإن يوحنا لم يغرس عقيدة جديدة، لكنه ظهر في الوقت الذي كان فيه الصَبـّة يتعرضون للاستبداد والاضطهاد من قبل اليهود في أورشليم، حيث كانوا يقيمون، كما تقول الأسطورة. لقد دونت حياة يوحنا في أحد كتبهم المقدسة المعروف بدراشا اد يهيا من معجزة ولادته وتربيته في الفردوس ، ونزوله الى الأرض لتبليغ رسالته ، ثم وفاته وصعوده الى السماء والتحاقه بأبيه السماوي مندا دهيي ـ ملك الحول والسلطان في عالم البهاء. وأثناء مهمته على الأرض قام بتعميد إيشو (المسيح) بأمر من السماء ، بعد ان تردد يهيا بالقيام بذلك ، لأن المسيح قد أمر اليهود بالإمساك عن الزواج، وهذا ما اعتبره يهيا تمردا على ناموس الرب. الصَبـّة يحترمون المسيح باعتباره قديسا، ولكن ولائهم ليهيا الذي يعتبرونه أجل شأنا من المسيح.

ومثل المسلمون والمسيحيون ، يؤمن الصَبّـة بالإله واحد هو الإله الحق واليه يعبدون ، ويطلقون عليه بلسانهم "الاها" أي الله ويقولون انه فوق كل شيء وأعلى من كل شيء، ولكنه مَـنَّ ببعض من قدراته على مخلوقاته النورانية وملائكته لينفذوا أوامره التي يسير بها الكون . وقد انبثقت هذه الملائكة والكائنات النورانية المنزهة الى الوجود عندما دعاها الخالق باسمائها الخاصة بها . ثلاثمائة وستون من هذه الكائنات النورانية تقيم في آلمي دنهورا (عوالم النور)، وهي منزهة عن الرغبات البشرية، ولكنها تتخذ لأنفسها ازواجا وتنجب اطفالا. وهي تنتظم في مراتب ومناصب، وعالمها الذي تعيش فيه عالم أزلي لا يزول ابدا. هي ليست بالهة ، كما هي ليست ليست بملائكة ، ولكنها كائنات انعم الخالق عليها بقدرات سماوية وكرس الملائكة لخدمتها. ولكنهم ، كالبشر ، يصلون للرب الأعلى ، وهم يخضعون على الدوام لأوامره في كل شيء.

إن أسماء الثلاثمائة والستون ملكي معروفة من قبل الصَبّـة ، ولكني لا أعرفها جميعا ولن اوردها هنا حتى لو عرفتها. وأعظم هؤلاء الملكي شأنا هو مار ادربوثا ـ رئيس كل الملكي ـ ثم يأتي بعده أباثر موزانيا ومسكنه يقع ما وراء النجم القطبي، وهو ديان النفوس البشرية ، وهو من يصدر الحكم عليها بعد مرورها بالمطراثي (المطهر)، وهو الذي يسمح لها بالمرور الى الجنة بعد ان يتأكد انها تطهرت من كل ارجاسها. ثم پـثاهيل الحاكم على مكان العقاب والتطهير ، وهيبل زيوا الذي يحتفل الصَـبّة ، مرة كل عام، بعودته الميمونة من مملكة العالم المادي مصطحبا تلك المرأة الأرضية التي اسمها روهايا (الروها). وهذا الاحتفال يطلقون عليه عيد دهفه هنينه . وقد انجبت هذه الروهايا ابنا جبارا اسمه أور ليستقر العالم المادي فوق كتفيه الى اليوم الآخر. ان النفوس الخاطئة عليها ان تتحمل بعد مفارقتها الجسد لظى زفير أور الحارق وبرودة شهيقه المتجمد الذي يملأ به رئتيه . أما الشرير فيصير مآله الى بطن أور بعد ان يفترسه، وهذا المصير هو اشد العذابات قسوة.

فقلت : "ان الذي لا أفهمه هو كيف لامرأة ضئيلة مثل روهايا ان تنجب ابنا هائلا مثل أور؟" فرد علي زهرون قائلا:

" إنه هائل وضخم ، خاتون " وتوقف لحظة كي يمثل لي بحركات منه كي استوعب ما يقول ، ثم أضاف:

" هل تعلمين بأنه يحمل الكون على ظهره ، كما يقولون" ثم ابتسم ابتسامة فيها نوع من التشكيك.

فأجبته "من يدري؟" ثم التفتُ الى الكَنزورا وسألته: "ما هو رأي جنابك؟"

لم يعلق الكَنزورا على هذا الموضوع ، ولكنه تقبل مني برحابة صدر ما ذهبت اليه من ان ذلك هو قصة رمزية . أما صاحبنا المتشكك فبقى صامتا.

ان التضرع الى الملكي (الملائكة) يتم اثناء تأدية الصلاة، لأنهم أوصياء الله ، وكما يفترض، فأنهم مستعدون لسماع ابتهالات وتوسلات البشر والاستجابة لهذه التوسلات وتحقيق ما امكن منها. اما المطراثي (المطهرات) فينبغي ان تمر بها كل النفوس بعد مفارقتها لأجسادها ، سواء كانت خيرة ام شريرة، اذ لا توجد روح تامة النقاء كي تذهب مباشرة الى مملكة النور. ان ارواح الصالحين تعبر المطراثي بسرعة، اما ارواح الخطاة فتبقى هناك حتى تبرأ من ذنوبها، عند ذاك تقف هذه النفوس بين يدي اباثر الذي يقوم بوزنها، فإن مازال ثمة خبثٌ عالق بها اعيدت مرة اخرى الى المطراثي لتطهيرها ثانية وبعد نقاءها التام يؤذن لها بالمسير. وفي نهاية المطاف تصل النفوس جميعها الى عالم النور. وعندما تحل الخاتمة ستطوى المطراثي وتختفي الى الأبد.

ان الميزة الأكثر غرابة في مسألة نشوء الكون، لدى الصَبـّة، هي اعتقادهم بوجود عالم ثان نصف مادي، ولكنه عالم غير مرئي. وهو كمثيله المادي سينتهي عندما تحين الساعة. وهذا العالم يتعايش ، كما يقولون، مع عالمنا الأرضي، وهو يبدو غير مرئي لأن قدراتنا البصرية بدائية ليس بامكانها رؤيته. انه عالم مثالي شبيه بمدينة الالهة التي تصورها أوغسطين او دولة افلاطون الخيالية. وهي كما قال الشاعر هيريك :

" جزيرة ناصعة البياض...

حيث الأشياء نقية ابد الدهر".

هذا العالم الذي يطلقون عليه اسم "مشوني كوشطو" (مشوني كوشطا) هو عالم نقاء مثالي يسوده الهدوء التام ، ولا يستطيع أي انسان ولدته ام من هذه الأرض ان يبلغ كمال سكان "مشوني كوشطو". وهؤلاء هم مخلوقات غريبة تشبه البشر ، وهم يتزوجون وينجبون مثل البشر ، ولكن لا يتملكهم الغضب، او يتمكن منهم الخوف، ولا ينجرفون وراء انفعالاتهم . ملكيتهم مشاعة بينهم . يبيعون ويشترون ، يصلون ويتعمدون، وهم مثل الصَبّـة لا يقصون شعورهم. يرتدون ملابس ناصعة البياض، لا تمسهم نجاسة ولا تدنسهم جنابة. وحينما يأتي أجلهم ، للانتقال الى الفردوس، يمرقون بسرعة من المطراثي (المطهرات) لأنهم أنقياء كاملين وليس لهم حاجة بالتطهير. وعندما يموتون ، فأنهم لا يستقبلون الموت، مثل البشر، بالألم والبكاء، انما يستقبلوه برحابة صدر . عندما يأتي ملاك الموت ليستدعي احد منهم بالمثول امام خالقه، يقوم هذا الـمشوني كوشطي ويتوظأ ثم يرتدي الرسته ويترك جسده نصف الروحاني بكل هدوء، ويغادر برفقة الملاك نحو المكان الموعود.

لقد ذكرت قبل قليل ، بأن الانسان عندما يموت يبكي عليه اهله ، ولكن عندما يتوفى الصَـبّي الحقيقي ، وخصوصا من كان منهم رجل دين ، ينبغي على نساءه الاحتفاظ برباطة الجأش وعدم البكاء عليه ، لأن كل دمعة تذرف على الميت تشكل نهرا عريضا لا تقدر النفس التي فارقت الجسد منذ برهة ان تجتازه بسهولة، كما تقول بذلك الأسطورة الصَـبّية.

ان الجزء المثير للاعجاب حقا في هذا الدين هو دعوته للإنسان ليكون سعيدا مبتهجا ، والضحكة عندهم جديرة بالاحترام لأنها سمة العقل السليم والضمير المرتاح، فكلما ازداد الانسان ورعا كلما ازدادت الابتسامة على محياه.

وهناك، على اية حال، طريقة تمكن الصَـبّـي من الوصول الى حالة السمو التي يتمتع بها قرينه الذي يعيش في عالم مشوني كوشطو ـ العالم الذي يعيش فيه اولئك الناس الغريبين الذين لا ينتمون الى عالمنا المادي ـ فمن يبتغي الوصول الى حالة السمو هذه عليه ان يترفع تماما عن الشهوات المادية وان ينبذ كل مباهج الجسد، وهي طريقة قاسية وعسيرة وأقسى بكثير من حياة الراهب الكاثوليكي، لأن على الصَبّـي ان يستمر في حياته العادية بين اهله واصحابه، وفي الوقت الذي ليس بمقدوره المشاركة في مسرات تلك الحياة العائلية. وفي الواقع، يقام قداس الميت على من يتم تكريسه رجل دين ، حيث يتحول منذ تلك اللحظة الى شبح حي لا أكثر.

ومن الجائز لرجل الدين ان يواصل عمله كفلاح أو صانعاً للقوارب او صائغ فضة، ولكن حياته الشخصية تتحول الى حياة زهد وحرمان وكبحاً للشهوات . فيحرم عليه التدخين وتناول الخمرة والقهوة والشاي و يحرم عليه كذلك تناول أي نوع من الدواء. كما لا يجوز له تكليف أحد بانجاز امر لصالحه، انما عليه انجاز ذلك الأمر بنفسه ، فإن لم يستطع، فليستغن عنه. ان انفصاله عن الأمور المادية يجب ان يكون كاملا لدرجة انه لو شبت النار في بيته وأتت على متاعه واختنقت زوجته ومات أطفاله، عليه ان يكون جلدا متماسكا ولا يظهر أي علامة انفعال.

لقد كتب سيوفي في عام 1880 يصف الـ (شلمانو)، وهي التسمية التي يطلقها على زهادهم، مايلي:

"حين يجلس لتناول الطعام ويكتشف ان المائدة ينقصها الخبز والملح، لا يجوز له ان يسأل عنهما، أو لماذا هما مفقودان، وإنما عليه ان ينهض ويجلبهما بنفسه. وإن سألته زوجته عن وجبة الطعام التي يرغب بتناولها، لا يجوز ان يحدد صنفا معينا، وأنما يترك الأمر لها لتطبخ ما ترغب به. أما ملابسه فتكون بيضاء دائما، وسريره ابيض تماما، وأن يكون وجهه طافحا بالبـِشر ابدا." (1)

ان الطقوس التي تفصل ما بين الـ (شالمونو) وعالم الأحياء تسمى الـمسخاثو (المسقثا). ان من يتقدم للانخراط في سلك الكهنوت يخضع لاستجواب مكثف من قبل الأسقف (الكَنزورا) للتأكد من صدق نواياه. ويؤكد الكَنزورا على المتقدم بأن هذا الطريق لا رجعة منه، ان عقد العزم على المضي فيه. فمن كان ثابت العقيدة عليه اجراء التحضيرات اللازمة لتكريسه باشراف الأسقف (الكَنزورا) لمدة سبعة ايام، بعد ذلك يعتكف في المعبد، او مكان منعزل، لأداء الصلوات لسبعة ايام وسبعة ليال من دون ان يغمض له جفن. ويمر عليه الأسقف (الكَنزورا) في كل يوم. أما طعام المرشح (الشوليا) فيتكون من ثلاثة أقراص صغيرة من الخبز المقدس يوميا، مع جزء يسير من لحم حمامة تم ذبحها بعد تنظيفها وتطهيرها. والحمامة هي رمز لمارو ادربوثو. ان الخبز المقدس يتم اعداده في المعبد. ستون خبزة تكرس يوميا ، واحدة واحدة . ستون هو عدد الملائكة التي انيط بها حراسة الشلمانو من الآن فصاعدا. اما أرغفة الخبز الفائضة فتدفن في أرض المعبد، ودفنها يرمز الى دفن رغبات المرشح المادية وشهواته الجسدية. وإذا طواه الجوع فمن الجائز للشوليا ان يسد أوده ببعض من الزبيب وحبات النـُقُـل، ولا يسمح له بتناول أي شيء أخر صلب خلاف ذلك.

وفي نهاية الأسبوع تقام وليمة يُـدعى اليها الشالمونو الجديد، وعادةً ما تقام هذه الوليمة في بيت الأسقف (الكنزبرا). وينهض كافة رجال الدين قبل رفع الخوان، وبيد كل منهم لقمة. ثم، وبوقار شديد، يبدأون بتلاوة صلاة الميت على الشوليا، ثم يتناولون اللقمة الأخيرة وكأنهم يفعلون ذلك على روح شخص قد توفى فعلا. وهذه اللقمة باعتقادهم هي التي ستقيم أود نفس المتوفي في رحلته خلال المطراثي (المطهر) .

أنا لا أستطيع الا ان اشعر بالرثاء لزوجة رجل دين كهذا. صحيح، انها مؤمنة بأن روح زوجها التي تحررت للتو ستمر الى الفردوس مباشرة من المطراثي (المطهر) ، حتى وإن مات مقتولا وبدون ان تقام عليه طقوس الميت، ولكن هذا لا يشكل عزاءً كبيرا لامرأة تزوجت جثة حية. فبالرغم انها ستبذل ، من الان فصاعدا، كل ما في وسعها لخدمته في المنزل من دون اقحام، الا انها ستكون زوجته بالاسم فقط. فإذا ما تمردت المرأة، وأصرت على ان يعود زوجها من روح بدون جسد الى رجل حي، غير عابئة بنصح الكهنة لها، فإنها تطلق من رجلها . ولكن غالبا ما ترضخ المرأة لقدرها ، لأنه من النادر للمرأة المطلقة ان تتزوج من جديد.

ان حياة الشالمونو هي اقسى من حياة الكاهن (؟هكذا وردت)[1]، لأنه يجوز للكاهن والكاهنة الزواج؛ وفي الواقع ان الزواج هو الزامي. يبدأ التدريب على الكهانة منذ الصغر، وعادة ما يكون المتدرب ابناً للكاهن، حيث يتلقى عمادا خاصا في سن السابعة ويكرس شماسا قبل بلوغه سن العشرين. وخلال هذه الفترة يقوم بوظيفة مساعد للكاهن (شكندا) ويحفظ الأدعية والصلوات عن ظهر قلب ـ وهذه مهمة ليست سهلة على الاطلاق ـ لأني لا استطيع ان اتصور ان هناك دينا آخر في العالم فيه مثل هذه الصوات المسهبة ـ وعلى الشماس ان يرتدي الرسته اثناء قيامه بمساعدة الكاهن في اقامة الطقوس.

وينبغي أخذ رأي وجهاء الطائفة في جدارة الشماس قبل ترسيمه كاهنا، وعادة ما يتم ذلك بعد سنة من تنصيبه شماسا. ولا يمكن ان يصبح كاهنا من شابت سمعته شائبة او اذا انتقصت من اخلاقه زلة. فاذا سار كل شيء على مايرام، وحصل على تزكية القوم، تجرى طقوس تكريس رمزية ولافتة للانتباه. حيث يشيد كوخان من القصب تفصل بينهما مسافة قليلة. يقضي المرشح ليلته الأولى في الكوخ الأول ساهرا طول الليل يقرأ الكتب ويقيم الصلوات. بعد ذلك يحرق الكوخ الأول تماما وينتقل المرشح الى الكوخ الثاني ليقيم فيه ستة ايام وست ليال وهو في يقظة تامة وصلاة دائمة.

وقد أكد لي الأسقف (الكَنزورا) ان المرشح لم يذق طعم النوم طوال الأسبوع، وربما لجأ الى التعذيب الذاتي كي يبقى صاحيا. لأنه اذا حدثت أية حالة تلوث نتيجة للاحتلام، يصار الى اعادة كل هذه الطقوس منذ البداية. وفي كل يوم يرتدي المرشح رسته جديدة وتوزع الملابس والطعام يوميا باسمه على الفقراء. وفي صباح اليوم الثامن الذي يكون يوم أحد تؤدى طقوس الجنازة على هذا الرجل المنهك، ثم يقتاده اربعة كهنة الى النهر ليقوموا بتعميده هناك.

بعد هذا العماد يمر بفترة طهارة تستغرق ستين يوما، يجب عليه خلالها القيام بالاغتسال ثلاث مرات يوميا، ثم يعود الى بيته ويبدأ بالصلاة، وملابسه تقطر ماءً، على ان لا يرتدي ملابس جافة الا بعد ان ينتهي من واجبه الديني. وخلال هذه الفترة عليه ان يحترس من أية نجاسة. ان زيارة عارضة له من قبل شخص غير طاهر في أي يوم من أيام التنسك، تُذهب بجهوده سدى ، وعند ذاك عليه اعادة هذه الفترة مرة ثانية. ولهذا نادرا ما تمر فترة الستين يوما من الطهارة بسلام. ويكون غذاؤه في هذه الأيام مقتصرا بعض انواع الطعام، وعليه ان يقوم بصنع خبزه بنفسه وبتطهيره سبع مرات قبل تناوله. وعند انتهاء فترة الستين يوما هذه بسلام، يتعمد الكاهن مرة ثانية، مع ربة بيته. وفي اليوم التالي يقيم وليمة ويوزع الصدقات والملابس على الفقراء، لأنه قد أصبح كاهنا كاملا يمكنه القيام بالتعميد والطقوس الأخرى ما عدا طقوس الزواج، التي لا يقوم بها الا الأسقف (الكنزبرا) نفسه.

أما عند تكريس الأسقف (الكَنزورا) فتقرأ عليه الـ "مساخثو" ، ولكنها لا تحيله الى شبح حي كما يحصل مع رجل من العامة. ولكنه يبتعد عن زوجته لمدة شهرين فقط، كما لا تفرض عليه ضوابط قاسية . وهناك طقوس أخرى ممتعة تصاحب عملية تكريز الأسقف، لكن المجال لا يتسع لوصفها هنا. كما لا يتوفر متسع كي اصف زواج الصَـبّة ، بطوقسه التطهيرية المطولة، ولكني سأصف التعميد الذي شاهدته من بدايته وحتى نهايته. ومن أجل ان لا أثقل على القارئ، فسافرد ملحقا اضمنه ملاحظاتي الكاملة عن هذه الطقوس لكي يطلع عليها من يرغب.

كان اليوم يوم أحد (والصبة، مثلنا، يكرسون أول أيام الأسبوع للشمس) ، وبناء على الدعوة التي وجهها لي الأسقف (الكَنزورا) فقد ذهبت الى بيته قبل منتصف النهار بقليل، في حين كانت الطقوس على وشك ان تبدأ. وحال وصولي، خرج الأسقف مسرعا لكي يرتدي الرسته ويقوم بوضوءه ثم عاد مكسوا بالبياض ومتأبطا مرگـنته (صولجانه) بيده اليسرى ، ثم وقف على حصيرة والشمس من خلفه (لأنه كان يواجه النجم القطبي)، وباشر بصلاته. أخته كانت تجلس الى جواره مقرفصة، تلف لنفسها سجاير وتنظر اليَّ بمحبة ، موضحة لي بين الفينة والفينة ما يحصل، او لتزودني ببعض المعلومات عن عائلة الأسقف بدون ان تخفض صوتها. أما البط واللوز فكان يطلق صيحاته غير عابئ بالتراتيل، والدجاج يبحث عن طعامه هنا وهنا على مقربة من قدمي الأسقف .. هكذا كان المشهد.

أما مقتنيات الأسقف فكانت عبارة عن كتبه الموضوعة في حقيبة صغيرة على الأرض، ومجمرة فخارية (بريهي) ذات قبضتين ومجوفة قليلا على صحن طيني (طريانة) فوق حامل خزفي. (تم جلب الخشب مسبقا، ثم وضع الجمر فوقها بعد ان توهج تماما) . وعند حافة الصحن وضع خوان فخاري صغير يشبه دواة الحبر يحتوي على البخور. ثم طاسة برونزية صغيرة وقنينة زجاجية ووجبة طعام صغيرة وبعضا من الآس المقطوف للتو. وكان ابن الأسقف واقفا بجانب ابيه وهو على اتم الاستعداد لمد يد العون.

لا اعتقد اني سمعت قط رجل دين يتلو صلواته بمهذارية مثل هذه، وباستمرارية لا تكاد تتيح له ان يلتقط انفاسه، كما فعل الأسقف في العماد الذي استغرق ساعتين. وقد ادى كل هذه الصلوات من ذاكرته ، ولم يفتح الكتاب ، عدا في اجزاء معينة من القداس.

بدأ الأسقف طقوسه بمباركة كل قطعة من لباسه الديني ـ الرسته ـ وبطرح البخور في المجمرة وأداء طقس مطول. ثم اخذ شيئا من وجبة الطعام اصغيرة ووضعه في طاسته البرونزية ، ثم اختفى ليصنع الـپـيثو (البهثا) او الخبز المقدس وأثناء عودته قام بشيها وأدى مراسم القربان لنفسه. في تلك الأثناء كانت اخته تقوم بمساعدة ابن أخيها على ارتداء الرسته الذي كان ينظر الينا مبتسما بين الحين والآخر. ثم بدأ بواجبه في القداس وذلك بترديد الأدعية بعد الأسقف بطبقة صوته الطفولية العالية، ثم بدأ بالتقاط اغصان الآس في الوقت الذي كان فيه الأسقف يقوم بجمع ادواته الشعائرية ومجمرته، وبدأ الجميع بالخروج مشيرين الي كي اتبعهم.

وقالت لي اخته بصوت واثق:

" ينبغي اعادة كل هذه الطقوس غداً"

سرنا عبر طريق قصير حتى وصلنا الى النهر، حيث كانت السيدة التي تريد ان تتناول العماد تنتظرنا في بيت يقع على ضفة ذلك النهر. لم يكن هذا تعميدا مألوفا كما هي العادة في يوم الأحد، ولكنه تعميدا يتم اجراءه لامرأة قد ولدت حديثا، وهذا يشبه الى حد ما اقامة صلاة الشكر في الكنيسة المسيحية من أجل امرأة وضعت مولودا. وبالرغم من برودة الجو وسرعة جريان النهر فعلى المرأة ان تتعمد في الأحد الرابع من ولادتها، وهي تعتبر نجسة ولا يجوز لأحد التقرب منها الا بعد غطسها في الماء. كما ينبغي تطهير كافة الأواني وأدوات الطبخ التي خصصت لها في تلك الفترة بتغطيسها في الماء ايضا اثناء تعميد المرأة.

كان البيت الذي توجهنا اليه بيتا مبهجا و نظيفا، تنمو في باحته الصغيرة بعض الأشجار والنباتات، وكان الحضور متكونا من الرجال والنساء وبعض الكهنة ، وعندئذ بدأ القسم العلني من الطقوس. ولست بحاجة هنا لأصف بعضا من هذه الطقوس المطولة مثل البخور والطعام المقدس والوضوء وعقد الآس في حلقات وغير ذلك، لأن الجزء الأكثر أهمية في هذه الطقوس هو التعميد. كانت المرأة التي يراد تعميدها واقفة على ضفة النهر وهي ترتدي عباءة سوادء فوق الرسته ولم تدخل البيت باعتبارها نجسة. خاض الأسقف في النهر الى حقبيه وصولجانه (مرگـنته) بيده وقام باجراء بعض الطقوس، ثم دعا المرأة فخاضت في الماء اليه. غطست المرأة تحت الماء ثلاث مرات بينما هو يرش الماء عليها من خلفه ثم تقدمت الى يمين الأسقف فأخذ برأسها وغمر جبينها تحت الماء ثلاث مرات.

خرجت المخلوقة من الماء الى الضفة وهي تقطر ماء، في هذه الأثناء خاض الماء نحو الأسقف عدة أولاد صغار يحملون ادوات طبخ منزلية وقدورا وقدموها اليه ليغمر كل منها في الماء ثم يعيدها اليهم من دون أن يتوقف لحظة واحدة عن ترديد الأدعية ولصلوات. أخذ الجميع طريقهم الى البيت، وجلست المرأة وهي ناقعة امام الأسقف، ثم اعطاها شيئا من الطعام المقدس لتأكل. وبعد ان انتهت المراسم سمح للمرأة بالانصراف، على ان يتعمد طفلها في مناسبة قادمة.

ان التعميد المتواصل من هذا النوع لا بد ان جعل من الصَـبّة قوما شديدي المراس، لأن النهر يكون باردا في الربيع نتيجة لذوبان الثلوج التي تغذي جريانه. وامرأة قد وضعت حديثا لابد لها ان تكون قوية كي تتحمل برودة الماء عندما تغطس فيه، وقد قيل لي بأن بعض النسوة الأضعف صحة قد متن فعلا.

وقد تم اداء هذا القداس بكامله باللغة المندائية، اللغة التي يتحدث ويقرأ ويكتب بها كل صَبّي، مهما كانت طلاقته في اللغة العربية. وغالبا ما تستخدم اللغة العربية كلغة تخاطب في المنزل، ومع ذلك فإن كل أطفال الصبة يتعلمون ويتحدثون باللغة المندائية، التي هي نوع من السريانية.

ان هذا الشعب الغريب، الذي لم يتبق منه سوى بضعة ألوف، هو شعب مهدد بالانقراض بالرغم من بنية المندائيين الجسمية السليمة ونزاهتهم وحياتهم النظيفة. ان ما يثير الحزن والأسى لديهم هو ان الكثير من نسائهم يتزوجن رجال من جيرانهم المسلمين الذين يقعون بغرام تلك الفتيات الحسان. كما ان هؤلاء المسلمين يقومون بالضغط على اولياء امورهن لاقناعهم ان مصاهرة المسلمين ستؤمن لهم الحماية من الظلم الاضطهاد الذي سيتعرضون له يوما ما.

هذا اليوم لا اتمناه ان يأتي أبدا مادمنا نحن المسؤولين عن حفظ النظام في هذا البلد.

لقد اطلعني الأسقف على كتبهم المقدسة، وهذه الكتب لم تطبع من قبل، ولكنها تكتب من قبل الكهنة بخط جميل وواضح. وهم يستنسخونها لمن يرغب لقاء اجر معلوم. واستنساخ الكتب المندائية عمل مضن قد يستغرق شهورا. ان كتابهم الرئيسي هو كتاب كَنزا ربا (الكنز الكبير)، وهو كتاب ضخم يتكون من جزئين، كل جزء مدون بعكس اتجاه الآخر. البعض يقول ان سبب ذلك هو لكي يتمكن رجلا دين من قراءة الكتاب سوية وهما يمسكان به عند الماء الجاري. ولكن الأسقف نفى ذلك وأكد على ان الجزء المعكوس هو مخصص لقداس الميت.

وكتابهم الثاني هو كتاب دراشا اد يهيا (تعاليم يحيى) أو حياة وعقيدة القديس يوحنا (النبي يحيى)، ثم كتاب النياني ، وهو كتاب صلوات، وكتاب مصفتا الذي يحتوي على طقوس التعميد ، وكتاب الأنشرثا (الأنكَرتا) وهو كتاب يحتوي على طقوس المسقثا (عروج نفس الميت) . ولا اعتقد بوجود اية صعوبة لاقتناء هذه الكتب اذا دفع المبلغ المطلوب للناسخ. فنسخ الكتب يعتبر احد مصادر دخل رجل الدين اضافة الى الأجور التي يتقاضاها عن التعميد، وكذلك خمس الدخل السنوي المفروض ان يدفعه الصبي الصالح الى رجال دينه.

 

الدخول للتعليق