• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 21 تشرين2/نوفمبر 2013

قصة الخلق المندائية

  عبد الإله سباهي
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

 

"محاولة في ايصال الفكر المندائي بشكل مبسط"

جميع الأديان التي مرت على البشرية هي فكرة ومضت في عقل واحد مميز من البشر في لحظة انفعال قدسي تتعدد أسبابه في الغالب  فيروح يبشر بتلك الفكرة  ويجمع حولها أنصارا.

 تتطور  تلك الفكرة مع الزمن بسبب تفاعلها مع الحياة  والأزمان التي يعيشها كل من آمن بالفكرة الأولى والتف حولها. وتنضج تلك الفكرة على أيدي أناس مميزين من معتنقي ذلك الدين وتلك الافكار. فتتداولها الأجيال وتطورها أيضا. وتأتي الطقوس لتحيي وتنعش تلك الفكرة وتسهم المناسبات الدينية في ذلك والتي تتطور هي بدورها أيضا وهكذا وصل الينا فكرنا المندائي بحلته التي يرتدي اليوم. 

لا اتحدث هنا عن الإيمان الديني فتلك مسألة شخصية تخص الفرد أكثر مما تخص الجماعة. والإيمان بالأساس هو علاقة بين الفرد وخالقه، ولكن حرص الجماعة على بقاء دينها يدفعها في أغلب الأحيان إلى التدخل  في تلك الخصوصية وفي بعض الأحيان وفي العديد من الأديان يتطور هذا الحرص إلى أداة قمع وقتل احيانا. 

لا أظن أن فكرنا المندائي ( المتمثل بالكتب الدينية) نزل مرة واحدة وعلى فرد واحد لأنه فكر ضخم جدا لا يستطيع أن ينهض به فرد واحد مهما بلغ به النبوغ وخاصة في أزماننا الغابرة. وأظن أن الفكر المندائي هو حصيلة معارف مجموعة كبيرة من المفكرين والعلماء من رجال دين وغيرهم.

 تطور هذا الفكر مع الزمن لذا عليه ان يستمر في التطور والتفاعل مع التقدم الحضاري والعلمي للبشرية  لأن من لا يتطور يموت ويندثر.

كتب الفكر المندائي كأي فكر آخر بلغة يفهما من عاش تلك الحقب الزمنية  من ألبشر وقدم للناس  حسب إدراكهم وفهمهم. ولا أقصد هنا اللغة المحكية  حينها وقد تكون ( المندائية ) مثلا  وإنما اسلوب الكتابة الذي يأخذ بعين الاعتبار  فهم عامة الناس للمفردة المكتوبة مثلا:

 أي اتحاد أو تفاعل فيزيائي أو كيماوي أو حدث فلكي أو غيرها من مفاهيم اليوم لم تكن مفهومة حينها، فعوض عنها بالتزاوج والإنجاب والتولد والصرخة وغيرها لذا نجد في أدبنا المندائي أن ابثاهيل هو ابن أباثر  أو أن هيبل زيوا تزوج من زهرييل وإلى آخره! وكأنهم شخوص في مجمع للآلهة اليونانية.

 الحقيقة هي أن المندائية  شرحت ما حدث أول مرة  كأنها صرخة تبعتها عملية انبعاث وتفاعل وتطور جرى ويجري  في الكون على مدى الزمن بمفردات مفهومة في ذلك الزمان لا بمعناها الحرفي. ومن هنا جاء في فكرنا المندائي أن  النشوء والخلق تم على مراحل مخالفا لما جاءت به أفكار الأديان الأخرى السائدة والتي تقول أن هناك ( شخص ) "الله"  قد خلق العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش أو خلق العالم  في ستة أيام فتعب من جهد الخلق وراح يرتاح يوم السبت الخ ولكنه ظل يتدخل في حياة الناس ومصائرها.

لذا تجد المندائية تطلق اسم الحياة على كل مراحل الخلق ( الحياة الأولى " مندا أد هيي والحياة الثانية  " يوشامن والحياة الثالثة " أباثر" والحياة الرابعة " ابثاهيل") . 

 سأحاول هنا تلخيص عملية الخلق المندائية هنا حسب فهمي للفكر المندائي مستعينا بمن بدأ بدراسة هذا الفكر بشكل علمي بعيدا عن الشطحات التي يتميز بها بعضنا.

في البداية كان كل شيء في حالة سكون مطلق ولم يكن الزمن قد بدأ بعد. وحدث شيء ما ربما صرخة مدوية  أو انفجار هائل( وعندنا تتم تلك الصرخة عندما يقوم "الهيي ربا" بخلق " المانا" بواسطة الكلمة) فتحركت عجلة الزمن وبدأت عمليات الخلق فخلقت الحياة الأولى " مندا أد هيي".

 كل ما كان قبل الحياة الأولى قبل تلك الصرخة تعزيه المندائية إلى الخالق والذي لا يمكنها وصفه أو معرفته فتختزله المندائية بقول أنه الذي انبعث من ذاته ( إد من نافشي أفرش). 

إن ( مانا) مانا ربا أو "مانا العظيم"  يأتي على رأس عناصر الخلق التي ساهمت في ظهور الحياة الأولى والمانا يأتي بمعاني مختلفة فهو العقل الأول وهو الفكر الأول و الوعاء و الأنا أنت الذي أنشأك الحي وأقامك "كما وردت ترجمتها في قاموس الدكتور قيس مغشغش". وتشترك في عملية الخلق الأولى عناصر أخرى مثل الأثير والوعاء والجوهر والحرارة الحية والبهاء والاتحاد والينابيع والثمرة والنور والماء الحي والدخان والماء الجاري وغيرها لتنتج الحياة الأولى ( مند اد هيي ).

وكما ترون أن عملية ظهور الحياة الأولى  (هيي قدمايي) و راعيها ( مندا اد هيي) عارف الحياة هي نتيجة انطلاق الزمن ودخول عناصر الطبيعة في تكوينها أي أنها لم تظهر من العدم أو بطريقة عشوائية وإنما تمت وفق قوانين( مانا). تقول عنه الكنزا ربا في شرح عملية خلق الحياة الأولى عالم النور:

ورد  نص الكنزا في كتاب النشوء والخلق  للدكتور كورت رودلف ترجمة  الدكتور صبيح مدلول:

حينما كانت الثمرة" بيرا" داخل الثمرة

وحينما كان الأثير " آير" داخل الأثير

وحينما كان" مانا" ذو الوقار العظيم هناك

ومنه تكونت المانات العظيمة الكبيرة

إنتشر بريقها وعظم نورها، وما كان قبلها في الثمرة العظيمة شيء

فانتشر نورها بلا حدود، أكثر من انتشار الكلام

وجلً نورها عن أن يوصف باللسان، والتي كانت وقتئذ في تلك الثمرة

ثم تكونت منها الآف الآف الثمار بلا نهاية

وملايين ملايين المواطن بلا عدد

تقف هناك وتمجد مانا الموقر العظيم

الذي يحل في آير العظيم

وتكون الماء الجاري العظيم " يردنا" الذي لا حدود له

وبقوة " الحي العظيم" انبثقت منه مياه جارية " يردني" بلا نهاية ولا عدد.

يشرح الدكتور الكنزبرا هيثم سعيد عملية الخلق الأولى في فصل من كتاب( دراسات مندائية- ماجد فندي المباركي-):

يعتبر الدين المندائيي من الأديان ألمتميزة التي ذكرت موضوع الخلق والتكوين بصورة انفرد بها عن باقي ألأديان فقد ذكر هذا الموضوع بتفاصيل دقيقة ومطولة وغير بعيدة عن النظريات العلمية الحديثة وبلغة فلسفية عميقة:

يصور التكوين الأول بأنه كان ( كالثمرة) وهذه الثمرة داخل ثمرة " عظيمة" وكانت هذه الثمرة ذات كتلة متعاظمة ممتلئة محتدمة ألمحتوى تضم عناصر فريدة كثيرة ومنوعة ليس لها مثيل في دقتها".

إن تلك الثمرة تمثل في النصوص المندائية وخاصة السرية منها "كالرحم" الكوني العظيم، الذي ضم عناصر النشوء الأول. وذكر أن الثمرة تمثل أحيانا ب " الهلبونا" أو البيضة، أي المستقر والمسكن السماوي، والذي يحافظ على داخله بواسطة غلاف سميك إلى حين نضوج محتواه. ويتبلور عن حياة جديدة، والتي بدورها هي الأخرى تعيد دورة الحياة من جديد.

يقول الدكتور خزعل الماجدي في كتابه المهم( المثولوجيا المندائية) ما معناه. في ص 95:

دائرة الحياة الأولى( هيي قدمايي): 

تبدأ الخليقة "الثيوغونية"( البحث في اصل الآلهة - المورد-) عندما يتحرك الحي العظيم وينقل من سكونه الأزلي إلى الحركة، وحركته هنا تعني أنه سيكون بداية الخلق عن طريق مانا الذي يظهر بصفة (مانا ربا) في غلاف كوني عظيم هو " كنًا" الذي سيتحول إلى " تنُا"........

الحياة الأولى ساكنة ومندمجة  بالحي العظيم ولكنها بعد هذه الحركة الخلقية الأولى

تصبح متحركة ، ودائرة الحياة الأولى هي دائرة العالم النوري الأول وتعتبر مسرحا للخروج من النور الخالص إلى الخليقة الحية  المتحركة........

وقد عملنا على وضع هذين النموذجين المختلفين مع بعضهما ليشكلا خلية أو دائرة النور التي هي بمثابة نواة عالم النور، وتضج هذه النواة/ الدائرة بملايين من الكائنات النورانية الصغيرة تكون على نوعين: (المانات) التي تظهر من ( مانا) والثمرات التي تخرج من الثمرة الكبرى. 

أما الكائنات النورية المكونة لدائرة النور الأولى فهي:

1- آير ( أثير) هواء عالم النور ومنه ريح الشمال ، وأرض آير بمعنى أرض عالم النور.

2- ياور ( جوهر) يوهرا بمعنى الضوء الساطع

3- إيشاثا هاتيا( حرارة حية): الطاقة الموجودة في الأشياء وهي النار الخلاقة الهادئة

4- نبطا ( بهاء) النطفة الأولى وهو التدفق " ألإفراز الأول للحياة

5-لوفا( اتحاد) وتعني اتحاد الأثري أو الكائنات النورية مع بعضها أو مع عالم النور أما المعنى الطقسي لها فيعني ( يعطي) أو ( يأخذ) ويكون عن طريق وجبة دين

6- مامبوغي ( ينابيع) الماء في عالم النور

7بيرا ( ثمرة) وهي الوعاء الذي يسكن فيه " مانا" إي الروح وهي بمثابة المساكن النورية

8- نهورا ( النور) الذي هو اساس عالم النور

9- ميًا هيي ( الماء الحي)

10- بهثا ( تنور) وعاء كوني

11-  تنًا ( دخان) وعاء كوني احتوى الروح في البداية ثم أصبح مادة التكاثر أو البذور في عالم النور والظلام

12- يردنا( ماء جاري) النهر السماوي

 ويكون مانا ربا " العقل الأول، الفكر الأول ، الوعاء، الأنا" وصوثا" الصوت" في بداية الدائرة أما في نهايتها فتظهر الحياة الأولى ومندا أد هيي" عارف الحي" الذي سيكون بمثابة راعي عالم النور.

لقد صورة عملية نشوء الحياة الأولى التي اشتركت بها كل العناصر ال 12على شكل تزاوج بين الذكر مانا والأنثى صوثا " وهي حالة تأنيث  الضوء، النظام، البهاء" فتخلق من المانا الساكن في الثمرة ( مانا العظيم) ( مانا الأول) في المانات  وهي الحاويات أو الأوعية أو الأدوات التي تنشأ منها الحيوات الثانية والثالثة والرابعة  هذا النص ( الكنزا ربا يمينه ص 332) يظهر بوضوح هذه الفعالية:

"إني أتحدث مع هيئتي " دموثاي" قائلا:

تعالي نحن أنت وأنا نريد أن نبني( نخلق) معا

نحن نريد أن نبني نداء مستترا

نبني في الثمرة التي هي آية في الروعة

إلى أن نخلق ثمرا، إلى أن نخلق أعوانا

نحن نريد أن نبقى تحت ظل البهاء الوفير

ونحفظ بعضنا البعض الآخر على وجه بالغ الكمال

ربما سوف نصنع أثري من قبلنا

وتمدح هي إيانا كما لو كنا نحن من العظماء

عندما فاه هو بهذا

فكر في الرفيقة ( صوثا).

إنه جعل يفكر بالرفيقة

التي تكمن في الثمرة العجيبة

هو تكلم وفكر:

إني أريد أن أخلق رفيقة على جهتي اليمنى

ومصابيح على جهتي اليسرى

إني أريد أن أخلق مبعوثي الحياة

الذين يكونون في الخفاء في عهدتي

بعد ذلك ردت الهيئة

وتكلمت قائلة إلى مانا العزيز:

إذا خلقت أنت مبعوثين

فسوف يمتد النقص في نبتة أصلك اتساعا

بسبب الرذيلة في العالم

سوف يكون الكذب فيها

وتنشأ رجة في العالم

ثم أعقبت أنا وتكلمت قائلا:

إلى هيئتي التي تفوق في غرابتها كل وصف

لقد فكرنا وأمعنا في التفكير وها نحن أولاء نريد الآن أن لا  نزرع غرسة

يخرج منها النقصان والعوز

منها يخرج النقصان والعوز

وتنشأ رجة في العالم

إني انحنيت وركعت خاشعا امام رفيقتي

واستلمت منها كوشطا ثمينة

نحن دخلنا في أجهزة واختفينا محتجبين

ورضيت هي أن تكون رفيقتي

عندما جاء الأوائل غلى الدنيا

فكروا في الثانية

عندما جاء هؤلاء أيضا 

فكروا في الثالثة

عندما جاء هؤلاء أيضا 

فكروا في الرابعة

من هؤلاء الأخيرين

نتج النقص والعوز

جاء منهم النقصان والعوز

فنشأت رجة في العالم

  

فنتج الحياة الأولى وعلى رأسها مندا أد هيي. وهذه دورة الحياة الأولى.

والحياة هنا خرجت من اليردنا" الماء الحي" بعد أن انتهى دور النور والحياة هي ذاتها الحي الذي بدأت به الخليقة ولكنه هنا يلعب دورا ثانيا بعد أن انتقل من السكون إلى الحركة وهنا فكرة أراها صائبة جدا وهي أن الكائنات النورانية تخاطب الحياة بقولها ( يا أبي) وليس يا( أمي) وبذلك تنفي وجود الأبناء أو العقل الثاني الذي يظهر كثيرا في الأدب الغنوصي والفكر اليوناني ولكنها تسمى الحياة الأولى لتتميز عن الحي وعن باقي الحيوات الثانية والثالثة والرابعة. 

أرجو من شيوخنا الأفاضل في المجمع التنويري أن يناقشوا ما جاء فيما كتبته ولنا لقاءات قادمة إذا حظيت المقالة برضاكم واهتمامكم

                                        

 

الدخول للتعليق