• Default
  • Title
  • Date
الأربعاء, 11 كانون1/ديسمبر 2013

يحيى الشيخ يكتب "سيرته": الرماد أم اللهب؟

  علي عبد الأمير عجام
تقييم هذا الموضوع
(1 صوت )

"سيرة الرماد" للتشكيلي العراقي يحيى الشيخ الصادر قبل أيام ، كتاب محيّر فعلا، على الأقل في جنس كتابته، فلا هو كتاب سيرة تقليدية، كما درجت عليه كتب السيرة المعلنة والمعتادة، ولا هو بكتاب نصوص في المكان وجمالياته، ولا هو كتاب في الرؤية إلى الفن وتفاصيله الفكرية والإنسانية أيضا.
إنه قد يكون كل هذا معا، ومن هنا تميزه، لكنني سأتوقف عند اللغة التي جاء عليها الكتاب، وهي لغة لا تخفي مصادرها الشعرية والتأملية أحيانا في مقاربتها للأمكنة والحوادث والأشخاص.
ولنتوقف هنا عند مقطع يبدو ما يشبه التقديم أو التبرير لما سيؤول إليه الكتاب ومحتواه "هنا إشارة مرور ملقاة على الأرض ليس في نيتي تحقيق سلطتي عليها وأرفعها لتشير إلى جهة ما. هذا يعني أن أبقى حيالها في العراء، لا أتوقع من ذاكرتي ما هو خارق, ولا اكتشافات ما وراء العمر تغير موقفي. أنا أعرفها, كما أعرف ان الفشل نصيبي. لكنه فشلي أنا، رمادي ولن أمسحه عن جبيني".
الفشل الخاص الذي يشبه صاحبه، وهنا تبدو الإحالة متماسكة : هذه سيرة فشل، لكن هل هي سيرة فاشل؟ يرضى بالرماد اختيارا؟ ولنفترض ان الرماد هنا إشارة إلى الخمود الكلي، لكن كيف علينا أن ننسى ما كان عليه من لهب وجمر وتوقدات واشتعالات قبل ان ينتهي إلى مآله : أي إلى رماد.


في الفصل الأول من الكتاب " في العراء" يأخذنا الطفل الذي كانه يحيى الشيخ، إلى البيت، إلى القرية " اللطلاطة" جنوب قلعة صالح في العمارة، وشموسها الخضر المنداة بماء دجلة، وهنا يبتعد في مهمته بسرد حكايات الطفولة من التوثيق إلى رفع الحوادث الى مصاف العمل الروائي، بل ان الفصل لو نشر مستلا ودون الإشارة إلى مصادره، لأصبح فصلا روائيا خالصا مكتوبا بروح الشعر "كنت منشغلا أتابع تساقط قطرات الدم على الطين. نهر أحمر رقيق ينحدر صوب نهر أزرق عظيم، يسعى إليه ولن يصل ".
أو ما يقوله لاحقا :" يكون للبيت رائحة وأصوات لم تزل ندية قادمة من رياض الجنة . بضيافتنا السخية تنعم طيور الحذاف, وغرنوق ناصع البياض, وبرهان رمادي يميس برأسه، وأرانب . على الأرض تنبطح حزم قصب السكر والعنقر. في قفف مقيرة يجلبون طحين (الخريط) الأصفر: لقاح ناعم ينطوي عليه عرنوص البردي الذي يملأ أهوار العراق".
هنا في المقطع الأخير قدرة لافتة للشيخ في التكثيف التصويري وبتلقائية محببة، هي منسجمة مع نسق شعري كما تلخصه جملة" كنت أطرق أيامي على سندان ثقيل".
ومن روح الشعر إلى شكل الرواية الجديدة أو تيارها، يأخذك الشيخ في كتابة من نوع: "أنا مشاء. أمشط أفكاري وأذرها في الطرقات التي لم أعد إليها مرة أخرى كما كنت. بمعنى أني أنسى بماذا بدأت وبماذا انتهيت"، وإلى الشعر مرة أخرى بقوله " كنت أربي قلبي على الخوف وعيني على الظلام".


وفي حين بدا أن الفرصة متاحة لمعرفة الروح العميقة التي ينطوي عليها البيت الداخلي للصابئة المندائيين ومنهم الفنان الشيخ، على الأقل في تصويره العاطفي لتلك الروح في الفصل الأول من كتابه، فهو شجّع القارئ على ذلك "يقال ان أجدادي أول صابئة حلّوا في تلك البقعة على خاصرة دجلة , قبل ان ينعطف إلى قلعة صالح, في نهاية القرن التاسع عشر"، لكن مثل هذا الأمر لم يتم لاعتبارين على ما أظن، فلا صاحب السيرة مخلص كليا للانتماء الديني، ولا طائفته المندائية كانت تؤمن بفكرة (الغيتو)، فمن خلال الكتاب سنتعرف ليس على عائلته حسب بل على كثير من الصابئة وهم يندرجون بانسجام تام في الحياة العراقية، يوم كانت تلك الحياة ضاجة بالكثير وتعد بالأكثر.
في الفصل الثاني من كتابه، يضعنا يحيى الشيخ، في صورة نادرة الملامح لمدنية العمارة 1953 ، حين انتقل إليها مع العائلة، صورة قد لا يعرف تفاصيلها الغنية المرسومة بصدق وأناقة، حتى أبناء المدينة ممن ولدوا فيها وعاشوا بعد عقود، فثمة حوادث مركبة، أقوام وسياسات، كنيسة ومصائر غريبة، صورة الأب وهي تتهشم، صورة العائلة وهي تتبدد. المدينة هنا قرينة الوعي الذي أشك أن الشيخ كان سيقاربه لو ظل مصيره في حدود قريته " اللطلاطة"، ففي المدينة كانت هناك سينما، وأبطال أسطوريون، وكتب، وسياسة وأفكار، وولع بالرسم، واحتدام فكري وتطلعات عقلية مبكرة لكنها عميقة وتنبعث أسئلتها من بيئتها المحلية.


خروج إلى ممرات فسيحة .. موجعة
أشير إلى ما كنت قد توصلت إليه بشأن غياب الانتماء الديني المحض، عند صاحب السيرة، فيقول في فصل الخروج "قررت الخروج من البلاد في نهاية 77 والسفر إلى روسيا , بعد زواجي بعام وأربعة أشهر. خروجان في آن واحد: خروج من الدين, فزواجي من مسيحية في الكنيسة يعني إقصائي عن دين الصابئة, وخروجي من الوطن. لا وقت للتفكير الطويل في مفترق الطرق. المكان ضيق والزمان قصير, فسافرت وحدي وتركت زوجتي في شهرها السادس. بعد أربعة اشهر استقبلتها في مطار موسكو وفي حضنها طفلة ذات أربعين يوما. لم نعد للوطن حتى اليوم".
خروج من الوطن، خروج من الدين، وخروج آخر من الفكر السياسي الضيق ألا وهو الحزب (الشيوعي) فيقول " في نهاية 87 تم تأسيس كلية لفنون في طرابلس الغرب . كانت فرصة تناسبني وتبعدني عن عادات العمل وضائقة العيش (يومها كان يعيش في دمشق). وفرصة أيضا لترك العمل السياسي والخروج من خنادق الحزب. لقد تعبت من تناقضاته السياسية وانهياراته الداخلية , فاحترمت عقلي وأمسكت بحياتي وغادرت بلا رجعة".
خروج من الوطن، خروج من الدين، وخروج من الحزب، ولكن إلى أين : إلى ممرات فسيحة ولكنها موجعة، حتى وإن بدت حصيلتها مشاغل فنية ومعارض وتجارب في الرسم والحفر (الغرافيك) ومقاربة تشكيلية لخامات مثل اللباد والريش، فيقول "آخر مشغل هجرته كان في تونس. كل ما كان فيه لا تستوعبه الحرائق: صناديق من ريش الطيور. كنت قد جمعتها لمشروع "الأغاني" الذي لم أنجز منه إلا أربعة أعمال . ملايين من الأجنحة الصغيرة تركتها في العراء تنفتخ فيها الريح".
هنا حتى في توثيقه لتفاصيل عمله الفني، يكتب الشيخ بشعرية عالية، ألم أقل ان الكتاب هو بصدد الاحتفاء بنقيض الرماد؟ فالمقطع السابق يؤكد هذا المعنى بامتياز لافت " ملايين من الأجنحة الصغيرة تركتها في العراء تنفتخ فيها الريح"، ذلك انه يأتي شعريا بدهشة تنتمي إلى الجمال ورعشاته المؤثرة.


هل وصلنا إلى الرماد؟ هل وصلنا إلى نهاية سيرته، لا أظن : فالشيخ يحيلنا ببراعة إلى اللهب قبل ان ينتهي رمادا، لهب الطفولة والعيش واشتعالات الألم والأمل أيضا، والرحيل الطويل بين المنافي( روسيا، سوريا، ليبيا، النرويج، تونس والأردن أخيرا) ولهب الشيخ هو الشعر النقي حين يقول :
إلهي ألم تقل لي :سلام عليك يوم تولد....
ها أنا منذ الأزل تنهشني ضواريك
تسحلني عربات شياطينك في ساحات المدن الملعونة
دمعة واحدة لم تذرف من أجلي .. أنا ابنك
الهي سكّن قلبي
ودعني أنام إلى الأبد
ولا توقظني.

الدخول للتعليق