• Default
  • Title
  • Date

استيقظتُ هذا الصباح في الساعةِ الرابعة صباحاً، ولم يزل القمرُ يتوسطُ سماءً صافية، أنهُ الفَجرُ يناغي السَّحَر، النجوم تتلألأ وأضواءٌ متوهجةٌ في الشوارع الفرعيّة المحيطة بشقتنا، وكذلك يومضُ بريقٌ للأضويةِ ونشراتِ عيدِ الميلاد في البنايات المقابلة لنا، الهدوء والسكينة تلف الأماكنَ المحيطةَ بالعمارة التي نسكنها، درجة الحرارة كما يشيرُ المقياسُ المثبّتُ في شرفة الشقة المزججة التي نعيشُ فيها إلى درجةٍ مئويةٍ واحدة!
ألمٌ خفيفٌ في رقبتي وكتفي الأيسر وصداعٌ ينبضُ بوجعٍ في جبهةِ الرأس، تناولتُ قرصاً من الحبوب المُسكنة للآلام (الفيدون) واحد غرام. فتحت التلفاز وطفت ابحثُ في القنوات الفضائية العربية،عثرت على برنامج ( بورتيريه ) تبثه قناة (روتانا / زمان) وهي تعرض حلقة عن الفنانة (زبيدة ثروت ) صاحبة أجمل عينين في السينما المصرية، لا أعرف هل هي مصادفةٌ أن يتزامن عرض الحلقة مع وفاتِها يومَ أمس عن عمراً يناهز(76) عاماً، شاهدتُ جزءً من الحلقة.

أغلقت جهاز التلفاز وقررتُ الذهاب الى غرفة المكتبة لتكملة الرواية التي تركتها منتصفَ ليلة أمس وشدتني القراءة إليها وحلمتُ أكثر من حلمٍ في أجوائها و شخوصها، أنها رواية ( مُذكراتي في سِجْن النِّسَاء) للكاتبة المصرية المناضلة الدكتورة (نوال السعداوي)، وكنت قد بدأت القراءة فيها منذ الساعة التاسعة من مساء يوم أمس، حتى منتصف الليل، كنت قد تركت الرواية في الصفحة (80) الرواية تتكون من (303) صفحة من القطع المتوسط. غسلت وجهي وفرشت أسناني، وحلقت ذقني، وعدت ألتهم صفحات الرواية وأغور في عنابر سجن النساء في القناطر( المصريّة).
في الساعة (السابعة) صباحاً استيقظت زوجتي، وبدأت تعد مائدة الفطور فلديها دوام (عمل)هذا اليوم، حييتها بتحية الصباح، فدعتني لمشاركتها مائدة الفطور التي بدأت بترتيبها على مائدة الطعام (الجبن الأبيض الطري والزبد والعسل والخبر المحمص والشاي) شكرتها، وأخبرتها أن لديَّ هذا الصباح موعد في مختبر العيادة الطبية في منطقة (ياكرسرو) من الساعة (8-10) صباحاً لإجراء تحليل(الدم)، ويتوجب عليَّ عدم تناول الفطور، حسب تعليمات الطبيب.

قررت الذهاب مبكراً لمختبر العيادة الطبية، ذهبتُ الى جهاز الكومبيوتر، حيث كان الإنترنيت جاهزاً للبوح بما كمن فيه من أخبار ، ودخلت صفحة الفيس بوك ، صادفتني أول صفحة مقالة لصديقي الشاعر والأديب المقتدر( صباح الجاسم )استوقفني عنوان مقالته (سنوات من الآن – الشاعر شِل سلفرستاين) فقررت أن أقرأها قبل الذهاب للموعد ، كانت المقالة رائعة كالعادة ؛ ففيها المفيد والجديد ، تتحدث المقالة عن أديبٍ ورسامٍ وشاعرٍ وكاتبٍ مسرحي ومؤلفِ أغاني ومغني شعبي وداعيةِ للسلام (أمريكي الجنسية) متعدد المواهب والإبداعات؛وفي المقالة كذلك نصوصٌ من قصائده المختارة بعناية من مجاميعه الشعرية مترجمة للعربية بقلم المبدع الأديب (صباح الجاسم)؛ قرأتها واستمتعت بها ودونت على عجلة كلماتٍ مقتضبات كتعليق على صفحته (رائع كما الصباح، يا صاحبي).

وأسرعت أبدلُ ملابسي وأتهيأ لمقابلة الطقس البارد خارج الشقة المُدفئة، وزدت تحصيني ضدِّ البرد بالقفازات وغطاء الرأس، ولفاف الرقبة ،ووضعت الموبايل، والنظارات الطبية في جيبي؛ وباشرت السير، العيادة الطبية تبعد بحدود (15إلى 20 ) دقيقة سيراً على الأقدام، سرتُ عدةَ خطواتِ لفحت وجهي لمساتٌ خفيفةٌ من هواءٍ باردٍ منعش، الرؤية جيدة هذا الصباح، لا أثرَ للضباب،على مسافة عدة خطوات تقع مدرسةٌ ابتدائية مختلطة طبعاً ، أعدادٌ من الاطفال تحملُ حقائبَها على ظهرها وتسير باتجاه المدرسة، بعضُ أهالي الاطفال يُوصلون أطفالهم الصغار الى باب المدرسة أو فنائها ، قررت أن أسلك طريقاً مختصراً يقع بين العمارات، الممتدة من بيتنا حتى العيادة الطبية، طوال الطريق المعبد والمُعلّم بإشارات مرورية مرسومة على الارض أو لوحات مرورية إرشادية - شواخص- ترشدك للطريق المخصص للمشاة والطريق المخصص للدراجات الهوائية ، وعلامات واضحة تمنع سير كافة انواع المركبات، تحيط بهذه الطرق وعلى جهتيها الاشجارُ الباسقة والشجيرات المتنوعة الأحجام المختلفة الأصناف والألوان ، ودروبٌ متعرجة بين الأشجار والمروج، وساحات هندسية رائعة المنظر من المروج الخضراء، والتي تحتوي العديد من المساطب الخشبية المخصصة للجلوس،وعشرات من الاراجيح وملاعب للاطفال،والتماثيل والنصب؛ تسير بجانبي أو تقابلني دراجات هوائية تعتلوها مختلفُ الاجناس والأعمار، اجتزتُ امرأةً تبدو سبعينيّة وهي تتمشى و كلبُها الابيض يسير أمامها، ابتسمتُ لها وقلت لها باللغة السويدية: -
ـ أن كلبكَ جميلٌ ، ابتسمت وشكرتني
- قلت لها : هل هو ذكر أو أنثى؟
- قالت ذكر ( روكي)
- سألتها: كم عمره؟
- أجابت وابتسامة خفيفة في طرف فمها : ثلاثة سنوات، وأكملتُ مسيري .

أصواتُ بعض الطيور تزقزق وتضرب بأجنحتها؛ ركزّت انتباهي لعلي اسمع -ولو من بعيد - صوت منبه للسيارات، طوال الطريق لم تلتقط أذناي أي صوت لمزامير السيارات والتي يتفنن سائقو المركبات في بعض البلدان بتقسيم موسيقاها ونغماتها، وكذلك لم تلتقط عينايّ أيَّ أكداسٍ للأزبال او للأوحال رغم أن ليلة أمس كانت السماء قد هطلت امطاراً غزيرة، لم ألحظ ايَّ قطرةِ ماءٍ راكدة في الشوارع والحدائق!
في الساعة الثامنة وعشر دقائق كنت قد دخلت البناية التي تقع فيها العيادة الطبية أخذت المصعد للطابق الثاني، فتحت باب العيادة وادلفت في جوف العيادة ، قرب الباب مكانٌ مخصصٌ لتعليق الملابس، خلعت (القمصلة) الشتوية والقفازات وغطاء الرأس ولفاف الرقبة ووضعتها في المكان المخصص للملابس، وذهبت الى موظفةِ الاستعلامات، وصبحتُ عليها وأخبرتها أن لديَّ موعداً لفحص الدم في المختبر طلبت مني رقمي الشخصي؛ فيما أنا اُسمعها الرقم على مهلٍ هي تضربُ الرقم بالكومبوتر الذي امامها ،مرت لحظاتٌ ؛فجاءني صوتُ الموظفة وهو يتهجّى بصوتٍ أسمعه ، أسمي واللقب، فأجبتها بالإيجاب، ناولتني رقم خاص للفحص، ودعتني للأنتظار.

رحتُ أنظر في صالة الانتظار معظم الكراسي في الصالة فارغة، اخترت أحد الأماكن جنبَ إمرأةٍ مسنة ، منهمكةً تطالعُ في احدى المجلات ،واستليت من المنضدة التي امامي احدى المجلات السويدية، وبدأت أقلب في صفحاتها، بحدود (10) دقائق نُوديَّ على رقمي ذهبت للمختبر، استقبلتني موظفة المختبر بابتسامة ودودة، حييتها بتحية الصباح، أشارت إليَّ بأن أستريح على الكرسي المخصص لأخذ عينة الدم، فيما ذهبتْ هي الى (الكومبيوتر)و طلبت أسمي والرقم الشخصي للتأكد من هويتي، وبعدها سألتني متى تم تحويلك من قبل الطبيب اجبتها قبل اسبوع.

بعد أن قرأت ما مطلوب فحصه من عينة الدم، أعدت ثلاثة قنانٍ - تيوب- صغيرة، بألوان سدادات مختلفة ومثبت عليها شريط من المعلومات، بعد تعقيم المكان الذي حددته وبغرسةٍ واحدةٍ في وريد مرفقي خرجت متدفقةٌ كمياتِ الدم المطلوبة، سحبت (النيدل)الإبرة برفق ووضعت قطعة من الشاش،على المكان الذي سحبت منه عينة الدم، وثبتتها بلاصق شفاف، شكرتها لخفة يدها، أعدت الكرة بارتداء ملابسي وغادرت العيادة.

عدت للبيت، ابدلت ملابسي، وأعددت لنفسي الفطور، طبق من البيض المقلي،مع السلطة ونصف رغيف من الخبز العراقي المحمص، ومن ثم أعددت قدح من (شاي أحمد بالهيل) !
وأنا ارتشف الرشفة الاولى من قدح الشاي كانت الشمس قد نورت فلقد بزغت تواً وراحت تخترق اشعتها الذهبية شبابيكَ الشقة .أزحت الستائر المعدنية ،التي تحجب الشمس، ورحت اروي وأتفقد نباتات الظل في أصصها الموزعة في شبابيك المطبخ والصالة ، وجلست كاستراحة قصيرة امام جهاز التلفاز، وبدأت ابحث عن نشرات الأخبار فيما امسكت يداي الكومبيوتر المحمول (لابتوب) وراحت تتابع اخبار الانترنيت ايضاً.
تابعت في الانترنيت أخبار الطقس لهذا اليوم ، الطقس مشمس، ووقت شروق الشمس الساعة الثامنة والنص فيما غروبها الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر!

ورحت اتابع الاخبار في التلفاز:
ــ تحذيرات جديدة من انهيار سد الموصل، وان انهياره يوازي قوة دمار انفجار ودمار قنبلة نووية، أطلقت هذه التحذيرات على لسان مهندسي شركة (تريفي) وهي الشركة الايطالية التي تعمل منذ (11) شهراً لصيانة السد.
ــ وكالة رويتر: مؤسسة ابحاث تؤكد أن تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) ينتج أسلحة متطورة، تضاهي مستوى تسليح الجيوش الوطنية، بعد زيارة مصانعه في الاراضي المحررة في الموصل.

ـ البنتاغون: يؤكد ان القوات العراقية حررت 20 % من اراضي مركز الموصل

ـ الناطق الرسمي للحكومة العراقية يؤكد أن القوات العراقية حررت (40) مدينة من الجانب الأيسر لمركز مدينة الموصل

ـ تفاقم أوضاع النازحين والفارين من الموت في الموصل والحويجة.

ـ تركيا/ الرئيس التركي (أردوغان) يعلن التعبئة العامة ضد التنظيمات الارهابية!

ـ المفوضية العليا للانتخابات العراقية تعلن اليوم عن تسجل (212) حزباً سياسياً قديماً وجديدا لديها لخوض الانتخابات المحلية أواخر العام المقبل

ـ الجيش السوري( الحكومي) يسيطر على معظم مدينة (حلب السورية)، وأخبار عن أتفاق وشيك لإخراج المدنين والمسلحين من الجانب الشرقي لمدينة (حلب.

فنلندا: بدأت يوم امس (13 كانون الاول 2016) محاكمة توأمٍ عراقيين بتهمة المشاركة في مجزرة( سبايكر) والتي راح فيها مئات المجندين الشباب في الجيش العراقي وغالبيتهم من الشيعة،والتي ارتكبها تنظيم داعش في العراق عام 2014
وبدأت أقرأ الاخبار في الانترنيت :
رئيس وزراء السويد( ستيفان لوفين) في لقاء في مدينة (أوربرو) في 13-12-2016 تحدث: تعتقد الحكومة بزيادة الحصول على فرص العمل في السنوات القادمة ، ويتوقع انخفاض نسبة البطالة في السويد في السنوات القادمة الى نسبة 6%
راديو السويد باللغة العربية:13-12-2016 علقت وزيرة الخارجية السويدية ( مارغوت فالستورم) على تعيين الرئيس الاميركي القادم( دونالد ترامب) ل( ركس تيلرسن وزيرا للخارجية) الأميركية أنه شخص يفتقد للخبرة السياسية.

راديو السويد باللغة العربية:صرح رئيس الوزراء السويدي (ستيفان لوفين ) لراديو (السويد) في أول تعقيب له على نتائج الانتخابات الأميركية، أن السويد تحرص على استمرار العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة الأميركية بغض النظر عن اسم الرئيس والحزب الذي يمثله، مضيفاً بأن الحكومة السويدية قد أعدت نفسها لكل السيناريوهات، وإن النتائج لا تصدمه لأنه كان يتوقع أن جميع النتائج ستكون متوقعة.
أشتد بيَّ التعب والنعاس فقررتُ أن أنام، وعند دخولي غرفة النوم كانت تأتني اصوات أناشيد اطفال من (رياض الأطفال)والتي تشغل الطابق الأرضي الذي يقع تحت الشقة التي أسكنها مباشرة، وهي تردد اناشيد احتفالات (لوسيا) وتسمى (حاملة النور) وهي احدى التقاليد المهمة والرئيسة التي يُحتفل فيها في مملكة السويد، يُحتفل بـمناسبة ( لوسيا) يوم (13 كانون الأول / ديسمبر) من كل عام ن وهذا اليوم يعتبر اكثر يوم مظلم في السنة، حسب التقويم القديم الذي كان ساري سابقاً في السويد ، وفيما كنت اسمع صوت الاطفال، وهي تردد اغاني( لوسيا)؛ رحتُ في نوم عميق .

استيقظت في الساعة الثانية عشر والنصف على صوت الهاتف النقال يرن، كانت زوجتي تتصل بي من مكان عملها وخلال الوقت المخصص لاستراحتها في العمل أخبرتها بذهابي للمختبر وعودتي واستيقاظي من النوم الآن، أوصتني بشراء بعض الاشياء للبيت في حالة ذهابي ووعدتها بذلك.

أستلقيت مسترخياً على مقعد وثير في الصالة قرب الشباك كي اخذ قسطاً من اشعة الشمس، وفيما انا في غاية الاسترخاء وإذا الهاتف المحمول يرن الساعة الواحدة والربع بعد الظهر، نظرت في شاشة الهاتف النقال المتحدث رقم أبنتي(ريام) من (ستوكهولم ) فتحت الهاتف: جاءني صوتُها العذب وهي في غاية السعادة:

- ( ابشّرك بابا حصلت الآن على نتيجة الدراسة من الجامعة، ناجحة وحصلت على شهادة الماجستير).

كدتُ أطير من الفرح معها، بعثت لها قبلاتي الحارة وتمنياتي بالمستقبل السعيد والنجاح الدائم.

ذهبت للحمام، وغسلت وجهي وفرشت أسناني وبدأت أغير ملابسي استعدادا للخروج وأنا بغاية السعادة.

بعثت فوراً رسالة نصيّة الى زوجتي أخبرها ان (ريام) قد اتصلت بيَّ للتو وأخبرتني بنجاحها وحصولها على شهادة التخرج الماجستير في الطب الرياضي.

فتحت الكوميوتر، وتصفحت( الفيس بوك) فوجدت ابنتي (ريام) قد نشرت على صفحتها صورة حديثة لها وهي تكاد ان تطير من الفرح وهي تحمل بيدها شهادة التخرج وخلفها في الصورة لوحة كتب عليها (معهد كارولنيسكا) وشعار الجامعة، وقد كتبتْ - سطرت- باللغة ( الإنكليزية والعربية) مشاعرها وهي تنشر خبر حصولها على شهادة (الماجستير) في (الطب الرياضي)، فشاركتها فرحتها ومدونتها على صفحتي وكتبت لها :

(مباركٌ للفنانة القديرة (ريام ) وهي تتقدم للأمام في سلم الرقي والنجاح ، وتحقيق الأحلام .
بفرح غامر تلقينا اليوم خبر حصول عزيزتنا الغالية الفنانة ريام الأميري، شهادة الماجستير في الطب الرياضي من جامعة كارولينسكا الطبية في ستوكهولم / السويد، أن شاء الله تحصلين على الدكتوراه!
أبنتنا الغالية ريام : السنة القادمة أن شاء الله تزفين لنا خبر حصولك على ماجستير أكاديمية الفنون الجميلة .... )
محبتنا وقبلاتنا مع باقات من الورود العطرة

( بابا وماما)

مالمو في 14-12-2016

ملاحظة: ريام حاصلة كذلك على شهادة (بكالوريوس) أخرى من أكاديمية الفنون الجميلة من جامعة كالمر / السويد عام 2014، ومستمرة تدرس في المراسلة على الماجستير في نفس الاختصاص.

في باب الشقة وأنا أهم بالمغادرة تذكرت أن عليَّ أن اخذ معي كتاب ( اعترافات القادة العرب) أسرار وحقائق مثيرة ؛ تأليف (عادل الجوجري). كنت قد استعرته قبل فترة من المكتبة العامة في مالمو؛ وانتهيت من مطالعته قبل عدة أيام، الكتاب فيه معلومات صادمة عن القادة (الرؤساء) العرب. صورتُ قسماً من صفحات الكتاب وحفظتها في ملف خاص في جهازالكومبيوتر الذي بحوزتي!
مثال ذلك انقل أدناه نص مما ورد في كتاب( اعترافات القادة العرب) ص (42):

((الكتاب الأخضر في اللغة الكردية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة تاريخ علاقة جلال الطالباني بالعقيد القذافي تمثل نوعاً من الازدواجية والتناقض - بل النفاق - فبالنسبة لجلال الطالباني في الثمانينيات وفي محاولة منه لاستدراج القذافي قام الطلباني بترجمة ((الكتاب الأخضر)) إلى اللغة الكردية، وتم طباعة مليون نسخة وجرى اهداء طالباني للقذافي لنسخة من الكتاب في احتفال كبير في دمشق، وحصل وقتها الأكراد على اتفاق بأسلحة وأموال سرية، والكتاب كما هو معلوم ، يمثل خلاصة مشاعر العقيد وتجربته الشخصية في الدولة وآراءه، وتصوراته إزاء ليبيا والتطلع لأهداف محلية واخرى تتعلق بما يسميه القذافي بالفضاء الافريقي
وفي إحدى زياراته لليبيا، قدَّم جلال الطالباني النسخة الكردية للكتاب الأخضر للعقيد القذافي وقال له بالحرف الواحد : ((سيدي القائد ... لم امنع نفسي ولم أمتنع عن إقرار حقيقة شغف الشعب الكردي بالكتاب الأخضر، ونظريات العقيد في التطوير والتنمية والدفاع عن الأقليات القومية والدينية في العالم العربي، وصناعة الدولة الوطنية الحديثة، لهذا قمت بواجب ترجمة الكتاب الأخضر شخصياً من اللغة العربية إلى اللغة الكردية، وها هو الشعب الكردي من أول جبل إلى آخر قمة جبل في شمال العراق يتوجه إليك بالتحية والإكبار والاحترام والتبجيل والتقدير العالي ويهدي إليك هذه النسخة الكردية الخضراء، ويتوجه إليك بأن تترك بصمة أبوية على هذا الشعب من خلال دعم وإسناد الحركة الكردية .)) فما كان من العقيد القذافي إلا أن قدم مبلغ خمسة مليون دولار للرفيق جلال الطالباني على تلك الخدمة ومنذ ذلك التاريخ نشأت علاقة قوية بين الطالباني ومعمر القذافي!.))

أنتهى نص الأقتباس كما ورد في الكتاب ولا أعرف لغاية اليوم مدى صحة ذلك.

أخذت الكتاب بيميني وسرت الى ( سنتر روزنكورد) في الطريق وعلى بعد عدة امتار من البناية التي تقع فيها الشقة التي اسكنها كنت انظر إلى صف الملاعب العديدة المتجاورة المخصصة لكرة القدم والمسيجة بسياج من( البي ار سي ) فيما تغطى ارضية كل هذه الملاعب بساط أخضر، أنها مروج طبيعة من الثيل الزاهي المنظر الممتد لمسافات شاسعة؛ سرت بمحاذاتها في طريق مخصص ( للسابلة ) مرصوفة بـ (الشتايكر)، وبجواره شارع معبد بـ ( الا سفلت)، مخصص للدراجات الهوائية، على أحدى جوانب سياج الملاعب القريب من شقتنا صفٌ من أشجار(الزعرور) والتي نفضت كلَّ أوراقِها؛ اقطف من ثمارها احياناً في فصل الصيف، وفي مقدمة السياج صفٌ طويل من اشجار باسقة يزيد ارتفاعها على العشرين متراً نفضت اوراقها هي الاخرى وبقيت اغصانُها تحتضن بودٍ وحنان اعشاش الطيور. في الطريق كانت بعض المجاميع من طيور( النورس) او (الغربان) منهمكة بفطورها وهي تلتقط طعامها من المروج الخضراء أومن بين الاوراق والأغصان الصغيرة المتجمعة بالقرب من الاشجار والشجيرات.

أمامي وعلى مرمى حجر عشرات العمارات بنيت
بأَبْهى الصور
وقفت سارحاً ... مشدوهاً
وأنا
أُطيل النظر
عشبٌ أخضر
على مد البصر
أعشاش طيور
بُنيت
بين افانين الشجر
في عزِّ الظهيرة
شوارع
خالية من البشر
أفيق من حلمي
مقارناً بين ما جمعت عينايّ
هذا اليوم
من جميل الصور
وخزين ما حملته معي
من بلدي
من رعب الصور
وراحت بي
الدنيا مسرعة
تدور

وصلت الى ( مركز مدينة روزنكورد) الذي يحتوي على مجمع تجاري خدمي كبير، البناية أُنشئت حديثاً، المكانُ يعجُّ بالناس المتبضعين والمتسكعين ففيه العديد من المتاجر والأسواق التجارية ففيه (ثلاثة أسواق كبيرة سوبر ماركت متنوعة البضائع، ومحلات للصيرفة - تبديل العملة- واخرى للعطور والهدايا و صيدلية ومحل لبيع الزهور ومكتب للبريد وبطاقات اليانصيب ومحل للمصوغات الذهبية والفضية وعدة محلات للحلاقة وتصفيف الشعر للرجال والنساء ومحل لبيع لعب الاطفال وأخر للوازم وعربات الأطفال وعدة محلات لبيع الملابس، وكذلك للمواد المنزلية والسجاد، ومحلات لبيع الموبايلات واجهزة الكومبيوتروالستلايت، وثلاثة كافتريات تتوزع في السوق، ومدخل رئيسي لبوابة أكثر من مدرسة سويدية لتعليم (الكبار) اغلب الدارسين فيها من المهاجرين القادمين للسويد، وكذلك بناية المكتبة العامة في (روزنكورد) وغيرها من المحلات المتنوعة .

في وسط السوق يوجد مطعم وكافتريا (كيلاس) اعتدت الجلوس فيها، والتقي فيها أصدقائي ومعارفي، وجدت صديقي (كريم الاسدي) يجلس لوحده على طاولة في( الكافتريا) المكان جميل وحيوي فهو يقع وسط المجمع الكبير( لسنتر روزنكورد) يحتوي المطعم على مختلف انواع الاطعمة العراقية و الشرقية، وفيه ايضاً بوفيه مفتوح للطعام، وكذلك انواع متعددة من الحلويات والمعجنات والمرطبات والشاي والقهوة والمشروبات كالبيرة والواين، أسعاره معتدلة، المكان يعج بالحركة والنشاط طوال اليوم، تجتمع فيه مختلف الجنسيات التي ترتاد المكان والتي يقطن قسم منهم (روزنكورد والمناطق المجاورة لها) ومن جميع الجاليات فتشاهد الجالية ( العربية- السوريين والفلسطينيين وأخرى للعراقيين للعرب أو للكرد أو مختلطة - وبجنبها للبوسنيين وأخرى للإيرانيين وللأفغان والهنود وعدة طاولات للصوماليين فلهم على العموم اكثر من طاولة في المكان، وغيرها من الجنسيات، فتسمع في المكان مختلف اللغات وهي تتحاور وتتهامس و تتداخل اصواتها ولهجاتها مع بعضها!
جلبت لنفسي فنجاناً من القهوة وكأساً من الماء البارد الزلال، سعر كوب القهوة (12) كرون سويدي يعادل دولار ونصف أمريكي. اخترت كرسيّاً شاغراً على طاولة صديقي (كريم الأسدي/ أبو وسام ) حييته مرة أخرى، وجلست بجواره وبدأنا نتجاذب اطراف الحديث، أدرت محور الحديث هذه المرة عن( الدكتورة نوال السعداوي) فصديقي(أبو وسام ) من المعجبين بشخصيتها والمتابعين لنشاطاتها.

خلال جلستنا اتصلت بولدي (مخلد ) وعلمت منه أنه يعرف بتخرج ( ريام) وكذلك هاتفت أبن اخي( أبو أمير، بسام فيصل الأميري) على (الفايبر) فهو يسكن في (العراق/ قضاء العزيزية) وتحدثت معه، واستفسرت منه عن أخبار وأحوال عائلته وأهله وأخبار المدينة والأصدقاء ، وأخبرته بتخرج (ريام) ففرح لها فرحاً كبيراً، وبعد انتهاء مكالمتي ألتفتَ أليَّ صديقي(كريم) مهنئاً بتخرج (ريام) متمنياً لها كل الخير والتوفيق.
فيما كنت وصديقي نهم بالمغادرة جاء صديقي (أبو أمين) ايراني الأصل يجيد التحدث بالعربية ، اعرفه منذ مدة تزيد على (12) عاماً التقينا ودرسنا سوية في احدى مدارس تعليم اللغة السويدية، إلتقيه هنا في (الكافتريا) باستمرار فهو شخصية لطيفة المعشر ذو ثقافة واسعة؛ حياني وسلمني كتاب (لُغزُ أمّ كلثوم ) للكاتب ( رجَاء نقاش) إذ كنت قد اعرته الكتاب قبل (10) أيام فهو يحب المطربة كوكب الشرق (ام كلثوم)ويحفظ الكثير من أغانيها ولديه اطلاع عن الشعراء الذين كتبوا اغانيها وملحنيها و معجب جداً بالموسيقار (رياض السنباطي) والشاعر( أحمد رامي)، إذ كنت قبل فترة حدثته عن الكتاب وفيه فصل مطول يوضح ويشرح العلاقة الحميمية (الحب الأفلاطوني) بين( أم كلثوم و احمد رامي ) فطلب مني استعارته!

في حدود الساعة الثالثة بعد الظهر، قررنا أنا وصديقي (كريم الأسدي) مغادرة (الكافتريا)، غادر صديقي للبيت، فيما أخبرته بأني أود الذهاب للمكتبة - المكتبة العامة في روزنكورد- والتي تقع في نفس المجمع - سنتر روزنكورد- على بعد عدة امتار من المكان الذي نجلس فيه.
طالعت على عجلٍ في مدخل المكتبة الفسيح الاعلانات ومعرض للصور، واستلت يدايَّ أحدى الصحف العربية ( الكومبيس) واخرى(نبض الأوريسُند) والتي رصفت في حافظة من الحديد المشبك مخصصة لكل واحدة من هذه الصحف والتي توزع مجاناً.( الصحيفتان تصدران باللغة العربية والسويدية).

ولجت المكتبة من بوابتها الثانية المحصنة بنظام ألكتروني، ينشر صفارة إنذار منبهة عند خروجك مع أي كتاب تأخذه من المكتبة ما لم يتم تأشيره من قبل أمين المكتبة أو من الحاسبة الإلكترونية المخصصة لذلك والتي بإمكان أي شخص استعمالها والاستعارة بواسطتها دون الرجوع الى امين المكتبة شرط ان يكون يحمل معه هوية المكتبة العامة.
في بداية بوابة مدخل المكتبة وعلى جانبها الايمن يقع القسم المخصص للأطفال، ويسار المدخل تقع مجوعة من الكراسي المريحة الوفيرة ،رتبت الكراسي(الستة) حول طاولة وضعت عليها بعضُ الصحف اليومية ، فيما شغل جميع الكراسي مجموعة تتحدث فيما بينها - تتحاور - دون أن يطالع اي منهم في صحيفة او كتاب،لهجتهم تدل انهم من الجالية العربية لكنهم ليس بالعراقيين!

أستليتُ العدد الأخير من جريدة (العربي) من الادراج المخصصة للصحف والمجلات، والموجودة بترتيب جميل وفي معظم اللغات التي يرتاد روادها المكتبة ( السويدية ،الإنكليزية ، العربية ، الفارسية ، البوسنية ، والصربية والبولونية ...)
وسرتُ عدة خطوات وسط صالة المكتبة كانت طاولة مربعة بعدة طوابق تتوسط الصالة عرضت عليها الكتب - الاصدارات الجديدة - بالعديد من اللغات ، طريقة عرضها تُلفت الانتباه ، فقد وُضعت قصاصاتٌ من الورق الملون باللون الأخضر على واجهة كل كتاب تدل أن الكتاب إصدار جديد، أخذت كتاب (المهاجرون) للكاتب السويدي ( فيلهلم موبيرغ ) الكتاب مترجم من اللغة السويدية إلى اللغة العربية،عن (دار المنى ) ترجمة (علاء الدين أبو زينة ) كنت في شوق كبير لمطالعته، إذ كنت قد شاهدت فلم ـ المهاجرين- الطويل جداً - بحدود سبعة ساعات - الذي يتحدث عن هذه الرواية المهمة جداً في التاريخ السويدي.

جلتُ بنظري في المقاعد المريحة الاخرى التي تتوسط صالة المكتبة والتي تقع وسط الصالة مابين مكتب الاستعلامات والحاسبات الالكترونية المخصصة لرواد المكتبة، اخذت مكاني في زاوية احدى (القنفات) التي تتسع لشخصين او ثلاثة، وضعت الصحف على الطاولة التي أمامي، وبدأت اطالع عناوين صحيفة (العربي) وهي صحيفة باللغة العربية وتصدر من(لندن)، لم اتمكن من التركيز وفهم المواضيع وعناوينها ؛ فصوتٌ من (القنفة) التي تلاصقني من الخلف، لا ينقطع عن الحديث، أدرت رقبتي للخلف، شابٌ في العشرين من عمره يتحدث بـ ( هاتفه النقال ) بصوتٍ عالٍ وبعصبيةٍ وباللغةِ (الصوماليّة) الصوت يرن في رأسي وهو يقتحم أذنيّ؛ وضعت الصحيفة على الطاولة وانتظرت انتهاء مكالمته، وما ان أنهى مكالمته، وههمت ان أخذ الصحيفة من أمامي، حتى بدأ رجل ٌ اخر بعمر (40 ) عاماً كان يتحدث باللغة (الفارسية) - احتمال من الجالية الأفغانية أو الايرانية - بالتلفون وبصوت مرتفع وفتح الحاكية (السبيكر)؛ أعدت نفسي لوضع الجلوس والراحة والتجوال في نظري عما يجري في المكتبه وقررت أن اخذ اغراضي وصحفي وأبحث عن مكان أخر تركت الصحف والأغراض وتجولت في المكتبة وجدت احدى الطاولات المستطيلة تحيط بها (خمسة) كراسٍي، جلسَ في صدرها (شاب في الثلاثين) يحدق منهمكاً في(حاسوبه) الشخصي وبجانبه على المنضدة رُصفت (ثلاثة) كتب، وفي الجانب الاخر (رجل ٌ في الخمسين) من العمر يطالع صحيفة( فارسية)، وأمامة على المنضدة أكثر من صحيفة بنفس اللغة، عدتُ مُسرعاً وجلبت أغراضي والصحف وأخذت مكاناً في الطرف الآخر من المنضدة الكبيرة المستطيلة، فالمنضدة مخصصة للقراءة والكتابة؛ وبدأت مجدداً بمتابعة عناوين الصحيفة ؛ نهض (الرجل الخمسيني) من مكانه بعد دقائق؛ فيما عينايّ تجولان في المكان الذي حولي شدني منظرٌ غريبٌ فعلى مقربة خطوتين من مكاني (شاب في الثلاثين) من العمر يجلس على ركبتيه على البلاط ووجهه متجه على درجِ الكتب العربية المرصوفة في رفوفها، حدقت النظر به مستغرباً فرأسه يتطلع الى ابعيد من صف الكتب المرصوفة أمامه، نظره شارد للبعيد ـ بشرته توحي انه ليس (عربي )فلون بشرته داكنة السمار وشعر رأسه مجعد حالك السواد، وهيئته توحي للناظر انه من (الصومال)، لحظات مرت ونظري مسمر له وشدني أليه أكثر حركاته فهو يجلس في هذا الوضع كأنه (يصلي) لحظات تيقنت أنه فعلاً يصلي، فقد حرك يديه وأدار رأسه الى الجانبين أشارة تدل أنه اكمل الصلاة.

وفيما نظري يجول في المكتبة لاحظت (رجلاً) أخر أسمر البشرة، في أحدى الغرف التي تقع خلف الاستعلامات ، متجهاً بوجهه الى الشباك وفي نفس اتجاه (الرجل الصومالي) -اتجاه القبلة - وهو يضعُ كفي يديه على اذنيه بشكل يوحي بالصلاة ايضاً!
رجعت الى صحيفتي ، فيما أقلّبُ الصفحة الأولى، جاء صوت مذياع ينبثق من (الهاتف الخلوي) للشاب الذي يقاسمني الطاولة نغمة رنين هاتفه تعلن الآذان ويدعو للصلاة باللغة العربية، أخفض الشاب الصوت على مهلٍ وهو يرمقني بنظرة فيها نوعٌ من الود .
قررت أن أغادر المكتبة مكتفياً بهذا القدر من المطالعة في المكتبة لهذا اليوم!

حملت أغراضي وأعدت الصحف التي استعرتها الى مكانها، لم يزل مكان مطالعة الصحف تشغله نفس المجموعة وهم محتدون ومنهمكون في نقاشاتهم.
ذهبت الى الجهة المقابلة للاستعلامات لغرض تسليم كتاب (اعترافات القادة العرب) يسلم الكتاب الى حاسبة الالكترونية ، ما ان تضع الكتاب على المكان المخصص لذلك حتى تتم قراءة الشريحة الالكترونية المثبتة على الكتاب ، يأشر الجهاز أنه استلم الكتاب، فتستلم ايصال بشكل( اوتماتيكي)عن الكتاب المستعار !

ذهبت الى موظفة الاستعلامات كي أستعير كتاب (المهاجرون) اخرجت هويتي من محفظتي، ودفعت بالكتاب والهوية لموظفة الاستعلامات ،موظفة الاستعلامات إمرأة ودودة لطيفة متوسطة القامة شعرها قصير تبدو في الخمسين من العمر، حييتها باللغة السويدية وأخبرتها أني أود استعارة هذا الكتاب. أستلمت الموظفة الهوية وبدأت تضرب على الكومبيوتر الذي امامها، وإذا أصواتُ اطفال - خمسة بنات- بعمر من (8- 10) سنوات قهقهاتهن تملئ المكان وهنَّ يجرينَّ بحركةٍ ودربكةٍ عبثيةٍ فوضوية، وهنَّ يلفنَّ ويدورن حول الكراسي والطاولات، تسمرتْ الموظفة في مكانها، وفغرتْ فاها، وبصوت خفيض حاولتْ الموظفة تنبيههن على خطأ هذا التصرف ولا يجوز ذلك، توارت الفتياتُ مسرعاتٍ بعيداً في جريهن بين ادراج المكتبة، ودخلن مسرعات الى غرفة في الجانب الأخر مخصصة كسينما للأطفال فيها شاشة تلفزيون تعرض فيها انواع متعددة من افلام الاطفال!
سلمتني هويتي والكتاب المستعار مع وصلٍ مثبت فيه تاريخ الاستعارة و موعد التسليم، وذهبتْ الموظفة مسرعةً خلف الفتيات إلى غرفةِ السينما!

ارتديت كامل ملابسي (القمصلة، غطاء الرأس، اللفاف، القفازات) ووضعت الكتابين( لغز أو كلثوم والمهاجرون) بين صحيفتي( الكوبيس ونبض الأوريسُند) الساعة تشير الى الرابعة مساءً، قررت الخروج من الباب الذي يتوسط سوق (سنترروزنكورد) قرب الباب وقفت أحكم سحاب (القمصلة) واللفاف حول رقبتي، وضعت أغراضي على( مصطبة) قرب الباب، كانت تجلس عليها(امرأة) في العقد الخامس او اكثر، قصيرة بدينة، تجلس في هذا المكان بشكل شبه دائم ( تتسول) من الداخل أو الخارج من السوق!
خرجت من السوق لفحة من الهواء البارد تضرب وجهي، لم تزل بقايا من الشمس تُضيء المكان ،لون السماء رمادياً، عشرات من الناس تغادر السوق محملة بالأكياس التي رسمت عليها علامات (السوبر ماركت الخاصة بالسوق) ،أو يسحبون عرباتِ التبضع، فيما عشرات اخرين يدخلون للتبضع، مئات من السيارات وبمختلف الالوان والموديلات تقف أمام الاسواق، فالكراج الكبير الواسع ذو الطابقين الذي يقابل الاسواق والطابق الذي تحته، وقوف المركبات فيه مجاني لمدة ساعتين، وبإمكان المرء تجديد الساعتين مرة أخرى.

الطقس بارد، مع رياح باردة خفيفة،اعتقد درجة الحرارة بحدود (الصفر) سرت عدة خطوات، أمامي يجلس(رجلٌ) في العقد الثالث من العمر يفترش الأرض بالقرب من بوابة أكبر سوبر ماركت في روزنكورد(ستي كروز) يلف سيقانه ببطانية باسطاً يده للتسول، وقفت قرب الرجل ووضعت في الوعاء الذي امامة قطعة نقدية معدنية (خمسة كرون سويدي) الرجل بلحيةٍ كثةٍ سوداء، وجلبابٍ شتويٍّ رث، وسرت متجهاً نحو شقتي وبحدود عشرة دقائق كنت قد وصلت الشقة اتصلت بي زوجتي(أم مخلد) تُخبرني انها قد استقلت الباص رقم (5) المتجه الى البيت وإنها سوف تمر في السوق لتشتري بعض الخضار قبل ان تصل البيت، بعد أن أخبرتها أني لم اشترِ الخضار الذي اتفقنا عليه وأخبرتها أني سوف اقوم بتهيئة مائدة الغداء، وفعلاً بدأت بعمل السلطة ( الخس والخيار والطماطة والليمون وقليل من زيت الزيتون)، وأعددت طبقاً صغيراً من الطرشي المخلل، أخرجتُ من الثلاجة طبقاً معداً سلفاً من ليلة أمس( أفخاذ من الدجاج المحمرة مع مجموعة من الخضار معدة في فرن الطباخ) وضعتها في فرن الطباخ لغرض تسخينها، ووضعت رغيفاً من الخبز العراقي بعد ان قطعته أربع اجزاء الى جنبها في الفرن.
تناولنا الغداء معاً، بعد تناول الغداء أعدت (أم مخلد) الشاي ؛فارتشفنا الشاي ونحن نتابع نشرات الاخبار من خلال الفضائيات العربية ، قتالٌ دامٍ في (الموصل) اندحار(داعش)، القوات العراقية تحاول أن تُحكم سيطرتها على الجانب الايسر لمدينة( الموصل)، وقتالٌ عنيفٌ في (سوريا واليمن وليبيا)، الجنيه (المصري) مستمرٌ في الانهيار ويسجل (18,5) جنيه مصري مقابل واحد دولار!

أخبرتني (أم مخلد ) أنها سوف تباشر البدء في عمل (أبو الهريس) والتي كانت قد هيأت مواده الأولية منذ الصباح. وهي مناسبة تراثية مندائية ضاربة بالقدم متناقلة عبر الأجيال جيلاً عن جيل كموروث ديني طقسي أعتاد (الصابئة المندائيون) على أحيائها سنوياً و تسمى بـ ( أبو الهريس)؛ إذ يعمل المندائيون في هذا اليوم وجبة طعام تتكون من( سبعة) أنواع من البذور (الرز، الحنطة، الحمص، العدس، الباقلاء، الماش، اللوبياء) وتسمى (الوجبة المقدسة) وتقام في ذكرى استشهاد (365) رجل دين مندائي بدرجة (ترميذي) قتلهم اليهود في (أورشليم ) بعد وفاة النبي - يهيى يهانا- أو(يحيى بن زكريا )، وهنالك روايتان أخريان حول هذه المناسبة، الأولى انها تعمل كذكرى على ارواح جنود الفرعون الذين ماتوا غرقاً وهم يتبعون اليهود،عند عبورهم البحر الأحمر. والأخرى تقول أنها بمناسبة نجاة النبي نوح وذويه من الطوفان.

عدت الى الكومبيوتر أتابع (الفيس بوك)، عشرات من الاصدقاء الأحبة يسجلون اعجابهم ويسطرون تهانيهم الكريمة بمناسبة تخرج ابنتنا (ريام الأميري) فبواسطة الجسور الجديدةـ مواقع التواصل الاجتماعي ـ والتي تجمع الأحبة والأصدقاء في الأفراح والأتراح، والتي خففت علينا جميعاً الغربة والتشرد والتشرذم الذي نعيشه ونحن مشتتون في شتى بقاع الارض، إذ بتنا نتابع اخبار بعضنا البعض بهذه الوسائل السريعة، كنتُ فرِحاً وسعيداً جداً وأنا أرى مئات من الأهل والأصدقاء والأحبة وهم يشاركونا فرحتنا ويسجلون تهانيهم ويضعون بصمات إعجابهم فلهم منا جزيل الشكر وباقات من الورود العطرة!

الساعة الثامنة مساءً نادت عليّ (أم مخلد) لتناول فنجان من القهوة العربية ! فسررت للفكرة، فأعددتُ فنجاني القهوة هذه المرة بنفسي، وطلبت من (أم مخلد) ان تلتقط لي صورة وأنا أعمل القهوة وأشارك في هرس وتدوير محتويات (أبو الهريس) وهي في قِدْرها إذ كانت (أم مخلد) قد وضعت المواد الخاصة (بالهريسة) في الوعاءـ القِدْرالكبيرـ المخصص لها على الطبّاخ وبدأت بعد مدة وجيزة بالغليان!
ونحن نرتشف القهوة ، كان حديثنا يدور حول نجاح ابنتنا (ريام) ورغبتها إكمال دراستها في الطب الرياضي وكذلك في مجال الفن وأنا اقرأ وأعد لها اسماء الأهل والأصدقاء وهم يشاركونا فرحتنا!

وأخبرتها أني قد قرأت عدة مقالات خلال هذا المساء عن مناسبة (ابو الهريس) قد كتبت بأقلام مثقفين (مندائيين) في (الكروبات المندائية على الفيس بوك وغيرها) من وسائل التواصل الاجتماعي وهي تحلل هذه القصة المتوارثة، وترجح هذا الاعتقاد أو ذاك بناءاً على الدراسة والتحليل والاستنتاج والاستنباط والمقارنة مع ما ورد في الكتب المندائية المقدسة وغيرها ، وهذا الشيء يدل على اهتمام رائع بالتراث(المندائي) ومتابعة جادة بالتقصي والتحليل والاستنتاج.ومن هذه المقالات كانت مقالة للباحث الشاب المجتهد (أسامة قيس مغشغش)، والتي جاءت تحت عنوان (قراءة في معاني( ابو الهريس) بين الدين والمعتقدات).
وبقيت اتابع التلفاز وأخباره وبرامجه المتنوعة على قناة (أوربا نيوز) والجزيرة الوثائقية؛ وكذلك أراقب مع (أم مخلد) قِدر (الهريسة) وهو ينفث بخاره وصوت فقاقيع (أبو الهريس) وهي تفقأ الواحدة تلو الاخرى سريعاً!

وكانت من أبرز الأخبار منح (البرلمان الأوربي) خلال اجتماعه، الإيزيديتين الناجيتين من وحوش(داعش) كلٍّ من( نادية مراد 23عاماً) و (لمياء حجي بشار 18 عاماً) جائزة (ساخاروف) لحرية الفكر؛ وقد تسارعت تترقرق الدموع في عيني وأنا أسمع الفتاتين وهما تتوسلان بصوت متهدج تخنقه العبرات المجتمع الدولي والبرلمان الاوربي وتطلبان الحماية والمساعدة الإنسانية (للطائفة الإيزيدية) في العراق وسوريا من الاعتداءات المدمرة والاستباحة الفاشية التي طالتهم والمستمرة في تهديدهم!
حولّت قناة التلفاز مسرعاً الى برامج الجزيرة الوثائقيّة رحلت مع رحلة (لؤي العتبي) واستكشافاته في برنامجه الممتع (أثيوبيا على الأقدام ) وهو يتجول مع بعثته الاعلاميّة في ربوع (أثيوبيا ).
حتى حان موعد تناولُ العشاء، بحدود (الساعة العاشرة والنصف) وكان قدحاً من اللبن الرائب وقطعة ًمن الخبز المُحمّص وتفاحةً حمراءَ، وعدةَ حباتٍ ( فردات) من التمر العراقي نوع (بريم)جلبتها من نخلاتِ حديقة بيتنا في مدينة العزيزية/ العراق من العام الماضي وكانت محفوظة بعناية في المجمدة؛إذ نتناول منها بعض حبات التمر في المناسبات، وبعدها تناولتُ وجبة ًمن (حبوب) الدواء المفروض عليّ تناولها كل يوم بناءاً على توجيهات الطبيب!

اتصلنا بابنتنا (روز وزوجها سنان ) في سدني/ استراليا وتبادلنا معهم التحيات في هذه المناسبة.

بعد عدة محاولات من التذوق لما في القدر الذي يغلي ؛ قررنا أن ( الهريسة )قد تم طبخها بالشكل وأن التذوق وصل للدرجة المطلوبة، اخرجت قدر (أبو الهريس) ووضعته في (البالكون) فدرجة البرودة هناك وخصوصاً في الليل أبرد من ثلاجة البيت،على أمل تناول طبق من (أبو الهريس) صباح اليوم التالي ونقرأ معها الفاتحة (رواد هيي) على أرواح موتانا أجمعين، وندعو بالصحة والسلامة للجميع؛ وسجلنا بعض الاسماء من الأهل والأقارب والأصدقاء كي نوزع عليهم غداً بعض الأطباق من (أبو الهريس) كما اعتددنا أن نعمل كل عام.

كان هذا اليوم هو يوم الأربعاء 14- كانون الأول/ ديسمبر ـ 2016
مالمو / السويد

نشرت في قصة
الأحد, 08 كانون2/يناير 2017 22:32

السُلطان

لا يقبلُ المزاحَ بردُ كانون، وإن قبل المزاح فإن سلاحه ذا الحدَّين نافذٌ من الجلد حتى العظام، وفي أرضٍ جرداء يُطلق له العنانُ بلا قيود، كما هو الجوعُ في بطون الفقراء، ولو صحبته الريحُ فلا الخيام التي تهالكت تصدُّهُ، ولا المناخل التي طوَّقت مُخيَّم المُهجَّرين، ذلك البائس إلاَّ من أغطية جادت بها منظماتٌ تبنَّت أهدافاً لها قضيةَ الإنسان، وما يسدُّ شيئا من جوع، أغذية قد انتهت صلاحيَّتُها أو أوشكت، مفرزة طبيّة في أدراجها الشاش والقطن وأقراص للزكام والصداع، لا غير، وهما ضيفان ثقيلان في هذا الفصل على من شاءت الأقدار أن يكونوا ضحايا خيانةٍ ممَّن سلَّم الأرض والناس بلا قتال للهمج الرعاع، وإن تعشَّقت النار خيمة؛ فإن فريقا كاملا منها في لحظة
يغدو رمادا بمن فيه من الأحياء.

عليها أن ترتدي من الثياب ما يدرأُ عنها لسعة البرد، ويحميها من غيثٍ غاضبا قد انهمر، فأغرق الخيام ومن فيها، وفي مثل ذا الحال فإن كلاًّ عن موضِعِه يُبعِد السيل؛ وإن أُغرِق الجار فلن يبالي، هي الوحيدة بين الرجال، الوالد الطبيب مجهولٌ قبرُه، أعدمه الظلاميُّون ذوو السراويل القصار شنقا على عمود وسط المدينة، قالوا في قرار قاضيهم إنه مُرتدّ، تحت جنح الظلام وفي ليلة سوداء قد لاذت بالفرار، تجرُّ أختين وإخوة ثلاثة صغارا، وأمَّها التي ساقُها كُسرت بضربة أخمص من شيشاني وسخ دجَّال، لم يبق في الدار سوى أُطرٍ لشهادات تخرّج وتكريم، وماذا يحمل المرء في مخلاته غير ما خفَّ حمله في مثل تلك المأساة؟ وهي التي في ليلة حفل التخرُّج أطفأ البغاةُ عليها الأنوار.
ألقت عليه التحيَّة جهرا، بيديها واللسان، وما أخفت عيناهما كان أبلغ في التعبير، لم تأبه بمن حولها من جمع الرجال، وماذا تعنيه عندهم تحية النساء للرجال، بالمجرفة التي يحمل أشار لها أن تعود لخيمتها، وهو الذي سينجز عنها ما خرجت لأجله، شكرا لك يا جارنا الطيب، قالتها باحتيال كي تُسمِع مَن حولها، على النساء أن يخرجن من المخادع لا أن ينصرفنَ للنوح وندب الحظوظ، له خفضت طرفا من حاجبها، أجابها بما يُجيده عاشقٌ من صنف الشعراء، وما أفصحها لغة العشَّاق! كلاهما يُجيد الرصف، مهندسةٌ من فنونها خلق أجمل العوالم في الخيال لتنقلها للحياة، أستاذٌ خَبِر الحروفَ حرفاً حرفاً، وغاص في أسرارها، فصاغ منها أندر العقود في حبِّ الجمال والوطن والناس، أُخرِج من داره قسراً؛ على سطح داره قد علَّق الوالدُ راياتٍ خضراءَ، وسوداءَ خُطَّ عليها (لبَّيك يا حُسَين ).
الشمسُ قد عانقت أفقاً بلونِها، وحولهما طالت ظلالُ الخيام، لم يبقَ في الساحة إلاَّ هُما، كلٌّ على حبل خيمته مُتَّكئ لصاحبه يطيلُ الطرف، بالأمس كانت شجيرات حدائق الصرح الجامعي لهما خيرملاذ، بها يستظلاَّن ويأمنان، يسترقان لحظة اللقاء، سفَراً يُسافران في عالم الحبِّ الجميل، لم يُثنِها عن حبِّه أنه يمدُّ الذراعين عند الصلاة، له والدان مُتزمِّتان، ولها نظرة في الدين على أنه جزء من حريَّة الفرد، وأن الدين هو الأخلاق وحبُّ الوطن والناس والجمال، مع أنَّها لأُمِّها تُجهِّزعدَّة الصلاة كي تؤديها مُكتِّفة ذراعيها، هكذا هو الحبُّ عندما يغزو العباد، دون وعد أو شرط، يأسر القلوب ببعضها، لا يردعه فرق في اللسان أو المذهب والدين، هو العبودية بعينِها وما منها خلاص، سلطان جائر هو الذي ليس من حكمه فرار، وفي الخيمتين خلفهما يقبعُ من يظنَّان أنهما صبيَّان بالنار يلعبان، ولا فرار من حكمهما، ففي أيديهما يكمنُ القرار.
حانَ موعدُ الصلاة، أنجِز وضوءَك، يا عبَّاس.
لا يليقُ المكوثُ ليلا خارجا للنساء، ادخلي الخيمة، يا إشراق

نشرت في قصة
الثلاثاء, 13 كانون1/ديسمبر 2016 15:58

براء

إحساس غريب كموج البحر لطمني على رأسي ورماني مشظّاه عند ساحل أفكاري...
شيءٌ مختلفٌ أشعر به وابعاد الرغبة تأخذني لمعرفة حالي..
منذ نعومة أظفاري وأنا لم أنسَ ذلك اليوم الذي عرفت فيه أني أحمل إعاقة في جسدي، عندها رجعت الى الوراء وأنا انظر نحو نفسي في المرآة! حاكيتها من أكون ولمَ الاخرون ليسوا مثلي، حتى اسمي(براء) حمل كل البراءة فيه وكأن القدر هو من اختاره لي.
لم أرَ أحداً من الذين رايتهم يشبهني!
حاكيت نفسي هل أنا مثلهم أم هم ليسوا مثلي؟ أنا بشر وهم بشر...كثيرة هي الأيام التي خادعت فيها نفسي حتى اقتنعت بأنهم يرأفون بحالي، فلو خرجت من الدار أخاف من الناس.. مللت من حمل هذا المتاع الذي حمّلني إيّاه ربي، وحزن طويل لفّني، تعلمتُ منه منذ ذلك الحين أن أخفي همومي في صدري.

أمي من تحميني من افكاري، خفَّفَت عليّ همومي ولملمت لي آلامي، كانت تشعر بشقائي وعلّة دائي، تُصِرُّ أن اقوى على كل الأمور، تعطني امثلة كثيرة تبعث الأمل في نفسي ثم تعود تقول، وما زال الدرب طويلاً يا ابنتي، اخذتُ قوّتي منها.. أبي سر فرحتي هو من علَّمني النطق وادخل في نفسي الثقة والفرح بغناء أجمل الألحان حتى جاء أخي الصغير الى الدنيا، انظر اليه فيفرح قلبي وأجد فيه سلوتي وأملي المقبل.
رغبة تأخذني الى معرفة سري لكني لم أستطع ادراكها لصغر سني. احتفظت بها في أول احتكاك لي مع الأطفال الغرباء عني وكان في المدرسة. حين دخلت الصف كنت مختبئة خلف أمي، هي من يعطي الدرس للطلاب في مدرستي الابتدائية.
تأخذني رغبة الطواف حول الطالبات بأفكاري وأنا جالسة على مقعد الدراسة(الرحلة) أتبصّر فيهم، سعداء في الدرس، أفتش فيهم عن نفسي وعن شيء يشبهني، أقلب النظر حولي في الصف الى الجالسة قربي والى البعيدة عني وأخرى وآخر حتى الأولاد لم أجد فيهم من يشبهني!! ثم أعود أنظر الى يديّ كفيهما ملمومتين، بصعوبة أمسك القلم بأصابعي، عينيّ لا أستطيع فتحهما بالكامل إلا برفع وجهي، فمي مشدود يصعب عليّ النطق الواضح، قدميّ متصلبتين لو سِرتُ كالبطة العرجاء. هذه أنا لا أحد يشبهني في الصف، كل شيء متيبس فيّ حتى عظامي.. ألمٌ يكابدني، يتوغل فيّ، يكسر خاطري... كم وددت الاختفاء من هذا الوجود؛ لكن دعائي ودعاء أمي الى الله ألهمني الصبر ورضيت بحالي..

سأعزز ثقتي بنفسي واترك لغة الاقدار وأسكت، أصغي الى معلمتي وأمي من تحميني لو تعرّض أحد لي. حينما أعود الى البيت أجد أبي، هو من أحسن قصّ أجمل وأحلى القصص لي.. كم تمنيت ان اطير على جناح نسر وارى العالم من تحتي أو أكون ساندريلا، لا بجمالها بل عسى ان يجد الزمان منقذاً لحالي. أبي كان يطربني ويسمعني أجمل الألحان مع لعبة الشطرنج التي أصبحتُ اتفوق عليه بلعبها، كان يمتعني بأجمل الكلمات، أحاول الرقص عليها، انظر الى أخي الصغير جالساً في حضن أمي.. احمِد الله انه ليس مثلي.

التقيت الطلاب في المدرسة عرفت كيف يفكرون ويتعاملون.. كانت مقارنتي في المحيطين بي أحيانا تبعدني عنهم وأحيانا تقوِّيني فاقترب، قررت حينها أن تسير الأمور على حالها، ادنو من يتعامل بود معي وتطمئن له نفسي.. صديقتي سلمى هي من جعلني أفكر ان للإنسان خياران أما الحياة بالجسد أو يحيا بعقله، الجسد من صنع الخالق والعقل سأجعله من صنيعتي واتخذت هذا فلسفة بعد مقارنتي بعقل صاحبتي. كانت تفتقد ما يحمله عقلي. تريد أن تحمل مثله وأنا أريد أن أحمل جسدها.. يا للمقارنة وكأننا خلقنا لنقارن أنفسنا وقد تكون هذه العدالة التي نختارها لنرضي بها أنفسنا هذا ما جاء في وحي أفكاري.

آثرتُ اهتمامي على الدروس... مضت الأيام والأعوام تزيد في عمري ويكبر عقلي لكن حجمي لا يكبر بسرعة كما بقية الأطفال. شعرتُ وأنا في المتوسطة بسري الذي يخرج مني وذهبت أهمس في أذن أمي فقالت لي، هذه ابعاد الرغبة يا ابنتي انتِ كبرتِ. أخذني السرور المبهم وذهبت الى المرآة أفتش عن حالي.. هذه أنا لم يتغير بي سوى انتفاخ صغير في صدري! سأبقى في حلمي هو اهتمامي بدروسي، هذا من سينقذني ويجلب السعادة لي.

ومضيت في غايتي أتسلق أحضان رغبتي، تفوقت في الدراسة على زميلاتي وزملائي كان بعضهم يهزأ مني وبعضهم أحبني رأفة بي أو مندهشاً بما حمله عقلي وهذا حال البشر في التمييز...
متفوقة عليهم أنا متفوقة، سوف أقهر هذا الحال اللعين ولن أكون طريدة خلقي واذهب الى كلية الطب، قد أعثر هناك على بلسمٍ يشفي مولوداً يشبهني.
وهذه الأيام تمرّ وتمضي وأنا في بلوغ الثامنة عشر من عمري.. اقتربَ موعد الامتحان الوزاري(البكلوريا) والحماس أخذني مندفعة نحو دراستي أريد النجاح والذهاب الى الجامعة.

ليل مظلم والبرد شديد وزخّات المطر تصنع نشيداً في الأرض يفزّه صوت الرعد في السماء ...
احسست بضيق في صدري. أكاد لا اتنفس.. أمي.. أمي.. أبي.. اخي.
هبّوا اليها من فراشهم.. ما بالُكِ يا ابنتي؟
أمي أشعر بضيق في صدري أكاد لا أسحب أنفاسي.. أبي أنقذني يا أبي.

عادت الى مخيلتها تلك الاحداث الماضية، استقت منها آلامها وآمالها بينما كانت طريحة فراش المستشفى.

كان الصبح في أوله رفعَت يدها الى أمها وكانت جالسة على الكرسي والنعاس غالب عليها من طول السهر. اقتربت أمها اليها.. بصوت واهن قالت ارجعي الى البيت يا أمي ولا تنسي ان تشتري الشموع، وعودي اليّ بها مع أبي وأخي، أشعر ان ساعتي قد حانت ولسوف اودعكم! سأرحل بعيداً سأريحك يا أمي من هذا الشقاء وأريح نفسي.. أعرف هذا سيؤلمك يا أمي ويؤلم ابي، وأخي حينما يكبر سيفتقدني؛ لكن ارجوكِ لا تحزنوا على فراقي.. سأكون قريبة عنكم، سترونني بغير حالٍ جالسة عند أول نجمة في السماء كل يوم.. أمي لا تنسي ان تذهبي الى مدْرستي أوقدي شمعة في صفي، واعتذري من معلمتي ومن زملائي بدلاً عني. قولي لهم، لقد أكملت الامتحان قبلكم، وأنها لتدعو لكم الاستمرار بطلب العلم لكي تزيد ثقتكم بأنفسكم وتتحقق أحلامكم.
وداعاً يا أمي وداعاً يا أبي وداعاً يا أخي وداعاً لكل من أحبني

نشرت في قصة
الإثنين, 05 كانون1/ديسمبر 2016 21:19

ملتقط العلب الفارغة

الساعة تقارب الخامسة مساء ً، لم تزلْ الشمسُ تتوسط السماء درجة الحرارة لهذا النهار قاربت أن تصل إلى الثلاثين مئوية، هكذا درجة حرارة تعتبر من الأيام الحرارة جداً في أجواء مملكة السويد، أنه أحد أيام صيف السويد الطويلة؛ مغيب الشمس في مثل هذه الأيام يكون بحدود الساعة الحادية عشر ليلاً.
حزمنا أمتعتنا في حقيبة يد صغيرة، بعد أن قضينا نهار يوم طويل مشمس، على ساحلِ البحرِ، ساعات ممتعة هادئة هانئة ،بين الماء والخضراء والوجوه الحسان، والهواء النقي العليل والرمال الساحلية النظيفة الساخنة، بعيداً عن (القيل والقال) وعن نشرات أخبار رجال الأعمال وغسيل الأموال ومفتعلي القتال
وقادة الدجل والاحتيال وسراق أموال اليتامى والعيال( الأطفال).
كان من المقرر أن نبقى حتى الساعة الثامنة مساءً، لكن اتصال هاتفي على الهاتف النقال( الموبايل)، يخبرُ زوجتي أن قريب ٌ لنا يود زيارتنا مع عائلته هذا المساء، استقلينا الحافلة ـ الباص ـ رقم (32) الذي يوصلنا الى مركز محطة قطارات مالمو، وهي المنطقة التي سوف نقوم بتبديل الحافلة برقم (5) التي تقلنا إلى البيتِ في منطقة (روزنكورد)!
على حافةِ الرصيف في موقفِ توقف الحافة أخذنا مكان وقوفنا، عشرات من الناس تتجمهر خلفنا؛ موقف الباصات أمام محطة القطارات في(مالمو) مزدحم بالركاب دائماً، فهو مركز مهم للقادمين والمغادرين ومحطة لتبديل مسار الحافلات لاتجاهات مختلفة؛ لم تتأخر الحافلة (الباص) كثيراً حوالي أربعة دقائق طوال فترة انتظارنا؛ أن الوقوف والتفرج في منطقة الانتظار أمام محطة القطار والنظر لحشود الناس وهي تمر من إمامك مسرعةً تارةً ، متأنية ، متسامرة، مودعة أو مستقبلة ، بحد ذاتها غاية المتعة، ورائعة وقد لا تتكرر!
مرت بجانبنا مجموعة من الفتيات الشقراوات بملابس الصيف الساحرة الزاهية تزين رؤؤسهن أكاليل بديعة من الزهور البرية، ضحكاتهن وقهقهاتهن المرحة تملأ المكان بهجة وحبوراً.
توقفت الحافة أمامنا، دخلنا مسرعين، أخذنا مقعدين متجاورين قرب الباب الذي يتوسط الشاحنة ، أمامي في جوف الحافة المكان المخصص لكبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة ، ولكراسيهم ،وكذلك لعربات الأطفال.
في ذروة التزاحم والصعود والنزول يدخل رجل وهو يرفع بكلتا يدية كيس كبير مليء بالعلب الفارغة، يضعه على عجلةٍ في المكان المخصص لعربات الاطفال، ويخرج مسرعاً ليلتقط من مقابل الباب كيساً اخراً اكبر حجماً من الأول، أصوات القناني الفارغة ترن وهو يدخله ليضعه بجانب شقيقه - الكيس الأول- ؛ ينهمك بحركات متسارعة وهو يحاول ضم ورصف(الكيسين) على بعضهما بكلتا يديه وساقيه.
الكيسان اخذا مساحة واسعة تجاوزت على جميع المكان المخصص لجلوس المعوقين وكبار السن وعربات الأطفال، حجمها كبيرٌ جداً بالقياس لمساحةِ المكان، كل كيسٌ يزيد ارتفاعه على المتر والربع وقطره كذلك!
يذهب الرجل مسرعاً الى المكان المخصص لقطع التذاكر قرب سائق الحافة ،يأشر بطاقة دخوله ويعود مسرعاً ليقف جنبَ أكياسهِ المنتفخة، وهو يحاول مرة ثانية ان يلمهما الى بعضهما أكثر كيلا تأخذ حيزاً كبيراً، ولكي يستطيع السيطرة عليها.

وقف رجل الأكياس وهو يرمق المكان والركاب بنظراتٍ قلقة متفحصة، كان ظاهراً عليه التعب والإرهاق، أخذ نفساً عميقاً فيما راحت يداه تحاول أن تعدل من وضع نظارته الطبية، أنه شاب تجاوز الثلاثين من العمر ،متوسط القامة يميل للسمنة ، شعر رأسه قصير بلحية سوداء تركها تنبت لعدة أيام، صيف الشمس قد بانت على وجهه الأسمر فزادته أكثر حمرةً وسمرة، كانت ملابسه غير متناسقة الألوان البلوزـ التي شيرت - أحمر وعلامة كبيرة بيضاء شعار للشركة الرياضية الشهيرة (اديداس) مطبوعة على الصدر، (الشورت) بني - قهوائي - داكن ويحتذي (صندلاً) أسود!
شابة بملابس الصيف الجذابة، ونظارات شمسيّة، تدفع عربة طفل، تدخل العربة بصعوبة بجوف الحافلة لم تجد مكاناً لها في المكان المخصص لعربات الاطفال، ترمق رجل الأكياس بنظرة مستفسرة حائرة، يرمقها بنفس النظرة ويدير لها ظهره، عيون الجميع تراقب المشهد، امرأة في المكان المقابل للأكياس ، مخصص جانب منه ايضاً لعربات الاطفال والمعوقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة تنادي عليها أن تأخذ محلها، تستجيب لطلبها بابتسامة رقيقة وهي تومئ برأسها علامة على الموافقةِ والشكر!
رجل الأكياس يقف متاملاً جوف الحافلة، فيما رائحةُ عرق ٍ نفاثةٍ تنبعثُ من جسمهِ وملابسهِ، تخالطها رائحة ( البيرة) التي تفوح من العلبِ ( القواطي) الفارغة تنتشر في محيطِ المكان.
رجل الأكياس يدور برأسه ويسمّر نظراته من خلف نظارته الطبية إلى مقعد فارغ واحد، قريباً منه، جنبَ أمرآةٍ طاعنة بالسن ِ بشعر اشيب قصير وملابس فضفاضة ملونة زاهية، بلمحةِ بصرٍ وبخطوةٍ سريعة يجلس بالمكان، فيما بقيت عيناه مشدودة إلى الاكياس،المرأة العجور التي بجواره تكوّر نفسها مبتعدة ً في اقصى الكرسي وهي ترمق الرجل بنظرة فيها كثير من الحيرة والحذر.
تتحرك الحافلة، يُخرج رجل الأكياس هاتفه النقال من جيبهِ، يفتح (الموبايل) ويختار أحد الأرقام، ويبدأ بالحديث:
ـ ألو ، ألو، ألو
ـ نعم.
ـ أنا (جمال) معاك، أسمعني أني الآن في الباص رقم (5) أتحرك الباص، بحدود ربع ساعة سوف اكون في موقف الباص في (راملز فيك) اريدك تنتظرني هناك، أعاد اسم المنطقة ( راملز فيك) مرة ثانية بصوتٍ أعلى.
توقفت الحافلة في المنطقة الثالثة بعد المحطة بجانبِ بناية ( كونشرت هوست)، شابة شقراء فارعة الطول بعيون زرقاء ،تنزل من الحافلة .
عينا (جمال) تجول المكان وتتسمر على علبة (كوكا كولا) فارغة متروكة على حافة الرصيف، يقطع مكالمته الهاتفية وينادي على الشابة التي غادرت الحافة:
- ( هلو ، هلو ، هلو )
ما أن ألتفتت الشابة حتى بادرها باللغة العربية ( ناوليني العلبة ) وهو يشير بيده الى العلبة المركونة الفارغة على حافةِ الرصيف.
وقفت المرأةُ مفزوعة ًوهي تتلفت ذات اليمين والشمال، على مصدرِ الصوت وإشارة محدثها، وهو( يأمرها) بصوتٍ مرتفع وباللغة العربيّة أن تناوله العلبة الفارغة، لم تفهم حديثه وإشارته، بدأت عينها ورأسها يدور في المكان والوجوه، بان عليها الانزعاج والاستغراب وصوت (جمال) يُلاحقها وإشارة يده تتجه الى العلبة الفارغة، تركت المكان مقطبةَ الحاجبين وذهبت مسرعةَ الخطى وهي تتلفت مستغربة فاغِرَة فاها.
أغلق الباص أبوابه، وبدأت السيارة تهم بالحركة، ضغط (جمال) على زر المنبه بالتوقف، و بصوتٍ عالٍ قوي نادى على السائقِ، للتوقف وفتح الباب، باللغة السويدية:
stanna öppna dörren -

توقف السائق، وفتح باب الحافة نزل (جمال) من الحافة وإلتقط علبة ( الكوكا كولا) الفارغة، عاد للحافلة مسرعاً ليجدها قد أغلقت أبوابها، طرقَ الباب مراتٍ متتاليةً بقوة وهو يصرخ :
öppna dörren -
الحافلة تحركت و(جمال) يجري بجانبها وهو يطرق بابها بقوة بأحدى يديه، فيما يده الاخرى تقبض بقوة على علبةِ ( الكوكا كولا) الفارغة وتضمها الى صدرهِ، وهو يصرخ:
öppna dörren ،öppna dörren -

الحافلة تسير وبجانبها (جمال) يجري، واصل جريه بسرعة حتى وصل لباب الحافلة المجاور للسائق وهو يصرخ:
öppna dörren -
توقفت الحافلة في منطقة (أشارة المرور الضوئية ) ـ ترفك لايت ـ حمراء، بعد ان قطعت مسافة بحدود (30) متراً،(جمال) يقبض بيده على العلبة وهو يتوسل بالسائق أن يفتح الباب، السائق ينظر اليه باستغراب ولم يستجيب لصراخه !
تطوع أحد الركاب ونادى على السائق أن يفتح له الباب بعد ان شرح له باللغة السويدية ما جرى، فتح السائق الباب.
أندفع ( جمال) بجوف الحافلة وهو يرمق السائق بنظرة عتاب، وعلامات الغضب والتعب مرسومة على وجهه الذي لوحته الشمس والتعب، سار عدة خطوات سريعة بين الركاب، وبسرعة يفتح احد الأكياس ويضع فيه علبة (الكوكا كولا) الفارغة، وابتسامة الظفر والارتياح قد ارتسمت على شفتيه؛ فيما كانت عيون
.معظم ركاب الحافلة تلاحق وتراقب(جمال) وتتهامس فيما بينها

مالمو / السويد

3 كانون الأول 2016

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلب الفارغة : في مملكة السويد وكذلك في العديد من البلدان الاوربية، توجد علامات على العلب الفارغة، وكذلك القناني الفارغة، التي يمكن ارجاعها واستلام اثمانها، جميع العلب تستحصل قيمتها مقدماً من الزبون المتبضع، ويعاد ارجاعها في اماكن عديدة مخصصة - ماكنة - توجد في معظم الاسواق التجارية، بالإمكان وضع العلب فيها واستلام وصل بقيمتها، كان سعر العلبة الفارغة وقت تدوين الحكاية صيف عام (2007) نصف كرون سويدي، الآن وانا انشر الحكاية عام(2016) قيمتها ( كرون سويدي واحد) وقناني (الكوكا كولا) وبقية المشروبات الغازية الكبيرة بقيمة (2) كرون سويدي.

نشرت في قصة
الخميس, 10 تشرين2/نوفمبر 2016 21:17

الروح الطيبة

دخلت يوماً محلاً صغيراً لبيع المواد الغذائية لأقتني قنينة حليب وشيئاً من البطاطس . لفت نظري
وقوف طفل امام واجهة المحل يحدق بكيس بازلاء .. ضعيف البنية الى حد بعيد بملابس رثة ... دفعت
المبلغ المطلوب ثمنا لما اشتريت والقيت نظرة عابرة على ثمن كيس البازلاء ، كون الطفل ظل متسمراً
في مكانه يحدق بما يشتهي وأنا بدوري افكر بما يدور استمعت الى حديث بين صاحب المحل والطفل في الملابس
الممزقة . مرحباً هاري.. قال السيد ميلر للطفل الفقير .. كيف حالك اليوم ؟ مرحبا سيد ميلر .. اموري تمام . شكرا لك
احب فقط ان أتطلع الى منظر البازلاء واستمتع به ... انت على حق ..كيف حال الوالدة ؟ ..انها في تحسن مستمر... هذا ما يسعدني
جيد حداً ، هل لي ان اساعدك بشيء ؟؟!! لا سيدي لا شيء ... انا اردت فقط الاستمتاع بمنظر البازلاء
قد ترغب في شيء منها ؟؟!! واصل السيد ميلر .. قد تحتكم على شيء تبيعه ... لا يا سيدي لا املك من هذا القبيل
قد تملك مثلا كرات زجاجية تريد بها المقايضة ثمنا للبازلاء ... آخرون يملكون ويدفعون بدل ما يأخذون من مواد
نعم - لدي كرة زجاجية - قال هاري وباشر يبحث في جيبه - لا املك غير واحدة فقط
هات لأرى - قال ميلر . مد الطفل يده باتجاه السيد ميلر وعلى راحتها كرة زجاجية بلون ازرق - ها هي اليس منظرها جميل
طبعا ... أجاب السيد ميلر متفحصاً الكرة - هناك ملاحظة بسيطة لونها ازرق وأنا ارغب ان يكون لونها احمر . حين تأتي ثانية
اجلب الكرة الحمراء ... هل حقاً ما تقول ؟!! سأجلب طبعاً ..سيد ميلر
السيدة ميل كانت بالجوار واقفة اقتربت مني أكثر لتقول حين لاحظت اهتمامي بما يجري " في مدينتنا ثلاثة أطفال فقراء
الحال ، انه لأمر فظيع ... جو يحب التعامل معهم على هذه الشاكلة .. يبيع لهم الحمص التفاح ،الطماطم وباقي المواد الغذائية
مقابل الكرات الزجاجية ... في البدء يخبرهم انه يحب هذا اللون وحين يأتون به يبدل رأيه الى لون آخر ... يبعث الأولاد محملين بأكياس
المواد الغذائية ويطلب ان يعودوا ثانية بكرات من الوان أخر ، يحددها ،الأحمر بدل الأزرق ، الأخضر بدل الأصفر
وهكذا دواليك ... غادرت المحل وانا احمل ابتسامة واضحة ومستغرباً في نفس الوقت لهذه الروح الطيبة التي يملكها صاحب المحل
بعد فترة وجيزة تركت المدينة لانتقل الى مونتانا لكني لم انسى حكاية ميلر مع الأولاد الصغار ومقايضة الكرات الزجاجية
أعوام عدة مضت الواحد منها اسرع من الثاني وقبل أيام سنحت لي فرصة زيارة أصدقاء قدامى في مدينة كولورادو
هناك سمعت بوفاة ميلر ...حينها انا والأصدقاء قررنا المشاركة في التشييع ووصلنا المكان المطلوب ...التقينا
أقارب المتوفي وقدمنا لهم التعازي .. وقف امامنا ثلاث شبان في هيئة قيادية اثنان منهم يرتديان زياً ذو لون غمق وقميصين
بلون ابيض وتسريحة شعر معتبرة ... اقتربوا من السيدة ميلر عانقوها ، قبلوها في الخد وهمسوا في اذنها بضع كلمات
ثم اقتربوا من التابوت حيث مسجى ميلر يأخذون بيده ثم يغادرون ليمسح كل منهم دمعة علقت في عينه . جاء دورنا
اقتربت من السيدة ميلر ، قدمت نفسي وذكرتها بالحادث الذي مضى عليه أعوام عدة ... الا وهو مقايضة الكرات الزجاجية
بالمواد الغذائية .. ترقرقت دمعة بمقلتها وأخذتني من يدي لتقترب من التابوت لتقول لي :" هؤلاء الشبان ، اللذين ودعوا للتو ، هم الأولاد الثلاثة
موضوع الحديث السابق ... قالوا لي انهم يثمنون عاليا ما فعله جو معهم ... حان الوقت ان يردوا الأمانة
حيث لا يتمكن من تغيير رأيه في لون وحجم الكرات .. ويسددوا ما بذمتهم من دين ... لم نكن نحن من الأغنياء
لكن يحق لجو الآن ان يعتبر نفسه اغنى الأغنياء في كولورادو
رفعت السيدة ميلر بحنان وحب أصابع يد زوجها الفقيد حيث لاحظت ثلاث كرات زجاجية حمراء.
حاولوا أعزائي تداول فحوى القصة لنتذكر أهمية الروح الطيبة... ودمتم

ستوكهولم في 04-11-2016
مترجمة ...منقولة

نشرت في قصة
الخميس, 10 تشرين2/نوفمبر 2016 20:44

عند اسوار بابل

قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة

راعه منظر بوابة المدينة وقد تساقطت أجزاء كبيرة منها، حتى غدت مجرد كتلاً شوهاء من الطابوق بلا مظهر أو معالم يمكن أن توصف به.. منحوتات عشتار التي نُصبت عندها بابتسامتها الساحرة الجميلة وأياديها الممدودة ترحيباً بضيوف بابل وزائريها، أزيلت جميعها ولم يتبق منها سوى قواعدها، وبقايا قطع صغيرة منها متناثرة هنا وهناك يصعب تمييزها... لم يعد هناك جنوداً وحراساً ضِخام بقامات ممشوقة وسيوف ماضية يسيرون أمامها جيئة ً وذهاب، مانحين المدينة كبريائها، راسمين صورة مَهيبة لسلطة المدينة وقوة قانونها... اختفى كل ذلك ليغدو مشهدها مجرد صورة مبهمة من تاريخ زائل، وبقايا ماضٍ مؤطر بالجمال لم يعد له من وجود... لم يعرف أي وصف يعطي مدينته وهو يراها بهذا الحال بعد سنين طويلة من رحيله عنها، ليعود اليوم فيلقاها هكذا وحيدة كسيرة، بعد أن كان بريقها يضاهي نور الشمس.
بعد صرخة مدوية من قائد القافلة معلناً لجميع المسافرين معها وصولها الى نهاية طريقها... ترجل (سوتورام) مع كيس متاعه الصغير عن العربة التي اقلته من أرض غربته الى تلك البقعة البائسة المنسية من حسابات الزمن، والتي كانت في يومٍ ما وطناً مفترضاً له.... تنقل ببصره الى أسوار المدينة غير مصدق لما آل اليه حالها وما تُصوره له عيناه من حقيقة ما يرى... نعم أنها بابل عينها.. بابل التي كانت يوماً سالبة الابصار وملهمة الجمال ومرام المبهورين بالشعر والفن وحلم الشرق.. لم يتبق شيئاً من ذاك البريق..... كان قد سمع وهو في منفاه القسري، أنها سارت بدرب الخراب الذي أبتلعها مع شعبها وتراثها، لكن ليس للحد الذي يراها فيه الآن، مجرد خرائب وأنقاض.. اسوارها المنيعة المهابة انهارت أجزاء واسعة منها، حتى اصبح دخول المدينة حقاً مشاعاً لكل من هب ودب ودون حسيب أو رقيب، فلا حراس يقومن بحراستها ولا بوابات تراقب وتنظم حركة المارين عبرها، ولا قانون يلجم من تسول له نفسه المساس بأمنها وأمن اهلها، لتُباح عذريتها لكل ضعيف نفس وكاره.
رمى ببصره لمحيط المدينة حيث كانت تزهو البساتين الخضراء العامرة الصدّاحة بتغاريد البلابل وزقزقة العصافير.... غدت مجرد أدغال وغابات شائكة من الأشجار المُتيبسة.. جفت سواقي مياهها الجارية الصافية الرقراقة، تاركة الجفاف يغرس أنيابه في أرضها التي تحولت الى ملعبٍ للرياح المتربة، تغزوها من كل حدٍ وصوب، حاملة معها ما تيسر من أشواك وأغصان متكسرة.. ونخيلها الشامخ بأعذاقه الصفراء الزاهية المُتدلية، بات مجرد جذوعاً محترقة كأنها أعواد مشاعل تزيّن أحدى غابات الجحيم.... وحدها بنات آوى كانت تتراكض مستمتعة هنا وهناك دون خوف، مالئة الفضاء بضجيج وأوأتها القبيحة.... (آه يا بابل، أي عاصفة هوجاء تلك التي اجتاحت ديارك؟ وأي بلاء ذلك الذي ألمّ بأرضك المظلومة أبد الدهر؟).
لم يشيّد عند بقايا البوابة الكبيرة أية أبنية لخدمة واستقبال المسافرين والقادمين للمدينة أو المارين بها بطريق سفرهم، تشعرهم بشيء ولو يسير من جمال المدينة وكرم أهلها، ولم يجود أولئك الذين تعثر عقل الزمان فسّلم اليهم أمرها، سوى بمعبد قبيح الشكل مطلي بلون أسود فاحم كأنه سخام وهباب المحارق.. لم يكن بشكل المعابد التي ألفها وقصدها أهل بابل للتعبد وتنقية الفكر والروح، بدا كإحدى صوامع الشياطين التي لا تسكنها سوى خفافيش الظلام... كان هناك عدداً من الكهنة يدورون حوله، مشياً أحياناً، وأحياناً أخر هرولة أو ركضاً، يوجهون رؤوسهم تارة الى الأعلى كأنهم يستعجبون زرقة السماء، وتارة أخرى نحو الأسفل كما لو أنهم يريدون الاعتراف بمذلتهم ونسيان كبرياءهم.. بدت هيئاتهم كشياطين العالم الاسفل التي جلبت القحط للبلاد بعد اختطافها الإله تموز... كان جميع الوافدين للمدينة يجبّرون على التبرك بجدران ذلك المعبد مقبّلين إياها قبل أن يهّموا بالدخول، وبعد أن يمنحوه شيئاً من الهدايا والقرابين.... لم يجرؤ على الدخول الى المدينة فثنايا عقله لم تكن لتستوعب حتى تلك اللحظة هول ما يراه، وما آل اليه حال بابل منذ أن تركها في زمن شاذ يصعب وصفه في سلسلة دراما السنين.
ظل (سوتورام) سنين طويلة في حالة صراع مع الذات منذ ان ورده وجميع الذين كانوا على شاكلته، ممن رفضوا طأطأة هاماتهم لمن أرادوا أذلالها، خبر سقوط المُلك في بابل وزوال سطوة أعتى طغاته.... هل يتقهقر عائداً الى مدينته التواقة لرؤية أبنائها الأوفياء الغائبين؟ كيف سيجدها وأهلها وما تركه فيها؟ بأي حالٍ سيراها بعد سنوات عجاف ضاعت بين آهات أهلها، خُنق الناس خلالها خنقاً، لتجعل منهم أما شريداً أو قتيلاً أو ضعيفاً مسلوب الارادة لا يقوى على فعل شيء لتغير واقعه ومأساته، حتى وأن كان بين ثنايا عقله بقايا فكرٍ يرنو لكسر قيوده... كان هناك هاجساً خفياً يمنعه من العودة، يصرخ في أذنه على الدوام (أقنع بغربتك رغم قسوتها فلم يعد هناك شيئاً من بابل الماضي).. هكذا تقاذفته الافكار وتلاعبت بعقله المخاوف، لتدور به دوامة الزمن الغريب دون أن يشعر أو يحس ألا من اعتلال صحته وغزو المشيب لشعيرات رأسه، وبعد أن أخذت ذاكرته تسير رغم عنها في طريق الوهن، فلم تعد تقوى على الاحتفاظ سوى بحفنة ذكريات مبعثرة لوطنه المزهوة صورته في مخيلته، رغم ما حوته من آلام ألا أنها أيضاً حملت شيئاً من لمعان الحياة ورونقها.. كان أجملها بيت طيني صغير ملأت جدرانه الشقوق، أحتمى تحت سقفه المتهاوي اغلى ما منحته الحياة وجادت به عليه، أم حنون صابرة.. مجرد جسد ضئيل نحيل لا يعرف سوى نطق كلمات الحب، أحتوى قلب صغير أستطاع أن يسع العالم اجمع دون أن يعرف التخمة.
(يا ترى هل مازالت على قيد الحياة تجلس عند باب الدار كما اعتادت، ساندة ظهرها على حافته المتآكلة تستنشق غبار الألم؟ تحلم بيوم الانعتاق الموعود، وبنسائم فرح عذبة ترطب وجوه أهل بابل؟ تدعو ما تبقى من تلك الآلهة الخائبة التي لم يتلوث شرفها ولا زالت تحمل بعضاً من حنين لبني البشر، كي تحفظ الناس وتقيهم شرور الحروب والفتن؟)... كانت أمه ترفض الرحيل عن مدينتها رغم ما أصابها خلال تلك العهود العجاف، وهجرة أهلها الطيبين عنها طمعاً بشيء من كرامة وبعض سلام نسوا صورته منذ دهور.. كبرياء غريب يصعب وصف صورته، ذلك الذي تدفأت به تلك النخلة الشامخة المولودة عند ضفاف الفرات جعلها تشعر أنها توأم روح بابل، لترد عليه بلسان يقطر طيبة وعذوبة حين يمازحها كما أعتاد أن يفعل.. (أتظنين يا أماه أنك من ذوات الاعمار الطويلة؟ أم أن حياتك ستنطفأ عند حصاد الموسم القادم؟)... (أن عمري سيطول.. حتماً سيطول، ورغم أنف الظلم والألم.. لأنه أرتبط بحب بابل، وانا على يقين أن مدينتنا لن تعرف الموت يوماً).... تذكر صورتها لحظة فراقها يوم سفره المجهول الخاتمة والاتجاه، لم تنحني هامتها، ولم تذرف حينها دمعة واحدة ولم تبدي شعور بالحزن، بل منحته ابتسامة وادعة هادئة متيقنة أن أيام الفراق وأن طالت لابد من أن تجمعهما ثانية.. عندها علقت برقبته قلادة لم تفارق صدره من حينها، حتى غدت جزء من جسده.. كانت تذكارها الوحيد اليه والذي ورثته يوماً عن جدته، مجرد نواة بَلَحة معقودة بخيط رفيع، نُقش عليها أسم بابل.. كان لتلك النواة البخسة رائحة غريبة لم يشعر بها سواه، ربما رائحة الأم التي لا يميّزها سوى وليدها؟ ربما عبق النخيل والبساتين والأرض الفواحة بنسائم الخير؟ وقد تكون عبير المكنون الذي أحتوى سر حياة مدينته؟ لم يكن ليعرف أو يميّز أياً من ذلك... مع مرور الايام أهترأ الخيط مرات ومرات ليبدله في كل حين، لكن النواة بنقشها الغائر ظلت صامدة تتحدى تعاقب حوليات الزمن.
(غربتي وجع في سجن كبير.. غربتي وهم بين ثنايا المصير.. عائدٌ لحضنك يا بابل.. وأنغام خلودك ستبقى تعزفها الأنامل).. لم تكن تلك مجرد أغنية بل صدى طبل كبير أيقضه من تناقضات تفكيره وحسم جدلية هواجسه... هكذا قرر بسرعة ودون تخطيط أو تفكير طويل، بمجرد سماعه تلك الكلمات يدندن بها عند قارعة طريق موحل أحد الشحاذين السكارى المكتوين بجمر الغربة، من العودة الى مدينته المبتلى بعشِقها والمأسور بعبق تاريخها الزاهي.. معلناً أن غربته قد أزفت نهايتها وحانت ساعة نسيانها، وأن له وطن ينتظر على شوقٍ أحر من قيض ظهيرة شهر آب.. هكذا صوّر له عقله الموهوم بسذاجة الملائكة، بعد أن كبّلت عقله أفكار طفولية غريبة بعيدة عن مجريات الحقيقة، لا تفقه طبيعة تناقضات الدنيا وغدر زمانها المتربص دوماً بسعادة البشر، ومؤامرات من تمنى وحَلم دوماً باغتيال نخيل بابل.. ورغم توارد الأخبار تباعاً دون أن يمضي وقت طويل عن تقلبات الدهر وما فرضه دستور التغير ومنطقية الحقيقة، معلناً تبدل مجرى الأحداث وسيرها بما كان لا ينتظر أو يتمنى شعب الفرات.. لتفيض الدماء ويستجد الطغيان من جديد، وتذبح طيور البلاد مرة أخرى بسيوف باردة عمياء... قدر أهوج مجنون ذلك الذي لف هذه الارض التي ما تكاد قطرات الأمل تبلل مخيلتها حتى تعصف بها من جديد رياح الموت والقهر، لتبقى مدينته الأبية الحالمة غافية رغم عنها تحت جفون الألم... لم يفكر في كل ذلك ولم يرد الى عقله أياً من تلك الأفكار المتبصرة، فلم يعد في بقايا العمر ما يستحق الندم على قرار طائش متعجل.. كانت غربته التي اقتصت من حياته الكثير وسرقت برعم شبابه وأخذت مأخذها منه رغم عنوان نعومتها، قد مسخت شخصه وروحه وجعلته كائناً معلقاً بين غيوم الكرامة وحقيقة الذل، وأنسته كل أحلامه التي ظل يغفوا ليله منتظراً ومتوهماً تحقيقها دون جدوى.
أخذ يسير مع الاسوار متفحصاً حالها.. لم تعد العصافير تبني أعشاشها بين شرفاتها ومقرنصاتها.. وحدها الغربان السوداء كانت تحوم فوقها مالئة الفضاء بنعيقها الكريه.. وبُوَم النحس بدت مزهوة نافخة ريشها، تتبختر على أنقاض ركام ما أنهار منها، مطلقة أصوات غريبة تشبه ضحكات الشامتين.. كان يتوقف في كل حين ينظر بتمعن الى داخل المدينة، ملقياً نظره الى أبنيتها وشوارعها عند كل فجوة أو محل انهدام في السور، مُستفقداً ما كان عليه حالها أيام دهرٍ مضى كان أشبه بالحلم.... بدت أزقتها كئيبة خالية من سكانها، تتبرم فيها تيارات الهواء المليئة بالغبار ذات اليمين وذات اليسار وكأنهن مجموعة راقصات خليعات يرقصن رقصات الجنائز.. تماثيل أبطال بابل وشعرائها ومغنوها، التي كانت تجمّل ساحاتها لم يعد لها وجود.. حوانيت بيع الأقمشة والعطور والسجاد والتحف مغلقة.. دكاكين صاغتها الزاهية المتباهية بلمعان ما تعرضه لأجمل حليها من فضة وذهب وأحجار ثمينة، بدت ظلماء خاوية.. غرف الكتبة بما كانت تحويه من خزائن الألواح المكتوبة أصبحت ملاجئ لنوم الكلاب والقطط.. ورش ومشاغل النجارة والحدادة والنسيج لم يعد يُسمع ضجيجها الذي كان يوحي لمن يصله صداه بأنه عزف شجي تفننت وتفردت به سواعد صناع الحياة.. الحانات الجميلة التي كانت تنتشر بين شوارعها تصدح منها أعذب الأغاني، وأرق أنغام الموسيقى، تم هدمها مع الارض... (هناك كانت حانة (ستراني) ومن الجانب الآخر تنافسها حانة (أينكاسا).. يا إلهي كيف غدا مصيرهما هكذا.. أن طعم نبيذهما لا يزال يرطب شفاهي).... أصبحت الحياة صنو ومعنى أخر للموت.. الحزن والكآبة والوحشة هي كل ما تبقى بين شوارع بابل... لم تشيّد أبنية جديدة، كل ما تم تشييده هو المعابد، صغيرة هنا وكبيرة هناك، كل بضعة امتار معبد، وبين كل معبدين كبيرين كان هنا آخر صغير يتوسطهما... ولم يكن بينها سوى الكهنة، كهنة في كل مكان ينتشرون بين الشوارع والازقة، حتى بدو بتجمعهم كأسراب القمل حين تبتلى بها خصيلات الشعر.
لم يكن أولئك مثل كهنة بابل التي عرفهم أيام مجدها، كانوا بسِمات غريبة ووجوه مكفهّرة صفراء ينفر منها كل تقع عيناه عليها.. بعض منهم كان يتجمع عد بوابات المعابد كي يلقوا خطباً وفتاوي بصوتٍ عال وبلغةٍ لم تكن سومرية أو أكدية، وآخرون يسيرون في أحد الازقة بشكل كراديس صغيرة يقودهم كاهن متحمس يصرخ فيهم كلما بطأ سيرهم أو خفت نشاطهم، حليقي الرؤوس عراة الصدور، يتناوبون الضرب على أجسادهم بشدة، تارة على الصدور وتارة على الرؤوس، وفق تناغم موسيقي فطري قبيح ذكرّه بصوت انهمار السياط على ظهور المعتقلين في سجون الطغاة.. نفس الوجوه الصفراء، نفس الصوت ونفس المهارة في الضرب، ونفس الغايات الخبيثة بقمع الصوت الآخر واخراجه من معادلة الحياة.. (ما تغير شيء يا بابل.. كلا، ما تغير شيء).. هكذا قالها (سوتورام) بحرقة مع زفرة مسموعة خرجت معها كل آلام صدره.
تتبعت عيناه أحدى كراديس أولئك المخدّرين وفاقدي العقول، كانت تضرب بقوة تفوق باقي الاخريات، يهيّجها كاهن بلحية طويلة، على رأسه قلنسوة عالية تشبه تلك التي يعتمرها السحرة كي يخبئوا تحتها الأفاعي والعقارب، محفزاً اياهم على المزيد من شدة الضرب وايلام الجسد.. بدا شكله وهيئته ليستا بغريبتين عليه.. فرغم ضعف ذاكرته المشبعة بهموم الأيام لكنها لا تزال تحتفظ بصور أولئك الذين جعلوا من لحوم أبناء بابل طعاماً لمخالبهم وقوتاً لأحلامهم المريضة.. (عرفته بالتأكيد.. كان أحد جلادي الطغاة.. أشتهر بوحشيته ازاء كل من وقع تحت رحمته من أبناء المدينة ممن رفضوا حكم الظالمين المقبور... من المؤكد أنه أصبح جلاداً من نوع آخر، لا يقتص من الأجساد، بل من العقول والأفكار، بعد أبدل أسياده أساليبهم العتيقة البالية بقهر المظلومين والكادحين بالسياط والسكاكين، ليستعيضوا عنها برياء القول وزيف الكلام واكاذيب التعبد)...... هكذا أذن بانت الأمور واتضحت صورتها، من تلك الخزعبلات، فهم (سوتورام) في أي مستنقع نتن آسن سيقت بابل وأهلها الصابرين الى فخه، وأية هاوية عميقة القرار تم ايقاعها فيها.
دون شعور تلمس قلادته كأنه ينشد منها العون، بعد أن استنزفت تلك المشاهد ما كان قد جلبه معه من أرض غربته من بقايا كبرياء جسد خاوي... وما كاد يستوعب صدمته حتى قفز الى فكره سؤال بديهي أنساه إياه حال المدينة وواقع دمارها.. (أين الناس.. أين شعبك يا بابل؟ هل يُعقل أنهم غدوا جميعاً محشورين قسراً داخل تلك الصوامع الدهماء الموحشة منتظرين دورهم في عملية غسيل الأدمغة والعقول؟؟ لم أرى سوى بضعة عشرات، لكن أين الباقين؟؟؟) واصل سيره مع امتداد الأسوار.. كانت المدينة خاوية، لم يكن هناك من بشر... (أين شعبك يا مدينة الصخب والموسيقى والضحكات المجلجلة؟ لم يعد من أثر لأطفالك المتمازحين اللاعبين بين أزقتك المضاءة بالقناديل الملونة والفواحة بأريج العنبر والياسمين.. أين حِسانك المتمايلات بمشيهن ساعة الغروب وبرد العصاري، بدلال تغاره حتى عشتار وآلهة الخمور، تلاحقهن كلمات غزل شباب جبلوا على عشق الجمال؟ ماذا حدث لمجالس شيوخك تحت أشجار السدر، بنقاشاتها الحامية الحادة التي لا تنتهي حول متضادات الحياة وأصل الوجود... هل الآلهة هي التي خلقتنا أم نحن الذين خلقنا الآلهة؟)... ظل كحال من فقد صوابه أو أبتلي بمس من الجنون يردد ذلك مع نفسه، أحياناً بصوت عال وأحياناً بصوت مخنوق بعبرات الحسرة والصدمة..... لم يعد هناك سوى أكوام القمامة والنفايات بذبابها وروائحها التي تخنق الصدور كحال المعابد، تتراقص بينها الرياح المُغبّرة الخانقة التي جعلت من جو المدينة أصفر اللون يدعو للغثيان، ناقلة مع تياراتها أصوات تراتيل الكهنة المرافقة لصدى صوت الضرب على الرؤوس والصدور... خراب ومعابد وكهنة وقمامة، هذا كل ما جنته المدينة بعد تغير الوجوه، وتبدل الأحوال ومناخات وأهواء المصالح.
أوصلته قدماه بسيرها الهائم حيث مجرى نهر الفرات الذي كانت بابل تغفوا مستمتعة على ضفتيه، كقصبة هواء تبعث مع مجراها الحياة والانتعاش الى رئتيها المتخمتين بعليل وبرد النسائم.... كان حاله لا يختلف عن حال المدينة.. مياهه أضمحلت وبان عقيقه الطيني كاشفاً عن عدد لا يحصى من الجُزيرات الصغيرة، لتغدوا مجرد بُركاً للمياه الآسنة جعل منها البق والبعوض مستعمرات آمنة له ولذريته، بدت لناظرها شديدة الحمرة كما لو أنها اختلطت بالدماء.. أسماكه اختفت، وحتى الضفادع والسلاحف هجرته بعد أن رأته يسير نحو الاحتضار... ومراكب الصيادين والتجار والسفر التي كانت فيما مضى تشق تلك المياه جيئة وذهاب بأشرعتها البيضاء الناصعة العالية لتكون سفيرة بابل لبقاع العالم البعيدة، تنقل لها صورة وخير شعبها سليل الأمجاد والحضارة.. وجدها مهشمة ملقاة عند الضفة بشكل يدمي القلوب، تستذكر أيام عِزها حين كانت تزأر مثل ربابنتها مُهيبة مياه البحر، مفتقدةً تلك المويجات التي تفخر بحملها.... لم يبق شيء في بابل يستحق حتى مجرد التفكير به، بعد ان حولتها طعنات الزمن الى لوحة دهماء موحشة تستجدي رثاء الشعراء.
بدت له من بعيد عند طارف سور المدينة البعيد تجمعات لبشر منتشرين هناك، أخذت معالمهم وصورهم تتضح شيئاً فشيئاً كلما أقترب منهم.. (أخيراً وجدت أهلك يا بابل.. أهكذا أبعد الناس الكرماء الطيبين عن بيوتهم وأزقتهم ليلقوا بهذا الشكل الذليل، ليُجعل منهم كأنهم مجدورين محشورين في مستعمرات الأوبئة؟).... لم يبالي أحد به أو بقدومه أو يستغرب لمشيته الحائرة المتعثرة، ولم يوجه أياً منهم التفاتة أو نظرة تشجعه للسؤال عما جرى ويجري.. لم تكن هيئاتهم توحي بانتمائهم الى عالم الأحياء، جلودهم أحرقتها قسوة الشمس اللاهبة، وجوههم ختمت بعلامات الحزن بعد أن نست أفواههم صورة الابتسامة.. رجال يشعرون بانتقاص الرجولة ومذلة الأيام، ونسوة فقدن بريق أنوثتهن، بينهم أطفال لا يفقهون واقع حالهم ولا يعرفون شيئاً عن مجد مدينتهم أيام أجدادهم، يلهون بالأتربة ويتراكضون بين ذويهم، بعد أن ورثوا عنهم مرغمين هول مأساتهم.
الجميع كانوا مجرد أقفاصاً من عظام لفت بجلود متيبسة مهترئة، تناثرت على امتداد الاسوار بعد أن تنكرت لهم الأحياء والأزقة، التي لم يعد يربطهم بها سوى خيط واه رفيع مزوق بذكرياتٍ لم يعد لها طعم أو معنى.. ليتخذوا من تلك البقعة النائية الضيقة وطناً بديلاً لهم، بعد أن تحولت مدينتهم الى مسرح كبير للأكاذيب والخداع واللصوصية والتطرف، وغدت دروبها مستعمرات لأعشاش الغربان.. كانت المأساة تتجسد في صورهم وهم يعيشون بذل تلك الحياة الكسيحة التي يأطرها الفقر والفاقة... أفضلهم حالاً لا يمتلك أكثر من خيمة مهلهلة ممزقة تتلاعب الريح بجوانبها، ولم يكن لهم من متاع يستحق القول أو الذكر.. أما قوتهم فلا يتعدى ما كانت تجود البريه به عليهم، من أعشاب وعظايا وقوارض يقتادون عليها، الى جانب مياه ملوثة تجلب من شحيح مجرى الفرات... أخذ يسير بين هؤلاء المتعبين المتناثرين بعشوائية في هذا المكان، بين مستلق وجالس وهائم ينقل خطاه جيئة وذهاب في خطٍ متعرج رسمه في مخيلته، ناقلاً بصره نحو الأفق لأيام قادمة لا يعرف لونها أو طعمها، حائراً في زمانٍ سرق منه حلو البسمات وخضر الأماني.... كل شيء كان واضحاً رغم حيرته بما يراه.. هل هي حقيقة مُرة مفزعة، أم وهم وخيال أم كابوس كريه مرعب؟ أهذا هو حقاً وطنه الحلم؟ هل هذه حقاً نهاية المدينة التي ظلت على الدوام تنتظر ربيعها محمولاً على أنوار فجر جديد؟
نسى (سوتورام) في تلك اللحظة كل شيء، من أين جاء، ومتى غادر مدينته، بل أنسته مناظر هؤلاء المظلومين حتى صورة أمه التي تحّمل عناء السفر من أجل رؤياها ومعرفة مصيرها... تلمس قلادته مرة أخرى عسى أن تمنحه شيئاً من أرادة، لكن دون جدوى.. (حتى التاريخ كرهنا وما عاد يطيقنا.... تباً له من قدر.. أنظل هكذا نُقتل في كل حين، مغروسة في ظهورنا مخالب الغربة ومن دمائنا تقطر أنياب الطغيان؟).. كان قد فقد كل قوته وسلبت منه مشاهد تلك المآسي جّل طاقته، فلم تعد ساقاه تتمكنان من حمل جسده المتهاوي الضعيف المُنهك، ليختار مكاناً بين الناس القى بنفسه عنده سانداً ظهره بأريحية على السور، كأنه يستذكر كتف أمه الذي ما نسيّ يوماً دفئه ونعومته.... ورغم بؤس المكان وتعاسته لكنه أحس بارتياح غريب ينتابه، هل هو شعور الانتماء لهذه الأرض المحكوم عليها بالتصحر أعتقد أن مات منذ زمن؟ هل هي راحة منتظرة لتائه حائر بلغ غايته المبهمة بعد سفرة شاقة في متاهة العمر؟ أم أنه استرخاء الخلود الذي وعد به من وقع على عاتقه بناء الحضارة، حتى وأن كان بين فكي الموت؟ مد ساقيه بتثاقل، رامياً بصره الى السماء، تاركاً لتفكيره الهائم السفر لتأملات عبثية لم يعد يميز أن كان هناك رابط بينها، كأنها عرض مسرحي متناقض ومتعدد الفصول.....الطغاة، الغربة، بابل، الجلادون، الكهنة، الضرب على الاجساد، الغربان والبوَم، المعابد، الناس، الفرات..... لتسرقه سريعاً من حيز الوجود غفوة حالمة جعلته يعيش عالماً سرمدياً، أعاده سنين بعيدة الى الوراء، حينما كان طفل صغير، يلاعب أقرانه الصغار لعبة قذف الحصاة والاختباء خلف جذوع النخيل.
خطوات جسدٍ ضئيل اقتربت منه بهدوء جعلته يستيقظ من قيلولته، فتح عينيه بهدوء لتلاقيان طفلة صغيرة بالية الثياب كحال أقرانها، لها وجه جميل مستنير رغم تعفره بالتراب وشعر ناعم بسواد الليل، انسدلت منه جدائل طويلة تصل حتى خصرها.. أخذت تنظر اليه بتمعن مستغربة هيئته، ثم مدت يدها النحيلة المرتجفة تتلمس وجهه الغريق بعرقه، كأنها تريد التأكد أن الحياة لازالت رفيقة جسده.. بدت اليد باردة كالثلج، شعَر بحنوها ونعومتها.. بعد تأكدها من تردد أنفاسه، أشارت الطفلة بسبابتها الرقيقة الى ما كان يعلقه في رقبته.. أبتسم نحوها بصعوبة، ودون شعور أو تردد أنتزع قلادته الأثيرة من رأسه وعلقها في رقبتها، عندها أشرق ثغرها عن ابتسامة عريضة جمعت فيها كل ورود الدنيا.. تركته مهرولة لتكمل لهوها مع صُحيباتها، وبقايا ابتسامتها لازالت مُرتسمة على وجهها، متباهية أمامهن بما نالته من دون موعد أو انتظار..... كانت تلك هي الابتسامة الأولى التي يتلاقاها في مدينته منذ أن وطأت قدماه أرضها، تذّكره بصورة ماضيها الجميل وتشعره بحنين وطيبة أهلها..... عندها فقط أدرك (سوتورام) أن بابل رغم هول مأساتها ونزيف جراحها لا زالت على قيد الحياة.

نشرت في قصة
الجمعة, 26 آب/أغسطس 2016 21:43

فراق

 

في إحدى أسواق دولة الانتظار، حيث كانت السوق غاصَّة بالناس، وعند تلك المسافة التي بيننا..
لاحَ لي وجه امرأة أعرفُها، هفا قلبي إليها، كنت قد فارقتُها من زمان بعيدٍ ..
تسمَّرتُ في مكاني واشرأب عنقي نحوها.. أرنو إليها أتبعها بنظراتي؛ لكيلا تتيه عنِّي، وشعاع عبْرَ الأثير صار يخرج من عينيَّ، يريد أن يخطفها ويجذبها لي..
لحظة مرَّت.. استدارت بوجهها نحوي، كأني رمقتُها بنظراتي وأحسَّتْ بي ...
أخذَتنا الدهشة والعجب. حلمٌ جمَعنا.. خطونا نحو بعضنا. أدنو إليها، تدنو إليَّ؛ حتى اقتربنا عند فسحة صغيرة التقينا..
لبثنا صامتَيْن، وعيوننا شاخصة، انفصَلت في تلك اللحظة كلُّ معالم الوجود عنّا، ونسينا الناس من حولنا.. نتعبد بوجهينا كأننا في صومعة راهب
زمنٌ طويلٌ مَرَّ على فراقنا، تألمنا به وشقينا بهوانا، سرق منّا أحلامنا وأخذَ معه ملامح وجهيْنا، ضاعت فيه أساريرنا وارتسم الملل فينا.
أنظرُ اليها، تنظرُ لي.. أتعقب كل قطعة أحببتُ فيها، وكياني المهزوز في تلك اللحظة كاد يخرج من صدري، تملكتني رغبة جامحة في الصراخ بأعلى صوتي.. إني وجدتُها...
أهي أنتِ؟
قالت: أهو أنتَ؟
نداءُ عقلي أخذني نحو أصابعها؛ أخاف رؤية طوق لامع فيها.. رفَعْتُ رأسي إليها رأيتُها تتفحَّصُ أصابع يديَّ...وابتسمنا..
سرور في تلك اللحظة غمرنا ...
مددتُ يدي نحوها.. تسللتْ بهدوء إليها.. فتصافحنا.
شعرتُ بإغفاءة أصابعها وهي تتلملمُ في حضن كفِّي.. ضغطتْ كفّّها بكفّي وإذا بسيل متدفق هادر في داخلي أشعلَ كل قناديلي، فبانت مخابِئ لوعة الفراق في جسدي، واستباحت أوراقي القديمة المرمية فوق رفوف ذاكرتي...عندها اكتمل إحساسي بها وسلّمْتُها كلَّ رسائلي.
حرّكَت إبهامها، وأخذت به تداعب كفّي؛ كأنَّها تقول لي: تسلمتُ كل رسائلك يا عمري
لم أكُ أشعر بجمال المدينة ورائحتها سوى اليوم.. لقد عادت أسارير الفرح فينا.. ابتسمنا وابتهجنا، كأن كل واحد منّا رسم للآخر أنْ لا فراق بعد هذا اللقاء، والقدر قد أعاد لعبة الحظ إلينا..
أسألُها.. وتحدِّثُني عن حالها.. أُصغي إليها.. أكاد أغفو بين شفتيها القرمزيتين اللتين طالما شربتُ الحنان منهما.
شكراً لك يا إلهي لم تنسني..
هاتفها النقال يرنُّ..
ألو نعم..
- نحن من دائرة الهجرة، نحيطكِ علماً بأنَّ دولة التوطين وافقت على طلبكِ...فاستعدّي للسفر
ارتبكَتْ نظراتها. لم تقوعلى إخفاء الحزن على وجهها.. تنظر بوجهي لا تعرف ما تقول لي..
انقبض صدري والتاع فؤادي. تطوَّحتُ كالسكران في مكاني، لم أعد أحملُ نفسي، وحيرتي كبست على فمي؛ كأني قد شرِبْتُ كل قوارير الخمر دون أن أدرى.
عاد الصوتُ في داخلي يصيح يا لحظّي العاثر وخيبة أملي.. أما زلتَ أيها الخائبُ فيَّ تلاحقُني؟..
تحيَّرتْ دمعة في عينيها.. كادت تنطق خجلاً وتأسفاً...فأطبقتُ كفّي على فمِها
صعبَ الكلام عليّ وأنا أداري حيرتي.. تمتمتُ بصوتٍ خفيضٍ
-أتمنى لكِ السلامة وراحة البال في بلدك الثاني، يا......
دمعةٌ سقطت من عينِها.. مسحتُها بيدي وشكرتني..
حملَتْ نفسها وذهبتْ.. أنظر اليها وحسرة الخجل في عيني حتى توارت عني. كأنها لمحُ الشِّهابِ إذا أبرَقت في السماءِ ثم انطفت
أخذتُ وجهي ومضيتُ في طريقي. ألعن الشتاتَ.. حاملاً معي لوعة الغربة وخيبة الفِراق.

 

نشرت في قصة
الجمعة, 12 آب/أغسطس 2016 21:38

خَـــيـْـــــــــــطـ

Idag vid 23.08

خَـــيـْـــــــــــطـ
قــصَّـــة قـــصـيــرة

اليوم هـو الجمعـة ، عــطـلة ( نـضال ) عـن الـعمل ، الشَّمـسُ تـتأَلـقُ في سماءٍ صـافية وتسطعُ بنورٍ دافئٍ كان الناس في مـدينتهِ ينتظرونهُ منذُ أَيام بشوقٍ ولـهفـة ، إِنها شمسُ الضحى لـذيذةٌ ، لـذيذةٌ جـداً بـعد أَيامٍ من البرد والـضَّبابِ والـمطر .. إِنَّ جسدَهُ المرطوب حتى العظام والمتعب بـعـد اسبوع العمل ، بحاجةٍ إِلى مثل حرارةِ هـذهِ الشمس بـالتأكيد ، تـمـددَ فوق الحصير المفروش على أَرضيةِ سطح المنزل المُـبتَلة ، أَسنـدَ ظهرَهُ إِلى سياج السطح المُـتآكل واسترخى تماماً تاركاً أَشعة الشمس تلامس الأَجـزاء المكشوفة من
جـسدهِ ، فتتوغلُ حرارتها شيئاً فشيئاً داخـلَ خـلايا جـلده وعـروقـه .. بـعـد دقائق صـار يـشـعـرُ بـانتعاشٍ لـذيــذٍ يـدب في جـسده . ـ
ـــ آه .. أَيـتهـا الشمس الحبيبة مـا أَروعــــكِ ! ! ــ
قـالهاجَـذلاً ، وهـو ينظـرُ إٍلى السماء بـامتنان .. ثم راح ينبشُ ذاكـرته باحثاً فيها عـن أَي شيء .. أَيَّ شيء يُـشغل بـه نـفسه ، فـيُـبَدد بـعضاً من ثـقل الوحشَـةِ التي داهمتهُ منـذُ استيقاظهِ صباحَ هــذا الـيـوم ، فهو الآن يحسُّ بشعورٍ لم يَـمر به من قَـبل ، استـمرَّ في نبشِ ذاكرته المشَوَّشة فاستطاع أَن يسترجعَ بعضاً من شريطِ حياته الماضيةِ ، طفولته المعذَّبة ، وبيتهم الطيني آنذاك ، ومدرسته الإِبتدائية والمتوسطة ثم إِعـدادية الـصناعة التي تخرَّج منها وانخرطَ في صفوف العمال ليساعـد والـديهِ .. وتذكر أَيام الصبا والشباب وزملاء الدراسة ، لكن كل تلك الذكريات لم تفلح بـإِزاحة حالة الحزن الذي تسلل كاللص إِلى داخل نفسه وترسبَّ في قاعها .. ثلاثة أَيامٍ فقط مـضت على سفرهما ، وها هـو يشعـرُ بثقل الوحـدةِ يطوقه ويحاصره في
كل ناحية من البيت .. ثلاثةُ أَيـامٍ وهو في البيت وحيداً ، فكيف يكون حاله
إِذا طال غـيابهما شهر ، شهران إِلى الأَبـد من يـدري ؟ إِنها الدنيا . منذ أَن غـادرا البيت وسافرا إِلى بغـداد لزيارةِ أَخيهِ ( ماجـد) وعائلته صار يشعر إِنَّ البيت لم يـعـدْ كما كـان أَمامَ عـينيه يحسُّهُ قـد تبدَّل ، صار خاوياً بلا حياة أَشبه بزنزانةٍ إِنفراديةِ .. صحيح أَنهما في خريف العمر
، زهرتان ذابلتان ، غصنانِ يابسان لكنهما أَبواه ، لقد أَعطيا لدنياه طعماً حلواً وحياةً جميلةً ، فحينما يثرثران عن أَيامهما الماضية ، أَو يمزحان ويضحكان أَو حتى عـنـدما يتشاجرانِ أَحياناً كانا يمدانه بنبض الحياة ، وكان هو يملأُ حياتهما بحركته وصوته في البيت ، وأَحاديثه عن العمل ورفاقه العمال ، وعن الحياة والأَيام الجميلة الآتيةِ التي كان يصورها لهما .. تـنهَّـدَ ثم تناول الكتاب الذي بجانبه وهـو يـرمُـقُ دجاجتهُ الوحيدة وهي منهمكةٌ بنقرِ أَزرار بجامته ، ضاحكاً من سذاجتها وراح يقرأُ مستمتعاً بِـإِسلوب وأَفكار الكاتب الذي يكن لـه حباً واحتراماً كبيرين .. بـعـد أَن قرأَ عـدة صفحات أَعاد الكتاب
إِلى جانبه ، سرحَ بـأَفكارهِ من جديد وصور الأَشياء تهربُ من ذاكرته ، إِنـه يحس بكيانه وكأَنه غير موجود ، شعـرَ بحرارة الشمس تلسعُ وجهه وصدرهُ
نهضَ وقـد كـفَّ عـن التفكير ، وراح يتمشى على أَرضية السطح محدِّقـاً في
البلاطات الحجرية المتآكلة وكـأَنهُ يراها لِلأَول مـرَّة ، ويرمي بصرهُ في كل ناحية تاركاً
أُذنيهِ تنصتان إِلى ما يجري في الزقاق الذي كان يضجُّ بالحياة ، فالأَطفال يملأون المكان بـلِعبهم الصّاخب ، وثرثرةِ النساء الجالسات أَمام الأَبواب كعادتهن كل يوم ، وزقزقةِ العصافير التي كانت تتشاكس على شجرة النبق

سمفونية الزقاق فشعـرَ ببعض الإِرتياح يسري في داخلهِ ، وفـجأَةً تركَ دجاجته تتجول على السطح ، ونزل مسرعاً إِلى داخل الدار ، غسَلَ وجههُ على عـجلٍ وارتدى ملابسه الشتائية الثقيلة ، وخرج إٍلى الزقاقِ مسرعاً فصفعت وجهه نسماتٌ باردةٌ ، حـيّا النسوَةَ الجالسات قبالة دارهم وحثَّ الخطى صوبَ الشارع المحاذي للنهر المجاور لمحلتهم والذي يفضله على أَي طريق آخر ، بـعـد دقائـق وصل إِلى السوق ولم يلبث حتى وجـدَ جسدهُ
يتحرَّك وسط الـزحام الـصاخب المتحرك .. في لحظات شعـرَ وكأَن شيئاً ثقيلاً
.أَزيح مـن صدرهِ ، وأَحـسَّ أَنَّـه مـوجــود
نــعــيم عربي ساجت
مجلة ( الـصَّـــدى ) الـغـــراء العدد 49 / 2011
Svara Svar

نشرت في قصة
الأربعاء, 09 كانون1/ديسمبر 2015 12:28

حرب وأشياء اخرى..ح2

في مدينة العُزَير

كان الهدوء ينعم بصفوة سماء الصيف، وضوء القمر الساطع يكسر وحشة الليل المغمور بالحذر والخوف، من أية قذيفة طائشة تُمطر الأرض قطع من الشظايا الحامية تقطع البشر والشجر، أومن هجوم مباغت للعدو!! يخترق راحة المقاتلين، بعد الإرهاق الذي اصابهم قبل اسبوع جراء المعركة ...في قاطع عمليات الفرقة الخامسة والعشرون وعلى تخوم مدينة العزير ومرقد نبي الله العُزَير -ع-.
على الرغم من هدوء الليل كان لهجوم"الحرمس" الملعون وقتاً يستأنس فيه بأجسادنا، خارقاً دبابيسه فيها، كسوط جلاد اتاح له القرار الإلهي بسرقة النوم من عيوننا. مما دعانا الى اكمال حديثنا والجلوس متربعين فوق فراشنا المطروح فوق سقف الملجأ المعمول من صفائح الألمنيوم المتعرجة، المفروشة فوق الواح الخشب، المسنودة على اكياس الرمل المحيطة بكتف الموضع الذي حفرناه تحت الأرض حجرة لنا.
- يالها من صدفة ، أنتَ مِن سَكَنة حافظ القاضي؟
- نعم
- قد تكون صديق طفولتي ما دمت من مواليدي ؟
- حقاً أين كان بيتكم ؟
- أعرفُ مكانه بالضبط رغم انتقالنا منه وأنا في سن الخامسة من عمري.
- هل لكَ أن وصَفتَ مكانه لي؟
عريف خالد: بيتنا يقع في دربونة يقال عنها انها (ما تطلع)أي ليس لها مخرج، واعتقد كان يقال لها كما قالت لي أمي دربونة العجيليين. في ركنِها الآن فرن للصمون أي (مخبز).
- هذه دربونتنا يا أخي.
- حقاً: قبل ثلاثون عاماً كان الفرن محل أو (دُكان) لرجل يدعى مصطفى على ما أعتقد.وعند الجهة الأخرى قبل الدخول اليها كان معمل سجائر تركي، وتتذكر أمي قد حدث اضراب لعمال المعمل مطالبين فيه زيادة أجورهم ، مكث العمال ثلاثة ايام لم يبرح احدا منهم مكانه، حتى استجابت الحكومة لمطلبهم. بعد ان وافق رئيس الوزراء نوري السعيد عليها... وكذلك تتذكر أمي، الدور الذي لعبه أهل الدربونة بتزويد العمال المضربين بالطعام خفية من الشرطة عن طريف النافذة الخلفية للمعمل، والمطلّة على الدربونة. كان العمال يرمون حبلاً من عند النافذة، فيقوم اهل الدربونة ربط سلة الأكل فيه ويتناوشها العمال ..هذا ما قالته لي امي والله أعلَم .
ابتسم أيمن وقد أيّدَ كل ما ذهب به عريف خالد، الذي اصبح هو ألآخريتفحص وججه ايمن على ضوء القمر المنعكس على وجهه، فتبدو بشرته السمراء ممزوجةً بظلام الليل أكثر لمعاناً ،كان واسع العينين، سَبِل الشعر، مربوعاً نافخاً صدره وكأنه من أشقياء بغداد أيام زمان .
- ماذا كانوا يدعونكم أو يسمونكم في الدربونة، أقصد بيت من انتم ؟... فنحن ثم اِبتسم أيمن وقال : نحن في مناطق بغداد القديمة نُسمّي البيوت على أسماء الأم ، كما نطلق كلمة( باجي) على المرأة.
- لا أتذكر.. لقد كنت صغيراً، من الجائز يسمَوننا بيت أبو رياض تيمناً بأخي الكبير رياض أوبيت الصُبة.
- ماذا تقول.. افترَشَت خدّيه ابتسامة تعَجُّب:
لقد عرِفتكم، حدثَتنا عنكم والدتي رحمها الله...ما زال بيتكم في الدربونة يسكنه مؤجر .
قاطعه عريف خالد قائلاً رحمها الله .. نعم : لكني منذ خمسة وعشرين عاماً لم ادخلها سوى مرّتين. لا اعرف احداً ولا أحد يعرفني فيها..بالله عليك يا أيمن أين أخَذت خيالي في هذه الليلة، سوف أخبر أمي عنكم عند إجازتي.
لكني في الحقيقة أتَذَكر رجلاً ضريراً كان اسمه (جونه) ثلاثة نقاط تحت الجيم .
- جونه، نعم : لايوجد من لايعرف جونه.. المسكين على الرغم كونه ضرير، ترك له أبوه أختاً معوّقة كسيحة وأم مريضة .
- نعم أنا أتذكر أبوه لقد بنى قبر المرحوم والدي في السبعينيات رغم انتقالنا عنكم في بداية الستينيات...
ارجوك خبِّرني يا أيمن أكثر عن جونه، فأنا لا أحمل ذكريات عنه سوى أسمه الذي ما زال يتردد في بيتنا. روى لي أخي الكبير عنه، أنه بعد قيام الجمهورية تغيّرت العملة الملكية، جاء ابن عمتي زائرعندنا واعطى ( عُملة تسمى قران ملكي) الى جونه أراد بها أن يشتري قطعة حلوى، كان لايعرف معنى تغيير العملة، تلَمَسَ جونة (عُملة القران ) وأعتَقدُ انها تعادل (عشرون فلساً) في ذلك الوقت.. المُهم في الأمر، بعد أن تلمّسجونه (القران) دعا ابن عمتي الإقتراب منه،فوضع يده على كتفه، رفعها الى وجه ابن عمتي، وصفعه على خده!!قال له: أتُريد أن تغشّني.. لقد انتهى زمن الملوكية وولّى...
هههههه.. ضحكا وأخذ أيمن يهز يده.. نظر الى الأرض ثم رفع رأسه، سحبَ نفَساً عميقاً من سيجارته ملأ صدره بهواء الحسرة، ونفَخَهُ دخاناً في الفضاء معاتباً الأيام فيه..
قال : سأروي لك أخرى، كان جونه يفترش ألارض في الدربونه، ويتكأً على احدى حيطان بيوتها، وأمامه على الارض "الجنبر"(ثلاثة نقاط تحت الجيم)، الصغير المعمول من أربعة اضلاع من الخشب، قاعدته خشبة مستوية مقسّمة الى عدّة قواطع صغيرة، في كل قاطع نوع من الحلوى( كالحلقوم، والجكليت، والحامض حلو ، وبيض اللكلك، وجعموص الملك )، كما نسميها واشياء أخرى لا أتذكرها.. ،ثُبِتَ على جانبي الجنبر حزام جلدي، يُعَلّقه جونه على رقبته عندما يروم السير الى مكان آخر.
وهناك طرفة جميلة مع جونه حدَثت في يوم من الأيام، جاء نفَر من بعض اطفال الدربونة، يلعبون مسرعين، سقط أحّدهم فوق جنبر جونه، ظنَّجونه أن الطفل يريد سرقته، وراح يشبع الطفل ضرباً مبرحا والطفل يبكي لا حول له ولا قوة.
قطعَ صوت المدفع النمساوي الحديث بينهما، كانت كتيبة المدفعية قريبة ، هزَّ المدفع الأرض مرتين مرة عند الرمي واخرى في صداه ثم تلته رمية أخرى من مدفع آخر وسكت..
- اكمل يا أيمن ..لا تقلق.. يقولون ان مدى المدفع النمساوي خمسة واربعون كيلو متراً فهو يرمي على ( لسان عجيرده) الواقع على امتداد طريق الهور لحد القرنة ..
- قال أيمن أرجوا أن لا تُسلب راحتنا، كما تعلم، ان العدو تقدم في أماكن قريبة عنّا، وقد يتسلل من منطقة البيضة والسودة حتى يصل منطقة (الكسّارة) فهي أقرب نقطة لموقعنا.
- نعم أدركُ هذا .لكن ارجوكَ أكمل القصة، ودعك من الحرب.أريد معرفة شيئاً عن أيامي القديمة التي عشتها ؛ مادامت هذه الفرصة قد بعثها الله لي والتقاني إياك ...لا أدري قد تكون هناك حكمة في الأمر.
ابتسم أيمن وقال: أتعني قد يموت واحد مِنّا.. يا للعبة القدر كيف جمعتنا الأيام!!
- عريف خالد : دعك يا رجل من هذا.. نعم أنها حرب ولكن مثلما للحرب وقت كذلك للأشياء الأخرى وقت .
الإنسان الى آخر يوم في حياته يطلب أو يستمع الى المعلومة وقد تصادفه،وفي كل يوم يتعلم الى أن يتوفاه الله يا صديقي..
سحب علبة سجائره واخرج سيجارة وقال لأيمن خذ سيجارة، عسى الأيام تمضي خيراً لحين موعد إجازتنا.. صدقني ، كم اتمنى إجازتك معي كي أزور الدربونة.
قال أيمن: حقاً متى يطلقون الإجازات؟
- يقولون بعد اسبوع.
قال: الله كريم. لننتظر..
- اكمل يا أيمن وحدثني عن جونه..أو هل تعرف ما معنى اسم جونة (ثلاتة نقاط تحت الجيم)
- لا والله لم يخطر ببالي هذا السؤال.
- أكمل إذن:
- آه يا صديقي ورفيقي: بعد وفاة أبيه عاش جونة حياة صعبة، ما عاد الجنبر يسد رمَقَهُ ورمق عائلته..
انقطع الحديث إذ سقطت قذيفة على الجانب الأيمن، تبعد حوالي خمسمائة متراً عن محيط مكانهما ، أعقبتها أخرى واخرى. اسرعا نحو الموضع المعمول على شكل حرف (أل ) في الإنجليزية، أختبآ فيه، وصفّارة رئيس عرفاء الوحدة اخذت تصدح في ذلك الليل تحذرنا من خطر قادم.
خيّم القلق على الأجواء في تلك اللحظة ، وجلسا وضع القرفصاء في الخندق القريب على ملجأهما ، عملاه كي يحميهما من شظيّة قنبلة قد تكون معنونّه الى شخص بعينه ؟؟
في داخل الخندق وعندما انقطع القصف قال عريف خالد : اكمل يا ايمن أريد معرفة المزيد عن دربونتي التي تركتها..
ضحك ايمن وقال: هل انت مجنون! القصف قد عمانا وانت تريد سماع المزيد
وبلهجة بغدادية (يَمعَوَد أحنة بيّا حال مَدَ تسمع القصف).
- صحيح والله نحن بأية حال.. لننتظر رحمة الله علينا .
بعد ربع ساعة انتهى الإنذار. وعادا الى الملجأ وجلسا فوق سقفه.
قال عريف خالد : عسى الأيام تمضي على خير لحين موعد اجازتنا .
أجابه أيمن ،آمين.
- خَبِرني يا أيمن ..ماذا فعلت الأيام بجونة؟
- نعم والله لقد انهزَمت أيامَنا وافراحنا وذكريتنا جرّاء هذا القصف اللعين ..لا تقلق سأكمل لك : توَفت والدة جونة عن مرض اصابها، وعصفت به الأيام.. كبرَ وكبِرَت أخته وثقل وزنها وصارت لا تقوى على السير، تزحف في ساحة البيت كي تنجز اعمالها.
- قال عريف خالد: لقد ألّمتني يا رجل حقاً..
- أيمن: اي والله.. لهذا صار جونه حين تتحدث معه عن ظروفه يرفع جفن عينه بسبابته ، ويرفع رأسه نحو السماء قائلاً"سأحاسبه قبل أن يحاسبني".
- أستغفر الله.. حقاً انها حياة صعبة وماذا بعد ؟
- جاء أحد شباب الدربونة، كان يتردد على الحضرة القادرية القريبة منّا. أتعرفها؟
- نعم أعرف مكانها .
- أخذه معه وصار يعلّمه أصول قراءة القرآن، بعد أن اكتشف ان صوت جونه في ترتيل القرآن كان جميلاً.
- حقاً
- أي والله .. حفظ جونه القرآن عن ظهر قلب، وصار الناس يدعوه في مآتمهم ومناسبات دينية أخرى. أقول لك ما يكسبه من نقود صار يسد حاجته.
- وهل تزوج جونه، وما هو مصير اخته؟
كاد أيمن أن يجيب لكن القصف المدفعي عاد!! وهذه المرة كان ثقيلاً، ينذر بمعركة قادمة . اعتاد الجنود على معرفة بدء المعركة من شدةّ القصف. أمسى الأمر اكثر جديّة والحاحاً في القصف. والارتباك علا صفحتي وجهيهما ..عندها غمر عريف خالد أحساس غريب امتلكه نحو تلك الساعات القليلة التي جمعته بأيمن، معتقدا انها كانت ساعات ذات مغزى، إذ بعث الله له أيمن كي يلتقيه، و يسمعه شيئاً عن ماضيه، او قد يكون آخر ما سمعه في حياته. وكما توقع العريف خالد جاء المنادي يدعوه التهيؤ ليُرسَل مع محطته اللاسلكية الى الصف المتقدم في القتال.. المعركة قامت على احدى الألوية التابعة لفرقتهم..
كان مطارد في كل وقت من قبل "أمن الوحدة والتوجيه السياسي" فهو في قائمة الجنود الذين يجب ان يذهبوا في اول المعارك عند حدوثها؛ كونه شخص وضعت في ملفه الكثير من علامات الإستفهام بتهمة عدم انتمائه للحزب الحاكم والشك في انتمائه الى حزب معارض، وكان لابد ان يكون في صفوف القتال المتقدمة ..
17-07-2015

نشرت في قصة
الأحد, 22 تشرين2/نوفمبر 2015 12:59

من هو عزرائيل

أعتاد ألاصدقاء ألثلاثة أن يجتمعوا في ألمقهى ألمطلة على ألساحة ألعامة.(ناصر) ألموظف ألمتقاعد ألذي خدم في ألمحكمة ألجنائية مدة ثلاثين عاماً. أُحيل على ألتقاعد بسبب مرض ألربو ألمزمن وقد نصحه ألاطباء, ألابتعاد قدر ألامكان عن ألتدخين,هو لا يدخن ولكن في بعض ألاحيان يتمتع برأس آركيله, تلك ألالة ألمخادعة ألقاتلة. تجاوز ألخمسين من عمره يميل ألى أللون ألاسمر يتمتع بطيبة كبيرة وتسامح وصفاء في ألقلب,لا يكذب ولا ينافق ،لذلك خرج من ألخدمة خالي اليدين فقير ألحال يعيش هو وعائلته ألصغيرة في دار لا تبلغ مساحتها أكثر من سبعين متراً.تركها والده إرثاً له.لا يملك من حطام ألدنيا سوى تلك ألرقعة التي أوته وأوت أفراد عائلته. (طه) ألرجل ألعسكري ألذي سهر ألليالي وخاض شتى أنواع ألحروب ,وألعجيب لم تمسه رصاصةً واحدة أو خدش أو جرح وكأنما يحمل تصريحاً من قوة خفية لاستمرارية ألحياة. أُحيل على التقاعد بعد أنتهاء أخر أزمة ,ولكنه خرج بحصيلة قوية من المكافأة وداراً كبيرةً وعربة ضخمة.لا يملك عائلةً يقال بأنهم سحقوا بغارة من غارات ألجانب الاخر. ضخم ألجثة طويل ألساقين وقد أستقر شاربا ضخما في وسط وجهه يثير ألرعب في أجساد ألاخرين..سخي كريم ألنفس لا يتوانى عن مساعدة أصدقائه ألمحتاجين وخاصة لحظة دفع ألمشروبات في ألمقهى من شاي وقهوة وماشابه ذلك.عند السؤال عن عمره من قبل ألاخرين,ينتابهم الذهول ولا يصدقوا بأن عمره قد تعدى ألسبعين..كأنه في الثلاثين منه .(حاتم) عكس أصدقائه ألاخرين,فهو أشهب ألوجه وألشعر قصير ألقامة حسود وممل ومتعب في علاقاته.لا يصرح عن عمله ألسابق ولا يسمح بالتدخل,عصبي ألمزاج ومتأثر ومناصر ألى هتلر وستالين ويحب كل شيء فيه دكتاتورية.كما يحب قمع ألشعوب ويكرة ألتقدمية وألتطور.ميسور ألحال متمكن جداً لكنه بخيل ويستغل طيبة أصدقائه. سمين رائحة فمه مقيته تعدى ألاربعين من عمره.ألشيء ألوحيد ألذي يطاق فيه سريع ألبديهية وله خبرة في طرح ألنكات ألمضحكة ألتي تشد ألسامع.هولاء الثلاثة جمعتهم ألمقهى وفي وقت ليس بعيداً

من بين صدى جدران ألمقهى تنطلق أهات ونغمات حنجرة تلك ألمرأة الأسطورة التي خدرت الشعب المصري أيام العدوان ألثلاثي على مصر, وها هي تخدر الجالسين في ألمقهى,حيث ترى بين الفينة والاخرى سحب الدخان تتصاعد وكأنها أُخمدت بسبب حريق شب أثر ضربة صاعقة من ألسماء في غابة قد أصابها ألجفاف.في زاوية من زوايا ألمقهى,جلس ألاصدقاء ألثلاثة وأمامهم أنتشرت قطع الدومينو هذه أللعبة تحتاج ألى شخص رابع لكي تؤدي أدوارها بشكل مظبوط,ولطالما بقت الدومينو على حالها بسبب غياب العنصر المكمل. في تلك ألاثناء أقبل رجلٌ يحمل بيدهِ حقيبةً سوداء,يرتدي بدلة بيضاء متوجهاً صوب هواء ألمبردة التي تقع في ألزاوية ألكبيرة من ألمقهى. ألقى بجسده المنهك على أريكة فارغة إمتدت عليها حصيرة من ألخوص,وقد ظهرت عليه بوادر ألتعب من مشوارِ طويل.بادر (طه)ألانسان الطيب بسكب ماء بارد في قدح وأخذه مسرعاً لكي يروي ظمأ ألقادم.مر وقت قليل حتى أستطاع(طه) أقناع ألرجل بمصاحبتهِ,وألذهاب معه ألى طاولةِ أصدقائه تعالت ألضحكات وهنا بدأ دور(حاتم) بألقاء ألنكات ألتي أضافت ألى جلستهم بهاءاً ورونقاً.شعروا بألسعادة لعثورهم على ألصديق ألرابع ألذي تطوع للعب معهم وأكمال دورة ألدومينو. يعمل
(زياد)دلال لبيع ألاراضي ومهمته ألرئيسية متابعة ألمعاملات بين ألدوائر ألرسمية ودائرة ألطابو.عندما أنجز معاملة الزبون في ألطابو وقبض ألمعلوم توجه بعد عناء كبير ألى ألمقهى للراحة وألاستجمام وقد حصل ألذي حصل. أستمرت أللعبة , وفي تلك ألاثناء ترى صاحب ألمقهى في حركة دؤوب لجلب ألمشروبات وتعزيز ألطلبات..حتى شعر(ناصر) بوعكة صحية وأختناق مفاجيء.نقل على أثر ذلك وبصحبة أصدقائه ألى ألمستشفى وبعربة(طه).مر وقت عصيب جداً وتسلق ألقلق أبدان ألرجال الثلاثة لتأزم حالة(ناصر).نفذ صبر(حاتم) وشعر بالملل من جراء التعب وألانتظار,لذلك قرر ألمغادرة وألابتعاد عن ذلك ألجو ألمشحون بألاضطراب. بقى(زياد) و(طه) مرافقين ألى صديقهم ألذي يمر في أصعب لحظات حياته.رحل متأثراً بمرضه ألذي لم يمهله كثيراً .تطوع(طه) لأقامة مراسيم ألدفن وأقامة العزاء على روح صديقه ألذي غادر مرغماَ.عم ألحزن أركان ألمقهى وشارك ألجميع في تأبين ألرجل ألطيب ألذي أرتاح من عذاب ألدنيا ومرض ألربو ألمزعج .عاد ألثلاثة ألمتبقين مجدداً يبحثون عن شخصاً رابعاً لتكملة دورة ألدومينو مخلدين ذكرى(ناصر) فيما بينهم .بكى(حاتم) كثيراً وقد بانت علامات ألاستغراب على وجهه,وتألم ألاخران على موت صديقهم ألمفاجيء وألسريع. لاحظ(حاتم) شيئاً غريباً تلك ألنظرات ألحادة بين(طه)و(زياد)مما سببت له نوعاً من ألارهاق وألتعب وألخوف.طلب منهم العذر في ألمغادرة لقضاء بعض ألاشغال ألضرورية ألملحة. غاب(حاتم) عن ألمقهى أياما وأياماً,حتى لاحظ ألاخران ألفجوة ألكبيرة التي تركها خلفه,وتسائلا عن سبب هذا ألغياب ألغير مبرر.كان وقوع خبر وفاة(حاتم) أثر حادث تصادم ألباص ألعام بعربة سحب كبيرة مع مجموعة من ألراكبين معه صدمة مؤلمة سببت أرتجاجاً وحزناً قاتلا ورعباً لدى(طه)الذي تشاجر مع (زياد) متهماً أياه بألنحس وألشؤوم بأطلالته عليهم مما ساهم بموت أصدقائه ألمقربين له .شعر(زياد) بألاهانة وألتجريح وألزعل,وعلى غرار تلك ألعملية ألتي أخترقت حالة ألاطمئنان في نفسه ولأنه يحمل كرامة وكبرياء,توعد(طه) بكلمات نابية وفيها رد اعتبار أمام ألجالسين في ألمقهى,غادر بسرعة تاركاً خلفه شكوك كثيرة تدخل في طي ألحياة وألموت.خلف كواليس ألسماء ألتقت روحان مسكينتان غادرتا في ظروف غامضة وسريعة,ينظران من ثقب في عالم ألارواح ألى مجريات ألاحداث.في ألمقهى وفي زاوية قريبةً من صاحبها,جلس(طه) حزيناً يأخذ ألتعازي ممن حوله بكل أحترام وخشوع. أما (زياد) فقد أختفى كليا عن ألساحة,مما أربك ألوضع وأثار ألقلق في نفس وأعماق(طه).كان دخول(زياد) على ألاصدقاء ألثلاثة بهذه ألصورة ألمفاجئة,والذي سبب موت أثنين على وجه ألسرعة يعتبر وكأنما شيئاً مقصوداً.فجأة وبينما تستمر ألمراقبة من عالم ألارواح وصلت لهم ألروح الثالثة,التي تأخرت قليلاً لأسباب طارئة .وقف عزرائيل بين ألاراوح ألثلاثة,مبتسماً, ويسأل أذا كان لديهم أستفساراً عن شيء ما? وبعد ألمناقشه وعدهم بأرسال روحاً رابعة لتكملة لعبة الدومينو وعلى بساط ألسماء ألواسعة مع ألذ ألمشروبات وأطيبها.بعد غياب طال,ونسيان أصاب رواد ألمقهى دخل شخصاً لطالما عرفوه عن قرب.سلم على ألجميع وطلب مكاناً مواجهاً لهواء ألمبردة ألبارد, مع قدح شاي خفيف بدون سكر. بعد أن جلس ونال قسطاً من ألراحة,نادى عليه احد رواد المقهى طالباً منه ألمشاركة بلعبة ألدومينو..أبدى موافقته بكل سرور,سحب الكرسي واصبح أمام رجلاً أختاره لكي يكمل أللعبة مع أصدقائه في ألعالم ألاخر..الله بألخير.....طه....أنتهت
__._,_.___

نشرت في قصة