• Default
  • Title
  • Date
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 13:55

أسطورة الماء في الأديان ، فكرا وطقسا

أن الإنسان هو ذلك العالم الصغير، الكبير بمفارقاته وتلاوينه وقوته وضعفه وتأثيره وتاثره بمن حوله وبالطبيعة ككل. وهو وحدة لا تقبل الفصل من هذا الكون الفسيح، يؤثر فيه ويتأثر به. هنالك ترابط روحي لا بل حتى مادي ما بين الإنسان والطبيعة التي يعيش في كنفها. فهذا الاتصال والترابط او التعايش ما بين الإنسان والطبيعة بجميع مظاهرها وعناصرها المختلفة .. كان له تأثير كبير جدا، لا بل كان هو المجال الواسع الذي ترعرعت فيه بذرات الفكر الإنساني.
ان هذا التلاقح او الاتصال الروحي ما بين الإنسان وطبيعته، أدى إلى خلق وتكوين أروع واعظم ألافكار الإنسانية التي انبنت شيئا فشيئا الى ان وصلت الى ما هي عليه الان.
فعندما ياتي ذكر التعميد او طقوس الاغتسال، يجب ان يسبقه الحديث عن الماء ودوره التاريخي في روحية وأفكار الأقوام والشعوب. لان ما بين التعميد والماء (واللذان يشكلان وحدة طقسية مهمة في ممارسات الأديان عموما) علاقة رمزية صميمية حياتية لا تقبل الفصل، ولان الماء الوسيلة الوحيدة لاقامة طقوس الاغتسال الديني او ما يعرف (بالتعميد).
فتأخذنا هذه الأسطورة السحرية (الماء) إلى أعماق سحيقة في التاريخ الإنساني، والتي عاصرته وهو يبني حضارته وفكره الديني منذ بدايات طفولته الفكرية إلى الآن. فالماء ملازما عقلا وفكرا وطقسا للإنسان.
لا اعتقد بوجود أي امرئ في هذا العصر، وعلى هذا الكوكب الأرضي، ناضج عقليا، لا يعرف ما للماء من أهمية كبيرة في حياة الكائنات الحية. فحتى الإنسان في تاريخه المبكر (الإنسان القديم)، ومن جملة اكتشافاته الأولية، شعر وأدرك بغرائزه ما لهذا العنصر من أهمية له ولحياته الخاصة، فكانت عبادة الماء وتقديسه من الأفكار الدينية المنتشرة في كثير من مناطق وحضارات العالم القديم. فلذلك سوف لا اتطرق الى اهمية هذا العنصر ودوره من الناحية العلمية واكتفي بالاشارة الى الهم الاكبر للعلماء، وهو محاولة اكتشاف ولو اثر بسيط على وجود الماء في الكواكب الأخرى، لكان دليل قاطع على وجود نفس الحياة في تلك الكواكب. الماء ببساطة يعني الحياة، وان العثور على هذا العنصر الهام يعني العثور على كائنات فضائية أخرى غير الإنسان. فالماء يستعمله العلماء والمستكشفون كجهاز إنذار مبكر رفيع المستوى، يكشف عن وجود حياة من أي نوع كانت، وفي أي منطقة. اذن نستنتج من ذلك ببساطة ان الماء يساوي الحياة.
أن هذا العنصر في الطبيعة قد شكل أهمية كبيرة لا يمكن الاستغناء عنه في حياة الكائنات الحية جميعا فبجانب هذه الأهمية والمكانة الكبيرة التي احتلها من الجانب العلمي، احتل أيضا أهمية كبيرة كما في العقلية الدينية والروحية لكثير من أديان ومعتقدات الإنسان قديما وحديثا لاتقل عن أهميته العلمية. وهذا يظهر جليا واضحا عندما نتتبع النصوص الدينية فقط، بغض النظر عن الممارسات الفعلية والطقوس المصاحبة لهذا العنصر (الماء). فلا تكاد تخلو عقيدة دينية إلا وكانت تقدس هذا العنصر، بطريقة معينة سواء فكرا أو طقسا. وهذا يرجع ما للماء من أهمية كونية، وماله من ارتباط وثيق بحياة الإنسان سواء أكان شعبا أم فردا.
فياخذنا هذا العنصر موغلا في التاريخ الميثلوجي للحضارات القديمة، ومنها الحضارة الرافدينية القديمة. فنرى ان الآلهة انانا قد استعادت الحياة بتناولها طعام الحياة وماء الحياة، بعد ان اوشكت على الموت. ونجد التفريق واضحا بين المياه العذبة (الالهة ابسو) والمياه المالحة (الالهة تيامت).
فالإلهة (تيامت) مصدر أساسي للموت والأمراض عند البابليين، وهي سبب جميع الشرور والأمراض في هذا العالم. ولذلك كان يحتفل بفشلها رمزيا في بداية كل سنة جديدة وفي عيد (الاكيتو) استبشارا بطرد الشرور والأمراض. أما الإله (ابسو) الذي يعتبر مصدر الشفاء والطب، لانه اله المياه العذبة، فهو أبو الإله (ايا) الذي هو رب الطب الأعلى.
وقطرات الماء الساقطة من السماء إلى الأرض على شكل مطر، والذي يسبب إنماء وارواء الأرض - هذه العملية كان لها مغزى كبير وعميق في التفكير الإنساني. فهذه القطرات تمثل في الأساطير الدينية القديمة كالمني التي يطلقها الذكر (المتمثل في السماء الواهبة) لتخصيب الأنثى (المتمثلة في الأرض المستلمة). فهذه عملية حياتية في عمق فلسفة الأديان، ولها دور كبير جدا في فكر الإنسان وتأملاته.
وعلى الأخص كون الماء عنصرا رمزيا للتنظيف والطهارة وغسل الذنوب عند البشر. والله سبحانه تعالى قد خلق الإنسان من ماء وتراب وكان يوحنا المعمدان وقومه يعيشون قرب المياه كي يعمدوا أطفالهم به والمنتمين الجدد، وهناك طوائف أخرى كثيرة تربط حياتها الاجتماعية والدينية بالمياه وتعيش على ضفاف الأنهر.
فالماء ينظر اليه بالمنظار المقدس في جميع الأديان قاطبة القديمة منها والحديثة. فهو في مرتبة عالية في الممارسات والفكر الديني الإسلامي (وخلقنا من الماء كل شيء حي) القران الكريم، أي انه أساس لكل شيء حي، وهذا تقديس كبير للماء. ولا يخلو أي مسجد من مصدر للمياه النظيفة السائلة يستخدمه المسلمون للوضوء قبل الصلاة خمس مرات في اليوم .
وفي الديانة المسيحية نجد في الماء عنصرا مهما في إقامتها لمراسيم التعميد ولا يستعاض عنه. كما أن السيد المسيح (ع) تعمد بالماء الجاري (نهر الأردن) على يد النبي يحيى يوحنا (ع) فكان لهذا التعميد أثره الخاص والمهم بلاهوت المسيح والكنيسة من بعده. فيدخل الماء في عملية التعميد الكنسي وصلوات القربان المقدس عند المسيحيين كرمز للتطهير من الذنوب.
أما في الديانة اليهودية فالماء عندها مقدس تقديسا كبيرا وهذا يظهر جليا واضحا في مراسيمها الدينية، وفي فكرها أيضا (روح الله يرف على وجه المياه) التوراة\التكوين.
ومن فرائض اليهودية أيضا استخدام الماء في طقوس التنظيف وتبرئة الذات من الذنوب وفي التعميد أحيانا. كما يعمد اليهود إلى غسل أياديهم قبل كل وجبة طعام وعن طريق تقليب الماء بين الكفين اليسرى وا ليمني بمثابة تبرك .
وكانت للديانات ا لقديمة قدسية خاصة للمياه لهذا فقد اعتبر الإغريق القدماء أن بعض الأنهر والبحار مقدسة ومنحو المياه آلهة مسؤولة عن الخير والخصوبة والكوارث .
ويرى الدكتور جواد علي بان القدماء كانوا يرون في أعماق الآبار والينابيع والأنهار العذبة قوى خفية مؤثرة تمنح مياه تلك المواضع قدسية خاصة. وفي الواقع أننا لا نزال نرى هذا التقديس باقيا حتى الان عند كثير من الشعوب.
ان الماء الحي (ميا هيي) شعار وصفة ملازمة من الناحية الفكرية والطقسية للديانة المندائية. فللماء في الديانة المندائية قدسية عظيمة وواضحة وضوح الشمس.
لكن ليس كل ماء هو مقدس في المندائية، وانما فقط الماء الجاري الحي الذي يطلق عليه (يردنا) فهناك الماء الراكد اوالميت الذي ترفضه الديانة المندائية، والذي يرمز الى الظلام والموت. أما الماء الجاري الحي (يردنا) فهو الماء الذي يحمل كل صفات الحياة. الماء الذي ينقي نفسه بنفسه.
ف(يردنا) لها أهمية رمزية كبيرة في عملية الخلق وانبثاق الحياة والعوالم. فهي تعتبر من صفات الخالق المقدسة والعظيمة والتي انبثقت في اخر يوم من ايام الخلق العلوي الخمسة (البرونايا). وتذكر بعض النصوص الدينية المندائية بان اليردنا هو مخلوق كائن بذاته، له القابلية على الخلق أيضا (عبارة رمزية).
فاليردنا او الماء الحي هو الذي كان سببا في إنعاش الحياة على الأرض. وكأنه بمثابة مادة الحياة (الدم) في الإنسان وجريانه بدورتيه الكبيرة والصغيرة المعروفتين، سبب في بقاء الإنسان على قيد الحياة. لان الأرض عند خلقها لم تكن روح الحياة متيسرة، فكانت مليئة بالماء الآسن الأسود الذي خرجت منه الأرواح الشريرة والشر. فبامتزاج (يردنا) السماوي في مياه الارض الغير حية ازدهرت الارض وانتشرت رائحة الحياة عليها.
وليس كل ماء جار هو يردنا، وانما جزء منه يردنا سماوي والذي يغذى من قبل عوالم النور العليا السماوية (آلمي اد نهورا). فعملية امتزاج (يردنا) السماوية الجارية في عوالم النور والمحملة بالحياة والنور ب(يردنا) الارضي، تعطي للاخيرة صفة الحياة والقوة على البعث والإخصاب. فلذلك ان وجود يردنا السماوية في يردنا الارضية يثبت وجود العلاقة الحياتية بين عوالم النور (آلمي اد نهورا) وعوالم الظلام (آلمي اد هشوخا) والتي من ضمنها الارض (ارا اد تيبل).
وهذا يعني ان روح الحياة متيسرة في هذا العالم. وحسب الفكر المندائي ان هذا الاتصال مهم جدا بين الماء الجاري الحي العلوي والماء الجاري الارضي. وان لم تصب المياه العلوية في المياه الارضية ستبقى الاخيرة سوداء غير حية كما كانت بعد الخلق. ف(يردنا) السماوية كانت مصدرا وسببا في ازدهار الحياة على الارض بعد الخلق واصبحت مهيئة لخلق الانسانين الاولين (ادم وهوا) عليها.
الخلاصة اذن ان (يردنا) الارضية تغذى من قبل (يردنا) السماوية والتي تعطيها صفة الحياة والديمومة، وهي عبارة عن نور الله المتجسد في الماء. كما ان يردنا هي المادة او المصدر الذي تتزود منه الكائنات الاثيرية والارضية على حد سواء، القوة والحياة.
وان الماء الحي (ميا هيي – يردنا) هو جوهر طقس (المصبتا – الصباغة) التعميد المندائي. و(يردنا) عموما يرمز الى صفة الاب وعنصر الحياة (السائل الحيوي للحياة والتكوين) في الفكر والممارسة الطقسية المندائية. ف(يردنا) هي نفسها التي سيولد بها الانسان المصطبغ (المتعمد) مرة اخرى تاركا خطاياه بعيدة. فالماء اذن مغذ ومنعش ومطهر دائما.
واخيرا يجب ان نذكر بان كلمة (مصبتا) مشتقة من جذر الفعل الثلاثي المندائي (صبا) بسكون الصاد وفتح الباء – وتعني مندائيا التعميد او الصباغة بالذات. ومن هذه الكلمة جاءت تسمية المندائيين بالصابئة أي الصابغة او المتعمدين او السابحة. والأخيرة اقترحها عباس محمود العقاد، في كتابه (إبراهيم أبو الأنبياء)، جعل سببها كثرة الاغتسال في شعائرهم (أي الصابئة المندائيين) وملازمتهم شواطئ الأنهار من اجل ذلك.
وان طقس الاغتسال بالمياه الجارية (التعميد) والذي يأخذ في رأيي أشكالا متعددة بين أقوام واديان وشعوب العالم، لكن يبقى جوهره واحدا وهدفه الرئيسي هو التطهير واكتساب منحة الحياة والاتصال بالقوى الحياتية، لما للماء مثلما أوضحنا، من أهمية بالغة في عقيدة الأديان. والكثير من هذه الأديان تعتقد بوجود القوى الخفية التي تحمي هذه المياه وتعطيها البركة اللاهية والقوة على الإنعاش والتواصل مع الحياة، والتي تظهر مميزات هذه القوة في المياه عندما يرون بان الماء باعث الحياة للأرض الميتة، ومعطية جرعة الحياة للإنسان والكائنات الحية.
ولايخفى بان شعوبا واقواما عديدة قد مارست هذا النوع من الطقوس المصاحبة للمياه. اندثرت بعضها ولم يبق منها غير الذكر التاريخي، والقسم الآخر موجود حاليا يمارس لحد ألان وتمارسه كثير من الأديان والمذاهب بصور تختلف أو تتشابه فيما بينها.
ويذكر لنا التاريخ أن هناك فرقا يهودية قديمة عديدة كانت تمارس مثل هذا النوع من الطقوس. فاليهود الذين سكنوا بلاد مابين النهرين (الشتات) لجاوا اليه حين بشروا بدينهم هناك، إذ كانوا يلزمون من ينضم إلى اليهودية بالتعميد (كان المتهودون يعمدون او يغطسون بالماء في نهر قريب عادة علامة تطهير). وهذه الأخيرة موجودة في الدين الإسلامي حيث يلزم من يدخل الإسلام، الاغتسال وقراءة الشهادة، يقصد به أيضا التطهير والدخول للدين الجديد.
فكانت الديانة اليهودية تفرض تطهيرات عديدة بالماء، وتفرض في العديد من حالات النجاسة، اغتسالات طقسية، تطهر وتواصل للعبادة. ونلاحظ في التوراة والتاريخ العبراني أسماء لمواقع مائية مقدسة جدا في عقيدتهم، وهذا نستطيع ان نجده في الكثير من الأديان.
ولقد اكتشف في السنوات القليلة الماضية منطقة تقع شرق نهر الأردن، ولقد قمت بزيارتها شخصيا، وقد أكد بعض الباحثين بان البلدة المكتشفة ترجع للنبي يحيى يوحنا (ع) ولتلاميذه من بعده. وربما ترجع لطائفة الاسينيين، وخاصة انها قريبة من مركزهم الرئيسي في منطقة قمران. وعلى العموم ان البلدة المكتشفة تحتوي على العديد من الأحواض المختلفة الحجوم، وهي بالتأكيد لأغراض الاغتسال والتطهير الديني.
وعلى الجانب الغربي من نهر الأردن، هنالك طائفة الاسينين التي اكتشفت لها أحواض خاصة في منطقة خربة قمران (شمال غرب البحر الميت) لاداء هذه المراسيم على الرغم من اندثار هذه الطائفة. فلقد كانت الحمامات المرتبة طقسيا مألوفة لدى هذه الطائفة، مثلما كانت عند جماعات دمشق وقمران.
ان البحوث جارية للكشف عن هذه الطائفة التي تعتبر التعميد او الغطس بالمياه الجارية، الطريق الذي يوصلهم إلى الاتصال بالخالق. فمن تعاليم هذه الطائفة انغمار المرء كليا في الماء ثم يشرع في رش الماء على نفسه. ويقول جوزيفوس المؤرخ اليهودي الذي ادعى معرفته بالطائفة، في كتابه (حروب اليهود) المجلد الرابع صفحة 222، أن الطهارة لدى الاسينيين هي شكل من اشكال التعميد لأنها كانت تمارس قبل وجبة الطعام اليومية العمومية. او إذا تدنس أخ بتماسه مع أفراد فئة أدنى منه دينيا، او في حالة قبول مرشح عضوا في النظام الكهنوتي.
فالتعميد اذن هو شكل من اشكال الاغتسال في الماء من اجل التطهر، والذي يتميز بالغطس في المياه الجارية، وتلاوة التراتيل الدينية، التي تدعو الى التقرب للذات العليا، واستلام منحة الحياة والتقديس من خلال عنصر الماء الذي يمثله بكونه عنصرا للتطهير اولا، وبكونه المادة الحية الأولى التي خلق منها كل شيء حي ثانيا.
وبما ان الأساطير الدينية تتحدث عن خلق الإنسان الأول من التراب والماء، وكان الإنسان قد حاول في فكره الديني ان يحول أسطورة خلقه الأولى الى ممارسة طقسية يقوم بها بحياته وكلما احتاج الى أن يولد ويخلق من جديد، فهي اذن عملية تواصل مع الخلق الأول والتجديد في الحياة.
وان عملية الغطس وقطع النفس عند انغمار المرء تحت الماء أثناء مراسيم الصباغة المندائية (مصبتا - التعميد) ليست الا دلالة قيمة وواضحة ترشدنا الى عملية الخلق الاولى للإنسان. فهي تعني الموت والاندحار ومن ثم الخروج من على سطح المياه، دلالة الخلق والولادة والازدهار.
كذلك ان طقوس الاغتسال الديني التي كانت تجرى في بابل او مصر او ربما غيرها أيضا كانت تجرى في الأنهار الجارية، ومن المعلوم أيضا أن ارتداء الملابس البيضاء التي ترمز الى النظافة والطهارة عند التعميد والاستحمام الديني كان شائعا لدى العديد من الأقوام.
من باب آخر يذكر التاريخ وعلى لسان الكثير من المؤرخين والباحثين، وكما ترويه لنا الشواهد الأثرية، بان هذا النوع من الطقوس امتد بعيدا في التاريخ. فحتى الديانات المصرية والسومرية والبابلية والكلدية والآشورية لها ممارسات على مثل هذه الطقوس والتي تقام بمصاحبة المياه الجارية النقية، والتي تمتلك صفة الحياة، فمثلا في مصر كان التلميذ المرشح للكهانة إذا نجح في الامتحان القاسي الذي يجري له، يخلع ملابسه ويستحم (يتطهر) في الماء ويطيبونه بالعطور ثم يرتدي زي رجال الدين، ويجب أن يقوم الكاهن بطقوس التطهير لنفسه وللمعبد، وذلك قبل الشروع في أداء شعائر العبادة. ويقوم الفرعون بمراسيم تبخير المعبود وتطهيره بسكب المياه المقدسة عليه، ثم يقدم القرابين لأبيه الذي يمنحه الحياة، وللعلم ان المصريين القدماء قد عرفوا الأحواض المقدسة المملوءة بالمياه الخاصة للتطهير.
ويعتبر تناول الماء المقدس عند الحضر، من طقوس الاحتفال الديني المهمة جدا، ويكون حوض الماء المقدس دائري الشكل ويستعمل لأغراض التطهير. كما ويعتبر الوضوء عند المسلمين وغسل الجنابة شكلا من أشكال الاغتسال والتطهير في الماء أيضا. وان الغسل في الماء بقصد الطهارة والوضوء في الديانة الإسلامية، ويتحقق الغسل الارتماسي بغمس الجسد في الماء دفعة واحدة.
وهناك ترى الصابئة المندائيين، الذين يحرصون على ان يكونوا في سكناهم قريبين من مصادر مياه جارية وحية، على ضفاف الأنهار، وخاصة دجلة والفرات في عراق اليوم. والمهاجرين منهم، في استراليا خاصة، يمارسون طقوس تعميدهم بكل حرية على ضفاف نهر نيبين في مدينة بنرث.
وان هذا التعميد الذي يقوم به الصابئي المندائي والذي يسميه شعبيا (صباغة) وفي اللغة الرسمية الدينية (مصبتا)، له تأثيراته على أصول وتطبيقات طقوس ومراسيم الاغتسال عند بعض الأديان الأخرى مثل المسيحية.
ومن الجدير بالذكر أيضا، اكتشاف الأحواض والبرك الجارية في كثير من الحضارات القديمة، والتي يؤكد بعض الباحثين على أن الناس كانوا يستحمون (يغطسون) من ضمن المراسيم الدينية (أي بمصاحبة القراءات الدينية).
من هنا تبدأ اهمية المحافظة على المياه العذبة، وعدم تلويثها لانها من العناصر الجوهرية في المحافظة على البيئة وجعل الطبيعة مزدهرة دوما. فعملية تلويث المياه والعبث بها بما يؤدي الى نقصانها او زوالها، يدخل من ضمن المحرمات الدينية التي نصت عليها كثير من اديان العالم القديمة والحديثة، اضافة الى الاعراف الدولية في المجتمع المدني الجديد.

المصادر:
مخطوطات مندائية.
أصول الصابئة المندائيين .. عزيز سباهي.
بخور الآلهة .. خزعل الماجدي.
المصبتا (دراسة في التعميد المندائي) .. الترميذا علاء النشمي.
معرفة الحياة .. سيناثي كندوز ترجمة د. سعدي السعدي.

نشرت في تاريخ

ترد من آونة لأخرى عبارة ( الفلسفة المندائية ) في العديد من الكتب والمقالات وخاصة في الصحافة المندائية الناشئة وكذلك نجدها في الترجمات لبعض المستشرقين والباحثين في المندائية . ترى ما هو المقصود بتلك العبارة ؟ وما علاقة تلك الفلسفة بالفلسفات المعروفة في حضارات البشرية مثل الفلسفة اليونانية والإسلامية وغيرها ؟ ثم متى ظهرت تلك الفلسفة ؟ وما هي الحقبة الزمنية التي نضجت بها تلك الفلسفة ؟ ومن هو العقل أو العقول المبدعة لها ؟ قد تكون هناك إجابات لتلك الأسئلة لدى البعض وأسهلها طبعا إنها من عند الحي الأقدم أو إنها صحف آدم أو غير ذلك من الإجابات النابعة عن الأيمان لا عن العقل الذي يقدسه المندائيون ولا اعتراض على ذلك لكنها خارجة عن نطاق محاولتنا في البحث عن أيجاد أجوبة علمية لتلك الأسئلة .

إن الخوض في هذه المواضيع لمجازفة حقيقية بالنسبة لي وذلك بسبب الغموض الكثيف الذي يحيط بالمندائية بصورة عامة ولكوني لست متخصصا فيها . ولكن لابد من بداية وكلي أمل أن تغري تلك البداية أحدهم ليسير بها قدما في هذا الطريق الوعرة ، ولابد أن أحدهم سيصل يوما إلى الحقيقة التي نرنو إليها جميعنا .

إلى الآن وجميع المنافذ الجادة مغلقة أمام الباحث في معرفة نشأة المندائية ومن هي تلك العقول الكبيرة التي وراءها وأين انطلقت أولا وغيرها من الأسئلة التي يتشوق كل مندائي وأنا واحد منهم في معرفة الحقيقة العلمية عنها . ومع كل إصدار جديد عن المندائية تكبر علامات الاستفهام ولا ألوم أحد هنا فكل البحوث إلى اليوم تدور في نطاق الظن والفرضيات .

كنا نأمل أن نجد ولو بعض الأجوبة الجادة لتلك الأسئلة في ترجمات ( الكنزا ربا ) ولكن تلك الترجمات جاءت لتزيد الأمور تعقيدا . فترجمة الدكتور " قوزي " والتي نقحت ووضعت بشكل يتماشى مع الظرف الخاص الذي يمر به المندائيون في العراق خرجت وكأنها " وصف العميان للفيل " . تجد فيها حقائق ولا تجد فيها الحقيقة الأهم . أما ما ترجم في أستراليا فلم يكن أكثر وضوحا حيث اختلطت الترجمة بآراء المترجمين سواء العرب أو الألمان . أظن إن ترجمة الكنزا ربا بحاجة إلى جهد أكاديمي متخصص واسع بالتاريخ وتأريخ الأديان خاصة وفي اللغات والفلسفة مع حس مندائي بعيد عن التداخل مع النص .

وبعد الرجوع إلى أغلب ما كتب وترجم في المندائية وجدت إن من بين أهم ما يميز المندائية هي نظرتها في مسألة النشوء والخلق والانبعاث ومسألة النفس وخلودها . فما تقوله المندائية في تلك المسائل ؟ وكيف تشترك في العديد من تلك الأمور مع الأديان والفلسفات الأخرى؟

إذا نظرنا أولا إلى أسطورة نشأة الكون نجد أن الفكرة المندائية عن النشوء تختلف كليا عن تصور الأديان التوحيدية الأخرى لها . فلم يخلق الله السماوات والأرض في سبعة أيام ثم استوى على العرش أو خلد للراحة وإنما ترى المندائية أن نشأة الخلق تمت على مراحل يمتد فيها الزمن لآلاف الآلاف من السنين اشتركت فيها العديد من عناصر الطبيعة وإن تمت بإرادة الحي الأقدم.

ورد في كتاب كنزا ربا" يمين " الجزء الثالث ما يلي :

حيثما كانت الثمرة " بيرا" داخل الثمرة.
وحيثما كان الأثير "آير" داخل الأثير .
وحينما كان " مانا " ذو الوقار العظيم هناك .
ومنه تكونت " المانات " العظيمة الكبيرة .
أنتشر بريقها وعظم نورها . وما كان قبلها في الثمرة العظيمة شئ .فانتشر نورها بلا حدود.أكثر من انتشار الكلام .
وجل نورها عن أن يوصف باللسان والتي كانت وقتئذ في تلك الثمرة ثم تكونت منها آلاف آلاف الثمار بلا نهاية .
وملايين ملايين المواطن بلا عدد.
تقف هناك وتمجد " مانا " الموقر العظيم .
الذي يحل في " آير " العظيم.
وتكون الماء الجاري " يردنا " الذي لا حدود له.
وبقوة الحي العظيم انبثقت منه مياه جارية " يردني "
بلا نهاية ولا عدد.
..................
...............

وهكذا يستمر النص بوصف التكوين الأول " الحياة الأولى " والتي تمت بإرادة الحي العظيم " هيي ربي " وتصور هنا النضج الأول داخل الحياة الأولى " هيي قدمايي" وفي " هيي قدمايي " "الحياة الأقدم " الحياة الأولى تشترك عناصر أساسية في عملية التكوين .

أولا " مانا العظيم " وهو ( العقل أو الفكر المدبر أو اللب أو وعاء الأنا أو النفس" نشمثه " ).

ثانيا " آير" الأثير وهو الهواء النوراني الأول أو الأثير الوهاج أو "آير ربا هيي " أثير الحي العظيم . "وهذه النظرة للتكوين الأول تذكر بالانفجار الكوني الكبير "
وثالثا الثمرة " بيرا " حيث تكونت من تلك الثمرة العظمى الثمار والمواطن .
ويلعب" مانا "( العقل)الدور الأساسي في عملية التكوين هذه وكذلك"مثيله الأنثوي النوراني"
وهنا يتدخل الخيال ويحول عنصر الحياة الأول إلى زوجان وهما الأولان في الثمرة العظيمة
وهكذا أنجب " مانا " العظيم المانات والتي تنشأ منها الحياة الثانية " يوشامن "وتنشأ الحياة الثالثة " أباثر " من الحياة الثانية ومن أباثر تنشأ الحياة الرابعة أو أرض تيبل " أرا تيبل " والتي أسهم في تكوينها " ابثاهيل " . " الفكرة ربما تكون قريبة من فكرة زواج الآلهة البابلية وخلق السماء والأرض وكانت تلك فكرة غنوصية شائعة.

وبعد ذلك العالم الذي يمثل الحياة الأولى" هيي قدمايي" عندما كانت الثمرة داخل الثمرة وكان الأثير داخل الأثير وكانت المانا العظيمة داخل المانا والتي يستغرق نضوجه ستة آلاف ألف من السنين تظهر الحياة الثانية وبنتيجة الإنبعاث تظهر الحياة الثالثة من الثانية مستغرقة ذات الوقت ومع ظهور الحياة الثانية يظهر النقص ويزداد مع كل تكون جديد. وكما تصف الكنزا ربا العملية :

أنا " مانا" أتحدث مع مثيلي " دموثا "
تعال أنا وأنت نود أن نبني
نود أن نبني بهتاف خفي ، نبني الثمرة العجيبة
حتى نغرس الأثمار حتى نهيئ المساعدين
..........................................
.........................................
انثنيت وانحنيت أمام رفيقي وتسلمت منه العهد الثمين
دخلنا المانات واختبأنا وقبلت أن تكون شريكتي
وعندما كانت هنا الحياة الأولى فكرت في الحياة الثانية
وحين كانت الحياة الثانية فكرت في الحياة الثالثة وحين كانت الحياة الثالثة فكرت في الحياة الرابعة .
......................................
......................................

مما تقدم أعلاه يفهم بأن " المانا " العقل هو العنصر الأساسي في عمليات التكوين الأربعة وإن كانت هناك عناصر أخرى تظهر في تلك العمليات مثل الماء "يردني " والنور " يورا " والبخار أو الغاز " تنا " والعديد من الأسماء والتي تكتب دائما "ملكي" بمعنى ملاك أو مخلوقات نورانية .

لننظر إلى ما هو دور العقل " مانا " المندائي أو ( logos ) اللاتينية في عمليات التكوين في الفلسفات اليونانية والإسلامية ؟ وهل التشابه الموجود بينهما جاء بشكل عفوي ؟ في الفلسفة اليونانية القديمة أي قبل ( أفلاطون )"600 قبل الميلاد " كان الاتجاه العام ينحو نحو أصالة الوجود وكان جهد الفلاسفة في ذاك الوقت منصب في البحث عن المادة الأولى المكونة للعالم .

فالفيلسوف اليوناني " طاليس " كان يقول أن الآلهة هي القوة التي بها يتحقق وجود الأشياء وبها تتحرك وإن قوة الآلهة كامنة في داخل الأشياء . ثم ظهرت نظرة فلسفية أخرى تقول إن العالم قد تكون بفعل عامل خارجي هو "العقل" وقالوا أن العقل هو القوة المحركة للعناصر " البذور" الغير متناهية الصغر المكونة للمادة وكون العقل هو قوة مادية تؤثر في تفاعل "البذور". وكانت الفلسفة قبل أفلاطون بصورة عامة هي فلسفة أقرب إلى النظرية المادية أما فلسفة أفلاطون فكانت تدعو إلى جانب أصالة " الماهية " ترى تحكم نظرية المثل "الأفكار " والتي هي ماهيات ثابتة تختص وحدها بصفة الوجود الحقيقي أما العالم الخارجي "المادي " فليس سوى ظلال عابرة لتلك المثل وبمثابة أشباح لها .( فكرة الدموثة المندائية ) .

ثم جاء أرسطو ( 350 قبل الميلاد ) وكان من أول المنظرين لموضوع أصالة الوجود فهو يعترف بأولوية الطبيعة وإن الموجودات " الجزئيات " عنده هي أولى الموجودات وأحقها بالوجود أما الكليات " الأجناس والأنواع " فوجودها قائم داخل الجزئيات وأطلق تسمية الجواهر الأولى على الجزئيات وقال إن ( الأجناس والأنواع ) هي الجواهر الثانية وبذلك نرى أن أفلاطون وأرسطو يرون أن الصورة تتفوق على المادة ويتفوق العقل على المحسوسات . ويرى الفكر اليوناني القديم بصورة عامة بأن الوجود أزلي أي أنه لا يأتي من العدم ويرون أن الله هو جزء من هذا الوجود ويمثل قمته ( القمة في الوجود ) . ويرون أن العالم عمل فني إلهي لا بأصله وإنما بتنظيمه .

أما الفلسفة اليونانية الحديثة ( إفلوطين 200 بعد الميلاد ) فهي تحصر الوجود الحقيقي في عالم العقول ( المانا ) الروحانية وهو تعبير عن الماهيات الكونية أي أن نظام الكون قائم على فكرة أصالة الماهية وكل شئ يتركب من مادة وصورة . وترى أن الكون نشأ عن طريق الفيض ، حيث أن الفيض الأول صدر عن حكم الله بالضرورة والطبع لا عن إرادة واختيار لأن الإرادة تنتهك هنا وحدانية الله والطبع هنا يعني إنه كما الله بذاته اقتضى أن يفيض عنه النور الذي هو وجود الكائنات وفق نظام مترا تب الدرجات . ولأن العالم المادي وجد عن طريق الفيض من المبدأ الأول بوسائط العقول الفلكية المفارقة فإن الفيض ما أن ينتهي إلى هذا العالم حتى يكون نصيبه من الإشعاع الإلهي ضئيلا وبذلك يمثل العالم المادي والظلام بالقياس إلى الأفلاك المفاضة عن الله مباشرة ( انظر كيف يدخل النقص بعد الحياة الثانية " يوشامن " ثم الثالثة " أباثر والرابعة " ابثاهيل حسب النظرة المندائية لمراتب التكوين ).

وترى الأفلوطينية كذلك إن كل ما هو مادي هو إمكانية وإن الفكر هو الذي يخلق العالم الواقعي لهذه الإمكانية وهي موجودة بالقوة " أي إنها كامنة في الشيء ذاته " قبل وجودها المادي الواقعي ، أي إنها ذات وجود أزلي ، وترى أيضا أن العالم المادي خسيس لأنه الدرجة الأدنى من درجات الفيض . حتى أن افلوطين كان يخجل من جسده كونه سجنا لنفسه . وهكذا يذكرنا باحتقار المندائيين للجسد ( بغره ) وتقديس النفس التي بداخله فقط .

ترى فلسفة افلوطين إن صدور الوجود هو اضطرارا أي غير مقترن بإرادة أو اختيار " إنما هو فيض " وترى أن الروح وحدها هي التي تصعد إلى الباري وترى أن الألوهية مبثوثة في كل مكان وذلك لأن الجسم المطلق " الهيولي " قد أتى عليه دهرا طويلا إلى لأن تمخض وتميز منه الكثيف واللطيف وإلى أن أخذ الأشكال الكروية الشفافة " الفلكية "، والتي تركب بعضها في جوف بعض ( تذكرنا تلك الأفكار كثيرا بالفكر المندائي من حيث النفس والجسم وصعود النفس فقط إلى باريها وكذلك تكون البذرة داخل البذرة ) . وإلى أن استدارت أجرام الكواكب النيرة وركزت مركزها وإلى أن تميزت الأركان الأربعة وترتبت مراتبها وانتظم نظامها .

بذلك نفهم من النص أعلاه وما سبقه أن الأجرام الفلكية وعناصر الطبيعة وما تولد منها من معادن ونبات وحيوان تكونت بعملية داخلية متسلسلة المراحل . بدأت من الجسم المطلق " الهيولي الأول" واحتاجت إلى وقت طويل حتى انتقلت إلى مرحلة التمخض الذي جرى بعملية جديدة أو بمرحلة أخرى في العملية المتصلة نفسها حدث خلالها نوع من الانتقاء أدت عملية الانتقاء هذه إلى قبول الجسم المطلق " الهيولي الأول " أولى أشكال المادة وهي الأشكال الكروية للأفلاك ثم جاء دور العملية داخل هذه الأشكال ( بتركيب بعضها في جوف بعض ) ثم حلت مرحلة انتقاء جديدة هي استدارة أجرام الأفلاك النيرة واتخذت مراكزها وتميزت أركانها الأربعة وهكذا كانت منها المولدات من معادن ونبات وحيوان ويصورها افلوطين بفلسفته بأنها عملية ارتقائية .

إن الأفلاطونية الحديثة بحاجة إلى دراسة مقارنة مكثفة مع الفكر المندائي . ففيهما تشابه كثير قد يساعدنا في فهم الفكر المندائي وحتى نشأته ربما.

أما الفلسفة الإسلامية والتي جاءت لاحقا أي أنها جاءت بعد المندائية زمنيا ستفيدنا دراستها حتما ابتداء من أخوان الصفا وحتى أبن رشد وذلك للبحث عن الفكر المندائي الذي قد يكون بعضه موجود فيها سواء كان تأثيرا أو التقاء فليس هناك انقطاع في مراحل تطور الفكر البشري ولابد أن ولادة أي فكر ستأتي من فكر الآخرين وإن كان يعارضه ظاهريا .

قبل الخوض في الفلسفة الإسلامية حبذا لو يساهم إخواننا المندائين المعنيين بالفكر المندائي في مناقشة ما ورد في المقالة لغرض التقرب من الحقيقة.

المصادر :
كنزا ربا الطبعة العراقية
كنزا ربا الطبعة الأسترالية
كتاب النشوء والخلق في النصوص المندائية للدكتور كورت رودولف – ترجمة الدكتور صبيح مدلول
معرفة الحياة س . كوندوز ترجمة الدكتور سعدي السعدي
الموسوعة الفلسفية
خريف الفكر اليوناني – عبد الرحمن بدوي –
افلوطين عند العرب – عبد الرحمن بدوي –
موجز حضارة وادي الرافدين – طه باقر –
الصابئة المندائيون – الليدي دراور -
مصادر أخرى مندائية متفرقة وغيرها

نشرت في تاريخ
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 13:49

الديمقراطية وحقوق الانسان في سومر

بعد ان روى لجلجامش تفاصيل الأحداث التي أدت الى الطوفان قال أتونوبشتم ـ والان
من سيجمع الالهة من أجلك ـ
ياجلجامش ـ لكي تنال الحياة التي تبغي ؟ ـ يرى أحد علماء الاثار الماركسيين
الروس ان المقصود بذلك انحسار وغياب النظام الديمقراطي المشاعي الذي ساد في
سومر في بداية الألف الرابع قبل الميلاد . والمقصود بالالهة ـ الأنوناكي ـ
نواب المزارع الذين كانوا يجتمعون دوريآ للتداول في شؤون مزارعهم التي تدار
جماعيآ وكان المعبد الذي يشيد عادة وسط هذه المزارع بمثابة البرلمان الصغير ،
وكانت مثل هذه المعابد منتشرة في كل أرجاء سومر وهي الشكل الاجتماعي للنظام
السياسي الذي كان قائمآ في سومر القديمة.لكن تراكم الأنتاج وتقسيم العمل وتطور
أدواته وبسبب قساوة الطبيعة التي تتمثل بالفيضانات أدى تدريجيآ الى ظهور
الملكية الخاصة ومن ثم نشوء طبقة من الأسياد وطبقة من العبيد الذين كانوا في
الغالب ممن يتم أسرهم في الحرب أو بالابتياع وكانت هناك فئة وسطية تتمثل
بالأحرار ، وهذه الفئة الأخيرة هي التي صاغت لنا ، بشكل أساسي التراث الأدبي
والعلمي والحضاري الذي وصلنا والذي هو فخر كل عراقي.
ان ما نقوله عن هذا النظام الديمقراطي الذي ساد سومر القديمة ليس اجتهادآ أو
تخمينآ بل أثبتته الاف الأختام واللقى الاثارية وكان المعبد يقوم مقام البنك
بعد تفكك المشاعية وانحسار دوره كبرلمان مصغر ، وبدأ الحاكم السيد ـ لوغال ـ
يسلب الكاهن الاعلى دوره أو يشاركه به أو يقصيه كما حدث لاوتونوبشتم ـ نبي الله
نوح الذي أنقذ البشرية من الطوفان .ومن المؤكد ان أنكي أو أيا هو الاسم
التوحيدي لله في ذلك الزمن وهو ذاته ـ الحي أو هيي
الذي تقترن عبادته بطقوس الخصب القديمة والتعميد ،في ذلك الزمن السحيق كان
الصابئة يدخلون في صراع مع الحكام الذين أرادوا تحويل المعابد من مكان لعبادة
الخالق وممارسة الديمقراطية وسيادة مبادئ الأخوة والعدالة الى بنوك ومراكز
للأوثان والأصنام.
كان جلجامش أقدم متصوفة التاريخ وكان في بحثه عن الله يبحث عن الديمقراطية التي
غابت للتو ، يبحث عن العدالة والقيم العليا التي بدأت تنحسر في مجتمعه ، وكان
هو نفسه حاكمآ مستبدآ اثمآ لكنه وفي لحظة من استيقاظ الوعي عندما تواجه بموت
صديقه أنكيدو قرر أن يبحث عن الخلاص ، عن الدين الذي تنزل في صحف ادم ـ ع ـ في
فجر التاريخ البشري جنوب العراق وبشكل خاص ، وكما تؤكده الاثار المكتشفة الى
الان ، في قرية أريدو بالذات ، حيث تؤكد السيدة دراور التشابه الشديد
والتطابق بين خارطة المعبد في أريدو مع المعبد المندائي وخاصة في بركة التعميد
التي ترتبط بنهر الفرات بمجرى على يمينها واخرى للبزل على يسارها لاحداث تيار
من الماء الجاري الضروري لطقس التعميد المصبتا ـ ، ولا تستبعد السيدة دراور أن
الطقوس المندائية ذاتها كانت تمارس في ذلك المعبد في ذلك الزمن القديم ، نهاية
الألف الخامس ق.م.
وبعد أسفار طويلة قام بها جلجامش استطاع خلالها قتل ـ خمبابا ـ أو الروح
الشريرة ـ الروهة ـ كما يطلق عليها في الماثر المندائية ، وبعد ان تعرفت نفسه
المضطربة على شعيرتي البراخة والرشامة ـ أي التبرك والصلاة ـ وفائدتهما في
تهذيب نفسه وتحقيق مبتغاه في بلوغ الحقيقة ، متبوعة بدعوات امه الطيبة ،
والكاهنة الرفيعة المستوى في أوروك ، ننسون المرفوعة الى الله بشفاعة الملاك
شامش ، بعد كل ذلك يصل جلجامش الى ـ أورشنابي ـ المسؤول عن مفاتيح خزائن
المعرفة التي خلفها للبشرية نبي الله ادريس ، أو أنانوخ المندائي ، أو بالصيغة
السومرية ـ أدابا ـ حيث توصله هذه المعرفة ـ أو الناصروثا الاصيلة الأولى ـ
الى هدفه ليلتقي باوتونوبشتم الذي يحاول تكريزه الى درجة دينية عليا معادلة
لدرجة الترميذا المندائية لكن جلجامش يفشل في الاختبار وفي طريق عودته الى
اوروك يفقد ما أوصى له به اوتونوبشتم من عشب دائم الخضرة ـ ويرجح أن يكون الاس
ـ كتعويض عن اخفاقه وسلوى لروحه المتطلعة الى الحق و الحياة الأبدية.
هكذا ، اذن ، يفشل جلجامش في بلوغ مبتغاه حيث من المستحيل عودة التاريخ الى
الوراء ،الى عصر كان فيه المعبد مكانآ لعبادة الله الحق ـ كشطا ـ للديمقراطية
والعدالة والأخوة بين بني ادم ـ ع ـ مكانآ للخير وتوزيع الثروة الاجتماعية بشكل
انساني ، مكانآ لتربية وتأهيل دعاة الرحمن وتزويدهم بالمعرفة الربانية الأصيلة
والقديمة المنزلة في الصحف الأولى.ومأساة جلجامش تؤرخ وتوثق أول انفصام في
التاريخ بين ايمان الانسان والمحتوى الاجتماعي لهذا الايمان ، الخالق ومخلوقه ،
شريعة السماء وشريعة الأرض .
في ذلك الزمن كانت المرأة مازالت تتمتع بحقوق كثيرة ، اجتماعية واقتصادية
ودينية ، ونلمس ذلك بشكل خاص في خطاب صاحبة محل الاستراحة الى جلجامش ، حيث
يفصح كلامها عن معرفة بطبيعة ذلك العصر فتسدي لجلجامش نصائح ذات طابع عملي
قائلة له ـ كن فرحآ مبتهجآ نهار مساء ، وأقم الأفراح في كل يوم من ايامك ،
وارقص والعب مساء نهار ، واجعل ثيابك نظيفة زاهية ، واغسل رأسك واستحم في الماء
، ودلل الصغير الذي يمسك بيدك ، وافرح الزوجة التي بين أحضانك ، وهذا هو نصيب
البشرية ـ.
ان شعبنا العراقي صاحب ومبدع هذه الحضارة العظيمة لا يطلب من حكامه الجدد اليوم
غير تمكين العراقي من العيش بكرامة وفق نصائح هذه المرأة العراقية ، أن يوفروا
للعائلة العراقية المقومات الأساسية للحياة وهي الأمن والسلام والماء والكهرباء
والعمل للفقراء الذين أنهكتهم حروب صدام ومجاعاته وجورة لكي يفرح الطفل وتسعد
الزوجة تمامآ كما جاء في نصيحة هذة الامرأة العراقية التي عاشت في نهاية الألف
الخامس ق .م
أما صدام الذي يحمل بالتأكيد الروح الشريرة للروها ـ أو خمبابا السومرية ـ
والتي ظن جلجامش عبثآ انه قضى عليها ، في حين انها لا تفتأ تتوالد وتتناسخ عبر
العصور أبناء وأحفادآ ، فالأجدر بحكامنا تقديمه مع أتباعه وكل عناصر الشر
والجريمة الى العدالة وتنفيذ ارادة الشعب بحقهم .

ملاحظة ـ سوف نذكر المصادر بعد الجزء ـ 2 ـ من هذه المقالة وصور اثارية
وتوثيقية مع تدقيق علمي ولغوي مقارن لما ورد فيها.

نشرت في تاريخ

المقدمه:
تعرض المندائيين طيله تاريخهم الذي يمتد الاف السنين الى العديد من جرائم الاباده الجماعيه وموجات من القتل و الاضطهاد و القهر والاجبار على تغيير دينهم وكان تكفير المندائيين هي الذريعه المستخدمه لاباده الشعب المندائي, وقد استخدمت هذه الذريعه من قبل جميع الاديان المجاوره لهم . وقد يكون الشعب المندائي هو الشعب الوحيد في التاريخ الذي تعرض ولا يزال الى هذا العدد من المذابح دون ان يرفع احد صوته. ونحن هنا لا نستطيع سرد كافه هذه الحالات اولا: لكثرتها وتنوعها و ثانيا لقله المصادر الدقيقه حول البعض منها. وادعوا كافه الاخوه المندائيين الى المساهمه في اضافه اي معلومه لديهم حول هذه المذابح او غيرها من انواع الاضطهاد وخصوصا التي حدثت في العصر الحديث وسوف اواصل نشر حالات الاجبار على تغيير الدين قريبا .
تعريف الاباده الجماعيه
جاء في الماده الثانيه من الاتفاقيه الدوليه لمنع ومعاقبه جريمه الاباده الجماعيه ما يلي ((ان جريمه الاباده الجماعيه تشمل كل الاعمال التي تستهدف و بقصد, الى تدمير جماعه عرقيه او اثنيه او دينيه بصوره جزئيه او كليه))
وقد جاء من ضمن الاعمال التي تقع ضمن جريمه الاباده الجماعيه هي :-
1 ) قتل اعضاء من الجماعه(المقصود هنا يكفي قتل بعض من افرادها بقصد ابادتها اوالحاق اضرار بالغه بافرادها)
2) الحاق اضرار جسديه او نفسيه بالغه باعضاء هذه الجماعه
3) فرض ظروف معاشيه قاسيه على هذه الجماعه بقصد تدميرها جسديا بصوره جزئيه او كليه
4) فرض ظروف على الجماعه تؤدي الى منع الولاده
5) نقل اطفال من هذه الجماعه الى جماعه اخرى
وكذلك جاء في الماده الخامسه من هذه الاتفاقيه ما يلي ((على الحكومات اتخاذ الاجراءات اللازمه لمنع ومعاقبه مرتكبي جرائم الاباده الجماعيه))
من اعلاه, نلاحظ ان ما يتعرض له المندائيون الان وفي الماضي يقع ضمن تعريف جرائم الاباده الجماعيه والتي تقع على الامم المتحده ومنظماتها الانسانيه مسؤوليه حمايه المندائيين و انقاذهم.

1) مذابح المندائيين في القرن الاول الميلادي:
المصدر : كتاب حران كويثا( حران السفلى)/من كتب التاريخ المندائي

لقد ورد نص في كتاب ( حران كويثا ) ما يؤرخ حادثة واحده على الاقل حدثت في القرن الاول الميلادي وهي قيام اليهود بالقيام باباده جماعيه للمندائيين في اورشلام(موطن المندائيين) حيث قتل في هذا الحادثة كما روي في هذا الكتاب الاف المندائيين وكان بينهم( ثلاثمائه وستين رجل دين مرة واحدة) لانهم مندائيون مما ادى الى هجرتهم الى خارج المنطقه وهذا هو النزوح الاول للمندائيين خارج وطنهم . ويعلم جميع المندائيين المذابح التي تعرضوا لها على أيدي اليهود في التاريخ القديم و في بدايه الدعوه المسيحيه والذي اشارت اليه كتبنا الدينيه والتي توقف بعدها التبشير بديننا بسبب هذه المذابح , ولا اريد الاسهاب في هذا الموضوع لانه معروف للجميع.

2) مذبحه سنه 273 م في ايران
المصدر : From : Wikipedia
حين جاء الى السلطة الملك الساساني بهرام الأول سنة 273(م) . قام بحمله اضطهاد شعواء قادها الحبر الاعظم للزرادشت (كاردير) ضد المندائيين, الى انه لم يستطع القضاء تماما على المندائية، ولكن التدوين توقف تماما لعدة قرون ولم نشاهد التأثيرات والكتابات المندائية الا فيما يسمى بأوعية ( قحوف ) الاحراز والأشرطة الرصاصية . وقد اجبرت جموع المندائيين ، فيما بعد، الى الدخول الى الاسلام، لأن الدخول الى الاسلام لم يكن هناك بدا عنه، فقد قضت المصلحة الفردية و حب التخلص من تأدية الجزية وما فيها من اذلال والتهرب من الاذى والرغبة في المناصب والتمتع بالحرية والامان من الاجبار على دخول الاسلام.
3) مذبحة (القرن الرابع عشر) في مدينة العمارة جنوب العراق :

المصدر : الليدي دراور- (الصابئه المندائيون في العراق و ايران)

حدثت مذبحه للشعب المندائي في القرن الرابع عشر في مدينة العمارة وهي موثقه في كتاب (الليدي دراور ) بعنوان( الصابئة المندائيين) ترجمة المرحومين غضبان رومي و نعيم بدوي(رواه نهويلخون) صفحات 56 و 57 جاء فيهما :

(( ومهما كان الامر فأن الصابئين في القرون الوسطى يظهرون وقد قهرهم الاضطهاد فقد تركت احد الكوارث في القرن الرابع عشر طابعها في ذكرياتهم حتى هذه الايام وقد عثرت على تسجيل لهذه المذبحه في نهاية احد الاحراز الطلسميه التي تفحصتها اخيرا ,كما وجدت نفس الشيء مسجل في ( التاريخ ) وهو مخطوط يمتلكه الشيخ دخيل يحكي المخطوط عن مذبحه رهيبه تعرض لها الصابئون في الجزيره حين كان السلطان محسن بن مهدي حاكما على العماره وكان ابنه فياض حاكما على شوشتر حيث تعرض بعض الاعراب على امرأة صابئية و نشب القتال واعلنت الحرب على الصابئيين فذبح الكهان والرجال والنساء والاطفال وبقيت الطائفه مهيضه وبلا كهان لعدة سنين )) .

4) مذبحه سنه) 1782( في الجنوب الفارسي :

المصدر : Jean de Morgan (mission scientifique en Perse ) voume 5
الترجمه الحرفيه كما يلي :
(( المسلمين في بلاد فارس ارادوا الحصول على الكتب الدينيه للمندائيين ولكنهم لم ينجحوا بالحصول عليها لا عن طريق الشراء ولا عن طريق السرقه.لذلك قاموا بأعتقال قادتهم وقالوا لهم انهم يتبعون الديانه المندائيه عن طريق التقليد عند القيام بالطقوس المندائيه الدينيه خوفا على كتبهم ,عند ذاك تم رمي قادتهم الدينين في السجن وتحت التعذيب, ولكنهم استمروا في انكار وجود اي كتاب مندائي لديهم ولكن المسلمون الفرس هددوا الكثير من قادة المندائيين بالقتل , البعض خوزقوا واخرون مزقوا ,احد المعذبين المندائيين تم قطع اطرافه الواحد بعد الاخر بدأ من اصابع الارجل ثم الايدي, بعض قادتهم تم جلدهم احياء والاخرين تم احراق اعينهم بوضع حديده حاميه جدا في اعينهم, ثم بعد ذلك تم ذبحهم ,والبعض الاخر تم احراقهم احياء .
الكنزبرا ( ادم ) الذي تم قطع يده اليمنى من قبل المسلمين الفرس كان واحد من هؤلاء المساجين هرب الى تركيا ( من المحتمل المقصود شمال العراق في العصر العثماني ) ولكن قبل هربه اخذ معه نسخه من الانياني ( الكتاب الرئيسي للمراسيم الدينيه المندائيه ) تم استنساخه من قبله رغم ان يده اليمنى كانت مقطوعه وهذا ( الكتاب الانياني هو المصدر الوحيد الذي اعتمد عليه في منطقة العماره ) وفي نفس الوقت فأن أدم هذا هو نفسه علم المندائيه الى شخص انكليزي اسمه (j.e.taylor ) والذي كان نائب القنصل في البصره واستمر تعليمه لمدة 12 سنة ( يبدو ان تيلر هذا بطيء جدا في التعلم ).(يوجد لدينا النص الانكليزي و الفرنسي لمن يرغب الاطلاع اكثر)

5) مذبحة سنه) 1870( في مدينة شوشتر:
المصدر:
http://leocaesius.blogspot.com )
شوشتر هي مدينة ايرانيه تبعد عن مدينة الشوش الحالية اقل من عشرة كيلو مترات وهي سابقا مدينة مندائيه بالكامل يقدر عدد نفوسها حين ذاك( 20 الف مندائي) وتقع شمال الاحواز في جنوب ايران سنة 1870 م تم ابادة اغلب المندائيين فيها على يد الحاكم الايراني انذاك ناصر الدين شاه الذي حكم ايران من سنة 1831 الى 1896 م مع العلم ان العائلة الصابوريه ,وهي من العوائل المندائيه الاصيله ( كانوا يسمون سابقا العائلة الششتريه) هم من مدينة شوشتر هربوا منها انقاذا لانفسهم ولعوائلهم. ومن يراجع الزهيرات على متن دراشة يهيى(تعاليم يحيى) وكذلك سدرا نشماثا الموجودة لدى الاخوى المندائيين في ايران سيجد اشارات عديدة الى هذه المذبحه ومن يزور الشوش حاليا سيجد كتابات مندائيه خصوصا على الجسر القديم للمدينه تشير الى هذه المذبحه, وهناك كتاب بعنوان قصص من حياة امير كبير من تأليف محمود حميدي باللغه الفارسيه جاء فيه ص161 ما يلي :
(( في رسالة من اردشير حاكم خوزستان سنة (1266هجريه) قال له فيها ان طائفة الصابئه الذين يعتقدون في ديانة حضرت زكريا في شوشتر يسكنون على ضفاف النهر ............... عدد من الاعيان والاشراف هناك قاموا بأيذائهم واضطهادهم واجبروهم ان يتركوا دينهم بطريقة العنف والاجبار ويدخلون في الاسلام )) .(ارجوا من الاحبه في ايران بتزويدنا بما لديهم حول الموضوع حتى ولو كان ذلك باللغه الفارسيه)

نشرت في تاريخ

صادف يوم 24/06/2008 الذكرى الرابعة و الاربعين على رحيل العالم الديني الكبير الشيخ دخيل الشيخ عيدان الشيخ داموك إلى عالم الخلود و الانوار فأنه ما يزال يعيش بين ظهرانينا قيما وسلوكا تاركا بصماته على تأريخ هذه الطائفة ، وراسما طريقا واضحا لكل رجل دين مؤمن بالحي العظيم ومخلص لما امن به

و بهذه المناسبة سنقلب صفحات التاريخ اليوم وصولا إلى موضوع معاناة و اضطهاد الصابئة و الدور الذي قام به الشيخ داموك و حفيده الشيخ دخيل في الوقوف ضد هذا الاضطهاد ، ونسترجع ذكرى الرجال العظام الذين تشرفوا بنيل هذا المجد وكانوا رموزا.

لقد نال الصابئة منذ بداية ظهور الأديان ألسماويه ليومنا هذا أنواع شتى من الاضطهاد الفكري و الديني و السياسي و الاجتماعي , و السبب لكل هذا الاضطهاد هو تمسكهم بدينهم ووطنهم , فقد اضطهدوا من قبل اليهود و المسيحيين و الإسلام و كما مدون في كتبهم و تأريخهم .

فهم لا يملكون وطن أو ارض خاصة تجمعهم ولا لديهم قوه أو سلطه تدافع عنهم في كل ألازمنه و العصور و يحصدون الماسي و القهر و التشرد والضياع لكونهم أقلية لا تؤمن بالقتل والعنف وتؤمن بالسلام

مرت على الطائفة عبر تأريخها كثير من الظروف الصعبة و ألازمات ولكن بوجود رجال دين مخلصين مؤمنين بدينهم و بطائفتهم استطاعوا إن ينتصروا على هذه ألازمات و يقدموا صورا مشرقه على إخلاصهم و تضحيتهم وشجاعتهم وعزيمتهم من اجل المحافظة على الدين و الطائفه والسير به إلى شاطى الأمان.

و سأتكلم عن حدثين مهمين تعرضت لهما الطائفه فيوجد الشيخ داموك و حفيده الشيخ دخيل انتصروا على هذه ألازمات بقوة إيمانهم و شجاعتهم و ولائهم لدينهم و لطائفتهم و افشلوا مخططات البعثات التبشيرية التي أرادت مسح و تغيير الهوية المندائيه إثناء فترة سقوط الدولة العثمانية و دخول الإنكليز للعراق

ستظل هذه المواقف شعله تضيء دروب المندائيين و ستبقى الذاكرة المندائيه تتناقلها جيل بعد جيل .

هذا الموضوع سأتناوله في محورين .

المحور الأول بعنوان ( الشيخ داموك و دوره في إفشال مخططات البعثات التبشيرية ) ومن وقف مع هذه البعثات لتغيير الهوية المندائيه .

المحور الثاني بعنوان ( الشيخ دخيل يتصدى و يقف ضد الإرهاب والاعتداء على الصابئة ) في فترة

بداية احتلال العراق من قيل الإنكليز.

الشيخ دخيل الشيخ عيدان الشيخ داموك

المحور الأول

الشيخ داموك و دوره في إفشال مخطط البعثات التبشيرية

سكن في قلعة صالح الشيخ سام الشيخ شبوط و سكن فيها الشيخ عبد الله و ابنه الشيخ زهرون والد الشيخ يحيى قادمين من منطقة الأهواز و قد ارتأت الحكومة العثمانية إن يكون للصابئة رئيسا يمثلهم إمام السلطة العثمانية و ينضم علاقاتهم مع رؤساء العشائر و الجهات الأخرى , و عندها انقسم الصابئة إلى مجموعتين أحداهما رشحت الشيخ داموك لرئاسة الطائفه و الثانيه رشحت الشيخ زهرون لها و بعد تقديم الطلبات و الترشيحات للحكومة العثمانية صدر عنها قرار رسمي بتعيين الشيخ داموك رئيسا للطائفه و هذا القرار معترف به من قبل السلطة العثمانية و بذلك أصبح الدين الصابئي دينا معترف به رسميا كباقي الأديان الأخرى .

أصبح الشيخ داموك له الحق في متابعة وعمل ونشاط رجال الدين رسميا وكانت هذه الفترة محدودة لم تتجاوز خمسة سنوات من 1865-1870 وتولى بعده أخيه الشيخ صحن هذه الرئاسة

اتسمت قيادة الشيخ داموك بالشجاعة والقوة والحكمة والمعرفة وكانت من أصعب الفترات التي مرت على تاريخ المندائيين رغم قصرها ، ففي خلال هذه الفترة حرص الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن على متابعة شؤون المندائيين وتفقد أحوالهم ومتابعة شؤونهم الدينية والاجتماعية أينما كانوا ، فكانت لهم سمعة وشهرة واسعة وعلاقات واسعة مابين رؤوسا العشائر ومسئولين الحكم العثماني كما لهم علاقات وطيدة مع الطوائف والأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية وممثلي الدول والمصالح الغربية التي دخلت للعراق .

نظرا لتوسع العلاقة التي تربط الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن مع العشائر والمسئولين من الأديان الأخرى فقد كان لهم مضيف خاص للمندائيين ومضيف خاص لغير المندائيين حتى العاملين فيه من غير المندائيين تميشا للتقاليد السائدة آنذاك .

تزامنت تلك الفترة بنشوب الحرب العالمية الأولى للفترة من 1914-1918 وسقوط الدولة العثمانية سنة 1918 ودخول الإنكليز للعراق واحتلاله مابين سنة 1914-1917 وبالتالي فأن هذه الإحداث والصراعات قد ألقت بظلالها على تواجد المندائيين في أحواض الأنهر والاهوار في جنوب العراق ، فقد كانت هذه المناطق ممرا لدخول قوات الاحتلال ( الإنكليز) والتمركز بها ومن ثم دخولها إلى بغداد .

تعرضت المناطق التي كان يسكنها المندائيين بسبب ظروف الحرب إلى كثير من الاضطرابات والفوضى وفقدان الأمن وبالتالي انعكس هذا الوضع على حياة واستقرار المندائيين في هذه المناطق ، فقد تعرضوا للاضطهاد والظلم والقتل والسطو والنهب ومداهمة بيوتهم ونهب بناتهم وإجبارهم على ترك دينهم ومضايقتهم في ممارسة طقوسهم ومعتقداتهم الدينية .

هذه الإحداث أدت إلى نزوح بعض التجمعات السكانية للمندائيين من المناطق التي تكثر فيها الاضطرابات إلى مناطق شبه آمنه ( وما أشبه اليوم بالبارحة ) ولكن اضطهاد الصابئة في ذلك الوقت بقوا في العراق إما اليوم فقد هاجروا إلى خارج العراق وهذه كارثة تهدد مستقبل المندائيين وتساعد على زوالهم بعد اندماجهم في المجتمعات الأخرى .

هذه الأوضاع المأساوية التي تعرض لها المندائيين في تلك الفترة جلبت انتباه أنظار المبشرين والباحثين والبعثات التبشيرية وممثلي الدول المحتلة وبعد دراسة أوضاع ومعتقدات الصابئة وامتداد تأريخهم ودياناتهم وقدم لغتهم ، اكتشفوا بأن هذه الأقلية ودياناتها من أقدم الديانات الموجودة وهذا عامل مهم في اهتمامهم ومتابعتهم لمعرفة المزيد عن هذه الأقلية الدينية وتأريخها وعلاقاتها بالحضارات الأولى وبالأديان التي جاءت بعدها ومنها الدين المسيحي فوجودا هنالك نقاط مشتركة مابين الديانة المندائيية والمسيحية .

في منتصف القرن السادس عشر أصبحوا الصابئة هدفا لضغوط المبشرين المسحيين الغربين ومن مذاهب مختلفة ولم يتردد هؤلاء المبشرين حتى الاستعانة بالباب العالي لحملهم على الانصياع لدعوة المبشرين والعودة إلى صفوف المسيحية إذ كان يصورونهم بالمارقين على المسيحية وخلال تلك الفترة حصلت ضغوطات عليهم ايظا من الإسلام لاعتناق الإسلام .

استمر الباحثين والمبشرين بالبحث والدراسة والمتابعة لدراسة هذه الديانة وبالتالي لابد من إيجاد منافذ للدخول والتعرف عن قرب لهذه الديانة وكسب أبنائها لهم .

وظهرت البعثات التبشيرية وكانت موجهه من قبل فرنسا وإنكلترا ، فاعتمدوا الفرنسيين على المبشرين الكاثوليك والإنكليز على المبشرين البروتستانت وأصبح بينهم تنافس من اجل الفوز بما سيتحقق لهم من كسب لهذه الأقليات وبعد الاتصال برؤساء الأقليات والعشائر وأصحاب النفوذ في مناطق العراق وإيران

كان من بين هؤلاء الذين قاموا بهذه المهمات وبتوجيه دولهم :-

1- فرانس راودن جسني قائد بعثة الفرات

2- الرحالة السفير عضو مجلس النواب البريطاني هنري لاريارد ، فقد استطاع كسب وتعاطف الصابئة معه وعن طريقه مهد إلى رفع معاناة الصابئة وإصدار فرمان من قبل ملكة بريطانيا لحماية المندائيين وبهذا القرار ساعد على تقرب الصابئة للإنكليز

3- الوكيل السياسي في بغداد الكابتن روبرت تايلور ، فأصبح معنيا في كل ما يتعلق بالصابئة وحلقة الاتصال بهم

4- و . ك لوفتس احد أعضاء لجنة تحديد الحدود العراقية الإيرانية

5- جرونز ، أول المبشرين البروتستانت

صورة نادرة للسيخ دخيل وولده زكي وحاخام يهودي مع القيادة الإنكليزية في لقاء حول الأوضاع

التي يتعرض لها المندائيون واليهود من اضطهاد

بعد توجيهات هؤلاء المبشرين واتصالاتهم مع الصابئة توطدت العلاقة بينهم عن طريق القنصل البريطاني تايلور فقد حضي بالاهتمام والرعاية والانفتاح له من قبل الشيخ يحيى الشيخ زهرون وكسب مودته وعزز علاقته به وأصبح الشيخ يحيى الشيخ زهرون من رجال الدين المهمين بنظر الإنكليز للعلاقة المتينة التي ارتبط بها مع تايلور ، فقد سبق وان طرق تايلورابواب الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن وبقية رجال الدين فرفضوا التعاون معه وبالتالي التجأ إلى الشيخ يحيى الشيخ زهرون فوجد ضالته المنشودة فيه وأبدى له استعداده لتلبية مطالبه وبالتعاون معه في كل المجالات

استطاع تايلور وبواسطة الشيخ يحيى الحصول على كافة المعلومات والمصادر والكتب الدينية المهمة..

كانت هنالك تعريفة متفق عليها من قبل كافة رجال الدين تحدد الإكراميات التي يقدمها أفراد الطائفة لقاء تقديم الخدمات الدينية لهم في الزواج والتعميد وموقعة من قبل حكام الإنكليز وقد صدر أمر بها ، إلا إن الشيخ يحيى الشيخ زهرون لم يلتزم بها ، فلجأ الشيخ يحيى إلى تخفيض هذه الإكراميات إلى النصف وهذا لم يتم من قبله وإنما كان أيعاز وتوجيه من تايلور ضد قيادة الشيخ داموك وأخيه الشيخ صحن ومن اجل منافسة الشيخ داموك وبقية رجال الدين ولكسب مودة المندائيين للشيخ يحيى لقاء تعاونه مع الإنكليز بهذه الخطوة فقد كسب مودة البعض من المندائيين وهذا ما خطط له تايلور مع الشيخ يحيى ضد الشيخ داموك... وهذه أساليب الإنكليز ( أبو ناجي ) سياسة فرق تسد

واستمر هذا التعاون مابين تايلور والشيخ يحيى من اجل كسب مودة الصابئة للشيخ يحيى ، وجاء الوقت المناسب من قبل تايلور لتقديم عرض مغري إلى الشيخ يحيى الشيخ زهرون بتخصيص راتب شهري له مقداره ( 30 ) ليرة عثمانية لقاء تعاونه وتحقيق ما يطلبه منه الإنكليز .

ولم يكتفوا بذلك فقد قدموا له عرضا بمنحه سلفة مالية مقدارها ( 300 ليرة ) عثمانية إلى الشيخ يحيى لبناء ( مندي للصابئة وتحمل ساريته الصليب )وذلك لجعل الصابئة يتبعون الكنيسة المسيحية وهذا العرض قد وافق عليه الشيخ يحيى الشيخ زهرون...! )

لكن أبناء الصابئة وعلى رأسهم الشيخ داموك وبقية رجال الدين عندما سمعوا بهذا الخبر انتفضوا واستنكروا وعم الغضب لدى كل أبناء الطائفة في كل مكان وطالبوا الشيخ يحيى بالتنحي وسحب الثقة منه .

استطاع الشيخ داموك بحكمته وذكاءه وقدرته وشجاعته إن يحتوي الموقف ويسيطر عليه ويهدأ المندائيين.... فوقف متحديا تايلور والشيخ يحيى لهذا المخطط الخطير ويبدوا إن السلطة العثمانية كانت على علم بما يقوم به هؤلاء وهنالك من يعمل لصالح السلطة العثمانية فهي كانت ترصد تحركات ونشاطات هذه البعثات وهم على غير مودة مابين الحكومة العثمانية وقدوم الإنكليز.

وعلى ضوء هذه الإحداث قررت الحكومة التركية ومن خلال قائم مقام العمارة وبالتنسيق مع الشيخ داموك على نفي الشيخ يحيى إلى مدينة ناصرية الأهواز وفرض الإقامة الجبرية والمراقبة عليه وكان الغرض من هذا الأجراء هو حمايته من السلطة العثمانية ومن غضب أبناء الطائفة عليه

وبعد قضاء مدة من هذا النفي أعفى والي بغداد نامق باشا عن الشيخ يحيى وعاد إلى مكانه.

لم يستطيع المبشرين ورجال الساسة الفرنسيين والإنكليز من تحقيق أهدافهم لكسب أبناء الصابئة للديانة المسيحية وذلك بسبب قوة ايماتهم وتمسكهم بدينهم وبوجود رجال دين مخلصين ويمتلكون من الثقافة والمعرفة الدينية والحكمة والعزيمة والقوة والشجاعة للدفاع عن هذه الديانة وأبنائها ، كانوا يعملون لليوم الأخر لا للمنافع والمطامع والمصالح الشخصية وهذا ما كتبه لهم أبناء الطائفة وغير أبناء الطائفة في صفحات التاريخ

المحور الثاني

الشيخ دخيل الشيخ عيدان الشيخ داموك يدافع عن المندائيين

تعرضت الطائفة إلى كثير من الويلات والنكبات عبر تأريخها الطويل ، وهذا ما لمسناه خلال معايشتنا وما قراناه في كتبنا وشروحنا الدينية ولكن بقوة المؤمنين ورجال الدين وأيمانهم وتضحياتهم حافضوا على هذا الدين عبر أجيال متعددة من الانقراض والضياع ..!

هاهو السر الذي ساعد هذه الطائفة البسيطة بكل إمكانياتها المتواضعة أن تبقى وتصمد طيلة هذه السنين .. ؟؟ ألا هذا يفسر بأن هنالك سر أو قوة عظيمة تقف وراء هذا الدين...! دين يهانا ...

وهذا ما قاله الكهنة إلى يهانا في أورشليم ( يايحى ، النار ، لن تحرقك ، والسيف لن يقطعك ، مادام اسم الحي منطوقا عليك ، يا يحيى بابن الحياة ، استقر هنا ....)

من مواعض دراشة يهيا

لقد وهب الحي العظيم هذه الطائفة وانعم عليها بوجود عائلة الشيخ داموك وجذورها التي تمتد مع جذور الدين المندائيي ، فكانت خير من حافظ ودافع وضحى للدفاع عن الدين والصابئة ، فكانت لهذه العائلة العريقة وعلى امتداد تأريخها مواقف وإنجازات كثيرة وعلى يد رموزها .

ما قام به الشيخ داموك وأجداده الآخرين في مسيرتهم لخدمة الدين والطائفة سار عليه حفيدهم الشيخ دخيل وواصل هذه الأعمال الخالدة وهذا ما نقل لنا عن والدنا وعائلتنا لهذه الإحداث حينما وقف بوجه المعتدين الذين أرادوا الشر لهذه الطائفة ، وكما دونت هذه الإحداث من قبل المندائيين الذين عاصروا الشيخ دخيل لتلك الإحداث ومن بينهم المعمر المرحوم خضر جاسر سلمان أل سعد في تسجيل مصور له ومن ضمن برنامج شخصيات مندائية ، يتحدث عن هذه البطولة والشجاعة والإصرار للدفاع عن الصابئة من المعتدين.

خلال ثورة العشرين انتفضت بعض العشائر في جنوب العراق بوجه الإنكليز في تلك الفترة كما نشبت أيضا انتفاضة ( ريسان أل كاصد ) في سوق الشيوخ كما ثارت بقية العشائر في الناصرية والسماوة والديوانية ، فعمت الفوضى والاضطرابات وساد التوتر في معظم مناطق الجنوب ، تزامنت هذه الإحداث بدخول الإنكليز واحتلال العراق ، هذه الأوضاع ساعدت على الانفلات الأمني وانتشار العنف والقتل والسرقة والاعتداء والسلب واستغلت هذه الأوضاع لتصب غضبها من قبل الحاقدين والمعتدين والمتطرفين وقطاع الطرق على الحلقات الضعيفة في المجتمع وهي الأقليات الدينية وفي مقدمتها الصابئة وكانت لهم الحصة الكبيرة دائما في هذه الاعتداءات وهذا العنف والظلم ...

لقد تعرضت محلة الصابئة في سوق الشيوخ إلى كثير من الاعتداءات من حرق بعض البيوت وسرقة حيواناتهم وزوارقهم وسرقة ممتلكاتهم ومحلاتهم من قبل العصابات والمتطرفين والحاقدين وقطاع الطرق وهؤلاء كانوا يسكنون في القرى والعشائر المجاورة والمحيطة لمحلة الصابئة ، فقد كان موقع محلة الصابئة ممرا يستخدم لمرور هؤلاء من والى المدينة وهذا ما شجع هؤلاء في استغلال تنقلاتهم ومرورهم خاصة إثناء الليل للاعتداء عليهم

التقى الشيخ دخيل بالمسؤلين العسكريين والقائم مقام وعرض عليهم هذه التجاوزات وطلب منهم التدخل وحماية الصابئة وكان رد المسؤلين بعدم وجود قوة كافية للقيام بهذه المهمة وقالوا له طلبنا قوة اظافية وفي حالة وصولها سنقوم بردع هؤلاء ..

مضت أيام وازداد الوضع سوء ولم يتخذ المسؤلين اى تحرك ضد المعتدين وهذا أدى إلى نفاذ صبر الشيخ دخيل على هذه الأوضاع فطلب اللقاء مرة ثانية مع القائمقام والمسؤل العسكري واجتمع معهم وبعد التداول اتخذوا قرار على قيام قوة من ( الحرس الموجود في المقر) وعددهم لا يتجاوز 9 على ظهر مركب صغير يحمل رشاش في مقدمته وتحت إمرة وتوجيه الشيخ دخيل كدليل للمواقع والتجمعات والعشائر التي ينطلق منها هؤلاء المعتدين وأصدر القئمقام توجيها للجنود المرافقين للشيخ دخيل بإطاعة وتنفيذ ما يطلبه منهم الشيخ دخيل.

قبل القيام بهذه المهمة عاد للبيت واخبرهم بما اتفق مع القائمقام فطلب من زوجته إعداد له حفنة من التمر وطاسة لشرب الماء ..... اعترضت عليه عائلته وطلبت منه إن لا يقدم على هذه المجازفة وربما قد يتعرض لحادث كما تعرض له أبوه الشيخ عيدان وقتل في يوم البنجة ... قالوا له اترك هذا العمل ورشح غيرك لهذه المهمة فرفض وإصر على القيام بهذه المهمة وقال أنا ذاهب وبيت هيي معي ودعائي إن يوفقني وألقن هؤلاء درسا من اجل حماية المندائيين .

رافق الشيخ دخيل هذه القوة النهرية متجولين في المناطق وأماكن تجمعات العشائر التي تعتدي على الصابئة في المناطق المجاورة لمحلة الصابئة وضربت هذه المناطق السكانية بالأسلحة وحصلت مواجهات متبادلة بين الطرفين واستمرت هذه القوة بمحاصرة هذه التجمعات وإطلاق النار عليهم لمدة ليلة كاملة ولغاية عصر اليوم التالي . وبصحبة الشيخ دخيل

بعد هذه المواجهة شعرت هذه العشائر بالخوف وتراجعت أمام الحكومة والتزمت الهدوء وشعروا بأن الحكومة ستستمر بملاحقتهم وأصبحوا مهددين وبأ مكان الحكومة ضربهم وتلقنهم درسا متى تريد وبذلك عاد الاستقرار والهدوء لمحلة الصابئة وباقي المناطق في منطقة سوق الشيوخ .

بعد هذه المهمة قام الشيخ دخيل لزيارة القئمقام وكان هنالك البعض من رؤساء العشائر التي تنتظر للحصول على رخصة لمقابلة القائمقام فعندما سمع القائمقام بقدوم الشيخ دخيل قدمه على الآخرين من رؤساء العشائر وطلب مقابلته فورا وهذا الأمر قد أغاض هؤلاء ، وفي مقابلته الثانية طلب بتكرار هذه الدورية لهذه القوة من اجل استتاب الأمن والاستقرار للمنطقة وهذا ما تحقق .

بهذه الوقفة الشجاعة للشيخ دخيل وغيرها من المواقف الكثيرة التي اتخذها للدفاع عن الدين والطائفة شعروا المندائيين بالفرح والفخر والزهووالامان نتيجة ما قام به شيخهم ورئيسهم وأزداد تعلقهم وحبهم وإيمانهم به وبشجاعته وبطولته وهذه وقفات الرجال العظام الذين يقفون وقت الشدة يدافعون عن مبادئها وسمعتها وكرامتها ، فإذا قالو فعلوا وإذا تحدثوا صدقوا ، والكلمات عاجزة عن تخليد مآثره ...

لهذه الأعمال والمواقف انضم اسمه في السجل العالمي للأشخاص المميزين والقادة العالميين الذين ساهموا بهذا العمل ألتأريخي وهذا ما دون في معهد البحوث للسير الذاتية العالمية الطبعة الرابعة

الهوامش

الأستاذ نزار ياسر

ملكة بريطانيا العظمى فكتوريا أصدرت فرمانا لحماية المندائيين في منتصف القرن التاسع عشر المنشورة في اتحاد الجمعيات المندائية

الأستاذ المحامي شريف جودة السهر

لمحات من تاريخ الصابئة المندائيين في أواخر عهد الاحتلال العثماني المنشورة في أفاق مندائية

الأستاذ سالم الشيخ جودة الشيخ داموك

شيخ داموك ورئاسته لطائفة الصابئة المندائيين المنشورة في مجلة أفاق مندائية

المعمر المرحوم خضر جاسر سلمان والد كل من ناصر وليلو والدكتور جابر

يتحدث في لقاء معه عن الشيخ دخيل ومن ضمن برنامج شخصيات مندائية

نشرت في تاريخ

صفحات نادرة من حياة الليدي دراور ( أثل ستيفانا ) التي عايشت الصابئة المندائيين في العراق

يعود الفضل في اكثر الدراسات التي ظهرت في بريطانيا بداية القرن العشرين حول الصابئة المندائيين للمستشرقة الأنجليزية الليدي دراور التي عايشتهم مدة تزيد عن الأربعين عاما في اماكن تواجدهم في بغداد و جنوب وادي الرافدين.

ولدت أثل مي ستيفنسن ـ وهذا هو اسمها قبل الزواج ـ سنة 1879 في لندن وقضت طفولتها المبكرة في نيو فوريست حيث كان والدها يعمل قسيسا في كنيسة بيرلي . وكانت تتردد في شبابها على جماعات الغجر في منطقة فوريست فتعلمت لغتهم . وعندما انتقلت عائلتها الى ساوث هامبتون بعد ان عين والدها رئيسا لأبرشية المدينة قامت بوضع قاموس عن لغة الغجر بعد ان استعانت بكتاب خاص عن قواعد اللغة السنسكريتية . وعلى الرغم من هذا القاموس لم ينشر في حينه الا انه عد دليلا على اهتماماتها اللغوية التي تخصصت فيها فيما بعد.

كانت اثل متفوقة في دروسها الا انه لم تتوفر لذويها الاموال الكافية لارسالها للجامعة، فسافرت الى المانيا لدراسة الموسيقى والعزف على آلة الكمان ولكن سرعان ما تملكها الملل فعادت الى بريطانيا بعدما شعرت ان لديها الرغبة في الكتابة . التحقت اثل بمدرسة خاصة بالصحافة في لندن اتاحت لها تدريبا ممتازا في مجال مراجعة ونقد الكتب المعدة للنشر وكذلك اعداد التقارير واجراء المقابلات الصحفية . وقد توفرت لها فيما بعد فرصة طيبة للعمل سكرتيرة لدوغلاس سليدن صاحب موسوعة Who Is Who المعروفة التي كان يتهافت عليها المشاهير لنشر اسمائهم فيها فتعرفت على كثير من الادباء والمؤلفين والنقاد والمترجمين والمستشرقين والشعراء واقامت نوعا من الصداقات مع بعضهم .

رافقت اثل سليدن وزوجته وابنه الى جزيرة صقلية التي كان سليدن يعد كتابا سياحيا عن منتجعها الشتوي في ساراكوزا وكانت مهمة اثل هي جمع المعلومات المتعلقة بتاريخ وتراث وتقاليد شعب صقلية . وفي هذه الاثناء بدأ سليدن يناديها باسم ( ستيفانا ) تحببا ، وبقي هذا الاسم مرافقا لها واصبح الجميع يناديها به ، حتى عائلتها . وقد سافرت ستيفانا مع سليدن وعائلته الى تونس هذه المرة لوضع كتاب سياحي عن معالمها وساهمت هي بكتابة بعض فصوله .

تولهت ستيفانا بتونس وشرعت بتعلم اللغة العربية والكتابة عن سحر هذه البلاد وشيوخها وامرائها وآثارها الفريدة ومدنها القديمة كقرطاج ، وبعد انتهاء مهمتها مع سليدن عادت الى لندن وعملت في دار للنشر والتأليف ولكن حنينها لتونس جعلها تقترض بعض المال فعادت اليها بصحبة صديقة لها واقامتا في مدينة القيروان التي كانت مهدا لروايتها الأولى ( النقاب ) وكانت رواية رومانسية قامت بنشرها مؤسسة ميلز اند بون . لاقت هذه الرواية رواجا كبيرا مما امن لها دخلا جيدا اتاح لها التجوال في منطقة الشرق الاوسط خلال السنين التالية ، فسافرت الى اسطنبول اولا ثم حيفا والقدس حيث التقت في جبل الكرمل بعبد البهاء الرئيس الروحي والديني للبهائيين واقامت صداقة حميمة مع بناته . توسم عبد البهاء في ستيفانا ذكاءا متوقدا الا انه لم يفلح في اقناعها باعتناق البهائية بالرغم من القائه المواعظ الدينية الطويلة عليها . وفي هذه الاثناء الفت روايتها الثانية ( جبل الله ) التي مازال البهائيون يعتزون بها ايما اعتزاز .

ابحرت ستيفانا في عام 1910 من القاهرة جنوبا على متن زورق حكومي في النيل باتجاه السودان مخترقا اراضي الدنكا والشيلوك التي تعج بالافيال والتماسيح والفت اثناء ذلك رواية ثالثة. وعند وصولها الخرطوم التقت بمحام انجليزي شاب يدعى أدوين دراور يعمل هناك فتوثقت علاقتهما وتزوجا في لندن في اجازة الصيف التالي ورزقا ببنت هي مارجريت (التي اصبحت عالمة مرموقة بتاريخ وآثار الحضارة المصرية ) وولد هو بيل. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى التحق أدوين بالجيش وعين ضابطا بشعبة تابعة للاستخبارات العسكرية البريطانية في نيويورك . أما زوجته ستيفانا فانتقلت مع طفليها مارجريت وبيل الى وينشستر ، وهناك كتبت عدة روايات كانت احداها عن الغجر .

وبعد ان وضعت الحرب العظمى اوزارها في ربيع سنة 1919 عين أدوين دراور قاضيا في البصرة لاتقانه اللغة العربية ولضلوعه بالقوانين التركية ـ اي بعد انهيار الامبراطورية العثمانية ووضع العراق تحت الانتداب البريطاني . وبعد سنتين تم نقله الى بغداد مستشارا قانونيا للدولة العراقية قبيل تأسيسها فالتحقت به زوجته ستيفانا اواخر سنة 1920 ، وكانت سعيدة بقدومها الى بلد عربي ، بالرغم من قلقها على طفليها اللذان تركتهما في انجلترا برعاية جدتهم وجدهم لأبيهم .

كان السفر من بريطانيا الى العراق عن طريق البحر يستغرق وقتا طويلا لكونه يمر حول الجزيرة العربية ومن ثم الى الخليج فالبصرة ، الى ان قامت شركة ( نيرن أخوان ) بتسيير رحلات برية من بغداد الى دمشق عبر الصحراء بواسطة سيارات مكشوفة ثم بالباصات ، وكانت الرحلة تستغرق يومين . ومن دمشق كان باستطاعة المسافر الى انجلترا ان يكمل رحلته الى لبنان و من ثم الى حيفا حيث يستقل احد المراكب المتوجهة الى جنوا او مارسيليا ومن هناك الى كاليه في فرنسا بالقطارات ثم بالعبارات الى دوفر ومنها الى لندن. وقد قامت السيدة دراور بهذه الرحلة اربعا وثلاثين مرة على الاقل قبل تسيير خط سكك حديد موصل ـ حلب ـ اسطنبول الذي كان استهلالا لتسيير قطار الشرق السريع المعروف .

لقد وجدت ستيفانا دراور نفسها في مكان مألوف فاختلطت بالعراقيين ودارت في شوارع وأزقة واسواق بغداد وتعرفت على طبيعة الناس على العكس من باقي زوجات الموظفين والضباط البريطانيين اللواتي كن يمضين وقتهن بلعب ( البريدج ) والتنس والسباحة في النادي البريطاني المعروف حاليا بنادي ( العلوية ). وسافرت الى الموصل والى الشيخ عدي والتقت باليزيدين وذهبت حتى مضارب عشائر شمَّر في بادية الموصل واستقبلها الشيخ عجيل الياور ورحب بها . وبتشجيع من زوجها عملت دراور على جمع الموروث الفولكلوري العراقي ، وكانت مهتمة الى حد بعيد بالقصص والحكايات الشعبية تستمع لرواتها وتدون ما يحكوه لها . وكانت احداهن وتدعى ( ليلي ) تزورها وتجلس معها الساعات الطوال في حديقة دارها وهي تروي لها ما تحفظه . وقد جمعت هذه الحكايات في كتاب اصدرته سنة 1931 وكان بعنوان ( حكايات شعبية من العراق ) .

ولدى اقامتها في البصرة لفت انتباهها مجموعة غريبة من الناس تعيش في مناطق الاهوار ودلتا نهر دجلة وكذلك في المحمرة والاهواز وكانت بيوتهم من البردي والقصب ويمتهنون صناعة القوارب والحدادة وصياغة الفضة والذهب ويتحدثون بالعربية ولكن لهم لغتهم الخاصة التي يدونون بها كتبهم المقدسة التي استنسخوها جيلا بعد جيل ، ويطلقون على انفسهم تسمية المندائيين او مندايي ، ولكن جيرانهم العرب يسمونهم الصبَّة ومفردها صَبّي ، وتتمحور طقوسهم حول كوخ من القصب يسمونه ( مندي ) وتشمل هذه الطقوس الارتماس بالماء الجاري ويقوم بها رجال دينهم الملتحون كما تشتمل هذه الطقوس على وجبة طعام قدسية لا تختلف كثيرا عن وجبة التناول المقدسة لدى المسيحيين مما جعل الغربيين يسمونهم مسيحيو يوحنا المعمدان . لقد اثارت هذه الطائفة فضول دراور الشديد فقررت التقرب من المندائيين فرحبوا بها كثيرا وابدوا استعدادهم لمعاونتها في التعرف على لغتهم ودينهم وعاداتهم وطقوسهم ، فقضت الساعات الطوال وهي تراقبهم اثناء تأديتهم مراسيم ديانتهم وطقوسهم وتدونها بدقة وبكل تفاصيلها في سجل خاص وتلتقط لهم الصور الفوتغرافية بآلة التصوير التي لا تفارقها .

وفي عام 1923 نشرت دراور كتابها الثاني اثناء وجودها في العراق وكان بعنوان (على ضفاف دجلة والفرات) ضمنته فصلا كاملا عن المندائيين كان بعنوان ( شعب غريب الاطوار) دونت فيه وبشكل مفصل طقوس التعميد المندائية ، كما اشارت الى بعض كتبهم المقدسة . وقد طلبت دراور من بعض رجال الدين المندائيين نسخ بعض الكتب المندائية والدواوين المقدسة فتم لها ما ارادت . وكانت دارور تسافر من بغداد ـ محل اقامتها ـ الى العمارة مرة واحدة على الأقل في كل سنة لتلتقي بالمندائيين هناك ولكي تستكمل بحوثها عنهم وخصوصا في ايام عيد الخليقة الذي يطلق عليه العامة (البنجة) اي الخمسة ايام المقدسة التي تتوافق مع اعياد الربيع .

ومنذ بدايات اهتمامها بهذه الطائفة صممت دراور على تعلم اللغة المندائية فاستعانت لهذا الغرض باحد معارفها في فيينا ليحصل لها على اعمال المستشرقين الذين سبقوها بدراسة النصوص المندائية مثل البرفسور ليدزبارسكي ونولدكه والسيوفي وآخرين كخطوة مهمة أولى، وبدات بتعليم نفسها ذاتيا اللغة المندائية . ولصعوبة هذه اللغة وعدم توفر قاموس خاص بها يساعدها في هذه المهمة ، شجعها الدكتور موسيس كاستور على البدء في عمل قاموس مندائي كما بين لها طريقة عمل القاموس وذلك بتدوين كل كلمة على بطاقة منفصلة وفق حروفها الابجدية . وفعلا اوصت دراور على صندوق معدني ذو ادراج خشبية تحتفظ فيه بالبطاقات مفهرسة. وفي عام 1937 قامت بنشر كتابها الشامل عن المندائيين وكان بعنوان ( مندائيو العراق وايران ) والذي قام بترجمته الى العربية فيما بعد كل من المندائيين نعيم بدوي وغضبان رومي باسم (الصابئة المندائيون).

وفي عام 1942 اندلعت ازمة سياسية في العراق ، والذي كان يرزح تحت الانتداب ، تمثلت بحركة رشيد عالي الكيلاني ضد حكومة نوري السعيد الموالية لبريطانيا، فاحتمى الموظفون البريطانيون داخل مبنى السفارة البريطانية وكذلك في سفارة الولايات المتحدة الامريكية التي لم تكن قد دخلت الحرب العالمية الثانية بعد. اما النساء والاطفال البريطانيين فتم اجلائهم بما خف حمله وهو عبارة عن حقيبة ملابس واحدة لكل عائلة بناء على الاوامر التي وصلت من لندن الى السفارة البريطانية في بغداد على عجل . وقد رفضت دراور مغادرة العراق ما لم يسمح لها بأخذ الصندوق الثمين الذي يحتوي على القاموس المندائي والتها الكاتبة وكتبها ومدوناتها الخاصة بالمندائيين. وبناء على اصرارها صرح لها بذلك فغادرت مع البقية الى البصرة ومن ثم بالباخرة الى الهند . واثناء فترة بقائها في الهند اطلعت عن كثب على طقوس (البارسي) الشبيهة بالطقوس المندائية ودونت الكثير من الملاحظات عنها والتي ضمنتها في كتابها على شكل هوامش ومقارنات .

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عادت دراور الى بريطانيا وعكفت على ترجمة الكتب والنصوص المندائية ونشرها وعلى اكمال القاموس المندائي . وفي هذه الاثناء منحت بريطانيا زوجها ادوين دراور لقب فارس لأداءه المتميز في خدمة التاج البريطاني ، ولكن صحته تردت بعد ذلك وتوفي في عام 1951 نتيجة عجز اصاب كليتيه بسبب حرارة الصيف اللاهبة التي تعرض لها اثناء خدمته في العراق . وبعد وفاة زوجها قررت ستيفانا الانتقال الى مدينة أوكسفورد حيث كان يسكن العديد من زملائها الباحثين واصدقائها المقربين ، وكان قرارا صائبا اذ نعمت بزياراتهم التي خففت عنها وحدتها وهي في بيتها الصغير ، كما ان سكنها بالقرب من جامعة اوكسفورد اتاح لها ارتياد مكتبة (بولدين) الضخمة والتابعة للجامعة بسهولة ويسر .

ومن اجل ان يكون عملها مستوفيا كل شروط البحث العلمي ادركت دراور بأنه يترتب عليها القيام بتسجيل صوتي للغة المندائية مباشرة من رجال الدين المندائيين اثناء تأديتهم لطقوسهم الدينية ، فعادت الى العراق سنة 1952 وبدأت بتنفيذ هذا المشروع بعد ان ساعدتها شركة نفط العراق باحضار آلة التسجيل جوا . كما تبرع احد موظفي الشركة المذكورة بتزويدها بكاميرا سينمائية وتطوعت زوجة ذلك الموظف بمرافقتها الى العمارة ومناطق الاهوار حيث يقيم المندائيون لمساعدتها في هذا العمل ، فسافرتا الى قلعة صالح وانجزتا تسجيل الفيلم بالرغم من مرض دراور الشديد نتيجة اصابتها بالملاريا . وقد عرضت دراور الفيلم اول مرة اثناء انعقاد المؤتمر الشرقي في جامعة كامبردج عام 1953 والذي حضره جمع غفير من العلماء المختصين من كل انحاء العالم. وفي أوكسفورد استمرت بالعمل على انجاز القاموس المندائي ولكنها شعرت انها بحاجة لمن يتقن اللغات السامية ، فقامت باستدعاء شابا تشيكيا يدعى رودولف ماتسوخ يعمل استاذا في جامعة طهران لمساعدتها في انجاز القاموس . كان التعاون مثمرا وتكللت جهودهما المشتركة باصدار أول قاموس للغة الآرامية المندائية وذلك في اوائل سنة 1963 .

دأبت دراور على شراء الكتب المندائية من رجال الدين الصابئة ومنهم الشيخ نجم فجمعت نحو ستين منها كونت مجموعة نادرة قامت بإهدائها فيما بعد الى مكتبة بولدين مع التسجيلات الصوتية والافلام لينتفع منها طالبو العلم ، وقد ترجمت هي تسع من هذه الكتب النادرة من المندائية الى الانجليزية.

منحتها جامعة اوكسفورد شهادة الدكتوراه الفخرية عام 1954 لبحوثها المهمة في مجال دراسة طائفة الصابئة المندائيين مما اسبغ عليها سعادة غامرة عوضتها عن عدم التحاقها بالجامعة عندما كانت شابة في مقتبل العمر ، كما منحتها جامعة ( اوبسالا ) السويدية شهادة مماثلة تقديرا لجهودها العملية الكبيرة مجال الصابئة المندائيين . وفي صيف عام 1964 استدعتها السفارة الألمانية في لندن وقلدتها نيابة عن الحكومة الألمانية أعلى وسام في الدراسات السامية وهو وسام ليدزبارسكي تثمينا لها على ما ماقامت به من بحوث وتراجم حول المندائيين والتي استمرت لأكثر من نصف قرن.

قضت الليدي دراور ايامها الأخيرة بسلام في دار لرعاية المسنين شمال لندن وكان يزورها افراد اسرتها واصدقائها وزملائها باستمرار وتوفيت سنة 1972 عن عمر ناهز 92 عاما . وقد دونت في مذكراتها عن طائفة الصابئة المندائيين ما يلي : " ان تتمكن طائفة غنوصية قديمة من البقاء حتى وقتنا الراهن هو امر مثير للعجب , وأن تصان الكثير من كتبهم وتعاليمهم السرية ودواوينهم الطقسية هو اقرب ما يكون للمعجزة . ان هذه الطائفة تضمحل بسرعة، رجال دينهم طاعنون في السن واعداد المؤمنين منهم في تضائل سنة بعد اخرى . اني اشعر بالفخر كوني عاصرت عن كثب دينا ربما سيندرس بعد حين".

نشرت في تاريخ
الجمعة, 05 نيسان/أبريل 2013 10:21

صابئة حران والمندائيون اليوم

لقد تحدث في هذا الموضوع اغلبية الباحثين والكتاب والمؤرخين، قديما وحديثا، العرب والاجانب، المندائيين وغير المندائيين .. وبقيت الاراء متضاربة مابين مؤيد ورافض لفكرة ان صابئة حران هم امتداد للصابئة الموجودين في بطائح العراق.

اعتقد ان هذا الموضوع يجب ان يولى اهمية كبيرة من قبل الباحثين وخاصة المندائيين منهم لانهم وبكل بساطة معنيين بالموضوع اكثر من غيرهم، فبالاضافة الى حقيقة البحث العلمي مهما تكن، والتي من المفروض ان يلتزم بها الباحث ايا كانت جنسيته او دينه او اتجاهه السياسي او الادبي .. الخ .. فهنالك امر اخر يجب على الباحثين المندائيين ان يعوه وهو مسالة اظهار الحقائق عن دينهم وتراثهم ووجودهم التاريخي، لانه الدفاع عن الهوية والوجود المندائي، واعتقد شخصيا ان هذا الجانب، اقصد صابئة حران والمندائيين، له من الاهمية في اظهار الكثير من الامور الخافية، واثبات لحق مفقود، وتواجد تاريخي على الساحة الانسانية يجب ان لانهملها البتة في التاريخ المندائي.

ونحن نرى بان كلمة حران والقصص المتداولة حولها في المندائية لم تاتي في الكتب المندائية او في التراث المندائي المتداول اعتباطيا, وانما له ربط جدا وثيق ما بين هذه المدينة بكل ما تمثله على مختلف الاصعدة والصابئة المندائيون. ولا يلاقي أي من المهتمين صعوبة في الانتباه لتلك العلاقة عند قراته لكتب التراث العربي والتي زخرت بالكثير من الروايات حول هذا الموضوع .. واني لا ادعي بان تلك العلاقة هي واضحة وضوح الشمس ولا غبار عليها, فعلى العكس تشوبها الكثير من علامات الاستفهام التي تنتظر الباحثين والمهتمين للاجابة عنها. ولكني ادعو لعكس منهج البحث من عدم وجود تلك العلاقة مابين الصابئة الحرانيون والصابئة المندائيون (صابئة الوقت الحاضر) الى وجودية تلك العلاقة ولنجعلها منطلقا لدراساتنا حول ذلك الموضوع, وسوف نرى بان هناك الكثير يستحق اعادة النظر في تلك المسالة الشائكة ربما. بالاضافة الى الانتباه وعدم نسيان للزمن والعصر الذي تعيشه الطائفتين اللتان نقارنهما.

فحران التي نقصدها بحديثنا في هذ ه المقالة ، من المدن الهامة، في التأريخ الانساني، والصابئة المندائيون لهم حصة في هذا التأريخ العريق لا بل من صناعه ومن مبدعيه الأوائل، لانهم من الأقوام التي سكنت هذه المدينة .. التي سمي بها كتابهم التاريخي (حران كويثا).

وفي الحقيقة توجد اكثر من مدينة سميت حران، فحران في تركيا وحران في سوريا وحوران في العراق.

وادي حوران في العراق:

وهذه ملفتة للنظر للغاية وتحتاج إلى دراسة وبحث، بالإضافة إلى تنقيب اكثر جدية في هذه المنطقة التي تقع ما بين محافظتي كركوك والرمادي ،في الهضبة الغربية بالذات، وكانت تعرف (بصرى) وهي عاصمة الأنباط، وتقع على طريق تجاري معبد ومهم في الحضارات السابقة (بين الشام ومصر وبلاد فارس) .. ففي عام 1995 نشرت مجلة (ألف باء) العراقية مقالا مطولا عن رحلة قامت بها مجموعة من الباحثين الجيولوجيين إلى هذه المنطقة لدراسة طبيعة الأرض، وصدفة وجدوا الكثير من النقوش والرسوم القديمة المحفورة على جدران الصخور الكبيرة هناك، ولا أريد هنا ان أتجنى كوني مندائيا ولكن الصور المنشورة وما حوته من رسوم أدهشت كل من رآها وتمعن بها، واعتقد بان للمندائيين شيئا من هذه المنطقة!!.. فكتبت إحدى الزائرات لهذه المنطقة وهي الدكتورة سحر شاكر مقالة في المجلة المذكورة وتدعوا المنقبين والباحثين المختصين للذهاب واستطلاع الامر، باعتبار ان هذا الموضوع هو ليس من اختصاصها الذي هو علم طبقات الأرض، وقد دبجت مقالتها بعناوين((اكبر متحف عراقي في الهواء الطلق، تتمنى متاحف العالم ان تحوز على قطعة واحدة منه .. الإنسان العراقي القديم يترك آثاره قبل 2500 إلى 7000 سنة قبل الميلاد)). وقد حاولت مع بعض الاخوة والأخوات المندائيين المهتمين ان نصل إلى تلك المنطقة بعد اخذ الموافقات الرسمية، وبمصاحبة الدكتورة المذكورة، ولكن اصطدمنا بعائقين أساسيين هما الدعم المادي المكلف، ورفض دائرة السياحة للطلب المقدم لان هناك ثكنة عسكرية للجيش العراقي قرب المنطقة.

معنى كلمة حران:

جاء في كتب المؤرخين العرب عدت معاني نلخصها كالآتي:

• · ابن جبير (إنها بلد اشتق تسميته من هوائه).

• · ياقوت الحموي (سميت بهاران ، أخي إبراهيم الخليل ، لانه أول من بناها فعربت ، فقيل حران).

• · الطبري (أن نوحا خطها ، عند انقضاء الطوفان ، وخط سورها بنفسه وفيها منازل الصابئة).

• · أبا الفرج ابن العبري (ان الذي بناها هو قينان على اسم هاران ابنه).

• · هناك رأي عند بعض العلماء بان معنى حران (الطريق).

• · والبعض الآخر يقول بان حران جاءت من ألاكدية (حرانو HARRAANU ) بمعنى محطة او عاصمة تجارية، وذلك بالنسبة الى موقعها المميز بين اشور وبابل وسوريا.

المندائية من العقائد الباطنية:

من المعروف عند جميع الباحثين ان المندائية في مراحل كثيرة من تاريخها صح تصنيفها من ضمن العقائد الباطنية أو السرية التي لا يفشي معتنقيها أسرار وأمور عبادتهم وفكرهم ، وليس موضوعنا ألان ان نبحث بالأسباب الحقيقية التي جعلت المندائيين يخفون أفكارهم وعقائدهم ويتجنبون البوح بها وان ينظروا إلى سريتها بالمنظار المقدس ..وسوف نقوم به في مناسبة أخرى .. من هذا المنطلق فمن الطبيعي جدا ان لملة كهذه مغلقة على نفسها لا تفشي من أسرار عبادتها شيء .. ان تنعت وتوصف من قبل المؤرخين ، لا بل وحتى في نظر الناس المجاورين لهم ، بنعوت وصفات لا تمت إلى حقيقة عقائدهم بشيء .. فتكثر بذلك الدعايات والتؤيلات والتفاسير العيانية الغريبة لمجمل الفعاليات والمراسيم التي يمارسها معتنقي هذا المذهب .. ولان الديانة المندائية ديانة غير تبشيرية او أغلقت لاسباب كثيرة ومن مدة طويلة .. ولان أصحاب هذا المذهب حافظوا على عدم الكشف عن أسراره منعا للإساءة أليه عند عدم فهمه أو للضغوط والاضطهاد الكبير الذي تعرضوا أليه على فترات مختلفة .. ولان التسامح والسلام صفة أصيلة في أهل هذا المذهب ومن أخلاقيات تعاليمهم الروحية.

فقد وجد البعض في هذه المرتكزات تربة صالحة لبذور افتراءاتهم الباطلة، ورواياتهم الرخيصة البعيدة عن الذوق والمنطق فاصدروا الإشاعات لترويج ما أبدعته نفوسهم المريضة من أباطيل، ودس رخيص واتهامات حاقدة، ومن هذه الأراجيف اتهام أهل التوحيد الأول والقديم بعبادة الكواكب والنجوم.

وحقيقة ان ابن النديم والشهرستاني مثلهم مثل بعض المؤرخين العرب القدماء لا يختلفون عن هؤلاء المؤرخين الذين دبجوا كتبهم بالكثير من الطوائف وتحدثوا عن معتقداتهم وأفكارهم .. وهم في الحقيقة بعيدين كل البعد عن حقيقة تلك الطوائف .. وهذا لا يخفى عن القارئ المحنك عند قراءته لكتاب الفهرست لابن النديم والملل والنحل للشهرستاني وغيرهم. فجميع الروايات التي نقلها ابن النديم والمسعودي عن عبادة وحياة الصابئة في حران، اعتقد بان مصدرها من الرهبان السريان والمؤرخون المسيحيون في منطقة الرها، الذين اشتهروا بعدائهم وغيرتهم من علماء ومفكري الصابئة الحرانيون الذين اشتهروا في بلاط الدولة الإسلامية، وارتفعت مكانتهم، فكانت سبب في النهضة العلمية والمعرفية آنذاك. على كل أن هذه الروايات ليست سوى دعايات رخيصة هدفها النيل من المكانة المميزة التي حضي بها الصابئة آنذاك.1 ¨

ولقد أعلن الكثير من العلماء المعاصرين مثل سميث وسيغال وحتى الليدي دراور، شكوكهم في ما يخص صحة الروايات التي نقلها الكتبة والمؤرخون العرب عن ديانة الصابئة في حران. فهم يعتقدون بأنه ليس من الحكمة الثقة برواة معادين.

اسم الديانة في حران:

يقول الكاتب محمد عبد الحميد الحمد في كتابه (صابئة حران واخوان الصفا) والباحث س. كوندوز في كتابه (معرفة الحياة) ان الحرانيون ليسوا بالصابئة. ويستخدمون اسم (ديانة حران، الديانة الحرانية) شانهم بذلك شان أغلبية الباحثين والمؤرخين، واعتقد على كثرة ما بحثته من هذه التسمية، أن فيها تشويها كبيرا للحقيقة .. كيف ذلك ؟!! هذا ما سوف اعرضه الان:

لا اعتقد بان هذه هي التسمية الحقيقية لهذا الدين المجهول الاسم عند المؤرخين العرب القدماء، فمن غير المعقول أن يسمى دين على اسم مدينة !!

لقد ذكرنا بان مدينة حران، مدينة متعددة الشرائع والعبادات حالها حال مدينة بغداد مثلا، فمن الخطا ان نطلق تسمية ديانة بغداد او الديانة البغدادية!!.. ونحن بذلك نختزل جميع الديانات والاتجاهات الفكرية في تسمية واحدة ونبخس حق كل دين موجود في المدينة، وبذلك تضيع الاتجاهات الوثنية مع الديانات التوحيدية!!.

ومن جانب آخر ذكر مار يعقوب الرهاوي والمتوفى سنة (708) في كتابه الأيام الستة ((عندما اطلع على كتاب هرمس الحكيم وهو من كتب الحرانية المقدسة قال عنهم: وهؤلاء القوم عند الناس لهم اسماء مختلفة منها الكلدان والحرانيون والحنوفون)) .. نستنتج من كلامه شيئين مهمين، اولهما: ان هؤلاء القوم عند الناس والأقوام المجاورة يعرفون بعدة اسماء منها التسميات التي أوردها!!.. والسؤال هو ماذا كانوا هم يطلقون على أنفسهم؟! هل كانوا يطلقون على دينهم (دين حران) نسبة الى المدينة التي كانوا يقطنوها!! هل من المعقول والجائز ان يطلق اسم مدينة على دين!!.. وإذا أراد أحد المسيحيين في العراق ان يعبر عن جنسيته، ويقول انا عراقي، فهل هذا معناه ان ديانته عراقية او ديانته اسلامية باعتبار ان الدين الرسمي في العراق هو الإسلام!!.. نفس الشيء يحصل للفرد اليهودي او الصابئي الساكن مدينة حران، يقول انا يهودي حراني او يهودي من حران او انا صابئي حراني!!.. مثلما هناك تسميات أوردها بعض المؤرخين مثل صابئة البطائح وصابئة حران، فهذا لايعني بان هنالك فرقتين من الصابئة، وانما المراد بالتسمية التوضيح بان هذا الصابئي من حران وان ذاك من البطائح وهي منطقة في جنوب العراق!!.. وفي وقتنا الراهن سمعت تسمية مشابهة لهذه التسمية ويصح ان نوردها الان، فهناك ما يسمى بصابئة العراق وصابئة إيران، هل المقصود من هذه التسمية فرقتين او طائفتين من الصابئة؟!!.. فهذا اعتقد خلط كبير وواضح للتسمية التي أوردها المؤرخون قديما.

كما ان هنالك الكثير من الاسماء التي وردت في كتب المؤرخين التي تذيل بكلمة (الحراني) وهم ليسوا من الصابئة وانما بعض منهم مسيحيين او يهود او اسلام، وهذا يثبت ما ذهبت اليه.

ولقد ورد شيء جميل وملفت للنظر في كتاب (هدية العارفين) للباباني ص 5، وهو يتحدث عن ابو اسحاق الصابئي الحراني فورد الاتي:

(الحراني: ابو اسحاق ابراهيم بن سنان بن ثابت بن قرة ابن مروان بن ثابت الحراني ثم البغدادي الطبيب من الصابئة توفي سنة 335). اذن فكنيته تشير الى مكان وليست الى دين او معتقد او طريقة فكرية. فهو اشار بانه الحراني أي نسبة الى (حران) لانه جاء او اصله من تلك المدينة، ومن ثم اصبح البغدادي، لانه نشأ وترعرع وعاش فيها.

وان الأسماء التي أوردها مار يعقوب الرهاوي واضحة المعنى أيضا، وأنا أتساءل هل ممكن ان تعني تسميتهم بالكلدان، انهم من الأصل في وادي الرافدين ونزحوا الى تلك المدينة؟! أم ان لديهم ارتباط وثيق وصلة قرابة بالكلدان في وسط وجنوب العراق؟!!.. وماذا تعني يا ترى تسمية الحنوفون التي أطلقت عليهم من قبل الأقوام المجاورة، وهل ممكن ان تعني الحنفيون او الأحناف!!.. وللعلم ان هذه التسميات أيضا قد أطلقت على الصابئة المندائيون. فقد ذكر المسعودي في كتابه (التنبيه والاشراف) ص 86، بان دين الصابئة وهي الحنيفية الاولى.

المندائيون الفلسطينيون:

كان الصابئة يقطنون تلك المدينة المسماة بحران، وعندما هاجر الصابئة المندائيون الفلسطينيون في القرن الأول الميلادي بعد دمار أورشليم حوالي سنة 70 للميلاد على يد القائد الروماني تيطوس،صعدوا الى هذه المدينة، لان لهم اخوة في الدين. فبقي منهم في حران، والبقية الباقية اثرت النزول الى وادي الرافدين عن طريق النهرين، وخاصة عن طريق نهر الفرات حسب اعتقادي، ومروا ايضا ب(بصرى – حوران) عاصمة الانباط، للالتقاء والاستقرار اخيرا مع اخوتهم ايضا الصابئة الموجودين في البطائح .. وكانت هذه الهجرة تحت رعاية الملك اردوان (يعتقد بأنه الملك البارثي ارطبانوس)،هذا ما ذكره الكتاب المندائي التاريخي (حران كويثا).

ومن المهم ذكره هنا، بان هناك عين ماء تسمى (عين الذهبانية او عين العروس) ألان ، وموقعها جنوب تل ابيض مقابل إحدى أبواب مدينة حران التاريخية، والتي كانت تسمى من قبل أهل حران ب(المصبتا) أي بمعنى التعميد او الصباغة وهو الطقس المشهورة به ديانة الصابئة سواء أكانوا في حران او في بطائح العراق!!.. ويقال أيضا ان هذه العين تابعة لإبراهيم الخليل، هذا حسب ما أورده الكتبة والمؤرخون العرب ومنهم ابن جبير. ويروي أحد المشاهدين لهذا المكان بان عينه الجارية قد جفت في بداية التسعينات من هذا القرن. ويذكر أيضا بان هذه العين كانت للمياه الجارية الساخنة!!.. وكان الناس يقصدونها من اجل الشفاء من بعض الأمراض الجلدية خاصة. وهذا يذكرنا بالقصة المندائية المتوارثة حول تواجد أجداد المندائيين في منطقة جبلية، وكانوا يتعمدون في مياه ساخنة شتاءا!!.

ومن باب آخر إذا أسلمنا بقصة ايشع القطيعي النصراني، فلماذا بقت تسمية الصابئة إلى اليوم تطلق على هؤلاء الناس او ذلك الدين المجهول الهوية والاسم؟!!

وقد ورد في كتاب (شذرات من كتب مفقودة في التاريخ) الذي استخرجها وحققها الدكتور إحسان عباس، حديث عن كتاب (الربيع) المفقود لغرس النعمة بن هلال الصابئي، ولا اشد من انبهاري وانا أقرا ان معظم الروايات المنقولة على لسان غرس النعمة عن شخص قريب له يسمى أبو سعد الماندائي، إذ يقول غرس النعمة ((حدثني أبو سعد المندائي قال: ......الخ .. وحدثني المندائي ... الخ))، وهذه أول مرة تأتي هذه التسمية (المندائي) على لسان أحد الأشخاص المنتمين الى الصابئة الحرانية في النسب .. فقد كان والد جده أبو إسحاق الصابئي المترسل المعروف. وان المحقق للكتاب المفقود لم يعلق على هذه الكلمة (المندائي) واعتبرها اسم لعشيرة!!.. وللعلم ورد ذكر أحد العلماء المشهورين أيام العباسيين اسمه أبو الفتح المندائي، وهو صابئي من أهل حران!!. ومن الأهمية أن نذكر أيضا ورود اسم زهرون أو أل زهرون عند ذكر الكثير من أسماء الصابئة الحرانيون والمشهورون في البلاط العباسي. فاسم زهرون هو من الأسماء المقدسة الواردة كثيرا في النصوص الدينية المندائية، وهو اسم أحد الملائكة، وان نفس الاسم تكنى به عشيرة من كبريات العشائر المندائية ولحد ألان، وهي عائلة (أل زهرون).

الصابئة المندائيون في حران:

أن الصابئة المندائيون وحسب كل الدلائل والإشارات التاريخية كانوا يسكنون مدينة حران ومساهمون بتاريخها وحضارتها، ولكن هذا لايعني وجودهم في المنطقة لوحدهم .. وأما حران فهي مدينة كبيرة مختلفة الشرائع والعبادات والمذاهب .. حالها حال مدينة بغداد مثلا ، فيوجد فيها الصابئي والمسيحي واليهودي والمسلم واليزيدي وغيرهم . وكانت حران في مطلع القرن الثامن الميلادي، مجتمعا متعدد الاعراق والديانات. تعيش في ظل ثقافة عربية إسلامية، والظاهر ان أهل الرها الذين يدينون بالمسيحية كانوا على نقيض مع ثقافة حران فلذلك وردت حران في كتابات أهل الرها بأنهم عبدة أوثان ووصفوهم بمختلف الصفات السيئة وهذا يدل على وجود خلاف فكري وعقائدي معهم.

واعتقد أن المؤرخين العرب صار عندهم خلط واضح ما بين الصابئة المندائيين وتسميتها، وبعض الطقوس الوثنية وعبادة الكواكب التي تمارسها بعض المذاهب القديمة .. وهذا يظهر جليا عند وصفهم للصابئة في معرض حديثهم ، فهم في بعض الفقرات يأتون على وصف مذهب الصابئة بصفات تدل على وثنية خالصة ، وفقرات أخرى يأتون بصفات تدل على وحدانية خالصة !!. والحق يقال ان المشاهد العياني لاي من الطقوس المندائية او غيرها وان لم يشاهدها مسبقا، يظن للوهلة الاولى بانها تمت بصلة لطقوس عبادة وثنية واشراك بالله!! ولكن يصل الى هذه النتيجة فقط عندما يستند الى تفسيره الخاص بدون الرجوع الى اصحاب الشان في المراسيم او الطقوس المذكورة وتفسيرهم لها وما يبغونه منها. فمثلا تقبيل تمثال السيد المسيح او مريم العذراء من قبل بعض المؤمنين المسيحين، او تقبيل الحجر الاسود في الكعبة اثناء الحج عند المسلمين .. هل نستطيع ان نقول ان مثل هذه الممارسات تمت بصلة الى الوثنية؟ او هي من بقايا عبادة الاوثان والشرك بالله في الازمان الغابرة؟ وهنالك الكثير من على شاكلة تلك الامثلة نستطيع ان نوردها.

ومثلما أوضحنا سابقا أن المؤرخين العرب اعتمدوا على الرواية الشفهية والتناقل بين شخص وآخر على كتابتهم لتاريخهم وهذا يعطي الدليل المنطقي على خلطهم وتؤيلهم لأمر الصابئة.

مثال واقعي حاصل:

وبودي أن اسرد مثال واحد فقط يكفي لأبين صحة ما ذهبت أليه حول هذا الموضوع .. جميع المندائيين يعرفون الدعايات والتؤيلات المغرضة التي يبثها بعض الناس الجهلة والتي تدور في مخيلتهم على الرغم من كذبها وتلفيقها وعدم عدالتها ، ومثال هذه الدعايات (وهو أن الصابئة يخنقون الميت قبل وفاته .. أو بإسقاط الذبيحة (الخروف) من فوق سطح البيت وبعد ذلك يتم خنقه وأكله!!) وصدقها الكثير من أبناء المجتمع العراقي مع الأسف الشديد بدون تمحيص وتدقيق والبعض منهم من الف الكتب وألقى المحاضرات حولهم بالاعتماد على دعايات وتؤيلات لا أساس لها من الصحة .. ولقد دعيت ذات مرة لحضور محاضرة في إحدى الكنائس المسيحية في بغداد بعنوان (الصابئة المندائيون) لأحد المحاضرين المعروفين على مستوى الكنائس في العراق .. ولقد كان عدد الحضور حوالي 60 شخص من كلا الجنسين .. ولا اشد من اندهاشي وهو يتطرق لمواضيع حول المندائية لا تمت بصلة لها .. وهو حديث بالحقيقة اقرب إلى حديث بعض العامة الذي لايمت إلى حقيقة البحث العلمي وأصوله، فهو يقول من جملة ما يقوله، بان الصابئة المندائيون يعبدون كوكب الجدي!!.. وغيرها كثير اتحف بها محاضرته التي ليست سوى اعطاء رؤية خاطئة جدا ومنافية للحقيقة عن الصابئية المندائية، سواء عن قصد او عن غيره .. وعندما انتهت المحاضرة وبعد تحدثي معه وسألته عن المصادر التي اعتمدها في محاضرته هذه .. فكانت الفاجعة عندما قال لي بأنه اعتمد على مقالة لانستاس ماري الكرملي المنشورة في مجلة المسرة المسيحية الصادرة عام 1969م ، وكتاب الصابئة في حاضرهم وماضيهم لمن يقولون عنه بالمؤرخ عبد الرزاق الحسني، وقصته المعروفة مع سيادة المرحوم الكنزبرا دخيل الكنزبرا عيدان (ولي رجعة حول هذا الكتاب في مناسبة أخرى!) وعلى ما يعرفه من معلومات متفرقة حولهم من المحيط العام (أي الدعايات والتؤيلات التي تحدثنا عنها والتي سمعها من شرذمة المجتمع) .. فأنا حقيقة اعجب لمثل هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين والباحثين وهم ابعد بكثير من أن يكونوا بهذا الشكل .. فكيف على الباحث أن يخوض في مثل هذا الموضوع معتمدا على دعايات وتؤيلات تقال هنا وهناك ولا أساس لها من الصحة ؟!! والظاهر أن أغلبية المؤرخين والكتبة العرب من هذا الصنف .. أبعدنا الله عن هؤلاء الذين يشوهون أخبار الأولين بقصد أو بغيره معتمدين على شائعات ودعايات واهية، وأبعدنا الله أيضا عن الباحثين من أمثال صاحبنا الذي اعتمد في إلقاء محاضرة عن تاريخ وطقوس وأفكار وعبادة المندائيين الوجه الأخير من روحانيات العصر القديم ، على مقالة بسيطة نشرت في إحدى المجلات!!!

فلما حاججت أخينا بكيفية اعتماده على تلك المصادر فقط .. قال وعذره اشد من فعلته .. (لاوجود لمصادر حول المندائية في المكاتب) ، ولحسن حظي كنت جالبا معي ما يقارب السبعة كتب تدور حول المندائية ومن مختلف الجوانب والمتوفرة في المكتبات العامة والخاصة .. فعندما تفحصهن وتأكد من أن الغالبية العظمى من الكتب إصدار دور النشر العراقية ، فظل خجلا لا يعرف بماذا يجيب .. ومن أمثاله كثير!!.. ونحن لا ننكر بقلة الكتب الصحيحة والموثوقة التي تتناول الصابئة المندائيين في المكتبة العربية .. ولكن هذا لايعني أن نتجنى وان ننشر الأفكار غير الصحيحة حول مجموعة من الناس!! وهذا ما فعله بالضبط أخينا بالله.

فلا نستغرب إذا عزيزي القارئ الكريم ، من ابن النديم والشهرستاني وغيرهم من المؤرخين العرب الذين يقولون بان الصابئة يحرقون الإنسان ويسلخون جلده ويقطعونه اربا، وبعد ذلك يأكلونه. وهذه العملية هي جزء من طقوسهم وقرابينهم للقمر أو الكواكب الأخرى !!.. وغيرها من الأكاذيب كثير تجده عزيزي القارئ في كتاب الفهرست لابن النديم والملل والنحل للشهرستاني. واعتقد ان القارئ لهذا الكتاب يشعر بأنه يشاهد أحد الأفلام المرعبة عن آكلي لحوم البشر!!.

ومعروف عن المؤرخين العرب القدماء ، انهم يعتمدون في مادتهم العلمية والتاريخية على الرواية الشفهية من شخص لأخر دون تمحيص وتدقيق بالأمور التاريخية المنقولة .. وان الرجل ابن النديم يعترف بان مصدر معلوماته أشخاص آخرين .. لا نعرف نحن ألان مدى صحتهم ومدى حسن نواياهم ومدى معرفتهم بالصابئة آنذاك ، وهل كانوا أصدقاء أم أعداء حاسدين ؟! .. واعتقد أن ابن النديم لا يعرفهم شخصيا ولم يقابل واحد منهم البتة .. أكيد أن معلوماته عن الصابئة جاءت عن طريق السماع .. وأعوذ بالله من هكذا مؤرخين ينقلون أخبار التاريخ عن طريق السماع !! .. ومثلما يقول المثل الدارج ((بين العين والأذن أربعة أصابع)) ، وأنا بدوري أقول ((أن بين الحقيقة والخيال ، والصدق والكذب ، شعرة واحدة)).

صابئة حران والدولة الاسلامية:

وان كان الصابئة في حران وثنيين حسب زعم ابن النديم ،فكيف أذن استطاعوا أن يصوبوا مواضع الرياسة في مجال الثقافة والعلم والأدب في الدولة الإسلامية ؟! .. وكيف قبل سادة الدولة الإسلامية بذلك؟!..ونحن نعرف جيدا ما للدين الإسلامي من حزم على إنكار وهدر وإباحة الكفار الوثنيين !! ..وهذا الأمر يأخذنا إلى نتيجة مفادها أن لصابئة حران حجة قوية وأساس توحيدي قوي استطاعوا من خلاله بسط شخصيتهم واحترامهم آنذاك. ومن الجدير بالذكر انهم حصلوا على رخصة أمير المؤمنين في ممارسة شعائرهم وطقوسهم بشكل علني في أماكن عباداتهم !!.

اما بخصوص اهتمام صابئة حران بالفلك والتنجيم واخذ الطالع وشرح طبيعة الكواكب واسمائها وميزاتها ومتعلقاتها، فهذا يظهر جليا واضحا لمن له معرفة أو قراءة في كتاب مندائي اسمه (أسفر ملواشي)!!.. وللعلم أن جميع الأديان والملل والمذاهب القديمة والحديثة في جميع شعوب العالم، اهتمت بهذه الناحية من الحياة الإنسانية ولديها تراث كبير في هذا النوع من المعرفة، وربما لا بل أكيد انه اكثر من الأدب والتراث المندائي!!. فهذا لايعني ان جميع التراث المكتوب باللغة المندائية مثلا، بالضرورة أن يكون تراث مقدس ويعبر عن عبادة المندائيين!!.

الصابئة وحركة اخوان الصفا:

اضافة الى ان هؤلاء الصابئة الذين عملوا في البلاط العربي الاسلامي كان لهم اثر جدا كبير على الفكر العربي الاسلامي .. وكثير من الحركات الفكرية التي ازدهرت آنذاك .. كان الفكر الصابئي له التاثير الكبير عليها .. وخاصة يكفي هنا ان نضرب مثل واحد في هذا الموضوع وهو بما يسمى باخوان الصفا وهي حركة فكرية ازدهرت في العهد الاسلامي .. فانا اتفق مع الكاتب عبد الحميد من ان فكر هذه الحركة (اخوان الصفا)اغلبيته مستمد من الفكر الصابئي .. وخاصة وان الفكر الصابئي كان متداولا في العهد العباسي والاموي من خلال جهابذة العلم والادب الصابئة من امثال ثابت بن قرة وابو اسحاق الصابئي ... الخ.

وهذا يظهر جليا عند قراءت نا لبعض الرسائل التابعة لهذه الحركة والتي تسمى (رسائل اخوان الصفا) فوجدت فيها فصلا كاملا عن علاقة حسابية فلكية رقمية، نفسها موجود في كتاب مندائي يسمى (أسفر ملواشا - سفر الأبراج) اعتقد بانه ترجمة حرفية عربية لما موجود في هذا الكتاب المندائي !!!

إضافة للتشابه الغريب والعجيب للأفكار الغنوصية الموجودة في هذه الرسائل، مع أجزاء من ديوان مخطوط باللغة المندائية يدعى (ألف ترسر شيالة – ألف واثنى عشر سؤال). سوف اعقد مقارنة ما بين فكر طائفة اخوان الصفا والمندائيون في مناسبة اخرى.

شخصيات من صابئة حران في البلاط الاسلامي:

فابن النديم يذكر في فهرسته اكثر من عشرة أسماء لامعة من صابئة حران كانت لهم مواضع الرياسة في كثير من مجالات العلم والمعرفة وحتى الدولة وعلى مدار سنين طويلة. فقد جاء في كتب المؤرخين وفي كتب الأفذاذ من علماء الصابئة الحرانيين عن ثابت بن قرة الصابئي الحراني المعروف بعلمه الوفير والذي تميز بعقليته الموسوعية في الفلسفة والرياضيات، فقد تخرج ثابت والذي كان قد برز من بين اقرانه، واصبح من أخوان العهد والثبات (ابني قايما)، وصار له الحق في كشف الأسرار، وقد دعي (صديقيا) كما ورد عند ابن النديم، وهي تعني الحكماء الإلهيين، او من كان حكيما كاملا في أجزاء علوم الحكمة. وأنا اعتقد ان هذه الكلمة محرفة أو من كلمة (ناصورائي زديقي ) المندائية، والتي تعني المتبحر بالعلوم الدينية والمعرفية والإلهية او من كلمة (زاديقي) أي الصديق. وبالإضافة إلى ذلك فان الباحثة الإنكليزية الليدي دراور المتخصصة بالدراسات المندائية تؤكد بان المفكرين الحرانيين كثابت ابن قرة ومدرسته كانوا من عباقرة الصابئة الناصورائيين المندائيين الذين يمارسون التعميد وكانوا أوفياء لدينهم الذين عليه ولدوا. ولقد كتب ثابت رسالة في مذهب الصابئين وديانتهم، كما أن ولده سنان بن ثابت قام أيضا بترجمة بعض الصلوات والأدعية الصابئية الى اللغة العربية، فلديه رسالة في شرح مذهب الصابئين ورسالة في النجوم ورسالة في اخبار ابائه واجداده وسلفه، ورسالة في قسمة ايام الجمعة على الكواكب السبعة الفها لابي اسحاق الصابئي ، واحتمال جدا ان تكون بعض ماورد في كتاب (اسفر ملواشي – سفر الابراج) المخطوط باللغة المندائية، من تاليفه او تاليف والده.

ولدي حدس كبير يقول بان بعض الاعلام المندائية التي حافظت على الدين والكتب، والذين ورد ذكرهم في الكتب المندائية، ولانعرف ماهي اسمائهم الحقيقية، لان اسمائهم الواردة في الكتب هي دينية .. اعتقد بان من فيهم ثابت وغيره.

وللعلم ان مؤرخ الفلسفة المعروف ابن حزم يشير في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) الى ان الحرانيين هم من الصابئة الذين يرد ذكرهم في القران. وقد صنف عبد القادر الجزائري في كتابه (ذكرى العاقل وتنبيه الغافل)، العرب قبل الاسلام، أصنافا: صنف اعترف بالخالق، وانكر البعث. وصنف عبدوا الاصنام. وصنف عبدوا الملائكة. وكان منهم من يميل الى اليهودية ومنهم من يميل الى النصرانية ومنهم من يميل الى الصابئة وكانت بقيت عندهم، بقايا من دين اسماعيل وابراهيم الخليل.

هل المندائيون اهتموا بالتاريخ ؟!!

من الأجدر أن نعترف بان الأمور التاريخية التي وصلتنا عن طريق الكتب والمخطوطات المندائية، هي ضئيلة ولا تشبع فضول الباحث. ولكن في نفس الوقت من المرفوض القول بان المندائيون لا يهتمون بكتابة تاريخهم أو التاريخ بصورة عامة. فان محاولاتهم من خلال ما وصلنا عن طريق الرواية الشفهية وديوان حران كويثا (وخاصة إذا خلصنا الأخير من بعض التزويقات والخيالات والتي تتشابه مع بعض الكتب التاريخية القديمة) وكذلك الازهارات (وهي عبارة عن ذيول تاريخية وردت في آخر الكتب والدواوين المندائية) ما هو إلا إثبات واضح وصريح من تمكن المندائيون من كتابة ونقل التاريخ الآمين .. ولكن اعتقد بان هنالك الكثير من الكتب المندائية، وربما التاريخية قد فقدت أو مخبأة لحد هذه اللحظة !!! أو ربما أتلفت عمدا أو عن غير قصد أو لم تكتشف لحد الان .. لأننا لحد هذه اللحظة لا نمتلك تقرير كامل وموثق لعدد الكتب والمخطوطات المندائية .. ولا ننسى من محاولة البعض التخلص من كل ما يتعلق بالمندائية وبشتى الوسائل. وذلك لأغراض ربما تكون سياسية في عصر معين أو دينية أو اجتماعية في عصر آخر.

فعلى قلة الكتب والمخطوطات المندائية الموجودة في حوزتنا الان، او المخبأة والتي لم ترى النور لحد هذه اللحظة، والتي تتحدث عن التاريخ المندائي، لا يمكن القول بان ليس هناك تاريخ مندائي او ان التاريخ المندائي ليس ذو أهمية في تاريخ المناطق التي سكنها المندائيون قديما !!!.. وبنفس الوقت لا يمكننا القول بان المندائية كانت لها تاريخ معقد وعميق كالحظارة اليونانية او غيرها.

الاتهام الاول يرجع اليوم:

ومثلما اتهمنا اليوم بعبادتنا من أناس سواء ليس لديهم فهم حقيقي وعلمي للديانة الصابئية المندائية او من أناس حاقدين رغم معرفتهم الحقيقة، اتهم ايضا أجدادنا الأوائل بعبادتهم ووصفوا بالوثنية او الشرك بالله من أناس على نفس الشاكلة السابقة .. فعلى الرغم من الاضطهاد الذي حصل لأجدادنا الصابئة المندائيين في مدينة حران، الذي أدى الى إسلام بعضهم وتنصر البعض الأخر خوفا، بقي الكثير منهم على دينهم أمينين، صامدين متحملين الظلم لاجله، واستطاعوا رغم هذا الظلم والاضطهاد ان يتبوؤا مراكز مهمة في الدولة الإسلامية وغيرها بفضل عزيمتهم وعلمهم واخلاقهم، فقد كان ابو اسحاق الصابئي من نساك دينه والمتشددين في ديانته وفي محاماته على مذهبه . وقد جهد فيه عز الدولة ان يسلم فلم يقع له ولما مات رثاه الشريف الرضي ، وقصته وقصائده مع ابي اسحاق معروفة للجميع.

وقال ثابت بن قرة الصابئي الحراني ((عندما اضطر الكثيرون، الى ان ينقادوا الى الضلال، خوفا من العذاب، احتمل آباؤنا ما احتملوه بعونه تعالى، ونجوا ببسالة ولم تتدنس مدينة حران هذه المباركة)).

ومن جملة الظلم والغزو الذي تعرض له الصابئة في التاريخ فهو كثير، فقد ذكر في كتاب (لسان الميزان) لابن حجر العسقلاني، بان الامير محمد بن مروان بن الحكم الاموي قد غزا الصابئة مرارا وسبى بها.

وأريد هنا أن انقل شيئا ملفتا من كتاب (الفهرست) ، لكي أبين مدى الخلط الذي ذهب أليه ابن النديم في كتابته ونقله للتاريخ ، فهو يتحدث عن طائفة اسمها (الكشطيين) وجاء بالنص ما يلي:(يقولون بالذبائح والشهوة والحرص والمفاخرة . ويقولون انه كان قبل كل شيء ، الحي العظيم ، فخلق من نفسه ابناً سماه نجم الضياء : ويسمونه ، الحي الثاني . ويقولون بالقربان والهدايا والأشياء الحسنة ).

فمن هم الكشطيين هؤلاء ؟ (للعلم أن هذه الكلمة مندائية الأصل وجاءت من كلمة كشطا أي الحق أو العدل أو العهد، وهذه الكلمة نفسها تطلق على المندائيين في الكتب الدينية !!) .. يلاحظ القارئ الكريم مدى الخلط الواضح في كلام ابن النديم في تعريف هذه الطائفة .. وهناك الكثير في كتاب الفهرست لابن النديم.

أن ابن النديم ليس سوى ناقل للدعايات والإشاعات بدون تمحيص أو تدقيق ، والعهدة على القائل والناقل كما يقولون !! .. أقول من أين اخذ محاضرنا الذي تحدثنا عنه ، أسلوبه بالبحث ، الظاهر والله اعلم أن الشغلة متوارثة من أجداده الأوائل !!

اما ايشع القطيعي النصراني وقصته حول الصابئة ورحلة المامون فهي قصة واهية ومغرضة دحضها اغلب الباحثين من أمثال الليدي دراور وناجية المراني وعزيز سباهي في كتابه الأخير، وحتى الشاعرة المندائية لميعة عباس عمارة في بحث لها.

وبودي أن انقل بيتين من الشعر في هذه المناسبة للشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي فهو يقول:

وما كتب التاريخ في كل ما روت لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لامر الحاضرين فرابنا فكيف بأمر الغابرين نصدق

وهذا فعلا ما حصل عندنا (الصابئة) فنحن موجودين على قيد الحياة وممكن التحقق من امرنا بكل سهولة، ولكن ننعت ونضرب في عبادتنا للخالق ويقولون أننا نخنق الميت!!

فهذا في الحقيقة مأخذ كبير على المؤرخين العرب ومصداقية التاريخ الذي كتبوه .. وأنا لا أقول بان كل التاريخ الذي كتبوه هو غير صحيح وغير موثوق فيه .. ولكن على الباحثين اليوم أن يدققوا ويتفحصوا كل ما ينقله المؤرخين العرب لنا، وهذا ما تنص عليه أصول البحث العلمي الدقيق. وقد أكدت الباحثة الإنكليزية الليدي دراور التي عاشت فترة طويلة في جنوب العراق تدرس التراث المندائي. قالت (في جملة ما أورده المؤلفون العرب من روايات يوجد بها قدر لاباس به من الحقيقة، وهو ان لدى الحرانيين ما يشتركون به مع الصابئة المندائية، الذين يسكنون أهوار جنوب العراق).

وحسب اطلاعي وبحثي في هذه المسالة بالذات، بان الصابئة قديما وحديثا هم المندائيون أنفسهم .. وان صابئة حران ما هم إلا امتداد لصابئة العراق وفلسطين المندائيين .. واحتمال ان يكون قد تشبه بعض الأقوام بالصابئة لفترة معينة قصيرة ولحالة خاصة، ولكن هذا لا يعني بوجود فرقتين من الصابئة المندائيين. وان فطاحل العلماء والمفكرين الصابئة الذين اشتهروا في البلاط الإسلامي ما هم إلا صابئة مندائيين.

واليوم كما في السابق،من منا قام بمدح دين آخر غير دينه أو على حساب دينه فكل المناقشات والجلسات وخاصة الدينية منها ليست سوى إظهار عيوب الأديان الأخرى وبث الدعايات والتؤيلات السيئة عليها .. وهذا الحال لم يظهر ألان أو هو وليد عصر ما يسمى بالديانات السماوية او الكونية مثلما اصطلح على تسميتها احد الكتاب .. بل هو موجود منذ فجر التاريخ وبالضبط عندما بدا الإنسان يعبد قوى الطبيعة .. فهذه الحالة لاتمت بصلة إلى الإيمان الحقيقي والى جوهر عبادة شيء اسمه الله .. وتذكرني هذه الحالة بمقولة لأحدهم بما معناه (أن الوطنية هي حب الوطن والإخلاص له ولايعني كره الأوطان الأخرى) وأنا أقول ألان (إن حب دين معين والأيمان به لايعني بالضرورة كره الأديان الأخرى).

اجدادنا في حران:

على كلا بودي أن أوضح للمندائيين بان ليس كل ما يكتب عليهم قديما وحديثا، هو حقيقة يجب التسليم لها. فلا يجوز أن نبتري اليوم من أجدادنا العظماء الذين جاهدوا في سبيل ان تبقى المندائية وان نخلق نحن اليوم مندائيين. فحق علينا اليوم ان نفتخر بهم وان نعتز بانتمائنا لهم، لا بل و أطالب ايضا بان نحيي رموزنا القدماء وان نحتفل بهم كل عام ومن هؤلاء كثير فعلى سبيل المثال: ثابت بن قرة وأبو إسحاق الصابئي الذين كانوا أعلام عصرهم ولهم الفضل في كثير من العلوم الان، وهم الصابئة المندائيون الاصلاء الذين حافظوا على إيمانهم رغم الظلم والاضطهاد الكبيرين الذي لحق بهما وبأجدادهم ، حيث ورد على لسان ثابت بن قرة ما يلي ( ((عندما اضطر الكثيرون، الى ان ينقادوا الى الضلال، خوفا من العذاب، احتمل آباؤنا ما احتملوه بعونه تعالى، ونجوا ببسالة ولم تتدنس مدينة حران هذه المباركة)).

.. وأطالب أيضا بأهمية وضرورة إعادة وتجميع كتابة تاريخنا المبعثر في ضوء معطياتنا الجديدة، ويجب أن لا ننسى بان تاريخ حران والصابئة هناك ما هو إلا جزء من التاريخ المندائي العريق. كما وأشجع جميع المثقفين والباحثين الصابئة المندائيين للبحث في هذا الموضوع بالذات، لاثبات حقنا في تاريخنا المفقود، ولاثبات حق أجدادنا في نسبنا لهم!!.

ومما تقدم ،ارفض وبحجج اعتقد بانها ليست ضعيفة .. مقولة الكاتب عبد الحميد الحمد بان (لاصلة بين مذهبي الصابئة المندائية والصابئة الحرانية. فالمندائية حصاد بيئة فقيرة في معطياتها الحضارية. لذا لم يكن لهم أي تأثير على الشعوب المجاورة!!). وبودي أن أعيد ما قاله نبينا الحبيب يهيا يهانا (مبارك اسمه) حين سأله بعض المندائيين عن مصيرهم في حقبة معينة، قال لهم (سيأتي اليوم الذي إذا نظروا للرجل الذي يلبس عمامة بيضاء وهميانة ، تعتريهم الدهشة ويأتون ويسألونكم " تعالوا من نبيكم؟ حدثونا عنه؟ وما هو كتابكم؟ ولمن تسجدون وتعبدون؟" وانتم لا تعلمون ولا تعرفون!! .. ملعون ومخزي من لا يعرف ولا يعلم أن ربنا هو ملك النور العظيم، ملك السماوات والأرض الواحد الأحد) دراشا اد يهيا -بوثة رقم 17. وأنا أسأل المندائيين (الصابئة) كم واحد مر في هذا الموقف؟!!!!.

بعض التشابهات المهمة

بين الصابئة في حران والصابئة في البطائح*:

• الصابئة في حران يجيدون اللغة الآرامية، وكانت لهجتهم افصح اللهجات الآرامية .. وهذا ينطبق على اللغة التي يتحدث بها المندائيون الان والتي كتبت بها كتبهم المقدسة وغيرها من ادبياتهم واشعارهم .. وهي (اقصد اللغة المندائية) احدى اللهجات الارامية.

• لديهم من الصلوات ثلاثة، وهي الواجبة يوميا (صبحا، ظهرا، عصرا)، ولا تتم إلا بعد أداء الاغتسال أو الوضوء .. وهذا يشابه ما لدى الصابئة المندائيون الان بما يعرف ب(الرشاما والبراخا) وهي الصلاة الفرضية الواجبة والرسمية في اوقاتها الانفة الذكر.

• يدفنون الميت باتجاه الشمال .. ويحرمون اللطم والبكاء والحزن على الميت، لان هذه الأفعال سوف تعيق الروح في معراجها. ويحرمون الانتحار .. ايضا يقوم المندائيون بدفن موتاهم باتجاه الشمال ويحرمون الحزن واللطم والبكاء وايذاء الجسد على الميت، تحريما قاطعا، لان هذه الافعال تؤدي الى عرقلة مسير النفس (نشمثا) الى عوالم النور من قبل الارواح الشريرة.

• يقدسون المياه الجارية الحية، ويعتقدون بأنها محروسة من قبل الأرواح الخيرة النورانية .. ان المندائية والمياه الجارية الحية والتي تعرف باليردنا، شيئا واحدا لايقبل الفصل .. فكرا وتطبيقا. وان المياه الجارية الحية (اليردنا) مهمة في عملية الخلق والتكوين ومهمة في ولادة الانسان في طقس التعميد (مصبتا) ، ولاننسى بان اليردنا الارضية محروسة من قبل اثنين من الكائنات النورانية الاثيرية وهما (شلمي وندبي).

• الأيمان بخلود الأرواح، وان أرواح الأفراد لها صلة بأرواح أسلافها وتعاني قبل أن تتطهر، إلى أن تتحد بالجسد النوراني في ملكوت الله .. اصلا ان عيشة الانسان المندائي المؤمن (المتهيمن) هي للحياة الاخرى في عوالم النور وليست للحياة الارضية، ويجب ان تعود النفس (نيشمثا) الى علة الوجود (الخالق) بدورة كاملة، لانها نفحة من ذاته العظمى .. ولكن يجب ان يتم لها التطهير الكامل من الشوائب التي علقت بها اثناء حياتها الارضية، لكي ترجع هذه الجوهرة (كيمرا) صافية نقية كما خلقها الحي (هيي)، فلذلك يجب ان تدخل في اماكن العقاب والتطهير المسماة (المطراثي). وبعد ان يتم ذلك، تتحد النفس (نيشمثا) مع جسدها النوراني (دموثا) أي الشبيه النوراني الذي لايتكون من اللحم والدم.

• يخضعون إلى رؤسائهم الدينيين بدلا من السلطة الزمنية في حل قضاياهم الدينية والدنيوية .. ايضا يخضع المندائيون الى رؤسائهم الدينيين لحل مشاكلهم او لاداء المراسيم الدينية.

• قبلتهم واحدة وقد صيروها نحو جهة الشمال، لاعتقادهم بأنها مركز علة الوجود .. ان الاتجاه الرسمي الذي يتجه به الانسان المندائي اثناء اداء طقوسه وواجباته الدينية، هي الى جهة الشمال المسماة (اواثر)، وما النجمة القطبية (نجمة الشمال) التي اتهم بعبادتها الصابئة المندائيون سواء في حران او في بطائح وادي الرافدين، ليست سوى دليل واشارة وطريقة علمية لمعرفة اتجاه الشمال، وبالتالي معرفة اتجاه مكان بوابة اواثر أي بوابة الرحمة لملكوت الحي (بيت هيي).

• لديهم الوضوء في الماء الطاهر المطهر، ويتطهرون من الجنابة وعند الاتصال الجنسي ومن لمس الميت، كما يعتزلون الطامث .. نفس ما تنص عليه العادات والتقاليد المندائية.

• يحرمون أكل إناث البقر والضان والحوامل من الحيوانات .. نفس تحريم المندائية لها.

• لايتم الزواج الا بولي وشهود، ولا يقرون مبدا تعدد الزوجات. ولا يسمحون بالطلاق او هو محرم إلا في حالات خاصة جدا.

• عقد القران (المهر) إذا كان لامراءة (ثيب) ينجس الكاهن الذي يقوم به.

• يحرمون لبس اللون الأزرق والاسود، ولباسهم المفضل الثياب القطنية البيضاء.

• يقدمون الطعام من اجل راحة نفس الميت ولمدة 45 يوما.

• يستعدون لتجنيز الميت قبل خروج الروح من الجسد، لان الروح لا تتطهر إذا لم تخرج من بدن طاهر، لذلك يجب غسل المحتضر، وإلا تعذر تطهيره ولمس الميت.

• يحمل نعش الميت اربعة رجال انحدروا من عائلة أصيلة النسب مؤمنة، منذ ثلاثة أجيال.

• يقدسون الطبيعة بكل اشكالها، وواضحة في مفاهيمهم وطقوسهم التي تدعوا الى الرجوع الى الطبيعة.

• لديهم أعياد تقام في مواعيد معينة، يذهبون بها للاغتسال في المياه الجارية، طلبا للطهارة وغفران الخطايا.

• يقدسون نبات الآس (الياس) المستعمل في طقوسهم وخاصة في أكاليلهم.

• صيامهم في أيام معدودة متفرقة على أيام السنة، ويمتنعون فيها عن أكل اللحوم.

• يسمون الله في لغتهم ب (مارا اد آلما) أي رب الكون.

• لاياكلون أي شيء غير مذبوح بطريقة إيجابية، أي، كل حيوان يموت بسبب مرض او حادث او لم يكن مذبوحا.

• يتجنبون ويحرمون الختان (الطهور) فهم لا يعملوا أي تغيير في عمل الطبيعة.

• المرأة مساوية للرجل في متابعة قوانين الدين وتستلم نصيبا مساويا للذكر في الميراث.

• يعتبرون ان بعض الأمراض التي تصيب الإنسان والتي تعتبر غير نظيفة ، هي نجاسة عظيمة مثل الجذام وهو الأكثر نجاسة، فعلى سبيل المثال ترك إبراهيم مجتمعه بسبب ظهور الجذام على قلفته (وهي نفس الرواية المندائية حول إبراهيم)، فكل من يعاني من هذا المرض يعتبر نجسا. وهذه الأفكار موجودة عند أديان أخرى مثل اليهودية.

• هذا بالإضافة إلى الكثير من التشابه الكبير في الأفكار والفلسفة واللاهوت الديني، وفي النظرة اللاهوتية للرب العظيم ووجوده وكينونته. ربما في مناسبة أخرى سوف اعقد مقارنة أوسع في مجال الفكر واللاهوت الديني.

* راجع كتاب (صابئة حران واخوان الصفا) عبد الحميد الحمد، وكتاب (معرفة الحياة) س. كوندوز ترجمة الدكتور سعدي السعدي، وأيضا كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني وكتاب (الفهرست) لابن النديم.

¨ فقد قالت الليدي دراور في كتابها الصابئة المندائيون مايلي (وبالنسبة للمؤرخين العرب فقد كانوا منذ اقدم الازمان يعتمدون على الرواية، ولذا لايمكن قبول بيناتهم او تقاريرهم الا على هذه الصورة؛ كما يمكن ان يقال نفس الشيء حول مالدينا من معلومات عن الصابئين دونها الكاتب السرياني "برخوني" فقد كان يدون معلوماته كمجادل يريد الحط من فئة مارقة ؛ ولكن كتابه على كل حال يعطينا أدلة على نقض كل ما قرره عن الصابئين).

معجم الادباء .. ياقوت الحموي ص 892.

يتيمة الدهر .. الثعالبي ص 529.

صبح الاعشى .. القلقشندي ص 25.

يقصد الملابس الدينية البيضاء المندائية (الرستة).

اغلبية هذه التشابهات استخرجتها او وردت في كتاب (صابئة حران واخوان الصفا) للكاتب عبد الحميد الحمد ‍‍؟

نشرت في تاريخ
الخميس, 04 نيسان/أبريل 2013 23:46

الناصروثا علوم الفلسفه المندائيه

مبارك هـــو صوت الحــي......... ومـمـجد الـشعـاع العـظـيـم الـذي كـله ضـياء

(كنزا ربا)

 

التعريف :

 

تــُعرف { الناصِـروثا } بأنها :

علوم التبحرفي الدين والفلسفيه الروحانيه ، عميقة الجذور إلاهية حــْق ،علوم الحقيقة الكامنة والمعرفة أللامتناهية وكلمات الحق والصدق الأسمى.،جُلبت من كنــز عوالم النورالأزلية واعطيت للنفس التي دخلت الجسد المادي عند أتمام خلقه؛ لتكون لهُ السلاح النوراني الذي به سوف تقاوم الـشر والظلام القابع في العالم ألفاني [ آلما اد تيبل ] العالم الارضي ؛ علوم أزلية موجودة بوجود سـيد العظمة (الحي العظيم ، هيــي قدمــاي) متسـربلة بأشـعتها وأضويتها الذاتـية في سـكينة تامة ؛ لم يحين الموعـد بعـد لتخرج من سـكينتها ، لأن الآدميين لم يخلقوا بعد لإحتوائــها . وعندما حان موعـد خلق الآدميون نـادو على (الناصِـروثا ) ، فـأرتفع النداءُ (بالدعاء والتسبيح ) عـالياً ليصل الكون الذي هو فوق جميع كـل الأكوان والى العالم الذي هو فوق جميع كـل العوالم لِصل الى كنوز النور ، وبأمر سـيد كنوز عوالم النور (هيـي قدمايـي ، الحي العظيم ) ، أنطلقت (الناصِروثا ) وتمـددة ملئ الأكوان والعوالم عابرة الزمان والمكان لإحتضان النفس (النشمثا) وبالتالي أحتوائها جـسد الطين الفاني ، من هنا بدأت رحلة ( علوم الناصِروثا ) الى العالم المادي ، وستبقى مع الأدميين لحين خروج آخـر نشمثا طاهر من هذا العالم ، حين ذاك يأذن ( الرب اللــه العظيم ) 

لـها بالعوده الى بـيت أبيها الذي جُلبت منه . الناصِـروثا طريق سهل وطـيب لعودت النفس الطاهره (نشمثا )الى عوالم النور السامية .

 

هذا مقطع من نص ديني للكتاب المقدس ( الكنزا ربا ) الا يمين ، عن هبوط (نشمثا) في الجسد :

 

" باسم الحي العظيم

 

أنا { نشمثا} تحدثت الى الأثـري اخواني، وقلت لهم:

{ماذا إقترفت من إثم،حتى أغويتموني وازحتموني من بينكم ؟

أخذتموني من مسكني أسيرة، واغويتموني وازحتموني من بيت أبي

واخذ كل واحد منهم يتحدث اليها :

يا نشمثا الحياة المنتصرة، يارسولة كل النيرات

يانشمثا الحياة الطاهرة ،يا نشمثا ، قفي واذهبي هناك،

وادخلي الجسد وابقي مقيدة في القصر { الجسد}،

ومن خلالك سيُقيّد الاسد الهائج ،وسيقتل الشرير في مكانه،

ومن خلالك سيُقيّد ملك الظلام.....

وتجيب { نشمثا} وتتحدث الى { مندادهيــي}:

أيها الصالح،رسول النور،

اذا أردت مني ان اذهب الى هناك ،

وادخل في الجسد ،وأبقى أسيرة فيه،

فاعطني إذن سلاحاً سامياً،لأبعد عني { الاشرار }.

{ وأجابها مندادهيـي } :

ما هو السلاح السامي الذي تريدينه يا { نشمثا }،

حـتى نجلبه لك من كنز الحياة ؟

سلاحُــك هو { نـاصيروثـا }، وكلمات الصدق التي جاءت

اليك من موطن النور .

وهنـا قالت { نشمثا }:

باسم { الحي العظيم }، وبعون { منداد هيــي}

ذهبتُ الى هناك ودخلت الجسد.

ذهبتُ الى هناك ودخلتُ الجسد ، وجعلت ذاتـي أسـيرة فيـه .

ومن اليوم الذي دخلتُ فيه الجسد، كنت قرينته على مرْ الدهور .

قرينته كنت على مـرْ الدهور ، وكان الاشرار من الاعماق غاضبين عليّ."

 

ومـن وصايا الرب للمؤمنين : ( سِّلـحوا نفوسك م بأمضى من الحديد ... سلاح 

ناصروثا وكلمات ربكم الصادقة ) .

 

يتضح من النص المبارك اعلاه ان { نشمثا ـ النفس } إمتنعت من الدخول في الجسد واخذت تشكو وتنوح ؛ وهنا ترجو رسول النور { مندادهيــي } ان يـُـرسل لهــا { مُخلّصاً } يخلصها بعد الوفاة من الجسد ويرافقها الى عالم 

النور ؛ والسلاح الذي تحصل عليه { نشمثا } هو { ناصيروثا } (1 ) أذن اعُـطيَ هذا العلم والسلاح الروحاني لللادميين محبــة ًورأفــة ًإلاهيــة ، تعينهم في مكوثهـم وخروجهـم من العالم الفانـي ؛لأنه من خلال التعمق

بهـذا العلم والتبحر بفلسفتـة اللاهوتية يكون الناصورائي المؤمن ؛ قد وصل الى اعلى درجاة التصوف { الزهـد في الدُنيا } ، ونكرانها ونكران مغرياتها وملذاتها الوقتيه المزيفه ، لان فلسفته الروحانيه قــد فتحت ابواب عقله وفكره وحررته من كل سيطرة وعبودية ممكن ان تلحق به من هذا العالم ، بعــد أن أ ستطاع تــحقيق توازنه المختل ، بين طبيعته الانسانية المادية بما فيها من قوى سالبه المتمثلة بـ { الغرائز والشهواة والحواس } وبين طبيعته 

السماوية النورانية المتمثلة بعناصرها الايجابية كــ {الحب والعطاء والايمان } ، واستطاع أن يرسم طريق حياته المثالية التي يحياها في هذا العالم ..... ، وطريق حياته هذا سوف يؤدي به الى الوعي وتفتح طاقاته الباطنية وإمكانياتــه الإنسانيــة ، كالعمل والنظام والصبر وبرؤية واضحـة تفهــم كافــة الأمور الحياتية ....؛ ولنا في قول الحي العظيم طريق يـُـنير بصيرتنا :

 

" بـاســم الحي العظــيم

 

أحببتُ العـَدل منــذ ُ أحببتــك

وأحببتُ الحـقَّ منـــذ ُ حببـتك

منــذ ُ يوم عرفتك ، عرفت أن الدنيا باطلة

وأن جميع نعـَـمها زائلة

صرت أحـبّ إلي من أبـي وأمــي

أحـبَّ إلـي من أخواتـي وإخوتـــي

ومن أبنائي و زوجـتـي

لم تـعُــد تهُـمني الأموالُ ولا القصـور

لم تعُــد تهُـمني الثياب ولا الــعطـــور

لا الــجـاهُ ولا الــســلطــان

إ نـي وجـدتُ نفــسي .....فـمــالـي وللأكـوان " 

( جزء من نص حب المؤمن للحي ...كنزا ربا الايمن )

 

" بأسم الحـي العظيـم

 

ياســـيدي المالك العالي للنــــور

الذي عيناه مفتوحتان ، تبحثان عن العدالة

والذي يضــع العدالة لهؤلاء الذين يحبونـه

وينفذ العدالــة على هؤلاء الذين أضطهدونا

وعلى المضطهد يـــن الذيــــن يلاحــقوننـــا

وعلى الشريرين وعلى الغــاضبيــن .

الذيـــن يحتالون لعمل الشر علينـــا .

أذا كـنا نرضيك يامالك النور العالي

انظر الى هذه النفس التي تؤمن بــك

ومن أجل أسمك حضروا على الارض واضطهدوا .

أرنــــا الهــواء الطـــاهر

كــي ننســـى أ ضطهادنــا الدنيــوي

حتى ننســـى أضطهاد الارض

واغاظــة الشريـرين والكذابيــن

قـــــوَّ بصيرتنا وصوتنا ويقظتنا وتســبيحنا

لأننـا بـهذه الوســيلة نستطيع أن نصلـك أيـهـا الـحـي العــظـيـم

مـــــــــــن الـبـدايــــة الــى 

الــنـهــايـــــــــــــــــــــــــــــة ،"

( جزء من النص 18من كتاب التعميد )

تعتبر بشرية السلالة الاولى لنبي آدم (مبارك اسمه ) من اولى السلالات (الناصورائية) ، ونواة الديانة المندائية من بذرة حكماء أنقياء اجتمعت فيهم كل عناصر علوم) الناصِـروثا) ؛ مما جعلتهم يمتازون بالمقدرة الروحانية الفائقة في البصيرة والتعمق الروحي والتبحر في الدين اضافــة ً للمقدرةالجسمانية والصحية ؛ كُـشِفت لديهم الكثير من اسرار النفس والذات ، واسرارعلوم السماء والارض ؛ وممارستهم لهذه العلوم السامية في حياتهم الروحية والعملية فتحت لهم ابواب اتصال روحانية بين عالمهم المادي والعالم الفوق المادي ( النوراني ) ما جعلهم على ثقــة واحساس تاميين بمعانقتهم للحياة الابدية الخالدة ؛.(2 )... ويطلق اسم (الناصورايي ) على الروحانيين (رجال الدين ) الذين يراعون تطبيق الاحكام والاوامر الدينية قبل غيرهم ، والمؤمنون الحقيقيون ( النقاة ) ؛ (فالناصورايي ) هم الاشخاص الذين يفهمون (الناصيروثا) التي هي فلسفة الديانة المندائية ، ( كان النبي يحيى ( ع ) ناصورائياً وكذلك والديـَه ، والسيد المسيح ايضاً ) ذا معجزات تعالج بصورة رئيسية شفاء أبدان الناس وارواحهم .

وكلمة (ناصورائي) من الجذر السامي ( ن ص ر ) ويعني ( راقب ، حدس ، صان ) وفي الاكدية نجد معناها نفسه في طقوس الكهنة الاكديين ، وفي البابلية ( nasaru ) بمعنى (مراقبي السماء او حافضي الاسرار ) وفي 

العربية (نصر، ونظر ) وفي العبرية نصر (نطر ) فالصيغة المندائية تعود الى الصيغة الاراميه القــديمة العهد ، لذالك لا يمكن أبدا ارجاع كلمة ناصورائي المندائية الى المصطلح السرياني ( ناصُرايَ ،ناصري ) اي مسيحي ( نصراني ) ، ومن ناحة اخرى اعتبر الباحث الماني ( ماتسوخ ) بحق ان لفظة( ناصورائي ،ناصورايا )

هــي الدليل القاطع على قِــدَم الناصورائية المندائية وأصلهـا......

تتمتع ا لفلسفة المندائية بخاصية عظيمة تجعلها ثابـتة وكريمة ، ومحافظة على نقاء جوهرها لاتخضع لأحكام الزمان و المكان ، ما ان يصيبها اضطهاد، اوأذى دنيوي المتمثل بقوى الشر، والضلام على مر الدهور والعصور حتى يضن البعض انها قد تزول ، تنبعث مجدداً من بين الفوضى والاضطراب ، كاشفة عن ا شعتها النورانية ،واسرارها العظيمة بكل قوة وفخر، مبشرة أحبابها بالامل والاطمئنان والانقاذ الابدي من الخراب الدنيوي ؛ لانها متجذرة ... و الجذرُ لايموت ابدا .

" مبارك أنت { الناصِـروثا } الذي منك تعلم المختارون"

{ مقطع من دعاء النبي سـام بن نوح (ع)

مــن مواعــظ النبي يهيا يوهانا (يحيى بن زكريا ) عليه السلام للناصورائيين 

الصادقين والمؤمنين ...

" إذا أصبحت ناصورائياً ،فكلّ فضيلـةٍ من فـَضائـِلكَ ســلاحٌ

يـُعينُ باهري الصـدق أنك تـُعينهـُم بالإيمان والاستـقـامــةِ

والمعرفــةِ والحكمــةِ ، والتعــليم ِ، والرجاء ِ، والصــلاةِ

والتسبيـح ِ، والصـدقةِ، والطيبــةِ ، والتواضـع ِ، والاتقــان ِ

والرأفـة ِ، والحنان ِ، والتبصر ، ومـحـبة ِالــحـــــــــــــــق 

( كنزا ربا يمين الكتاب التاسع(

 

المصادر :

 

1ـ النشوء والخلق في النصوص المندائية اعداد وترجمة الاستاذ الدكتور 

صبيح مدلول (هبوط نشمثا في جسد ادم )

2ـ النبي يحيى بن زكريا نبي الصابئة المندائيين اعداد وترجمة الاستاذ 

الدكتور صبيح مدلول السهيري

3ـ النص الديني (18) من كتاب التعميد المندائي ترجمة وتعليق الترميذا 

الخميس, 04 نيسان/أبريل 2013 23:37

التعميد المندائي-المصبتا

( المصبتا ) العماد ، هو باب المندا والحياة المندائيه ، وبه يصير الانسان المندائي ابنا بارا وينتسب للمندائيه روحا وجسدا ، (آتوا الماء الجاري ، واصطبغوا صبغة تهب نفوسكم حياة من عالم النور -كنزا ربا ).

 

منذ فجر الانبعاث، ومنذ اول البشر ادم مارس (الاثري والملكي) والمندائيون العماد والى وقتنا هذا بدون انقطاع ، فتعمد ابونا آدم بهذا التعميد من قبل الملاك )هيبل زيوا ( فالتعميد ركن اساسي من اركان الدين وواجب على كل مندائي . وبما ان العماد بدء طريق يفضي الى اتباع الله ، لذا يشدد المندا على ضرورته فيدعوا الاطفال والراشدين والكبار الى تقبله والتعرف على قيمته ومفعوله فيهم ، فالانسان المندائي بالغا كان ام طفلا عليه ان يلج هذا الباب المفضي الى الله، الطريق والحق والحياة . وهذا مايبرر اصرار المندا على تعميد الاطفال ايضا في وقت مبكر بعد ولادتهم بشهر واحد، مرتكز على ايمان الاهل ويتجسد ايمانهم بالحي الحي العظيم من خلال تكريس اولادهم بواسطة العماد الذي يفضي بالمعمد الى حياة النعمه فيعيش في جوه ويتنشق عبيره .

 

في حفلة العماد يتقبل المندا باسم (هيي قد مايي) الحي الاول ويمثله في ذلك (الترميذا)عادة والمشتركون في الاحتفال ، وتكون مادة المعموديه هو الماء الطبيعي الجاري .الذي يسكب في القلب املا جديدا بافق يتفتح عن نقاء وبهاء حيث يقول الله في كتاب (سيدرا اد نشماثه- هذا هو الماء المقدس للحياة ، وانشىء في دار الحياة حيث عبر العوالم وجاء وشق السماء واصبح طاهرا). وهكذا فالماء الطبيعي الجاري الذي هو مادة العماد يتفق في رموزه مفاعيل العماد نفسه. فاذا بهذا الماء النقي حياة جديدة للمعمد، وهو الفرح الحقيقي الذي ينشأ عن نقاء القلب وصفاء العهد في نفس اتحدت بينبوع الحب والسعادة . وعندما يسيل على رأس المعمد وجبهته وذلك بالتغطيس والرش ، يردد المتعمد بعد الكاهن في اثناء التغطيس (انا -الاسم الديني- تعمدت بعماد الملاك بهرام العظيم ابن القدرة عمادي يحرسني ويسمو بي الى العلا اسم الحي العظيم منطوق علي) . يستقبل (الترميذا ) الراغب في التعميد في المكان المعد للعماد والمنداهو المكان الطبيعي لتقبل هذا العماد ،إذ انه اللقاء الطبيعي بين المؤمن والله ونقطة التفاف المؤمنين بعضهم مع بعض اسرة واحدة حول الله معربين بذلك عن انتماء ايماني وحياتي. وعندما يدخل الراغب بالتعميد الى المندا يتهيأ لينخرط في المجموعه التي اسسها الله ، وليصبح فردا فيها تسانده في معترك الحياة فلن يبقى في المستقبل منفردا ازاء صراعه الحياتي بل سيشعر انه ضمن مجموعه اخويه يعيش فيها الجميع متضمنين حياة الخالق الازلي . وبعد ان اختار والداه اسما يحمله طيلة حياته يتلفظ به محبوه بحنان، لكن في العماد قد جرت العادة الدينيه ان يمنح المعمد اسم ديني (ملواشا) رمزا للولاده الجديدة الروحيه واشارة الى الاسرة الجديده التي انضم اليها اسرة الحياة الاولى التي حافظت على الدين المندائي مدى العصور .

 

وقبل الشروع بهذا التعميد المقدس على الانسان المندائي ان يتخذ عهدا وموقفا معينا فيرفض الشر ويتبع الخير يرفض كل ماهو مناقض لله الحي الواحد ، الشيطان (روها)واعوانه واعماله معلنا ذلك بلسان طاهر ويعلن بذلك ايمانه وايمان الاهل ويشاركهم الرغبه، فمفاعيل العماد عظيمه تحير العقل فهو يمحو اغلب الخطايا وعقوباتها ويهب الفضائل الالهيه وحق الحصول على نعم حاليه وحق ارث السماء ومشاهدة عوالم الانوار وبعد هذه التهيئه ياتي التعميد .

 

يذهب ( الترميذا)الى الماء الجاري (يردنا) وينزل الى حد ركبتيه في الماء ويكون وجهه مقابل جهة الشمال اي عالم الانوار الابدي ، ويكسي (المركنه) العصا المقدسه باكليل الآس والمرماهوز ويثبتها داخل الماء اثناء التعميد وبعدها يحرك (الترميذا) الماء بيديه ثلاث مرات ليرسم ثلاث دوائر تعبر عن حدود التعميد وبعد هذا يبارك الترميذا الماء الجاري طالبا الى الله الحي الازلي ان يحل عليه روح (الاثري شلماي وندباي) فيتقدس ويطهر المتعمدين فيه وان يهب المتعمدين فيه نعمة الفداء فيخلع عنه الانسان المظلم ويلبس الانسان النوراني الذي اصبح متحدا مع الله ومحصن ومحصى بين الاولين المكتوبين في السماء .

 

وعندما ينتهي ( الترميذا)من قراءة صلوات الماء الجاري يكون طالب التعميد قد تهيأ للتعميد من حيث ارتداء الملابس الدينيه البيضاء (رستا) التي ترمز الى انسان النور ، واكليل الاس الذي وضع في خنصر يده اليمنى اي اقصى اليمين. وبعدها يردد (الترميذا) صلاة الترخيص بالنزول الى الماء الجاري (بشما اد هيي ربي انا اثبل بهيلا وهيلا اد يردنا الاوي شري نشي نيثي ونينهث ليردنا ونصطبا ونيقبل دخيا رشما ونلبش اصطلي اد زيوا ونترص بريشي كليلا راوزي شما اد هيي وشما منداد هيي مدخر الي)- المعنى بسم الحي العظيم انا اتيت بقوة الحي وبقوة الماء الجاري الذ ي سارقد عليه لانزل الى الماء الجاري واتعمد وانال الرسم الطاهر وارتدي رداء النور واضع على راسي اكليلا متالقا اسم الحي العظيم منطوق علي .

 

ثم ينزل الراغب بالتعميد وعلى اليمين الخلفي (للترميذا) الذي يقف مقابل جهه الشمال ويغطس جسمه كله داخل الماء ثلاث مرات ويرش (الترميذا)الماء على المتعمد من خلفه في كل مرة واثنائها يردد المتعمد مع الترميذاصلاة الاغتسال (طماشه ) ( انا الملواشه صبينا بمصبتا اد بهرام ربا ربا بر روربي مصبتاي وتيناطري وتسق الريش شما ادهيي وشما اداد مندا اد هيي مدخر الي ) - المعنى انا الاسم الديني تعمدت بعماد الملاك بهرام العظيم ابن القدرة عمادي يحرسني ويسمو بي الى العلا اسم الحي منطوق علي .

 

ثم يرسم الترميذا جبين المتعمد بالماء ثلاث مرات من اليمين الى اليسار وفي كل مرة يردد المتعمد مع (الترميذا) صلاة الارتسام (انا الملواشة رشمنا بروشمه اد هيي شما اد هيي وشما اد منداد هيي مدخر الي) المعنى انا الاسم الديني ارتسم برسم الحي العليم منطوق علي . ثم يعطي (الترميذا) بكف يده اليمنى الماء الى المتعمد ليشربه ثلاث مرات وفي كل مرة يطلب من المتعمد ان يعطي العهد (كشطا اسيخ واقيمخ) -المعنى العهد يقويك ويثبتك . وبعدها يرد (الترميذا) على المتعمد (بي وشكا وامر وشتما)- المعنى اطلب تجد تحدث تسمع . وبعدها يقرأ (الترميذا) الجزء الرابع من صلاة الانبعاث ويتوج بيده اليمنى للمتعمد على راسه . ثم يضع (الترميذا) يده اليمنى على راس المتعمد ويقرا الاسماء الطاهرة المقدسه طالبا له قوة ونعمة الحي المنتصر على الشر فيتسلح بذلك لصراع مستقبلي محافظا دوما على نقاء القلب.وبعدها يبسط (الترميذا) يده اليمنى الى المتعمد وياخذ منه العهد ويرد عليه )الترميذا ( ثم يخرج المتعمد من الماء وبعدها يقرا المتعمد صلاة الحياة (فرة الطريانا)وهو يدور حول الطريانا (وعاء البخور ).

 

حيث يقول (اسوثا وزكوثا نهويلخون ياملكي واثري ومشكني ويردني ورهاطي وشخناثي اد المي اد نهورا كليخون) -المعنى السلام والنزاهه لكم ايها الملائكه والاثريون والمساكن والمياه الجاريه والجداول وعلى ساكني عوالم الانوار جميعا. ثم يجلس باتجاه الشمال وفي هذه اللحظه يتحقق الحدث المهم في حياة المعمد ، اذ يتحرر من قيود الخطيئة ليلبس رداء النور ليعيش نقيا طاهرا معدا لميراث الحياة الابديه . وعندما يخرج(الترميذا)من ( اليردنه)وبيده وعاء الماء الذي (ممبوها)اي الماء المقدس يتم تكريس المعمد برسم الحي العظيم اذ يمسح (الترميذا ) جبهه المتعمد ثلاث مرات بال(مشا)وهو زيت السمسم الابيض الذي ارسله الحي العظيم الى هذا العالم ليشفي كل الالام وقد باركه ( الترميذا) بقراءة كل الصلوات الدينيه .

 

هذا هو سر التثبيت الذي به ينضوي المعمد تحت لواء الله الخاق الاعظم متسلحا بكل الطاقات الطبيعيه ترفدها المواهب الفائقة الطبيعيه التي نالها في العماد ليستطيع مقارعة الشر والامراض وتخطي الصعوبات الحياتيه التي تعترض سبيله نحو الفضيلة والكمال، فمن خلال زيت السمسم الابيض (شوشما هيوارا)الذي مسح به المعمد باسم الله لتحل البركه عليه كماحلت على الاباء الاولين .

 

وبعدها يضع ) الترميذا(يده اليمنى على راس المتعمد ويقرا عليه صلاة الاغتسال(طماشا) والاسماء الطاهرة المقدسة التي لفظها عندما كان واقفا في الماء الجاري ثم يمسك (الترميذا ) بيده اليمنى يد المتعمد لياخذ العهد من المعمد ان يغسل يده اليمنى بالماء الجاري لتصبح طاهرة حتى يمسك بها الخبز المقدس (بهثا) والماء المقدس(ممبوها) وعندما (يطمش ) اي يغسل يده يجب عليه ان لايتكلم تقديسا لصلاة (البهثا والممبوها)وبعد ان ياكل المعمد البهثا ويشرب جرعتين من الممبوها والثالثه يرميها المعمد على كتفه الايسر دلالة على غفران خطاياه ، حيث يقول (الترميذا) للمعمد(كل بهثخ شد ممبوهخ شد هللتا من يردنا اشد بيدا ال سمالا) -المعنى كل خبزك المقدس ، اشرب ماءك المقدس الذي حللت من الماء الجاري ارم بيدك على يسارك . ثم ياخذ الترميذا العهد من المعمد . ويستمر ( الترميذا )بقراءة الصلوات والتراتيل وعندما يصل الىصلاة شهادة التعميد يمد المعمد يده اليمنى الى الماء الجاري ويردد بعد الترميذا ( يردنا اد إصطنابا الاوين نهوي بسهدي اد لا فخنن من رشمن ولاشنينا لدخيا ميمران ) - المعنى الماء الجاري الذي تعمدنا به سيكون شاهدنا الذي لانغيره من رسمنا ولانبدل كلماتنا الطاهرة . وبهذه الشهاده يدعوا المعمد الى الحفاظ على شعلة الايمان الساكنه اعماق كيانه فيلتزم الصمت كل متطلبات هذه الشهاده الطاهرة ويسعى في اشعاع هذه الشهاده الطاهرة ويسعى في اشعاع هذه الشهادة نورا يضيء لمن حوله الطريق نحو الكمال والحقيقه. وعندما ينتهي ( الترميذا) من قراءة التراتيل يقف مع المعمد ويقرأ صلاة التوسل وطلب الرحمه والغفران وكذلك المعمد يطلب التوسل من ربه ان يغفر له خطاياه ويقبل ادعيته النزيهه وعند الانتهاء من الصلاة يعطي الترميذا العهد الى المعمد ويستمر الترميذا بالقراءة حتى يتناول (البهثا) ويشرب جرعتين من ( المبوها) والثالثه يرميها اسفل ( المركنا)دلاله على غفران خطاياه وبعدها يعطي(الترميذا) العهد الى (الشكندا) مساعد الترميذا حيث يمسك (الترميذا) يد (الشكندا) اليمنى ويقول ( كشطا اسيخ وقيمخ) ثم يرد عليه المساعد (بي وشكا وامر وشتما اثري اد سغدت وشبتنن نويلخ ادياورا وسيماخا ومبرقانا ومشوزبانا بثر ربا اد دنهورا ودورا تاقنا ومشبين هيي )- المعنى اطلب تجد ، تحدث تسمع . الاثيريون الذين قدستهم وباركتهم سيكونون لك مساعدين ومثبتين ومنقذين ومخلصين بالمكان العظيم للنور والدار الازليه وليسبح الحي .

 

وبعد هذا يجلس ( الترميذا) ويقرأ صلوات الختام وهي عبارة عن حل او فك مارسمه في بداية التعميد ثم يخرج تاجهمن على راسه الذي توجه في البدايه ويقبله ثم يرميان اكاليلهما في الماء الجاري رمزا للخلاص والطهارة .

من الامور المعروفة ان طائفة الصابئة المندائيين من الطوائف الاصغر عددا في عالمنا اليوم، ولكن هل هذا يعني تجاهلها وعدم سماع صوتها !! وهل يعني ايضا ان نتجنى عليها وعلى تاريخها ونبعدها عن الساحة الانسانية ونقلل من شأن تمسكها بنبيها ونعتبره مجرد "شفيع" كما فعل استاذنا جان صدقة في مقالته الاخيرة الموسومة (يوحنا المعمدان قديس في المسيحية ونبي في الاسلام) والتي نشرت مؤخرا في جريدة التلغراف*، وقد خلا العنوان الرئيسي للمقالة المذكورة من ذكر اسم اتباع هذا النبي الحقيقيين وهم الصابئة المندائيين !! ربما قد خفي على صاحب المقالة ان الصابئة المندائيين يؤمنون بان النبي يحيى يوحنا احد انبيائهم الاربعة الرئيسيين والتي تدور حولهم ديانتهم ومعتقداتهم، ولا يوجد دين يدعي هذا الادعاء غيرهم، فكان الاحرى بكاتب المقالة ان يتعب نفسه في البحث في عشيرة هذا النبي !! وسوف لا استطرد هنا للرد على المقالة المذكورة انفا، لان فيها من المغالطات التاريخية بخصوص الصابئة الشيء الكثير، ولكني سوف احاول ان اعرض لصورة النبي يحيى يوحنا كما يرسمها لنا الادب المندائي. 

أن الحديث عن النبي يحيى (يوحنا) ذو الشخصية التاريخية والدينية المؤثرة والمهمة جدا على الصعيدين الروحي والتاريخي، ليس بالحديث اليسير، وذلك لعدة أسباب منها:

· عدم وجود دراسات حقيقية خاصة بحياة هذا النبي في المكتبات العربية.

· اختلاف القصص حوله، الدينية والتاريخية، على الرغم من كونه أحد الأشخاص المهمين في الحركة الدينية التي انتشرت قبل وبعد الميلاد بسنوات في حوض الأردن وأورشليم.

· المكان والزمان اللذان شهدا وجوده، كانا من اهم مراحل التاريخ الديني والفكري والانساني على حد سواء، لما شهدته فلسطين ومنطقة حوض نهر الاردن قبل الفا عام، من صراعات فكرية وايدولوجية وسياسية في ظل الاحتلال الروماني للمنطقة، والتزمت والسيطرة اليهودية الدينية على المنطقة انذاك. ادت الى ظهور جماعات وطوائف تدعو الى اتجاهات فكرية مختلفة، بعضها حافظ على البقاء، والبعض الاخر انحل واختفى. وفي خضم هذا الصراع الفكري كان للنبي يوحنا (يحيى) يلعب دورا حياتيا وفكريا مهما قبل وبعد وفاته وعبر مؤيديه. 

السبب الرئيسي في هذا الغموض هو انه لم يكن مؤسسا لجماعة دينية معينة خاصة به، ولم يطرح فكرا خاصا، ولم يأتي بدين جديد. لان حتى الصابئة المندائيون والذين يعتبرونه أحد آبائهم الأربعة المقدسين وأخرهم، وحلقة مهمة من حلقات تاريخهم الديني والحياتي، يعترفون بان ديانتهم لم ينشاها هذا النبي، وانما كانت قبله وهو الذي أعاد الحيوية في فكرها وطقوسها الدينية، فهو النبي والرسول (نبيها وشليها) الذي انقذهم من ظلم اليهود، وارجع اليهم روحية المفاهيم التي يؤمنون بها. وان كلمة الرسول لا تعني هنا من ياتي بدين جديد او مؤسس لفكر خاص، وانما جاءت كلمة (رسول – شليها) بالمندائية بمعنى المنقذ ورسول من اجل اعادة بناء العقيدة والدين. 

فلذلك يؤمن المندائيون بان هذا النبي جاء ليرجع الناس الى الشريعة الاولى شريعة الإنسان الأول (ادم وحواء). لأن المندائيين يؤمنون بان شريعتهم ما هي الا شرعة الحياة الفطرية (شرشا اد هيي) التي عرفها والتزم بها آدم أبو البشر (أول إنسان عاقل). وتتلخص هذه الشرعة بمعرفة وعبادة خالقا وسيدا لهذا الكون والذي يسموه ب (هيي اي الحي او الحياة) فلذلك سموا انفسهم بالمندائيين اي (العارفين في اللسان الارامي المندائي ومن جذر الكلمة مندا-عرف او علم).

ان لهذا النبي في الأدبيات والتراث الديني الصابئي المندائي الكثير من الروايات والقصص التي تستحق ان يعرفها الباحثون وعامة الناس. والذي وصفه الانبياء والرسل الآخرين بأعظم الصفات. فها أنا اقدم للقارئ العربي الكريم فرصة معرفة النظرة الصابئية المندائية لاحد أنبيائها، الا وهو النبي يحيى بن زكريا – يوحنا المعمدان (مبارك اسمه). من خلال الادب الصابئي المندائي، وسوف يكون مصدري الاول كتاب (دراشا دْ يهيا – تعاليم يحيى) المخطوط باللغة المندائية (وهي احدى اللهجات الارامية الشرقية)، وهو أحد كتبهم المقدسة والمعتمدة بعد كتابهم الكبير (كنزا ربا – الكنز العظيم). والاثنين مترجمان الى العربية. 

بدءا يجب ان نعرف الاسم الحقيقي لهذا النبي، ولماذا هذا الاختلاف بالتسمية ما بين يحيى ويوحنا؟. ان الاسم الآرامي المندائي لهذا النبي هو (يهيا يوهنا) أو (يهيا يهانا) - أي يحيى يوحنا (وهو اسم مركب) .. وبالعربية (يحيى) – الجزء الأول من اسمه الآرامي المندائي ، وبالمصادر المسيحية (يوحنا) – الجزء الثاني من اسمه الآرامي المندائي. اي يصبح اسم هذا النبي ب(يهيا يوهنا - يحيى يوحنا) وهو اسم مركب كما تعلمون.

اما كلمة المعمدان التي تلتصق بتسميته المسيحية (يوحنا المعمدان) ليست اسم وانما لقب (كنية) عرف بها وذلك لتمسكه بتعميد الجموع الغفيرة التي كانت تقصده لتنال غفران الخطايا والدخول الى ملكوت الانوار. ولقد ورد هذا اللقب وهذه التسمية في النصوص المندائية ايضا، فقد ورد باللسان المندائي الارامي ما يلي (يوهنا مصبانا) أي يوحنا الصابغ، لان الصباغة هي المعمودية المندائية التي كان يمارسها. اما معنى الكلمتين التي تؤلفان اسمه المركب فتدوران حول معنى الحياة. ولقد وردت معاني كثيرة لاسم هذا النبي في كتب التراث العربي نورد اهمها: (الذي أحيا عقر أمه) لان أمه كانت عاقر لا تنجب ، أو (الذي أحياه من الخطيئة) أو (المحيي) لانه سوف يحيي الأيمان وعبادة الخالق في قلوب الناس.

ولد يحيى يوحنا حوالي سنة 34 – 36 قبل الميلاد (حسب التراث المندائي) وحوالي سنة 1 قبل الميلاد (حسب التراث المسيحي). وذكر ايضا بانه ولد في سنة 6 او 7 قبل الميلاد. وان التقويم الصابئي المندائي المستعمل حاليا والذي يسمى ايضا بالتقويم اليحياوي (نسبة الى يحيى) يبدأ من مولد هذا النبي. مع العلم ان المندائيين يحتفلون بعيد ميلاده (23 ايار) في عيد يسمى (دهفة اد دايما)، ولو ان هنالك راي لبعض رجال الدين المندائيين يقول بان هذا اليوم ليس عيد مولده وانما هو يوم تقبله للصباغة الاولى (التعميد)، فلذلك يسمى هذا اليوم شعبيا عند المندائيين ب(بعيد التعميد الذهبي) والذي يتقبل خاصة الاطفال الصغار التعميد المندائي في هذا اليوم. 

ولد النبي من أبوين كبيرين طاعنين في السن، وهذا ما تتفق عليه المصادر الادبية المسيحية والاسلامية ايضا. فالأب اسمه (زكريا) ويلقب او كنيته (آبا سابا) أي الأب الشيخ، لانه ذا مرتبة دينية واجتماعية عالية، عند اليهود والمجتمع آنذاك. ومعنى اسمه ممكن ان ياتي من كلمة (زكايا) في اللسان المندائي الارامي وتعني (القديس، النزيه، المنتصر). وكان عمره 99 سنة عندما ولد النبي. ولقد بارك الأب زكريا ولده النبي واعترف بنبوته. اما والدة هذا النبي فاسمها في المندائية (اينشبي) او يلفظ لفظا شائعا ب(اينشوي)، وبالعربية (اليصابات) وبالإنكليزية (اليزابيث)، وجاء ايضا اسمها في المصادر العربية ب(اليشاع)، وكانت عمرها 88 سنة، عندما ولدت النبي (يهيا يوهنا) وهي لم تنجب أبدا لأنها عاقر، وتذكر مصادر الادب المندائي بان (انشبي) شربت من الماء السماوي (يردنا اد ميا هيي – يردنا ماء الحياة) بقدرة الرب العظيم وبمعجزة اللاهية ، وتلبية لدعائها، فحبلت بالنبي الموعود (يهيا يوهنا). فهي لم ترى ابنها النبي بعد ولادته، إلا عندما صار عمره 22 عام، وجاء لها فعرفته من خلال غريزة الأمومة، وصاحت بوجه اليهود عندما أرادوا تسميته بأسماء يهودية مثل (بنيامين، شوموئيل .. الخ) .. ورفضت وأبت إلا أن تسميه ب(يهيا يوهنا) ممن وهبه الحياة.

ولد النبي وفق البشارة الإلهية لأبويه زكريا واينشبي وهي المعجزة الأولى، معجزة الولادة .. وان الله وهبه الحكمة وعلمه الكتاب وهو صغير في حال صباه فقد كان عمره 22 سنة عندما دعي كنبي في أورشليم .. وبعد ولادته مباشرة، وقبل ان تقع عينا والدته عليه، أخذه الملاك أنش أثرا الى ( بروان طورا هيوارا – جبل بروان الابيض) وتم تعميده بعد بلوغه سن الثلاثين يوما. واخذ ينهل الحكمة وتعاليم الرب العظيم من قبل ملائكته الابرار الى ان بلغ سن الثانية والعشرين، بعدها أعطي التاج والصولجان واصبح من الناصورائيين العظام (الناصورائي هو المتبحر بالعلوم الربانية)، وعاد بصحبة الملاك الى مدينة اورشليم ليجهر بدعوته واصلاحه الناس. 

ان القصة المندائية التي تؤكد على ان هذا النبي قد تتلمذ وعاش ونشا بعيدا عن اورشليم، في منطقة تعرف ب (جبل بروان الابيض) تاخذنا الى امكانية وجوده وتعليمه قد تمت ما بين جماعة الاسينيين في منطقة قمران، وممكن ايضا ان يكون هذا الجبل هو احد التلال والجبال المحيطة بمنطقة قمران (جنوب شرق البحر الميت). ومن باب اخر ممكن ان يكون ما بين الصابئة المندائيون في حران. والاخيرة فيها جدل كبير سوف احاول ان اناقشه في مناسبة اخرى بخصوص العلاقة ما بين الصابئة المندائيين الحاليين وصابئة حران القدماء.

ان الأدب المندائي المدون يتحدث عن زواج هذا النبي وتكوين عائلة كبيرة من بنين وبنات. فيذكر انه تزوج من فتاة اسمها (انهر) والذي يعني اسمها في اللسان الارامي المندائي (الأحسن، الاشرق، الاضوء)، ورزق ايضا بخمسة ذكور وثلاثة اناث، واسمائهم هي كالاتي: الذكور : هندام ، بهرام (ابراهيم) ، انصاب (الثابت) ، سام ، شار. والإناث : شارت ، رهيمات هيي (رحمة الحياة)، انهر زيوا (انهر الضياء).

توفي النبي يهيا يوهنا في فلسطين حوالي عام 28 / 30 للميلاد .. وكان يعيش حياته في التقشف والصلاة. فقد كان له مجموعة من التلاميذ ( 360 ترميذي)، وأن تلاميذه قاموا بدفن جسده بعد ارتقائه إلى عوالم النور، في دمشق سوريا واصبحت مرجعا للمندائيين وبعد ذلك صارت كنيسة إلى أن جاء الوليد بن عبد الملك الأموي وزينها بالفيسفساء وجدد بناءها وأصبحت تعرف بالجامع الأموي. وان هنالك اماكن اخرى يدعي الناس بانها ترجع لهذا النبي وخاصة في الاردن وفلسطين.

ابتدات قصة ولادته برؤية عجيبة راها احد كهنة اليهود في اورشليم، اختلت فيها موازين الطبيعة، اذ راى كوكبا هبط على انشبي ثم ارتفعت نار تتوهج في باب بيت زكريا. وحصل اضطراب في الاجرام السماوية، والارض انحرفت عن مكانها، ونيزك انحدر نحو اليهود واخر نحو اورشليم، وارتفتعت سحب الدخان في بيت المقدس. وعندما تليت هذه الرؤية على كهنة اليهود، اوعز رئيس الكهنة (اليزار – اليعازر) بان يستعان بتفسير تلك الرؤية بالكاهن (ليولخ) وهو كاهن ذو علم بتفسير الاحلام. فكتبوا رسالة يشرحون فيها الرؤية واعطوها الى (طاب يومين) ليوصلها الى ليولخ، وجاء تفسير الرؤية من قبل ليولخ بالاتي:

( سوف تلد انشبي ولدا ويدعى نبيا في اورشليم وانه سيقوم بتعميد الناس في الماء الجاري "يردنا" وسقيهم ماء الحياة "ممبوها"، فالويل لكم يا كهنة اليهود، اذا ماولدت انشبي مولودا، ويل لك يا معلم الصغار، وويل للتوراة، اذا ماولد يحيى في اورشليم. ان يحيى يجيىء ويصبغ في يردنا، وسيكون نبيا في اورشليم ).

فسرها الكهنة بان هذه رؤية ستتحقق بميلاد نبي من صلب زكريا وانشبي (اليصابات). وعلى اثرها ثار كهنة اليهود على الاب الشيخ زكريا، وقال (اليزار) له ( ابتعد عن اورشليم ولا تلقى الفتنة في اليهود )، ورد الاب الشيخ زكريا بصفع الكاهن اليزار على خده، قائلا له: (هل هناك من مات ثم عاش ثانية، حتى تلد انشبي مولودا؟ هل هناك من اصيب بالعمى ثم ابصر، او كان كسيحا ثم قام، حتى تلد انشبي مولودا؟ هل الاخرس يستطيع ان يكون معلما كي تلد انشبي مولودا؟ منذ اثنتين وعشرين سنة لم اقترب من زوجتي، فأي مصير ينتظرها وينتظركم، اذا ولدت انشبي مولودا؟!! ). 

فاعتمل الغضب والكره في قلوب كهنة اليهود الكبار، وخططوا شرا للتخلص من الوليد وامه .. وعلى اثره غضب الاب الشيخ زكريا وهمَ بالخروج من المعبد، فتبعه اليزار فراى ثلاثة اسرجة ضوئية تسير معه. فساله مستفهما عنهما، فقال له زكريا: ( يا اليزار يا رئيس جميع الكهنة، المشاعل التي عبرت امامي لا اعرف من تحرس؟!! والنار التي اتت من خلفي، لا ادري من ستلتهم؟!! ولكن اسمعوا: اي مصير ينتظرها، وينتظركم، اذا ما ولدت انشبي مولودا؟!! ).

وعرف عن هذا النبي بانه قوي وذو تاثير كبير على محيطه، ولقد جاء في الادب المندائي، وعلى لسان (يهيا يوهنا) بان مصدر قوته كانت من خلال تسبيحاته لخالقه وعبادته له، والتي صار بها كبيرا في الدنيا .. فهو لم يقم عرشا بين اليهود، ولا كانت نيته تبؤء المناصب وكراسي الحكم، لانه صاحب دعوة تصحيحية كان قد بداها في فلسطين، فقد كان زاهدا في الدنيا ولم يحب اكاليل الورود، ولم تغره النساء، ولم يكن من شاربي الخمر ولا اكلي اللحوم، ولم ينسى ابدا محبته وعبادته لابيه السماوي (الحي العظيم)، ولم يترك صباغته (تعميده) ولا رسمه الطاهر، ولم ينسى يوم الاحد المقدس. فلقد كانت مجمل احاديثه وتعاليمه تدور حول حيازة نعيم ملكوت الحياة بعد الموت. فهو يذكر الغفاة والجهلة والنبلاء والذين يتدثرون بنعيم هذه الدنيا الفانية، ويقول لهم: ( ماذا ستفعلون من اجل ان ترحل نفوسكم نقية من اجسادكم الى عالم النور بعد الحساب ؟ ).

وان لهذا النبي الكثير من الوصايا والتعاليم والحكم التي وردت في الكتب المندائية، والتي تدعو الى العبادة والنزاهة وتنقية الانفس. وسوف اورد بعضا منها للقارىء العربي، وخاصة ما يسمى منها بالراسيات:

 

رأس الحقيقة .. لا تفسد كلمتك، ولا تحب الفساد والكذب. 

راس ايمانك .. الأيمان بملك الأنوار المقيم والثابت في كل الفضائل.

راس ثباتك .. أن تقاضي نفسك.

كن كالجبل التي تنو فوقه الأزهار والأشجار ذو الرائحة العطرة.

راس علمك .. لا ترمي نفسك بالتهلكة.

راس معرفتك .. لا تقول ما لاتعرف.

راس طهارتك .. لا ترمي نفسك بالرجس.

راس ايمانك .. اعطف على الأنفس العانية والمضطهدة.

تشبه بمائدة الطعام التي تقدم للجياع وهي مبتهجة.

الحكيم من لا يبني بيتا بدون سقف.

 

كان النبي المعلم (يهيا يوهنا) حسن المظهر والوجه والصورة ، وهو على اكمل أوصاف الصلاح والتقوى ، وهو شديد الشبه بوالديه، فتذكر المصادر المندائية بان فمه وعينيه وانفه تشبهان فم وعين وانف والدته اينشبي ، وشفته وجبهته وطوله، تشبهان شفة وجبهة وطول والده زكريا ، ويقال أن النبي عند ولادته كان يضيء البيت لنوره وحسن وجهه وجماله. فكان لباسه البياض دائما، ماسكا عصا السلام (مركنا). وكان مبارك اسمه حكيم وحليم وذو نفاذ بصيرة وطبعه هادئ وودود ومتواضع ومتصدق وجميل الصورة وله جاذبية قوية وحديثه ممتع وكلامه رصين ومبني على تعاليم ربه، وكان محبا ومكرما ومجلا لأبيه وأمه وزوجته. وينقل أن النبي يحيى عندما يصلي تغرورق عيناه بالدموع من كثرة خشوعه .. ويقال أيضا انه عندما يبدا بالصلاة في الصباح الباكر ، حتى طيور السماء تركن إلى أعشاشها وتنصت لصوته وتراتيله النورانية الخاشعة . فكان يحب ويقدس يوم الأحد ، وكان يسهر ولا يغمض له جفن في ليلة السبت لاستقبال يوم الأحد ونهاره ليبدا بالصلاة. فتلك الصورة الشخصية لهذا النبي رسمها لنا الادب المندائي بكل وضوح. على الرغم من ان هنالك اسئلة كثيرة تدور حول حياته من مختلف الجوانب، تبقى مبهمة ويلفها الغموض لحد الان.

ان هذا النبي كان ينهمك في تعميد الجموع الغفيرة التي تطلب الرحمة والغفران من الرب وعلى يديه من خلال تعميده المشهور، فقد كان تعميده موجه لليهود وغير اليهود وبدون استثناء. ويجري ذلك كله في النهار، حيث ينصرف في الليل الى تلقين تلاميذه ومن يبغي المعرفة الحية، تعاليمه وووصاياه وافكاره الدينية.

اما بخصوص العلاقة ما بين يوحنا والمسيح .. فهما ومثلما هو معروف تعاصرا لفترة زمنية في منطقة اورشليم وضواحيها. ولقد جاء المسيح الى يوحنا المعمدان لكي يتقبل المعمودية على يده، وفي البدء رفض يوحنا تعميده ولكن في النهاية انصاع وعمد المسيح، وقد كان لهذا التعميد اهميته اللاهوتية والاجتماعية بالنسبة للاخير. ولحد هذه اللحظة هنالك بحوث ودراسات جدلية كثيرة في مجال العلاقة التاريخية والروحية ما بين هذان النبيان.

واذا اردنا ان نكون باحثين محايدين يجب ان ناخذ جميع النصوص الدينية (اي كان مصدرها) ونجردها من محتواها الميثولوجي الديني، ومقارنتها بالاصول الاخرى، وتحليلها حسب المعطيات التاريخية والاجتماعية في عصرها، لكي نخرج بصورة ربما تكون اقرب الى الحقيقة التاريخية. على العموم تبقى مساءلة حياة هذا الرجل النبي محط اهتمام الكثير من الباحثين (الغربيين) لما له اهمية في اكمال حلقات مفقودة من التاريخ الايدولوجي والروحي في فترة التاريخ المسيحي المبكر وكيفية نشاتها. فلذلك من الاهمية ان نقوم بعرض حياة هذا النبي من وجهة نظر مندائية، لكي نحاول مقارنتها مع وجهاة النظر الاخرى التي تصدت لهذا الموضوع في ادبياتها. على الرغم من اننا قمنا بعرض الجزء اليسير من تلك الرؤية المندائية وذلك بما سمحت لنا مساحة الكتابة في هذا المنبر الاعلامي المفيد.

* جريدة عربية تصدر في استراليا، الاربعاء 23 حزيران 2004 العدد 4191.