• Default
  • Title
  • Date
الأحد, 01 أيلول/سبتمبر 2013 14:33

العم توفيق وعبق التاريـخ

 يحـــلُّ بيننا  هذه الأيام وعلى الرحبِ والسَّعة ، العمُّ الطيب توفيق بقال الخدادي (أبو منتصر) ، قادماً  من              

إنكلترالزيارة أهله وأصدقائه وأولاده في هولندا ، وقد إنتهزتها فرصة لترتيب أكثر من لقاء معه ، ليتحفنا بما تحويهذاكرته الحديدية  الممتدة بأعماق عمره المديد ، بعضها يغوصُ في زمن  يمتدُّ أكثر من تسعين عاماً ، نستشف من خلالها ، عبق الماضي وبراءة الطفولة وحُسن سلوك أهلنا الأقدمين ، وهي فرصة أن نُلقي الأضواء على تاريخ مُشـرّف للطائفة المتميزة  ، بطيب شخصياتها من شيوخ إلى ( اُسطوات ) حرفيين مَهرَة واُمهات حنونات...

وقد وجدتُ وكمساهمة مني على هذا الموقع المندائي المبارك  ان اساهم ولو بشكلللجيل الجديد ، مما إحتفظتْ به ذاكرة رجل غنيّة مختصرٍ، متوخياً الدقة  اقدمها كمادة أرشيفية اُقدمها للاخوة المعنيين بالذاكرة المندائية ، مع الإعتذار عن بعض الهفوات إن أكن قد وقعت بها

عماد حياوي المبارك

 

 دعونا أولاً أن نكون بضيافة العائلة المندائية المثالية في الاخلاق والتربية وفي الثقافة ، عائلة الرجل الطيب ... عمو توفيق 

 

 

يسألني سائلٌ : من عَلـّمك شغل المينة الحارة ، والنقش على الذهب ، و(تطبـيك) الزردة بشكل مُحكم ؟

بهدوئه المعتاد ، وفي (طبكة) محله بالكرادة عام 1985 كانت اُولى الدروس بهذا العمل المميز ، ترِدْنا من قبل رجلٍ طيبٍ مُسالمٍ هادئٍ جداً ونَصوح  جـــداً ،إعتدنا أن  نُناديه ...( عمو توفيق ) .

 

ـ ليش عمّو تفضّل تركيب المينة (الحارة) على ذهب عيار 18 ؟  هكذا بدأناإطلاق اسئلتنا ...

ـ  حتى المينة ما تتكسّر ، يكون ذهب 18 عيار أنسب لأنه أصلب من ذهب 21 ، وبالتالي ما نحتاج سبيكة ثقيلة أي (كيج) عالي .

ـ ليش نُستعمل حجر المسن  وأيدينا بداخل الماء ؟

ـ حتى تنعم المينة أحسن ونشوف أوضح ونسيطّـر على الطايح .

ـ ليش إنموطر السلعة بدل ما نجليها ؟

ـ الجلاية تشلع المينة وتبدّل لونها ، والماطور يُعطي لمعة قوية مثل المراية على السطح الأملس ...

نستفزه بخباثة : ليش ما نحط مينة باردة ونخلص ، أسهل وأسرع ؟

ـ عفية عليك، ورة كل هالحجي تريد تحط مينة باردة ، هاي مجرد صبغ !

اذاً جميع ما  في جُعبتنا من (لـيشات) تجد لها جواباً وافٍ من رجل حِرفي إكتسب خبرة بعد أن توارث الصنعة عن أبيه (حجي بقال) وعن معلمه الفنان القدير حسني زهرون ملا خضر  ... 

 

اذاً هو العم (أبو منتصر) توفيق بقال خنجر الخدّادي ...

لنبدأ بمملكته  ، من زوجته المرحومة طيبة الذكر (ام منتصر ـ رازقية رشيد ملا خضر) ، هذه السيدة ، ربما بسبب عشقها لعائلتها ، فقد إختار لها الله المنيـّة قرب أولادها بعد رحلة علاج قصيرة في إنكلترا ضد مرض خبيث لم يمهلها طويلاً ، فدفنت بالقرب منهم منذ عشر سنوات خلت .

 كانت اُمّـــــاً صالحةً ،وربةَ بيتٍ ماهرة ، همّها الوحيد سعادة أبنائها و ... النظافة ، كلُّ شيٍءٍ لديها يجب أن يكون في نظافته (سوبر) ، من البيت للحديقة ، وكنا نلاحظ ذلك جلياً حتى على الرصيف والشارع أمام بيتها وأمام (بيتـُمْجان) ، أقصد (بيت اُم جان) جارتها المسيحية الطيبة ، حيث يقُمْنَ في مشوار غسل صباحي (يومياً) بغسل الشارع أمام داريهنّ ، لدرجة أنه كان حتى الاسفلت يزهو بسواده 

 

كان لإنتقالة العم توفيق في شبابه ـ بداية الثلاثينات ـ من العمارة لبغداد الطفرة النوعية الاولى ، ثم زواجه وسكنه بالإيجار بالكرادة ثم شراءه دار بالدورة والسكن فيه ، ثم بدار المأمون ، مُستقره الأخير ببغداد حتى هجرته لإنكلترا ، هي المحطات الأهم بمسيرة حياته .

خلال تلك السنوات وُلِد ابناؤه جميعاً ، عدىإبنته (ندى) التي رُزق بها في بيروت ، خلال فترة معيشته وعمله بين نهاية الأربعينات حتى منتصف الخمسينات ...

 

ولده البِكر (منتصر) مواليد 48  ، مهندس مدني ومقاول يعمل لحسابه ، رجل عصامي يحب عمله ويُتقنه ، عرفْتَه ـ كباقي إخوته ـ طيب القلب لايتفوه (العيب) مطلقاً ، وزوجته ماجستير علوم ، بنت خالته (عوالي) ام بسام وحسام ، مجتهدة خدومة بسيطة ، و ولديهما اليوم مهندسان خريجا لندن ، والعائلة هاجرت لانكلترا منتصف التسعينات .

(ضياء) خريج هندسة طيران اميركا ، هاوي وعاشق (بالوراثة) إصلاح وادامة الاجهزة والمكائن ببراعة نادرة وصبر ، زوجته (مواهب) عيدانية الاب مباركية الام ، ناشطة في شؤون المرأة وعضو فعال في الفيدرالية المندائية بهولندا ، لهم ولد (فادي) طبيب وسيم ومحبوب ومجتهد ، وبنت (تانا) مهندسة معمارية شاطرة ، يسكنون بقلب هولندا وفي (قلوبنا) لتواضعهم وبساطتهم 

 

و(جمال) كان ملازم إحتياط ، أسير تسع سنوات في حرب ايران ، لم يُمهل نفسه كثيراً في العراق بعد اطلاق سراحه قبل أيام من حرب الكويت ، فهجَر البلد بعد أقل من سنتين من تحرره حين يأس في وضع لا رجاء فيه ، ولده (قيصر) من زوجته وبنت خالته (بلقيس) محبوب لطيف وهاديء ، ومدلل لدى جده توفيق .

 

آخر العنقود (وهبي) متزوج من (سمر) ابنة بنت خالته ، سليلة عائلة شيوخ ، وهو أوسم الاخوان وأهدأهم ، لهما ولدان وبنت بكر حلوة كوالديها ، يعيشون بالسويد ، هجر البلد وهو في قمة العطاء والنجاح ، بعد أن أدركته الغربة وهو في عقر داره 

 

إبنته الكبرى ، هاجرت مع زوجها منذ عام 80 لإنكلترا ، (ندى) إنسانٌ مُضيافةٌ وتحبُّ مدَّ يدَ العون كزوجها الودود الغالي على الطائفة إبن الاهل الطيبين الغني عن التعريف (د . حسام صبيح دابس) ، هما لا يتوانان بتقديم المعروف ولمِّ شمل العوائل المندائية ببريطانيا سنوياً في دارهم المعمورة في لندن ، دون إن تدفعهم  مصلحة أو حب ذات ، وهم محطُّ حب وتقدير الجميع ، لهم ولد وبنت  ، ويعيش العم توفيق عندهم منذ ست سنين أو أكثر

 

والبنت الصغرى (هدى) أم الولد الشقي وصديقي المقرّب (سيوفي) ، زوجة اخي طيب القلب صلاح ولهم ثلاث اولاد وصلوا ، استراليا منذ فترة قصيرة ، وهياخت غالية عاشت معنا اولاً ببيت أهلي ،ألمسمنهاخلال 28 عامإلاكلخير  حتى يومنا هذا

  

مملكة العم توفيق الطيبة هذه ، يجمعها الهدوء والطيبة والتي إكتسبوها من أبيهم ، مربيهم ومعلمهم ، ولم تميل العائلة للتطعيم (بأغراب) ، ولم يحدث ذلك الا ثلاث مرات ، بزواج ندى من حسام ، وبعنصرين مباركيين ـ مواهب وصلاح ـ الذين اضافوا (بهارات) حارة سخّنت أجواء العائلة ، وصار يُسمع (أحياناً) في بيتهم ... صوت !

 

  للعم  إبي منتصر ولعٌ بتصليحِأيِّ جهاز نعجز أو (نتعاجز) عن إصلاحه ، ويتفوق علينا بمهارته ، ويؤدي واجبه بحرصٍ متناهٍ ، ويحترم عمله وغالباً ما يُعيد الجهاز ـ رغماً عنه ـ للعمل ، و كما كان حتى لو لم يشتغل ، وهو أمر لا يفعله الكثيرون !

 

غرفة مكتبهِ بمنزلهِ الكائن  في المأمون نسميها (صندوق الولايات) ، وهي مقدسة لديه ؛ففيها كان يقضي وقته ويمارس هواياته ، يحتفظ فيها بمئات الأجهزة وإلوف العُدد ، منها منذ خمسين أو ستين عام مضى ، ويضع كلَّ شيء بمحلة بعناية ويُدرِك ذلك جيداً ، ولم يصادف أن بحث يوماً عن حاجةٍ ما ، بل بالعكس يذهب إليها مباشرة ويجدها رغم الزحمة ، وما أكثر الساعات التي تستجيب لأنامله فتجدها تدور وتتناغم فيما بينها .بورشتنافيشارعالنهر،إحتجنا (تيغ ) للمناشيرلانالمتوفرفيالسوقرديءجداً،هبّوسألناماالنوعوالدرجةيومياًالتينحتاجها،حينكنا (ننشر) كعمالمئاتالقطع ،ثمفتحدُرجمكتبهوأخرجلنا (سيتات )انكليزيةقديمةذاتنوعيةفاخرةقاومتالزمن،لأنها ... لاتِعمةولاتزنجرولاتنكسر، وأنجزنا كلَّالقطعبأيديناحينإستخدمناها ودامت  زمناًأضعافالحديثة)  .)

 

منذفترةصمم العم على زيارة العراق رغم صعوبة ذلك ، وأمام (عناده) استسلم له اخاه (ابو زهيرجهاد بقال) وابنه منتصر ، واصطحباه في العام الماضي وزار (فردوسه) رغم حالة اللا أمان والتربان ، تحركَ وتنقل وشحن لانكلترا عارضة سينمائية وافلامـاً تعود لأربعين عام  خلت ، لكنه يعتبرها ذاكرة الزمان ، وعـزَل قوالب نادرة لاتزل محفوظة بالزيت ، منها لمصاحف ذات نقشاتٍ دقيقة جداً كان قد حفرها بيده ، لكنه لم يسلم في ذهابه هذا ؛ فلقد اُصيب بإنفلاونزا أقعدته الفراش ، رغم ذلك كان سعيداً جداً ؛ لذا أعاد ترتيب مكتبه وكأنه سيباشر تواجده من جديد ، و ودع رفاقه بالعراق على أمل أن يلتقيهم ثانيةً .

 

كان يحب متابعة مسلسلات التلفزيون ، ويعيش أحداثها ، ويُحب حديقته الخلفية ببرحياتها ، ويُعدُّ لنفسه الطعام الصحي ، ويؤكد على الإنتظام بكمية وتوقيت الوجبات بضمنها وجبة العشاء ، والإهتمام بنوعيته ومضغه جيداً ، وأكل التمر يومياً ، ويعتبرها أسرار تمتعه بالعمر المديد .

وينصح بأن لا (تغث) او تنغث . لانها أساس الصحة ، إضافة لذلك كان يحتفظ بصداقة مع الجيران ومع (شياب) المنطقة ، ويلعب الدومينو والطاولي والورق معهم .

قليل الكلام ، كثير الافعال ، يتمتع بذاكرة متينة .

 

في عام  91 ولما فتحنا أنا واخي صلاح محل صياغة في شارع النهر ، وكنا لانزال (لحيمية) كان سعر المحل (سرقفلية) ثمانون الف دينار ، تُعادل كيلو وربع ذهب ، فكان هو والمرحومين طيبي الذكر عمو عجيل زهرون (ابو خالد) واخي طارق قد ساهموا (مشكورين) بنصف المبلغ (كدين) ، وكان هو آخر من أعدنا لهم الدين ،  لكن كان المبلغ حينها لا يكفي لشراء (ذبيحة) !

 

والجدير ذكره هنا ما قاله بانه (تنين) أي بنفس عمُر والدي طيب الذكر المرحوم حياوي مريبط ، ولما كان أبي من مواليد عام 1917 ، فعليه يكون سنّهُ اقل من المئة ، إلا ان التجنيد (في الثلاثينات) دفع البعض ـ للحفاظ على أبنائهم ـ من (التلاعب) بمواليدهم ، وهو حدث للكثير في وقتها .

   

سأل أخي صلاح يوم خطوبة إبنته : عمّي خو ما تشرب بيرة ؟

ـ لا والله عمو .

في حفلة الزواج  في بيت أهلي ، شاهد العم توفيق أخي  يشرب الوسكي : ليش عمو مو تكول ما أشرب !

ـ اي والله عمو ، كتلك ما أشرب بيرة !

وجدنا يوماً بطل (وسكي) مفتوح ومتروك لأنه لا يشرب مطلقاً ،   منذ سنين ومنسي ،تصوروامفتوحفظننا أنه (مُعتّق) ، فقمنا كشباب في يومها و(سحكناه) ، لكن بعد ذلك (اتزوهرنا) وذبيناه من راسنا  . 

أقصى ما يتفوه به (لتأنيب) أحدٍ ما : عاشت إيدك أو عفية عليك !

كلمتان تحمل معاني واسعة ، كل ٌ يُفصّلها حسب ذنبه ، وكما تقول المقولة بأن ... الحُر تكفيه الاشارة !

 

الكلام عنك يطول  يا عمنا الغالي ، لكن سنترك الحديث لك ولحكاياتك الممتعة ، تحياتي لك ايها الرجل الطيب ، واتمنى لك دوام الصحة ... والعمر المديد .

 

عماد حياوي المبارك ـ هولندا

 

 

 

 ملاحظة : أغلب أبطال قصص العم توفيق الواردة أسمائهم في حكاياته ، هم اليوم في ذمة الخلود ، فليرحمهم الله ويتغمدهم برحمته الواسعة .

 

حكايات العم توفيق كثيرة ومتشعبة وفيها روح الشباب ونكهة الماضي ، وفرصة زيارته الأخيرة لهولندا لا تُعوّض بأن نلتقيه ، وهو الصديق الذي خبرناه منذ ثلاثين عام ، الرجل الحكيم المتزن صاحب الروح المرحة والحس الرفيع .

ولكي نستخرج قصص الماضي ، كان علينا أن نُثير فيه الشجون كي يحكي حكاية هنا أو حادثة هناك ، تمتد بعض جذورها لثمانين عام وربما اكثر ، أتمنى أن يتم أرشفتها ، كي تكون عوناً ومصدر هام وموثوق للذاكرة المندائية ، لما يتسم به العم من قوة ذاكرة وتركيز برغم سنه الذي شارف على المائة .

 

 

((( 1 )))

 

  عمو توفيق والتدخين

 

هذه الحكاية قصها لي العم توفيق بعد أن واجهته بسؤال عما لو كانيدخّن بحياته أم لا ، وما حكاية الساعات التي يعشقها ؟ 

 

... يقُص لنا العم توفيق وهو بكامل نشاطه وقوة ذاكرته ، بأن حياته مع العمل والإبداع والتميُز بدأت مبكرة في مدينة العمارة ، وكان لرفاقه طيبي الذكر (حُسني زهرون ، صالح باحور ، حنا صالح) وآخرون الكثير من المواقف الجميلة والصعبة ، وبعض الشراكات في العمل ، كما جرى مع العم (ناجي مريبط) حيث عملا لفترة معاً وكان العمل الفني من مسؤولية العم توفيق والاداري للعم ناجي ، وكان جدنا مريبط المباركي يجلس أحياناً عند عتبة المحل متمنياً أن تجلب دعواته وتواجده بالقرب منهم الرزق الوفير 

 ويتميز العم توفيق وكلُّ أصحابه بمهارتهم بفنون الصياغة ، خصوصاً النقش ، كما هو الحال مع حسني زهرون ، التي تتحدث أعماله حتى يومنا هذا ، لتصفه بالمعجزة بأعمال النقش وتصوير الوجوه على المعدن ، وعن ذلك يحدثني العم توفيق بأن أحد الأجانب طلب من حسني نقش صورته على لوح فضي خلال ثلاثة أيام ، ولكن لم ينتهِ حسني من إنجازها و أدركه السفر ؛ لذا إحتفظ العم توفيق بالقطعة ليومنا هذا واصفاً إياها بالتحفة .

وقد تميّز أبو منتصر ـ العم توفيق ـ بالنشر وعمل القوالب بيده ، ومن ثم يقوم  بأعمال النقش على الفضة وحشوها بالمينة ، وكان يحتاج في عمله لمعاونين كي يصبوا ويسحبوا الفضة بطرقهم اليدوية (البدائية) المتاحة ، فمثلاً كان سحب السبيكة كـ ( بطانة) يجري بالحمي والطرق بمراحل متعددة لعدم توفر آلة سحب .يدوية أو ميكانيكية ( كهربائية ) 

 

وتطور به الحال فأجّر محل بمدينة العمارة بربع دينار شهرياً وقسّمه لنصفين ، 

أخذ النصف الأكبر وأجر الآخر الىجايجيمدة الشهر نضير طلبات الشاي له ولضيوفه 

 

ولأنها فترة شبابه ؛فلقد أحَبّ تقليد الغير بتدخين السيجائر الانكليزية الفاخرة ماركة (كولدن فلاك) أي العلم الذهبي ، وكانت العلبة تحوي عشرة سيجائر فقط ، تعبق منها رائحة طيبة حتى قبل أيقادها ، وهي ميّزة ـ كما يقول ـ لم يَرَها بسيجائر أخرى ، هذه النكهات كلّفت الشركة المنتجة مبالغ طائلة ؛ للحفاظ على سمعتها ، لكن أدى ذلك لاحقاً ... لإفلاسها !

 

ومع آخر علبة سكائر دخنها بحياته ، كانت له ذكرى ، فيقول أنه بدأ التدخين عندما تحسنت حالته المعيشية ، ذلك بعد أن إتقن تصليح الساعات وبواعز من ذاته بعد ان إستهوته كهواية باديء الأمر ، ثم إتخذها مهنةً إضافية ، ووصلت سمعته بهذا المجال إلى خارج مدينته (العمارة) ، فتوافد عليه الزبائن من الكوت والناصرية والبصرة ، وقام على أثر ذلك بجمع بعض الساعات الثمينة أو النادرة محتفظاً بها ليومنا هذا ، وصار يشتري المواد الإحتياطية الأصلية من وكلائها بالبصرة ، وفاقت سمعته مصلّحي الساعات الثلاث الآخرين بالعمارة .

 

وكان في تلك الفترة شديد التدين (متهيمن) ، فكان ملتحٍ ويرتدي الدشداشة ، ويذهب إلى ضفة النهر يوم الأحد ليمارس طقوسه المندائية (البراخة والرشامة) مع جدّته، فصادفه عند عودته أحد الزبائن كان قادم خصيصاً له من مدينة بعيدة ، وطلب أن يفتح له المحل لإصلاح ساعته التي توضع بالجيب ، وأمام إلحاحه ، لم يجدِ العم توفيق بُداً إلا أن يفتح المحل خصيصاً له ، ونجح بتصليح الساعة لقاء أجر ، كان قد حسبه العم توفيق بأنه يكفي لشراء علبة سيجائر ... كولدن فلاك

 

لم يتردد الزبون بتأدية الأُجرة ، بل بالعكس دفعها بكل ممنونية ، وإضافة لذلك  أسدى نصيحة بأن يقلع ـ توفيق ـ عن التدخين لما معروف بأنها عادة سيئة مقرفة ومُضرّة بالصحة ، خصوصاً لشاب بمقتبل العمر .

وبعد إستماع العم توفيق له وقناعته بما سمع ، شعر بذلك الأحد المبارك بأن الله قد أرسل له الواعز لنصحه ترك السيجارة ، فوعَدهُ خيراً بأن يتوقف حالاً عن التدخين ، فطلب أن يحلف يمين على ذلك ... ففعل .

 

شكره الرجل لتقديره إياه وتصليح ساعته وإستضافته رغم اليوم هو الأحد ، ولوَعدهِ بالاقلاع عن التدخين ، وفي مقابل ذلك أعاد العم توفيق مبلغ التصليح بإلحاح ، قائلاً بأنه لو إستوفاه الآن لذهب لشراء علبة جديدة 

 

والمفارقة أن العم توفيق وجد أن ثلاث سيجائر لاتزال بعلبته القديمة ، فإمتنع عن تدخينها ، وقرر توزيعها على رفاقه (حسني وصالح وحنا) حينما إلتقاهم على ناصية الشارع ، متحدياً إياهم والجميع بأنه سيلتزم بوعده وبيمينه ، وظل حتى يومنا هذا لم يمسك السيجارة أبداً .

 

عن العم توفيق بقال ... عماد حياوي المبارك

 

((2))

 

خمس مرات (يعيش) عمو توفيق لحظات موت !

 

برغم سن العم توفيق الذي تجاوز المائة ، فإنه يتمتع بذاكرة حديدية ، حتى في أحيان كثيرة تحْضَره أسماءُ أشخاص حكاياته التي مر عليها زُهاء الثمانين عام وأكثر

وقصصه واقعية سلسة بسيطة ، ربما نكون جميعاً قد مررنا بها ، لكن لقدمها أصبحت ذي نكهة خاصة ، وهي تنم على دماثة خلقه وإتزانه وقناعته ،  وسلوكه 

الحكايات التالية التي تتعلق بلحظات تفصل االحياة عن الموت ، وكثيراً ما يقصّها علينا حين يُعقب على نعمة طول العمر ، وبأنه ولخمسة مرات رأى الموت أو وقع به ولو خلال رمشة جفن ، أي أنه (عاش الموت) بما تتضمنه الكلمة من تناقض ...

 

الاولى ... كانت عندما كان صبيّاً ، وقد تأثر بتَقوى جدته كثيراً (فتهيمن) لدرجة كبيرة ، وكان على الدوام يرافقتها للشريعة حتى فترة شبابه ، سيما أيام الأحد حيث الطقوس أوسع .

وكان لايتذوق طعاماً إلا إذا (طمش) يديه والطعام والأواني النحاسية بماء النهر ، ويتذكر أنه في شتاءٍ باردٍ تجمدت برك المياه بالعمارة ، عندئذ مسّتْ ملابسه (نجاسةٍ ما) فتحتمَ عليه أن (يطمش) نفسه بالنهر لثلاث (غطّات) ، وبعد أن إستكملها بشق الأنفس ، تفاجأ من إبن عمه: يقول  له  بأن عليه (طمش) الدشداشة قبل إرتدائها لأنها (نجسة) حين مسكَ أزرارها ، فتحتم عليه العودة لضفة النهر وطمش الدشداشة أولاً وتكرار (غطاته) الثلاث ، ويتذكر أنه فعل ذلك بطيب خاطر بينما كان كل شيء حوله ... يتجمّد !

 

وصادف يوماً في صغره أن ناوله رجل ثلاث حبات عنب ، فأسرع ـ كعادته ـ الى ضفة النهر التي تبعد عن بيتهم عدة مئات من الأمتار كي (يطمشها) لأنها من غريب قبل أن يتناولها ، فشاهد بلم صغير مربوط الى الجرف الطيني ، ووجدها فرصة أن يصل الى تيار الماء الأنظف فيما لو صعده ، لكنه وحين مد يديه من جانب البلم الى الماء ، فقدَ توازنه حين مال البلم وقذفه وسط التيار ، فصاح صيحة نصفها في الهواء ونصفها في الماء ، ثم بدأ يستنشق ويبتلع المياه دون إرادته ، فدفعت المروءة والرجولة أحد الرجال الذي صادف تواجده قرب ضفة النهرتلك   الصفات التي يتمتع بها الناس البسطاء ـ أن ينزع دشداشته ويلقي بنفسه لقاع النهر لنجدته وإنقاذه ، بعد دقائق كان الماء يخرج من أنفه بحرقة شديدة ليحل هواء طلق بدلاً عنه

 

يقول العم توفيق ، أنها لحظات كنت أهيم في عالم آخر ، وأستمع لأصوات غريبة وأشياء تُداعب وجهي ، أنه ـ يقول ـ عالم غير الذي نعيشه حتماً ، أبواب تجتذبني كانت مُشرعة أمامي لدخولها ، لولا أن خطفني منقذي  من براثن الموت ؛

 فبكيت ذعراً من المشهد مما ساعدني على إخراج الماء ، وأدركتُ مبكراً بأن الموت ملازم للانسان في صغره ، كما هو الأمر في الكبر !

 

والمرّة الثانية ... أنه كان وإبن خاله يلعبون حول الدار ، وكانت المرافق الصحية في بيوتأجدادنا عبارة عن جدران تُشكل ثلاث أضلاع لمربع والضلع الرابع مفتوح بإتجاه العراء ، أي ظهر البناء الطيني للبيت ، وكان لدى بيت خاله بقرة ، يُسميها العم توفيق (هايشة) ، بقرنين مدببين صغيرين ، وكالعادة فإنهم يكتفون بالإيحاء لها بواسطة عصا صغيرة كي تبتعد ريثما ينتهي الفرد من قضاء حاجته ، وقام الصبي توفيق بهذه المهمة بينما دخل إبن خاله المرافق ، وبسهوةٍ منه إقتربت (الهايشة) لتنطحه  محاولة رفعه عن الأرض ، وأصابه قرنها أسفل ظهرهِ مُتسببة له صدمة وألم شديد ، وكانت البقرة بصدد أن تدوس عليه ـ كما حكى له إبن خاله ـ الذي بدأ بالصراخ مذعوراً ...

عند ذاك كانخاله(ابو أحمد) في الدار ، فجاء مسرعاً ،وضرب البقرة وأخرجه من تحتها ، فحلف الخال بأن يذبحها في ذلك اليوم ، فبعث بمن قام بالمهمة ، وقام بتوزيع بعضاً من لحمها (قرباناً) لنجاته .

يؤكد العم توفيق بأنه حين فقدَ الوعي ، كان بإمكانه سماع فوضى من حوله ، وصوت اُمه وخالاته ونحيبهُنّ الذي يعلو شيئاً فشيئاً، لكنه كان يميل لأن يودعهم لعالم آخر غلبت فيه أصوات تستدعيه ، وإستسلم لسماعها مُكرهاً ، لولا أنه إستطاع تمييز صوت إبن خاله يحاكيه بعبارات كانا يتبادلانها عندما يلهَون بإستمرار ، فأنعشت فيه روح العودة له واللعب معه ، وجعلته يتحكم من جديد بإرادته وبِردّة فعله ، ففتح عيونه وإستقبل الحياة وكأنه ولد من جديد، لكنه بقي إسبوعـاً بالفراش وأخذ  يتحسن ببطء شديد .

يقول العم وقد وضع يده على أسفل ظهره ، بأن أثر (نطحة الهايشة) لايزال على شكل ندبة بين فقراته ...

 

والمشهد الثالث ، في مشهد غرق ثانٍ ...

عن السباحة في النهر ، لكن لسِن المراهقة ومرافقة الأولاد أحكام إلزامية بأن يلهون ويسبحون في الماء ، ومن المخجل حقاً أن ولداً يكتفي بالنظر إليهم ، فشاركهم  العم توفيق بلهفة ، وأحبّ أن يَعبر غطساً من تحت (دوبة) صغيرة متوقفة وسط نهر العمارة  الموفور المياه ، لكن ولسببٍ  مـا، دار به التيار وهو تحت المركب ففقدَ التركيز بالإتجاهات ، وأخذ يسبح بإتجاه طوله ، وكلما يرفع رأسه يجد بأن قاع المركب لايزل ممتداً هناك ، حتى فقد قوته من كثر المحاولة وتعب وإضطر لإستنشاق الماء الخابط التي أربكه وحرمه الرؤيا ، في هذا الوقت الحرج ومنازعته الموت ، كان لايزال يستمع لصيحات و(تشجيع) أصحابه عند الجرف ، ظناً منهم بأنه يُبلي بلاءاً حسناً ، فإستطاع تحديد إتجاههم ، فدفع بكل ما بقي فيه من طاقة وقوة نحوهم ، ليجد نفسه وسط أصدقائه غير المبالين بما حل به ، وكأنه كان يقوم بمغامرة تكللت بالنجاح ليس إلا 

لكن العم قرر بأنه لن يقترب من نهر ثانيةً ولايسبح ... حتى يومنا هذا

 

 

 

 

والرابع ، حين نجحَ بعمله في بغداد كعامل ، شاركه بمحل جديد (خاله وخلف جابر وناجي هرمز وآخر قريب لاُمه)وفتحوا لهم محل مستقل في شارع النهر ، وما أن إنتهت أعمال تبييض وكهربة المحل ، حتى شغلاه بسعادة غامرة .

في الصباح الباكر ، حضر توفيق وخلف وفتحا المحل ، فلاحظ خلف أن (سويج) الكهرباء يلسع وتوقّع أن تياراً يسري فيه، لكن العم توفيق سَخر منه وقال بأن ذلك إحتمال ضعيف كون التأسيس جديد والسويج مُغلق ، فوضع العم توفيق قدمه اليسرى على خشبة المنضدة ، بينما مسك بيده اليُمنى مفتاح الكهرباء ، فمسه التيار وجعله يتيبّس  جسمه  ويده اليُمنى ترتعش .

يؤكد العم توفيق بأن من حسن حظه أن رجله اليسرى هي كانت بمنأى عن سريان التيار وإلا لتأثر قلبه ، وربما لتوقف !

في باديء الأمر لم ينتبه صاحبهلمعاناته ، وما زاد الأمرُ سوءً أنه قد إرتبك حين لاحظ ما حل بتوفيق ، وصار يبحث عن وسيلة يمكن بواسطتها فصله عن الأسلاك 

هي دقيقة واحدة إستسلم فيها العم توفيق لأمره ، واُعيد فيلم حياته بسرعة أمامه وكأنه يريد به أن يودع أهله ومحبيه ...

لم يتذكر بدقة ما حصل لأن حالة إغماء قد لفته ، وحين فاق كانت ساعة  من الزمن قد مرت عاد خلالها نبضه لينتظم ، كون التيار المتردد ـ كما هو معروف ـ يتسبب بإرباك نبض القلب بحسب تردده ، ويؤدي لتوقف القلب لأنهما لايتوافقان مطلقاً ، وهكذا ظل يخاف ويتجنبالكهرباء .

لكن قلبه جاهد بنجاح مبشراً إياه بأن الله يريد أن يستمر ينبض عمراً مديداً .

 

في مشهد أخير ، في وقت متقدم  من عمره المديد، وكان قد رُزق بأبنائه الست ويسكن الدورة ، حين شعر بآلام شديدة ببطنه ، فنقله ـ أخوه الأصغر (جهاد) وزوجته(رازقيـة  الى مستشفى اليرموك ، وهناك اُجري له اللازم خصوصاً لما علم الدكتور مدير المستشفى به ، وكانا ذو علاقة طيبة ، لكن سرعان ما تدهور ضغطه ليفقد الوعي ، ومن ثم توقف نبضه جزئياً وإزرقت أصابعه ، وبينما حضر الأطباء كان قد فقدَ ردة الفعل ، وأصبح دون حراك 

 

بدا لأخيه وزوجته أن إيقاع الأطباء كان شبه يائساً ، وتصرفوا وكأن المريض أمامهم قد فارق الحياة ، لسبب يجهلوه كي يتعاملون معه ، ومن بين فوضى المكان ، وتوسلات أخيه (جهاد) بهم ، وتبادل كلمات إنكليزية بينهم ، سمع صوت صرخة قوية من زوجته بوجهه مع هزّه بقوة ، نفثت في نفسه حب أن يستجيب لها ، وأن يستفيق من سبات 

فإستطاع تحريك أصابع يده ، والغريب أن كل العيون كانت بإنتظار تلك الحركة ، وما هي إلا دقائق كان العم قد تغلب على الموت وفتح عيونه للزوجة الطيبة مستجيباً لندائها ، وكأنه لقاء بعد غياب !

 

دائماً يتذكر العم توفيق هذه المواقف الخمسة ويقول بأنه ربما حتى البشر ـ مثل القط ـ بعدّة أرواح ! ! ! ...

 

عن العم توفيق ... عماد حياوي المبارك

 

  

(( 3 )) 

عمو توفيق يحلف بأنه سوف لن يُغني يوماً ، وأن لا يمسك ربابة

 

يقول العم توفيق بأن أحد أهم أسباب تركه مدينته العمارة مبكراً ، أنه وبعمر 15 سنة ، كان قد ودع أخيه الأصغر (صبيح) البالغ 13 عام .

ويصف أخاه ـ بحسرة شديدة ـ بأنه كان مُطيع وذكي ووسيم للغاية .

 

كان العم توفيق يعمل بالصياغة وقد خطّ له طريق بكل ثقة ، بعد أن تتلمذ على يد أستاذه (حسني زهرون) باكراً .

وكان يكسب جيداً ويتكفّل بمصاريف أخيه (صبيح) لأنه كان يحبه جداً ، فيدفع له نفقات المدرسة ، وقاما بشراء الكتب والكراريس والقرطاسية ، وجهزوا كل شيء إيذاناً ببدء العام الجديد ، وأي عام ، فحياة (صبيح) ستتغيّر جذرياً بدخوله المتوسطة ...

وكان (صبيح) طول فترة العطلة يساعد (توفيق) في العمل ، ويعُد له مستلزمات الصب والجلاية ، والتنظيف ولم الطايح ، وبسبب ذلك كان يرفض اللعب مع أقرانه كي يبقى بجانب أخيه ، وكان يعمل ويترقب العمل بحرص وإهتمام شديدين دون كلل أو ملل ، بل بالعكس فقد كان يتمتع بدافع للعمل ، لم يجاريه في ذلك أحد .

 

ولم تُفِد توسلات العم توفيق بأن يتجنب أخوه الأصغر العمل الشاق ، فقد كان يُثبت بأنه قادر على أدائه ، ويؤكد له بأن العمل أهم من مجرد اللهو مع أقرانه .

 

في المساءات الجميلة لأيام الصيف الطويلة ، كان الأخوين يلتقيان بمعية والدتهما ، فيقوم العم توفيق بإستكمال عمله الصباحي بمشوار مسائي ، كان ـ آنذاك ـ يتضمن نقش ثلاث ملاعق فضة يُكلفه بها الصائغ (سلمان) ، حيث يتلقى اجرة (عشر فلوس) عن كل واحدة ، وبين كل وجبة عمل (إتمام ملعقة) واُخرى، يقوم العم توفيق بالغناء على أنغام الربابة ، ويرى بعيون صبيح السعادة والمتعة والطرب

 العم توفيق يجيد غناء البوذية والعتاب ، كلمات وأداء رائع ، إستقطب صوته وعَزفه الجيران والأصدقاء ، فطاب لهم سماعه .

ويقول بأنه هو من صنع الربابة بيده وإعتزّ بها كثيراً ، ولم يعُد بمستطاعه هو أو سواه صناعة شبيهة لها ، لدقة صنعها وعذوبة صوتها ، ولإجادته العزف عليها ، حتى غدت الشقيق التوئم لصوته .

 

وفي صباح يوم من أيام الصيف ، وبينما العم توفيق ينام في السطح ، كان صبيح ووالدتهما ينامان في غرفة وسط الدار ، فوجدت الام أن إبنها النائمعلى تخت ، لم ينهض باكراً كعادته ، بل ولم يتحرك ، فدب فيها قلقٌ ؛ بسبب سكونه ، فندهت (توفيق) كي يتفقّد أخاه وصديقه ... صبيح

ويتذكر جيداً أنه عاش مشهد مُرعب لم يغِب عن باله رغم مرور ثمانين عام عليه ،فلقد وجد أخاه جثة هامدة دون حراك ، دون أن يسبق ذلك أية شكوى أو إستغاثة ، وأنه رأى أن تلك البشرة الوردية الجميلة ... غدت صفراء شاحبة !

لم يعلم أحدٌ حتى اليوم ، لِمَ مات الصبي ، فلا أثر للدغة عقرب أو حيّة ، ولا أثر لأي فعل خارجي ، ولا شكوى سبقت ذلك اليوم المشؤوم .

 

 

لكن المشهد ما غاب ولشهرين عن مخيلة العم توفيق ، فقد ظل يعيش الصدمة ويعاني ، وكل يوم يجده أمامه وقلبه وبطنه توجعانه باستمرار ، حتى وجدها الفرصة متاحة بالإبتعاد والسفر لبغداد وأن يبرح مصدر الألم الذي رافقه الى غير رجعة .

 

الغريب بأن العم توفيق حين يقص علينا هذه الحادثة ، كانت عيونه تغرورق بالدمع ، لتكشف لنا  مشاعره الأليمة  تلك ، فيتألم لفقد أخ وصديق حنون لم تـُعوضه الأيام ولا السنين مهما طالت !

 

في خضم تلك اللحظات العصيبة ، وبينما يتجمع الأهل والجيرات على وقع صراخ الام ، وبكائه وحسرته لفقدانه رفيق عزيز على قلبه ، كانت أيادٍ خبيثة تتسلل الى رفيقته الغالية ، ربابته الحزينة ، فقد قام أحدهم بسرِقتها غير مبالٍ بما تعنيه لتوفيق ، ولا كيف أنها ترتبط روحياً بصوته دون سواه !

 

حلف العم توفيق بأن لا يصنع ولا يمسك ربابة ، وأن لا يُغني ما دام يسري في عروقه دم ، رافضاً دعوة أحد المهتمين من السعي ـ بسبب عذوبة صوته ـ لإنظمامه لكورَس الإذاعة ببغداد حين اُعجب بصوته وأدائه الجميل  .

 

 ((4)) 

عمو توفيق يحلف بأنه سوف لن يمسك (ستيرن) ولن يسوق سيارة

 

 

قرر العم توفيق بعد إستقراره مطلع الخمسينات ببغداد وتحسن حالته المعيشية من شراء سيارة ، وكان صاحب شركة (بد فورد) ببغداد المرحوم (فايق عبيدة) يرتبط بصداقة مع العم توفيق ، فوعده بأن السيارة الفورد البيضاء الجميلة الواقفة في المعرض ستكون من نصيب العم بمجرد تعلمه قيادة السيارة وحصوله على الرخصة .

وكان سعر السيارة ـ على ما يتذكر ـ هي بسعر تفاضلي يبلغ 800 دينار .

 

إستهوت العم توفيق الفكرة ، ودفع مقدم إجور تدريب وإستحصال إجازة ، وكان هذا المبلغ 200 دينار .

وبعد أول درس وأول جلوس له خلف (الستيرن) شعر بالسعادة وبأن العملية سهلة وتستحق بذل الجهد وإنفاق المال ، سيما وإمتلاك وقيادة سيارة يُعتبر طفرة نوعية في حياة الشخص في المجتمع البغدادي آنذاك .

 

وبينما كان يسير بالطريق عائداً للبيت ، بنفس يوم تدريبه الأول ، راحت عيونه تترقب ـ بالصدفة ـ مشهد بناورامي ، فقد كاد صاحب سيارة أن يدهس شاب من بين شابين آخرين كانا يعبران نهر الطريق .

وتطور الإحتكاك البسيط بين السائق والرفاق الثلاث ، فتبادلوا الشتائم ، متهماً كل طرف الآخر بالتقصير .

 

ورغم أنه لن تكون هنالك حادثة ولا خسائر أو أذى للطرفين ، لكنه سرعان ماتحولت الشتائم لعراك بالأيادي، بعد أن توعد الرفاق الثلاث السائق بمعاقبته مستغلين الفرق العددي ، ولم تُفد محاولات العم توفيق فض الإشتباك أو تفريقهم ، حتى حين 

دعا السائق أن ينسحب وأن يهرب  

صار السائق ضحية تهور الآخرين وليس تهوره ، ولم يكن الإشتباك في صالحه أبداً ، لأنهم مسكوا به جيداً وأشبعوه ضرباً .

 

هكذا مشهد ، لم يكن مألوف لدى العم توفيق أبداً ، وبينما إبتعد الجميع وفض النزاع بما لا تُحمد عقباه ، تراءى لذهنه فيما لو كان هو السائق ، وتصوّر لو أنه الجالس خلف (الستيرن) بدل الضحية ، لكان قد تلقى الضرب والإهانة .

 

ولما كان (عود) العم توفيق ورزانته وهندامه لا تسمح بأن يكون هو الضحية ،  فكر في تلك اليلة بالحادثة ، وقرر بأن لايستمر بالدروس وأن لا يقتني السيارة  ، فإعتذر لصديقه (فايق عبيدة) ، وأقسم (حلف) يمين له بأنه سوف لن يجلس خلف (ستيرن) يوماً وأن لا يسوق سيارة ، ما دام قلبه ينبض 

 

((صدق العم توفيق مع نفسه ، فلم يمسك يوماً الربابة ولم يُغنِ ، ولم يستحصل إجازة سوق ولم يجلس خلف ستيرن ويقود سيارة حتى يومنا هذا ))

 

عن العم توفيق ... عماد حياوي المبارك

 ((5))

 

عمو توفيق يتزوج

 

اقترح عليه أحد أقرب ألأصدقاء وهو (خلف جابر) التحول للعمل ببغداد ، وَعَدَهُ بأنه سيرسل له برقية حالما يستحصل موافقة صاغة بغداد على إحتضانه ، وفعلاً لم تمر سوى (يومين) فقط ، كانت برقية من بغداد ترحب بمجيئه ، حيث تبيّن أن سمعته الطيبة سبقته الى هناك .

 

 في منتصف الثلاثينات ، كانت مسألة السفر من العمارة لبغداد بالِغة الصعوبة ، فلا شوارع معبدة ولا وسائط نقل سريعة أو مريحة ، والسيارات كانت بهياكل خشبية وبدون زجاج نوافذ ، وبعضها مكشوف ، يتكدس المسافرون بداخلها وعلى ظهرها ، يركبون وينزلون من كافة الجهات مع بضائعهم ومقتنياتهم وحتى مع حيواناتهم  

 وكان اليوم الأول قد إنقضى بوصوله مدينة الكوت ومبيته عند أحد الأقارب ، ثم معاودة الرحلة بإتجاه الفردوس المنشود ... بغداد

 

إنتقالة بهكذا حجم تُعتبر نوعية بحياة صبي في سن السادسة عشر ، حيث التغيير بكلِّ شيء ، المدينة حديثة ، إنارة كهربائية وشوارع معبدة وبنايات متعددة الطوابق ، فنادق ومطاعم ومياه بالأنابيب ، والأهم ما وجده في طرُق  وإسلوب السوق وأنظمته وقواعده ، وأولها أنه سيتعامل مع معدن أصفر ثمين يَغلب علىالمعدن الفضي الذي سبق أن خَبِرهُ وطوّعه   . 

 

إشتغل أولاً تحت يد (ناجي هرمز) في شارع النهر ، ثم سرعان ما شق طريقه بثبات وتميُز ، فإحتظنه الصاغة اليهود ، وشيئاً فشيئاً منحوه راتباً مجزياً ثم أضافوا له نسبة من الأرباح ، وهو ما كانوا يرفضون مجرد مناقشته مع آخرين .

 

والصاغة اليهود يتميزون بذكاء ودهاء ، فيقومون بإمتحان نزاهة وصدق وأمانة العامل الحَدث من خلال إستدراجه بإعطائه الذهب دون وزن ، لكن بالمقابل يكون بإمكانهم وبطريقتهم الخاصة عِبرَ حسابات اُخرى ، الوصول للوزن بدقة دون دراية العامل ، ومن خلال ذلك ، يحكمون على أمانة العامل من عدمها ، وبالتالي يُقررون فيما لو يستمر بالعمل معهم .

ويقول العم توفيق أنه ـ وللأسف ـ كثير من العمال المُستجدين ، برغم كفاءتهم بالعمل ، يخسرون فرصة العمل لأنهم (يرسبون) بالإختبار .

 

كان إيقاع الحياة ببغداد قد إبتعد بالعم توفيق عن التديّن المُفرط الذي تحلّى به في يفاعته بمسقط رأسه ـ مدينته العمارة ـ وأخذهُ العمل والسوق الى حياة الجد ، وشوارع بغداد وميادينها لحياة اللهو ، وكان في الدخل الوفير الذي يدره عمله ، ما يكفيه ويفيض ، فيبعث به صوب أهله ...

 

وقد أبدع العم توفيق بصياغة سوارات (الدبابة) المنقوشة والمطعمة بالميناء الحارة ، وهي إنتقالة هامة ليست بإسلوب العمل فقط ، بل في صياغة الذهب بدل الفضة أيضاً ، ووصلت درجة تقديره الى أنهم قربوه منهم ووعدوه بالزواج من أحد بناتهم التي وصفوها بأنها غاية في الجمال .

 

التقاليد اليهودية آنذاك ـ يُخبرنا العم توفيق ـ تُحتم على العريس إعطاء الموافقة قبل أن يرى عروسه ، لكن ومع صعوبة هكذا شرط ، كان العرض في عمومه قد أغراه لدرجة مُسايرتهم والبحث عن وسيلة للقياها ، أو مشاهدتها على الأقل ، لكن ولأنه وحيد في المدينة ، تعذّر أن يرسل مرسالة من طرفه لها ، كأن تكون ام او اخت او خالة

 

في هذه الأثناء ، كان قد وصله (طارش) يُخبره بضرورة العودة لدياره لحضور مناسبة زواج أحد أقربائه ، فإتجه دون تردد لحضور تلك المراسيم ولقاء أصدقائه الطيبين بمدينته .

 

كانت تربطه بالعم (رشيد ملا خضر) صداقة رغم أنه أكبر سناً منه ، ويَعتبرُ ـ الشاب توفيق ـ بأن العم رشيد هو أول من علـّمه  وأدخله ومن نعومة اظفاره  لعالم الصياغة قبل الآخرين 

هكذابدأالعمتوفيقحكايتهعنرفيقةدربه  ( ظفيرتها على أحد كتفيهـا  ، تنوّر مجموعة البنات من حولها )ولما سأل الرّفاق عنها يوم الزفّة ، قائلاً :من هذه ؟  ، قالوا بانها ... إبنة العم رشيد

كانت لحظات أنـْـسَـتْهُ (مخطوبته) ببغداد ، وأنسته شارع النهر ، بل بغداد بمن فيها 

 

لم يتردد والدها لحظة بإعطائه الضوء الأخضر ، ولتكون بين ليلة وضحاها ، الزوجة والصديقة ، ومن ثم الام لأولاده الأربع وبناته الاثنتين ، عاشت (رازقية) على الحلو والمر معه أكثر من نصف قرن ، وقد أفنتْ حياتها في خدمته وأطفالها الست ، حتى رحيلها لجنة الله .

كانت تلك (الظفيرة) التي داعبت أحاسيس توفيق ومشاعره ، لم تفارقها يوماً حتى رحيلها ، وهي الإمرأة المعروفة بمثابرتها وحرصها على اُسرتها ، كما عَرف كل من زار بيتها ، شدة نظافتها وتقواها ... رحمها الله .

 

... يتذكر العم توفيق اللحظة التي جمعته بالفتاة اليهودية بعد زواجه وعودته لبغداد ، ويضحك حينما يقول بأنها اللحظة الوحيدة ـ بسبب شدة جمالها ـ التي تجعل كل رجل يشعُر بالندم لو لم يحصل عليها ، وبأنه (تسرّع) بالزواج التقليدي ، ويأسف لرحيله للعمارة قبل حسم موضوعها !

 

 لكن ... الحمد لله والشكر ـ يقول ـ أن اقترانه بطيّبة الذكر المرحومة أُمِّ منتصر (رازقية رشيد ملا خضر) كان له (فأل) حسن طيلة مَسيرة حياته ، وبوجودها حقق جميع ما يتمناه إنسان .

 

عن العم توفيق ـ عماد حياوي المبارك

 

((6))

عمو توفيق بالمدرسة

 

كان حسني زهرون يكبر بقية (ربعه) ، وكان يقوم بإختبارهم بحزورات مساء كلِّ يوم كوسيلة للهو ، ومن بين هؤلاء الرَبع إبن عمه سليم زهرون وزكوري جبوري وتوفيق بقال ، وهم جميعاً أصغر منه بعدة سنين ، وكان يمكن لتوفيق أن يُجيب على الحزورات قبل أقرانه  

ويتذكر منها أن حسني يريد أن يكرر الأولاد بعض المقولات ثلاث مراتٍ بسرعة وبدون إخطاء ، فمثلاً

بيدي صم شيص

بيدك صم شيص

مدري صم شيصي أحسن من صم شيصك ؟

لو صم شيصك أحسن من صم شيصي ؟

(الشيص : التمر الساقط تحت النخلة قبل نضَجَه) .

 

ولما إنتبه أهله إلى تفوقه وذكائه ، قرروا تسجيله بالمدرسة الإبتدائية التي كانت بعيدة أول الأمر ، ثم بعد حين إنتقل مع أصحابه وجيرانه لمدرسة (السّنيّة) حين تم إفتتاحها بالقرب من دارهم 

وعند إلقاء نشيد الصباح ، طلب المدير ـ ويتذكر العم توفيق أن إسمه المرحوم (هاشم السعدي) ـ من الطلاب غير المسلمين ، الإصطفاف على حِدة ليتعرف على أعدادهم ، فوجد فيهم ست أو سبع مسيح وأربعة يهود وستة عشر مندائي ، ومن أسماء زملائه المندائيين ... (عزة زهرون ملا خضر ، نصرت باحور ، حنا عايش ، أحمد عبد الله ، نجم عبد الله ، عبد الله الشيخ ، صالح باحور ... وآخرين) وكانوا بأعمار متفاوتة ومراحل عدّة ، لكن أصغرهم كان صالح ، وأكبرهم عزّة .

 

فطلب المدير وبمبادرة شخصية منه ، من الطلبة المندائيين بسبب عددهم الكثير ، تكليف مُدرس ديانة ولغة مندائية ليعطيهم حصة يومية عند الظهر ، وخصص لهم صف مناسب في المدرسة

وقام متطوعان ـ هما الشيخ ضيدان والشيخ زهرون ـ  بإعطائهم دروساً عن الديانة المندائيةوأنبيائها وتاريخها ، وعناللغةالمندائيةوحروفهاوطريقةكتابتهاودروساً اُخرى 

ويتذكر العم توفيق طيبة شيوخنا الأفاضل ، ويقول بأن الشيخ ضيدان رحمه الله كان كريماً عزيز نفس ، حتى أنه بعد سنين حين فتح العم توفيق محلاً له ، كان يزوره على الدوام ويجالسه ، لكن في أيام الأعياد لم يتواجد في السوق ، فيقوم العم توفيق بالبحث عنه كي يُعطيه إكرامية العيد (ربع دينار) بينما الشيخ الفاضل كان يأبى أن يطلبها بلسانه ، لأنه كان غني نفس ولا يطالب أحداً بشيء .

 

وفي المدرسة ، وبينما كانت حصص الديانة المندائية تجري بشكل سلس ، وقد حفظ الطلاب الحروف المندائية وطريقة كتابتها ولفظها ، ومعلومات مفيدة اخرى عن البراخة والرشامة بتفاصيلها ، حصل أن تجمَعَ بعض الطلبة المتسكعون يراقبون ويتطفلون على الدرس من خلال النوافذ ، وأخذوا شيئاً فشيئاً يُشاغبون ، فدعاهم الشيخ ضيدان بحكمته المعروفة أن يجلسوا ويستمعوا للدرس ، مَثلهم مَثل زملائهم الصابئة 

لكن كان عددهم يزداد ، وإزعاجهم يكبر ، وصدرت منهم مضايقات ، تطورت لكلام بذيء ، وحتى لما إشتكى الشيخ للمدير ، باءت محاولات المدير بتشتيتهم بالفشل ، لأنه وما أن يبتعد ،  حتى يعودون و يتجمعون من جديد .

ولم تـَدُم المحاضرات إلا شهرين إثنين لتتوقف ، وكانت خسارة كبيرة وفرصة لاتُعوضلطلبةمجتهدين،وأساتذه متميزين 

 

  لكنه يؤكد بأنها تجربة ناجحة ، لاتزال تلك المعلومات الغنيّة راسخة في ذهنه ، ويُردد ألف باء المندائية ( آ   با   جا   دا   ها ... وهكذا) التي يتذكرها بنُطقها الصحيح وتسلسلها حتى يومنا هذا ، وظل الطلاب في وقتها يتبادلون كلماتها فيما بينهم

 

عن العم توفيق ـ عماد حياوي المبارك

 

((7))

عمو توفيق في بيروت

 

بعد زواجه وولادة إبنه البكر (منتصر) في أواخر الأربعينات ، قرر السفر الى لبنان ، بسبب سمعة لبنان الطيبة في مجال صياغة الذهب ، وبالتالي إستغلال الفرصة لتقديم فنه المميز في أعمال المينة

والطريق وجدها العم ـ كما توقع ـ متيسرة له ، حيث لم يجد منافساً له في مهارة النقش ووضع المينة أحداً ، وتزامل بسرعة مع (الصنايعيّة) الذين كان معظمهم سوريين

وعلى أثر تقدمه بالعمل وإكتسابه السمعة الجيدة ، عاد للعراق سريعاً لإصطحاب زوجته وولده ، وأجّر سكن مناسب ومحل في وسط بيروت ، ورُزق ببنته ندى

 

كان العم يميل للقيام بإستكمال عمله مساءاً في البيت في سبيل المحافظة على أسرار المهنة ، وكان لـ (رنّة) السندان وإهتزاز الأرض ما شكى الجيران منه ، فعمدَ لطريقة ذكية بأن فصَلَ السندان عن قاعدته وجعل عدة طبقات من قماش الجوت (الكونيّة) بينهما ، وحل بذلك ما أقلق جيرانة وحافظ على علاقة حُسن الجوار معهم . 

 

ورغم أن العمال السوريين أصدقاء وزملاء له ، لكنهم كانوا يراقبونه في طريقة النقش التي تـَميز بها ، وراحوا يقلدون الأشكال التي كان ينتجها ، وهي المصاحف (القرائين) المطعمة بالميناء ، وصاروا منافسين له وبأسعار متدنية بالسوق

مما إضطره لأكثر من مرة لتغيير قوالبه التي يُصنّعها بنفسه ، ولأنه كان يُنوّع بإسلوب العمل والإنتاج ، نجح بذلك ، لكن بقي (زملاء) المهنة يتجسسون على عمله ، فتحول لوضع الميناء بالبيت ، ذلك بعد أن كان ينقشها بالمحل ، وبهذا كان إنتاجه يُباع ، وكان بمعدل عشرة مصاحف أسبوعياً .

 

ومن بين زبائنه ، كانت إحدى أخوات الملك فاروق ، التي طلبت كلَّ إنتاجه لتقوم بتوزيعه على أخواتها كهدايا من بيروت للقاهرة .

وجاء وقت ، أغرق العمال السوريون السوق بإنتاج مُقلد ، ورغم أن العم كان يعلم بأن إنتاج سواه كان يفتقد اللمسة الأخيرة بفن تركيب المينة الحارة ، لكنه فضّل الصبر وعدم الإصطدام بأحد ، وهو أحد أهم مباديء حياته ، وراهن على الزمن الذي سيكون في صالحه وصالح المينة الحارة ...

 

وصدق حدسه حينما جاءت إحدى معميلاته تشكو بضاعة غيره ، مُعتذرة كون إسعار السوق قد أغرتها فإشترت قرآن من صائغ آخر ، وكانت هذه السيدة من النوع الذي يلبس المصحف بإستمرار ، فلاحظت أن المينة عند ملامستها الماء ، بدءت تتلاشى ، ولما شكت الأمر للصاغة ، أخبروها بأن الألوان الجميلة هذه ماكانت سوى أصباغ صناعية .

فعادت لتعتذر منه بسبب إغراءات رخص اُجرة الصياغة ، ثم إشترت منه مصحفاً ، يقول واثقاً بأنه ولربما لحد يومنا هذا ، لا يزال يزهو بمينته ، حيث أن صياغته معروفة على مر السنين بجودتها العالية ودقة عياراتها ، وبمينتها التي لا تزول أو تتكسّر ، إلا بلَي السلعة أو طرقها

 

عن العم توفيق ـ عماد حياوي المبارك

 

((7))

 

العم توفيق وأسرار المهنة

لأن مهنة الصياغة إجتذبته وأحبها ، وكان لها المردود الإيجابي في تحسين مستوى معيشته ، فقد أراد أن يُطور فنونها بما يستطيع ، وكان فن وضع المينة السوداء الحارّة بعد نقش السلعة فن معروف ومتوارث عن أجيال سبقته ، وقد توارث الآباء من الأجداد فنونها .

لكن المينة الملونة ، كانت في مدينة العمارة تقتصر على صائغ واحد أو إثنين ، وقد إحتكروا هذه الصّنعة وبرزوا بها ، فحاول العم توفيق تقليدهم بطحن قطع الزجاج الملون النقي الذي يحصل عليه من قناني الأدوية الأجنبية وغيرها ، وبعد طحنها كان يعاملها معاملة المينة السوداء بحشوها في أماكن النقش ، لكن محاولاته باءت بالفشل ، ولما سأل في الشام قالوا أن البودرة المطلوبة تجدها فقط لدى أحد عطاري حلب .

ذهب وبحث ووجد الرجل ، وكانت مفاجئة ما بعدها أن يرى مواد وأدوات حديثة في عالم الصياغة .

إشترى من كل لون بودرة المينة ،  و مماكانت قد وقعت عيناه عليه ، وزن (كيلوغرام كامل) ـ وهو وزن كبير ـ أن يحملها البغداد ... لكنه فعل ونجح وعلّم أقرانه ودلّهم على ضالتهم .

ويعتبر العم توفيق ، أول من نقل لسوق العمل بالعراق ، بعد أن سافر وإطلع في الشام وبيروت ، على جملةمن الأمور ، فقد كانت عملية السباكة والتصفية تعتمد على نار من الفحم ، لكنه لاحظ ببيروت أن الصاغة يستخدمون (البريمز أو العفريت) الذي يعتمد على النفط ، وما أن بدأ بإستخدامه ، حتى ثارت عليه ثائرة الصاغة ، مُشككين بقُدرة نار تتأتى من (فم) جهاز حديدي على الوفاء بالغرض ورفع الحرارة لمئات الدرجات ، كما هو حال عملية إيقاد الفحم والنفخ بالمنفاخ التقليدي ، ذلك العمل المُجرب والموثوق .

وببناء (كورة) من الطين لحجز الحرارة ، نجحت مساعيه بإذابة المعدن الجميل ، وصار طوع يده ، فإنتشر بسرعة ، وصار الطلب لدى الحدادين ببغداد والمناطق الاُخرى على (الابريمزات) وصار الحدادون يُصنّعونها مخصوص للصاغة ويعرضوها بواجهة محلاتهم .

أما بعد ذلك ، فأن لإدخال الغاز نفس المعاناة ، لكن كان أحد صاغة بغداد يستخدم قنينة الغاز دون الإفصاح عنها ، وكان كل الظن يدور على أن الغاز خطيرٌ جداً وغير إقتصادي ، لكن العم توفيق لاحظ أن صائغاً يُدخل قنينة الغاز ببيته ، ويسبك الذهب على السطح بعيد عن (العيون) ، وأن القنينة لن يبدلها طيلة الإسبوع ، مما يدل على أنها إقتصادية ، فراقب عمل الصائغ وإسترق النظر ليُتابع خرطوم طويل يبدء برأس القنينة ، وينتهي بالرأس المُشتعل ،فبحث بالسوق لدى مصلحي أجهزة الطبخ الغازية ، ووجد ظالته !

وماهي إلا أيام كان الطلب على أشُده على قناني الغاز ورؤوسها التي أمست نادرة بالسوق ، وصار العمل أنظف وأسرع وخالٍ من اية خطورة !

 

((8))

 

عمو توفيق لايحب الشرب

 

في حياة الرجل ، لو يتجاوز في جلسة عائلية أن يشرب (بيك بيرة) !

نعم ، فهو ليس من مُحبي ( التشييت  )أبداً ، ويعزو ذلك الى أيام صغره ...

وفي مناسبة عرس داخل الشيخ جودة في صباه ، تجمع مجموعة الأصدقاء (كومبني)فيهم زملاء ومن بينهم فرانس سكران و عبد الله عبد الشيخ وعزّة زهرون ... وآخرين ، وهم نفس رفاق محلته ، أغلبهم شباب أكبر منه سناً .

فجلسوا على (بارية من القصب) تحت قمرية ووزعوا (قرّابية العرق) على الموجودين ، فكان له حصة معهم ، ولأنه لم يستذوقه ، بقي يجاهد كي ينتهي من قدحه ، مُقلداً بذلك الأكبر منه حتى إنتهى منه .

وفي طريق عودته الى البيت ، كان يرى أن كل من حوله يترنّح ، البيوت والنخيل ... وحتى البشر !

بقي ليلته يعاني ويكبت الأمر ، وقد تخوف أن صار بعقله الراشد آنذاك ما لا تُحمد عقباه وخاف أن لايعود له عقله ويصير غبياً ، فأزاده ذلك قلقاً ، دون أن يشكو أمره لأحد !

ولما جاء الصباح  وجد رغم صغره أن فلسفة أنيفقد الإنسان تركيزه ويتعرض للمقالب والسخرية ،هو من غير المعقول ، حيث (يشتري) الإنسان الغباء وقلة العقل 

كره نفسه للحظات ، ووجد أنه غير مستعد أن (يَسكر) من جديد .

المفارقة أنه حافظ على زمالته معهم  ، وفي بارات الباب الشرقي ، كان يلتقيهم و(ينصب) البيك معهم كلما ألحّوا عليه ، لكنه يضحك ليقول بأن السبب ما كان كي يشاركهم الجلسة بقدر ما كانوا (يظنون) أنهم يستغفلوه ، فيشربوه من أمامه .

إلا أنه كانم يعلم بأن  غير مرئية تمتد من تحت المناضد لتسرق مشروبه ، وكان سعيداً بأنهم كانوا يجعلوه يتخلص منه !

ولكنه أحب شُرب البراندي ، وكانت القنينة بحجم (نص ربع) يضعها في جيب السترة الداخلية في أيام الشتاء الباردة ، وبينما يغادر محله ـ بشارع النهر ـ الى سكنه كعازب في حافظ القاضي ـ كان يسحب القنينة فيرتشف منها ما يُزوده بالطاقة والدفأ ويُنعشه دون أن يُصاب بالدوار .

وبقي على هذه الحال حتى بعد مجيء أهله للسكن معه ، ويتذكر حادثة طريفة أن اُمه تحسُّ بألم برأسها وتشعُر ببرد ، فنصحوها أن تشرب (بقبغ) براندي سادة ، وكانت الى جانبها إحدى قريباتهم التي كانت تشرب الكحول ، حالها حال الرجل ، فلما أعطاها توفيق البطل وكان (سر مُهُر) طلب أن تُعيده بعد أن تشعر اُمه بالتحسن ...

في اليوم التالي كان البطل فارغاً ، ولما سأل اُمه عما شعرت به حين شربت البراندي ، قالت بأنها لم ترَ البراندي وأن (ام  ...) قد (نسفتْ) البطل وبكل شجاعة !

 

   شكر وتقدير

 

 أود وبكلِّ محبة ، نيابةً عن كلِّ من تمتع بهذه الرحلة مع الرجل الطيب ، الذي يسميه الكبير قبل الصغير ـ  {{عمو توفيق }} ـ أن أتقدم بالشكر الجزيل له وهذه  الفرصة الثمينة بالتوثيق البسيط لسيرة حياته  الحافلة بالعطاء والتميّز ،متمنياً له الإقامة الطيبة بين أهله وأولاده بهولندا ، ومن ثم العودة الميمونة لدياره بخير وأمان ، داعياً من الله اًن يكتب لنا اللقيا معه أو مع أحد أخيار الطائفة الآخرين وهم كُثر ، وسأعمل جاهداَعلى إقتناص أية فرصة يُمكن أن تتهيأ أمامي من أجل التعريف برجالٍ أفذاذ كان لهم قصب السبق والريادة   

ولنأنسَى أن أشكر كلَّ مَن راسلني ممتناً وسعيداً في تعرفه عن قُرب بأحد أعلام الطائفة الذين عرفناهم بسمو الأخلاق وطيب المعشر وغنى النفس  

 

عماد حياوي المبارك ـ هولندا في 20 آب 2013 

 

نشرت في وجهة نظر
الجمعة, 09 آب/أغسطس 2013 17:20

من الذاكرة المندائية

 

عزيز عودة وشارع النهر

سجلها فيدوياً وصوتياً

الدكتور صباح خليل مال الله

الزمان : 8 مايو / أيار 2011

المكان : منزل الأستاذ سعيد مال الله ـ شارل هولمان ـ ستوكهولم ـ السويد

 

كان لقاءاً شيقاً مع الخال عزيز عودة شارك فيه العم أبو باسل . فيما يلي أهم ماجاء فيه :

 

ـ بودنا أن تقدم نفسك  أيها الخال العزيز ابو سعود .

 

اسمي عزيز عودة المنصور الناشي مواليد 1932 في العزيزية ـ الكوت

 

ـ هل ممكن أن تحدثنا عن بداياتك في شارع النهر ؟

 

انتقلت الى بغداد سنة 1944 وكانت بداياتي مع عمي أبو سعيد ـ جودة الرشم ثم انتقلت للعمل مع ناصر وياسر صكَر كعامل فضة مبتديء (صانع) ، وكان أخي صبري ـ أبو سلام ـ قد سبقني بالمجئ الى بغداد وعمل مع الشيخ عنيسي الفيّاض . ثم بقيت مع شدود نعاس وعودة جابر ـ [دكانهم كان في واجهة كازينو الفردوس الذي تحول الى غرفة تجارة بغداد الحالية .]

 

ـ كيف كان شارع النهر (المستنصر) في تلك الأيام ؟

 

إذا تخيلنا أنك تدخل شارع النهر من بداية جسر مود أي جسر الأحرار الحالي وأيضاً يسمى جسر الصالحية ستلاقي على يمينك مطعم وبار شريف وحداد وعلى يسارك فندق بابل يجاوره محل دانيال رومايا للمشروبات الروحية ، ثم تلاقيك بناية صبري طعيمة وفيها محل للملابس الراقية المستوردة ـ [تحولت هذه البناية الى مصرف الرافدين ، فرع شارع النهر .  ثم بناية تابعة لوزير المالية العراقي اليهودي ساسون والتي تم هدمها بقرار من أمانة العاصمة .]

وفي بداية شارع النهر كان عدد من الفنادق المشهورة مثل اوتيل تروكاديرو واوتيل فلوريدا وفندق الرافدين ـ (أيوان لاحقاً )وكان فيه يحي . ويأتيك محل شهير اسمه BGSS يبيع كافة أنواع المعلبات المشهورة المستوردة من كافة انحاء العالم . بجانب هذا المحل كان يقع كازينو الفردوس وفي واجهته محل سعد رهيّف ومحل شدود وقبالة الكازينو كان يقع بيت لنج الشهير ـ شركة ستيفن لنج وشركاه ـ وكانت شركة متخصصة بالتجارة النهرية والنقل النهري وتصليح المراكب . وكان مدير الشركة يمتلك سيارة فارهة من نوع رولس رويس الأنجليزية وكان المارة ينبهرون لرؤيتها . ثم يأتي محل نجارة ميساك الشهير وصانع الأحذية بطمانيان ، ويعمل معه ابن عمه ، وكان يصنع الأحذية لضباط الجيش والقصر الملكي .

 

بعد بيت لنج يأتي محل عالم الأطفال لصاحبه عبد العزيز البغدادي وكان محلاً متميزاً ببضاعة الخاصة بالأطفال . صائغ الذهب الوحيد كان يهودياً روسياً يدعى سيكَال يعمل معه أسطه روسي أرمني اسمه ارشاويل (اسمه الحقيقي ارشافير سهاكيان) ـ انتقل للعمل مع خليل مال الله ـ بعد هجرة اليهود ـ وبقى معه الى آخر عمره .  محل الصائغ سيكَال أصبح مطعم الشموع الحالي المقابل لعمارة ابو شيبة جنب مكتبة مكنزي الشهيرة .

 

ثم يأتي محل خابط ـ أبو زكي ثم محل بقال (بكَال) . [بقال  أبو توفيق ] كان يعمل في محل سبتي زهرون  الذي كان في لبنان ، وعند عودة سبتي من لبنان استلم محله ثانية من بقّـال . واجهة حمام حيدر للرجال كانت تضم محل رجل ارمني يدعى ليون يبيع لوازم الخياطة مثل الأبر والأزرار (الدكَم) وغيرها وكان محلاً صغيرا ولكنه كان مشهوراً وفيه أيضاً محل مروكَي يبيع المشروبات الروحية وكنا متعودين عليه .

 

ـ سعيد مال الله : سبتي هو والد الفنانة المعروفة سهام السبتي ـ في استراليا الآن .

 

ابو سعود: صحيح . ثم يأتينا اورزدي باك ـ سوق حيدر الحالي ـ وخلفه التحقيقات الجنائية التي تطل على نهر دجلة . إلى اليمين من شارع النهر كانت محلات باتا الشهيرة للأحذية وتقع فوقه عيادة وارطان لتداوي الأسنان . وإلى الأمام كانت عيادة طبيب الجلدية جوبانيان . بعد محلات باتا يلتف الشارع التفافة صغيرة يقع على ناصيتها جامع صغير (الباججي على ما أتذكر) وبجنبه محل لبيع الفاكهة . يلاقيك بعد ذلك محلات الشرق للأقمشة ومحلات الأفراح التي تبيع كل ما يتعلق بزينة المرأة من عطور وماكياجات وملابس داخلية وغيرها وكانت محلات معروفة جداً باستيرادها للبضائع الفاخرة .

 

ـ يقال ان مس بيل كان تقطن في احد بيوت تلك المنطقة ـ مقابل محلات الأفراح ، هل هذا صحيح ؟

 

ممكن ، لكني لم أكن في شارع النهر على ايامها .

 

سعيد مال الله : مس بيل ساهمت في تنصيب الملك فيصل الأول .

 

عزيز عودة : يتنهي شارع النهر بسوق الصرافين المعروف بشارع السمؤال اليوم . المصارف الموجودة اليوم هي بنايات حديثة . ثم يأتي خان الزهور وسوق الأقمشة الممتد الى الجسر العتيق (الشهداء) ثم سوق السراي وبجانبه سوق السراجين . من سوق السراي ندلف الى خان الشاه بندر ـ سوق صاغة الذهب الشهير . وكان مبارك مال الله الصائغ الوحيد في منطقة المدرسة المستنصرية مقابل ابو الطرشي .

 

ـ ممكن أن تذكر لنا الصاغة المندائيون في تلك الفترة ؟

 

الصاغة من جهة جسر مود : أقدم صائغ عمارة عودة  ثم  شدود نعاس و جودة الرشم وياسر وناصر صكَر ، سالم اشهيّب ، شاطي ابو عبد الأمير ، حوزي صالح حاجم ، غريب السداوي ، زيدان خلف ـ أبو فوزي ـ ودايل عبد الحسن و غالب (كان نقاش) . كان سالم اشهيّب وحوزي وصالح معيلو بجانب النجار ميساك . جودة السهر في محل لوحده يقابلهم ناصر وياسر صكَر (وكانوا استاديتي) . أما محلات كازينو الفردوس فكان فيها : شدود وعودة وعمارة وسعد رهيّف . كلهم قبل أن يأتيك محل شيخ عنيسي  وكان هناك في الركن كما قلنا محل GBSS لبيع الكرزات والمعلبات الفاخرة . كما كانت هناك محلات اقمشة وستائر كاظم مكية وكنا أنا وأخي أبو سلام مستأجرين منهم دكاننا . ثم يأتيك في هذا الفرع المؤدي لشارع الرشيد مطعم نادر ـ تحول وبعض المحلات الأخرى الى عمارة ابو شيبة الحالية . اذا عدنا لشارع النهر نجد الى اليسار دايل عبد الحسن مع والده ثم الشيخ عنيسي الفياض . وفيما بعد جاء صائغان أرمنيان لبنانيان هما ليون ، وكان محله في شارع الرشيد ثم انتقل الى شارع النهر وكذلك الصائغ جان (وكان اعرجاً) . كل الصاغة الصابئة كانوا صاغة فضة . من محل شيخ عنيسي والى حمام حيدر (وكان هناك حمامان : حمام حيدر للنساء بجانب سوق دلة ثم حمام حيدر للرجال) لم يكن صاغة .

 

سعيد مال الله : مقابل حمام حيدر كان ابراهيم وهام وخليل مال الله ، وكان محل خليل مال الله عبارة عن محلين من طابقين والطابق العلوي كان ورشة لعماله . ومن عمال خليل مال الله كان ناصر فنجان و ماضي سالم و حليم تايه و باريس غالب . خليل مال الله اشتهر بالمينا الملونة وكان صائغ الذهب الوحيد واشتهر كثيرا فاضطر الى اخذ خان مزراحي لتجارة الأخشاب وكان ايجاره 300 دينار وكان مبلغاً خرافياً تلك الأيام ، فصار محل صياغة ومجوهرات خليل مال الله الى ما بعد وفاته .

 

عزيز عودة : مقابل محل خليل مال الله ـ سوق دلة ـ كان أبو علي يبيع [أبيض وبيض] ودكانه عبارة عن طبق (صينية) كبير من الخشب يضع عليه قدر اللوبية والبيض والخبز والزلاطة والخضرة ـ الوجبة بدرهم والبيضة الأضافية 10 فلوس مع الصمون والطرشي والزلاطة .

 

ـ أين كنتم تسكنون وأين كانت عائلاتكم؟

 

في البداية سكنا في محلاتنا وبالصيف كنا ننام في الطمة (الطمة هي السطح والفضاء الخاص بحمام حيدر هدمت قبل فترة وتحولت الى محلات للصاغة والمصفايجية) . الصياغ كانوا ينامون هناك وفي الصباح يلفون فراشاتهم وينزلون للعمل . أما عن عائلاتنا فكانت في المدن والقرى التي أتينا منها للعمل في بغداد مثل سوق الشيوخ والعمارة والجلعة وغيرها وكنا نزورهم مرة بالسنة في العيد .

 

نجم عبد الله لم يكمل الطبية فصار يستورد الفضة والنحاس والبواتق وغيرها وقد عمل في محل خلف ثم اشتراه منه . في سنة 1949 كان جميل ناجض وعبود مهودر (صاغة فضة) الى جانب ابراهيم وهام ، وكان قبله خياط وأيضا كان أنيس خماس . برأيي أول صائغ ذهب في شارع النهر كان خليل مال الله وكان فناناً في مهنته وتعلم صنعته من اليهود في الثلاثينات خاصة الكَص (التخريم) والنقش وتركيب المينة الملونة.

 

سعيد مال الله : عندما توفى مال الله (والدنا) سنة 1945 في بغداد كان أغلب الصبه يسكنون منطقة الكريمات بجانب الكرخ ومنهم شيخ عنيسي وخليل مال الله وشيخ عبد الله (ابو عبد الجبار)  وشيخ نجم وابراهيم وهام وغانم عبد الحسن وكثيرين .

 

ـ كيف تعلم الصابئة فن صياغة الفضة وتركيب المينة السوداء؟

 

تعلموا عن طريقين : من أيران لأن الأيرانيون كانوا يتقنون هذا الفن ومن الهند من خلال حركة التجارة بين الهند والبصرة تعلمها منهم اولاً بيت زهرون ملا خضر واحتفضوا بسر المهنة سنوات عديدة ولم يطلعوا احداً على اسرارها لمدة أكثر من ربع قرن ثم تسربت من خلال عمالهم . كان هذا الفن يعتبر سر من الأسرار لا ينبغي لأحد الاطلاع عليه ، خصوصاً التركيبة السرية للمحركَـ (المينا السودة) .

 

ـ يسأل الكثير من شبابنا المهتم بهذا النوع من الصياغة عن هذه التركيبة ، هل نستطيع ان نمون عليك وتخبرهم بها ؟

 

لكم بكل ممنونية ، لكن ليبقوها لأنفسهم ولا يطلعون الغرباء عليها . ولو انها سر ولكن المحركَـ يتكون من :

16 مثقال صفر (نحاس)

12 مثقال رصاص

7 مثاقيل فضة

وبما يعادل هذه المقادير كلها كبريت .

 

ـ أبو سعود نشكرك جداً بإسم كل من سألنا ونرجوا ان تساهم هذه المعلومة في تطوير عملهم.

 

ممنون . المينه السودة حضيت باعجاب الجميع ، واشتهر بها في العراق الصابئة لوحدهم دون غيرهم لأنها جميلة على الفضة وهي دائمية وتبقى على القطعة الى الأبد فلا تنقلع ولا تبلى . علاقتها بالفضة (لأنها سوداء والفضة ناصعة) علاقة لها جمالية خاصة بانسجامها مع لون الفضة كما انها لا تتلف ابداً كما قلنا .

 

ـ من هم اسطوات النقش انذاك ؟

 

من الذين عاصرتهم كان عبد الله بيبي ـ ابو زاهر ـ نقاشاً ماهراً لا يضاهيه أحد وكان استاذاً كما ان حسني زهرون تخصص في رسم الوجوه (البورتريت) وكذلك كان زهرون والده . كما اشتهر كذلك عودة جابر وكان (ناكَوش) لا مثيل له بالمناظر الطبيعية ميزته يرسم كل الحيوانات والمناظر عن ظهر قلب . أخي ابو سلام كان نقاشاً ماهراً ، أما أنا فكنت اسطة سادجي . أي أنا اصنع السلعة وأبو سلام ينقشها .

 

ـ كم كانت أسعار المصوغات الفضية في ذلك الوقت ؟

 

علي سبيل المثال :

قوطية الجكاير مابين 3 ونصف الى 4 دنانير .

6 ملاعق فضة بـدينار وربع

6 بشاكير بثلاثة دنانير ونصف

علبة بودرة بدينار وربع

 

وللمعلومات كانوا يتحدثون الأنجليزية بطلاقة ـ وانا منهم ـ بالرغم من انهم لا يقرأون ولا يكتبون . الفضة كنا نشتريها من المصفايجية . المصفايجية كانوا يهود وبعد تسقيط اليهود آلت هذه المهنة الينا . ومن المصفايجية المعروفين آنذاك بعيو صبح وجميل ومبارك مال الله  [ وخزعل ابو فيصل ]وبعد ذلك حليم كميت وآخرون . كلهم كانوا في خان الشابندر ثم صار قسم من الجيل الجديد في الطمة في شارع النهر .  مكائن سحب الذهب والفضة كانت في خان الشابندر ثم صار قسم منها في شارع النهر ـ خان دلة ـ فيما بعد . الفحم المستخدم في الصياغة كان فحم كراتشي ’أبو الطكَتين‘ وكان دشاديشنا تعاني من شراره المتطاير فترى الثقوب الذي يحدثها هذا الفحم واضحة فيها .

 

حياتنا كانت صعبة وقاسية ـ لا أتذكر أني شبعت يوماً ما ـ كان راتبي 750 فلس شهرياً ابعث نصف دينار لأمي وأوفر ربع دينار ليكون لي ’كروة‘ حين أذهب لأزور أهلي . ثم تعاقدت مع سعد رهيف (ابو الأستاذ مؤيد) للذهاب والعمل في الحبانية لقاء أجر هو 3 دنانير شهرياً والكروة ذهاباً واياباً عليهم ، وكانت تبلغ آنذاك 200 فلس وكان هناك عمارة عودة ايضاً وبعض الصاغة اليهود وكنا نتمتع بالبخشيش الذي يجود به علينا نحن الصناع الزبائن الأنجليز ويتراوح البخشيش مابين 10 و 20 فلس (قران) . عملت معهم سنة كاملة ثم فسخت العقد .

عندما بلغت الـثامنة عشرة التحقت بالجيش ، الخدمة الإلزامية ، وذلك سنة 1951 بزمان الملك وكان راتبي بالجيش يبلغ دينار وربع يستقطعون منه 200 فلس تبرعات فيتبقى لي دينار ودرهم . خدمت بالجيش سنة و 9 اشهر بالبصرة ثم تسرحت فعدت الى بغداد واستأجرت محلاً في منطقة الجعيفر في الكرخ . وكان وقت امان انذاك قفل صغير يكفي وفي شارع النهر كان هناك حارس واحد مسلحاً بـ (مكَوار) ويتقاضي درهماً من كل محل ولم تحدث سوى محاولة واحدة للسرقة طوال كل هذه السنوات .

في الجانب الآخر أي في شارع الرشيد كان علي حسين الساعاتي ـ لديه وكالة ساعات سويسرية مثل جوفيال وغيرها ـ حـّول قسم من محله الى صياغة ولم يكن هو صائغ في الحقيقة. وفي شارع الرشيد أيضاً مشاهير المصورين أرشاك وبابل وعبوش وقليلاً الى الأمام سينما الحمراء ـ البنك المركزي حالياً ـ وأكسبريس فلسطين . أما من جهة جسر الأحرار فكان مطعم العاصمة الشهير يقابله فندق جبهة النهر بمطعمه الفاخر . وهناك خياط مشهور هو ماستر أحمد كان يخيط بدلات الضباط العسكرية ومنهم الزعيم عبد الكريم قاسم .

 

كل الموجودين ساهموا في هذه الذكريات الجميلة واستمر الحديث ساعات تخللتها وليمة دسمة باطباق مندائية لذيذة ومازات لبنانية شهية وصهباء شقراء نقية فكانت بحق جلسة لا تنسى حضرها لاحقاً السيد هشام السعدي والسيد سليم يوسف عمارة وعقيلاتهما .

 

كنا جميعاً في ضيافة العزيز أبو باسل وزوجته السيدة رتيبة التي قدمت كلَّ ما لذ وطاب . ثم  قدمنا شكرنا للعزيز (ابو سعود ) متمنين له الصحة وطول العمر ، كما قدمنا شكرنا وامتناننا لأبي باسل وزوجته لكرمهما وحسن ضيافتهما على أمل اللقاء مجدداً وحديث جديد من الذاكرة .

 

نتمنى على الذوات الذين لديهم معلومات أخرى عن شارع النهر أن يرسلها الينا أو ان ينشرها على هذا الموقع لكي ننشر كتيباً خاصاً بشارع النهر .

 

الحديث القادم من الذاكرة للأستاذ مجيد جابك جاري .

 

نشرت في وجهة نظر

 

نائب صابئي: تغير القادة الأمنيين والخطط الأمنية لن تغير شيء من الواقع الأمنين 

 

بغداد(الاخبارية)..أفاد النائب عن الكوتا/الصابئة المندائية/ خالد امين رومي، بأن تغير القادة الأمنيين والخطط الأمنية لن تغير شيء من الواقع الأمني.وقال رومي في تصريح (للوكالة الاخبارية للانبا): إن الواقع الأمني يوم بعد يوم يسوء على الرغم من تغير بعض القادة الأمنيين والخطط الأمنية إلا أنها لن تجدي نفعا في تحسن الأوضاع.وأضاف: هناك هدوء نسبي في الاوضاع السياسية بعد اللقاءات والحوارات الثنائية بين الكتل السياسية نتمنى ان تستمر تلك اللقاءات لبحث المشاكل بنية صادقة من أجل حل الخلافات التي انعكست سلبا على الوضع الأمني.واشار النائب عن الكوتا الصابئة المندائية الى:ان سبب التدهور المني هو الخلافات العالقة بين الكتل السياسية.وكان عضو كتلة متحدون النائب عن/ائتلاف العراقية/ وليد عبود، عزا سبب تدهور الوضع الامني في البلاد، الى سيطرة جهة واحدة على الملف الامني، وتمنع مشاركة اي جهة اخرى في ادارته، مشيراً الى أن البلاد بحاجة الى عقد اجتماعات بين الكتل السياسية للخروج من الوضع الحالي./انتهى/2.ز.ي/ -

نشرت في اخبار عامة

 

بقلم: كاظم فنجان الحمامي 

06-08-2013  (صوت العراق)

 

وهم أهلنا وشعبنا الجنوبي الودود , الذين حملوا الأصالة , وحملوا معهم أسرار حضارتنا القديمة الضاربة في عمق التاريخ , هم عروق العراق وأديمه الممزوج بالطين والماء , وهم لسانه الموحد الناطق باسم الله الواحد الأحد الفرد الصمد , ساروا على نهج أنبياء الله عليهم السلام : وآمنوا بسيدنا آدم , وسيدنا شيت , وإدريس , ونوح , وابنه سام , ويحيى بن زكريا , حملوا تعاليم التوحيد الإبراهيمي , رسموا طقوسهم بقطرات المطر المنهمر على وجه المسطحات المائية المقدسة , طبعوها على أوراق فردوس الأهوار , وبين شرايينها وجداولها العذبة المتدفقة بالعطاء . .  المندائيون : هم الصابئة الذين اشتقوا اسمهم من الجذر المندائي ( صبا ) , وتعني : اصطبغ , أي غط وغطس في الماء , فطهر روحه وجسده بالماء والنور والبَرَد , تتعالى في عباداتهم أسماء الله الحسنى بترنيمات جميلة تبعث الأمل في النفوس المؤمنة بالخالق الأوحد , فهو عندهم : الحي العظيم السميع البصير القدير العزيز الحكيم الأزلي القديم . . حافظ المندائيون على ارثنا وكنوزنا وثرواتنا , وأتقنوا فنون الصياغة الذهبية المعقدة , فتفوقوا فيها على أمهر صاغة الشعوب والأمم , واعترف العالم كله بمهارتهم التي تركت بصماتها الفريدة على كنوز النمرود حتى يومنا هذا . . ظلت لغتهم الفصحى تحمل دائماً صفات وخصائص اللهجة العراقية الدارجة , بينما ارتبطت تراتيلهم المندائية بالطقوس والعبادات والمناسبات . . لا يعرفون الحقد ، ولا يحملون الضغينة المذهبية ضد الآخر , ولم يكن لهم أي دور تآمري على الناس , ولم يتورطوا بخيانة العراق وأهله , وليس فيهم خائن أو مجرم أو ظالم أو مستبد , مسالمون متسامحون ودودون طيبون قانعون بأرزاقهم , بسطاء كبساطة أرض الجنوب , مرهفون واضحون كنقاوة مياه دجلة والفرات. . تحملوا أبشع ضروب الاضطهاد والتفرقة العنصرية , وسحقهم الطغاة عبر التاريخ الدموي الطويل , الذي دمر مهد الحضارات وأطاح بصروحه العملاقة , فالتصقوا بالأرض وعروقها , وتمسكوا بتربة وطنهم العراق , الذي ارتبط اسمه ورسمه بنصوصهم الدينية . . ظهر منهم العلماء الأعلام في العلوم والفنون والآداب , ووقف في طليعتهم عالم الفيزياء والرياضيات الأستاذ الدكتور عبد الجبار عبد الله , وعالم الفلك الأستاذ الدكتور عبد العظيم السبتي , وتغنى بروائعهم الملحمية الشعب العراقي كله , فكان الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد لسانهم الناطق بالبلاغة , وصوتهم المجلجل بأصدق القصائد الوطنية , وكان أداء لميعة عباس عمارة هو الهمس الدافئ المنساب كأشرعة النسيم بين بحور الشعر الفصيح وشواطئ الشعر الشعبي , وكانت لوحات الفنان الكبير عجيل مزهر تضاعي لوحات المدرسة الانطباعية في الرسم التشكيلي , وربما يطول بنا الحديث إذا تحدثنا بإسهاب عن انجازات علماء الصابئة في تاريخنا الزاخر بالانجازات العظيمة , نذكر منهم عالم الرياضيات إبراهيم بن سنان , وعالم الهندسة أبو إسحاق إبراهيم بن هلال ، وعالم الفلك ثابت بن قرة , وعالم الفلك والتنجيم أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الصابئي , لكننا نختصر الحديث فنقول : لقد سجل المندائيون تفوقا كبيرا في علوم التنجيم والبروج والأفلاك, وكان لهم الدور الأكبر في تطوير المدارس الفلكية , فاجتهدوا في هذا المضمار ولهم الفضل كله في إرساء الدعائم الحقيقية لدراسة آثار العصر البابلي والكلداني , وكانوا من أشهر أساتذة علم الفلك. . فهل من العدل والإنصاف أن تتحامل عليهم القناة الفضائية الرسمية ( العراقية ) بمسلسلها التلفزيوني الرمضاني الفاشل , الذي يتحدث عن ( حفيظ ) , وهو موقع أثري غامض. كنا نتصور أن المسلسل سيخلد ( اليشن ) القديمة المتروكة في أهوار جنوب العراق , باعتبارها تمثل المقابر السومرية التي ظهرت قممها فوق الماء , كإيشان حفيظ , وإيشان شعيب في هور ( إصليِّن ) , وإيشان الوركاء ، وإيشان حميمات , وغيرها كثير , لكننا فوجئنا بسيناريو باهت , يستهدف الصابئة , ويسيء إليهم , ويستصغر شأنهم , ويستخف بهم , ويشوه صورتهم من دون سبب , ما أدى إلى إزعاجنا , وتسبب بإثارة أبناء الطائفية المندائية في العراق وخارجه . . ختاما نقول : لن نسمح بتكرار مثل هذا التطاول السافر على أي شريحة من الشرائح البشرية , فالمبادئ الإنسانية التي حملناها وآمنا بها , وتربينا عليها , وتغذينا من تعاليمها السمحاء تمنعنا من قبول مثل هذا التهريج التلفزيوني الغبي , وتمنعنا من مشاهدة هذا الإسفاف الفارغ , وتفرض علينا احترام الناس , فما بالك إذا كان هؤلاء الناس هم من أصل المجتمع المسالم الذي ننتمي إليه وينتمي إلينا ؟؟؟؟؟؟؟؟. . . . 

 

 

نشرت في وجهة نظر
الثلاثاء, 06 آب/أغسطس 2013 10:51

المتنبي و الجواهري


يستطيع الدارس المتتبع لحياة وشعر عملاقي الشعر العربي : ابي الطيب المتنبي وأبي فرات الجواهري ، إيجاد الكثير من أوجه التشابه أو التطابق بينهما : فقد ولد المتنبي في الكوفة ، وولد الجواهري في النجف ، والمدينتان توفّران محيطاً زاخراً بكبار الفصحاء والبُلغاء وكبار علماء اللغة العربية ؛ فتكشفت ينابيع موهبتيهما ،وبدأ الدفقُ الهائلُ من كلٍّ منهما شعراً جزِلاً يمتاز بقوة تأثيرهِ على نفسِ المتلقي الذي يجدُ نفسهَ مُصغياً يتابع البيت تلو البيت حتى نهاية القصيدة
اوجه التشابه في حياتهما :ـ
كان كلٌّ من المتنبي والجواهري ثائراً أبداً ، زاخراً بالطموحات ، وكانا يعتقدان أنهما خُلقا ليتبؤا مكاناً يستحقانه عن جدارة ، لكنهما لم يحققا ما كانا يصبوان إليه ، فإزداد كلٌّ منهما نقمة وتبرماً بالحياة وبالملوك وبالناس الذين لم يقدروهما ولم ينصفوهما ، وبالشعراء الذين حاولوا عبثاً وسفهاً النيل من شاعريتهما ؛ لذلك جاء شعرهما مؤطراً بالإباء والشمم وعزة النفس حد الغرور والنرجســية ، وماذاك إلا رد فعلٍ للحرمان الذي رافق كلاً منهما في حياته
لقد عانى كل منهما قسوة َالغربة والإغتراب النفسي ، والإحباط وخيبة الأمل في تحقيق الأماني الكبار ، وفارقا الحياة وفي نفس كلٍّ منهما مرارة وحسرة وألم
إستطعت تشخيص هذه الأوجه من التشابه بين حياة وشعر هذين العملاقين ويبقى الباب مفتوحاً لمن يُريد أن يُدلي بدلوه في هذا المجال الرحيب الخصيب
أولاً : في الأباء وعـزة النفس
المتنبي

فلا عبَرت بي ساعةُ لا تُعزِني
ولاصاحبتني مهجةٌ تقبل الظلُما

وله أيضاً :ـ
ونفسٍ لاتجيبُ إلى خسيسِ
وعينٍ لاتدارُ على نظيرِ

الجواهري
واللهِ لو أوهب الدنيا بأجمعها
مابعتُ عزّي بذلٍ المترفِ البطرِ
ثانياً :ـ الإعتداد بالنفس وبالموهبة الشعرية
المتنبي
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي
وأسمعتُ كلماتي من به صَممُ
سيعلم الجمعُ ممن ضمّ مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم

الجواهري
أقول لنفسي إذا ضمّها
وأترابها مجلسٌ يُزدهى
تسامي فإنك خيرُ النفوس
إذا قيس كلُ على ما أنطوى

ثالثاً :ـ الصلابة والصمود والتحدي
المتنبي
امثلي تأخذُ النكباتُ منه
ويجزعُ من ملاقاةِ الحمامِ
وقال أيضاً
كنْ أيها السـجنُ كيف شئت
فقد وطنتُ للموت نفسَ معترفِ
الجواهري
ماحطمت جلدي يدُ النوبِ
لكن تحطمت النوائبُ بي
أنا صخرةٌ ما أن تخوفني
هذي الرياح الهوجُ بالصخبِ
رابعاً :ـ الإفتخار بالنفس والنسب
المتنبي
لابقومي شرفتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فخرتُ لابجدودي
الجواهري
ومناشدي نسباً أمتُ بهِ
لم يدر ما حسبي وما نَسبي
عندي من الأموات مفخرةٌ
شماء مُربيةٌ على الطلبِ
خامساً :ـ الإستعلاء على المتشاعرين الذين حاولوا النيل من شاعريتهما
المتنبي
أفي كل يومٍ تحتَ ضبني شويعرٌ
ضعيفٌ يُقاويني قصيرٌ يطاولُ
الجواهري
أفصقرٌ طريدةٌ لغرابِ
وبليغٌ ضحيةٌ لبليدِ
وله أيضاً :ـ
عدا عليَّ كما يستكلبُ الذيبُ
قومٌ ببغداد انماطٌ أعاجيبُ
سادساً :ـ التحدي
المتنبي
ميعادُ كلّ رقيق الشفرتين غداً
ومن عصى من ملوكِ العربِ والعجم
الجواهري
أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهمُ
أغري الوليد بشتمِهم والحاجبا
سابعاً :ـ الغربة والإغتراب النفسي
المتنبي
ما مقامي بأرض نخلةَ إلاّ
كمقام المسيح بين اليهودِ
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالحِ في ثمودِ
الجواهري
أرخ ركابكَ من أينٍ ومن عثرٍ
كفاك جيلان محمولاً على الخطرِ
ثامناً :ـ التبرم بالحياة وبالناس
المتنبي
أذمّ إلى هذا الزمان أهيلهُ
فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغدُ
وله أيضاً :ـ
ودهرٌ ناسه ناسٌ صغارُ
وإن كانت لهم جثثُ ضخامُ
الجواهري
قلَ صبري على زمانٍ ألدّ
وخطوبٍ ألبستني غيرَ بُردِ
تاسعاً :ـ في التوجع والإحباط واليأس
المتنبي
فأياّ شئت ياطرقي فكوني
أذاةً او نجاةً أو هلاكا
الجواهري
أيستُ من كل مطلوبٍ أؤَملّهُ
وأصبح ألموتُ من أغلى مطاليبي
وله أيضاً:ـ
ذوى شبابي لم ينعم بسراّء
كما يذوي الغصنُ ممنوعاً من الماءِ
عاشراً :ـ الندم على مدح من لايستحق
المتنبي
ومن نكدِ الدنيا على الحرّ أن يرى
عدواً لهُ ما من صَداقتهِ بُدُّ
الجواهري
ولَكَم قلقتُ مُسهداً لمواقفٍ
حَكمت عليّ بأن أداري مُبغضا
مدحتُ من لا يستحقُ و راقَ لي
تكفيرتي بهجائهٍ عماّ مَضى
حادي عشر :ـ في الحكمة
المتنبي
مَن يهُنْ يَسهلُ الهوانُ عليه
مالجُرحٍ بميتٍ إيلامُ
وله أيضاً :ـ
الرأي قبل شجاعة الشجعانِ
هو أولٌ وهيَ المحلُ الثاني
الجواهري
مُذْ حُكمَتْ سادةً في الموالي
تَنَسَمتْ الأرضُ ريحَ النضالِ
الثاني عشر :ـ في الوصف
حين تصفو الحياة وترق للشاعر، فأن شعره ينساب ويفيض عذوبة وجمالاً ، كما سنلاحظ المتنبي يصف منظراً جميلاً في إيران يسمى ( شعب بوّان ) وهو وادٍ بين جبلين
المتنبي على لسان حصانه :ـ
يقولُ بشعبِ بَوّنٍ حصاني
أعن هذا يُسارُ الى الطعانٍ
أبوكمُ آدم سَنَ المعاصي
وعلَمَكمُ الخروجَ منَ الجِنانِ
الجواهري
كأن ميأّس الغصون إذا انتشى
غَبّ السحابِ يَعُبُ صرفَ سُلافِ
الثالث عشر :ـ في الغزل
المتنبي
صمد المتنبي حيناً من الزمن بوجه الجمال ولكنه خضع أخيراً فقال :ـ
وَعَذلتُ أهلَ العشق حتى ذُقـتُهُ
فعجبتُ كَيفَ يَموتُ مَنْ لايعشَقُ
وقال أيضاً :ـ
يَترشفْنَ من فمي قبُلاتِ
هَنَّ فـيه أحلى من التوحيدِ
الجواهري
فَويقَ صدرك من رفـق الشباب بهِ
أَشهى وأعنف ما يُعطي لمتنهدِ
ومن قصيدة افروديت
لكِ صدرُ كسلة الزهرِ
بالنهدين نطت فويقهُ زهرتانِ

بقلم

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 05 آب/أغسطس 2013 09:45

أهالي ميسان ينتصرون للطيب ماثا*

 

أهالي ميسان ينتصرون للطيب ماثا*

على جرفٍ مليء بِسِّعدِ شواطي الكحلاء أبصر أبي الحياة

وبتغريبة باهوار ميسان و بطرادة من صنع عمي زفوا عروسته من  ضفة عذبة لشواطئ الحلفاية.

أنا سعيد غازي رمضان عبد المير الكلمشي الصابئي المندائي باقة وردٍ سويدية اهديكم

هزني تجمعكم فوددت أن اُحييكم ، ومن خلالكم : لي رجاء أن تخبروا من أسند ورعى (القناة العراقية) مسلسل حفيظ العاثر!

ياقناة العراقية  أقول هل هذه نصرتكم لمظلومية الصابئة المندائيين بمحنتهم اليوم  وهم يبتعدون قسراً عن شواطئ ميسان وعبق طلع نخيلها؟!!

عبركم وددت أن أقول لمخرج المسلسل  السوري مالَكَ والصابئة  ،وفخر تراثهم الميساني الزاهر( بهدوء وروية عليك ان تقرأ فتتعلم وتنهل) . التراث النير أمانة باعناق المثقفين المنصفين  ، صعبٌ أن أفهم لفنان يدعي  نبل الفكرة فيوضفها ضياءً خلاقاً لا صورة مشوشة مرتبكة ، ياسيدي الامم تصلح  الأمورالمائلة  ؛باظهار الصالح  وطمر الطالح .

عبركم وددت أن أقول لكاتب سناريو أللاحافظ للعهد الحق..

ماذا دهاك فتركت مشهد منير ثر من إرث سالف السومريين  ، وقبلهم الفراتيين ملح ارض وادي الرافدين..

مالنا و من لا يرغب برحيق عطر إكليل الآس يَبرجُ على جبينه.. الم يكن للقاعدة شواذ !

المشهد الناضج ليس بحاجة لِلُقى المنعطفات

يا مثقفي ميسان قولوا له  :

 كلُّ مناجل حصاد قمح سهول ميسان كانت من صنع صابئتها  .

كلُّ مشاحيف أهوار ميسان من صنع صابئتها   .

كلُّ أقراط وقلائد وحجول فضة الميسانيات من صنع صابئتها  .

كلُّ أطفال ميسان ،لُوُلَتْ أمّهاتهم بمهودٍ أهتزت بايقاع دوزنه أمهر النجارين من صابئتها  .

قولوا له   : إن الصابئة كانوا ولا زالوا باذن العارف الحيِّ  ركنٌ أساسٌ من ميسان بحواضرها وخواصرها..

قولوا له بصداقة الصابئة وشيوخ ميسان الكرام بدون استثناء  .

قولوا له ميسان تفخر بعبد الجبار عبدالله ونبوءات علمه الجليل  .

قولوا له قبلك فنانون العراق الأصلاء طوعوا الشوارع والساحات وممرات السجون مسارح عرضوا فيها خلاصة وهاجة لنبيل قيم العراق وأهله

 قولوا له لصابئة ميسان حصة بالوان طور المحمداوي

قولوا له لصابئة ميسان وقفة ٌصادقة ٌفي مواكب الشهيد الإمام الحسين .

تحية لاهل ميسان  .

تحية لمحافظ  ميسان ، فلاحها الباسل وهو يسقي زهورها ببدلته الزرقاء

يا مندادهي أحفظ ميسان وأهلها ..

ختاماً

اهديكم  وافر محبتي

سعيد غازي الاميري

السويد 3\ 8\13

 

مهرجان الوفاء

تحت شعار 

( الصابئة المندائيون ... ابناء وطن اصلاء ...شركاء الماضي والمستقبل ) 

يقيم المجلس الشعبي لدعم الثقافة في ميسان مهرجان الوفاء ردا على الاساءات التي تعرض لها ابناء الطائفة المندائية من خلال مسلسل (حفيظ) وذلك في تمام الساعة التاسعة مساءا من يوم السبت وامام معبد الطائفة الكائن بالقرب من مقبرة الانكليز والذي سيشترك فيه عدد من شعراء ميسان ومبدعيها والدعوة عامة لمن يريد ان يشترك في اي فعالية كانت تعبرعن حبنا وتماسكنا ووفاء ابناء ميسان لماضيهم الذي شكلت كل الطوائف صورته المشرقة ....والدعوة عامة

 

-- 

الاعلامي

زياد طارق المياحي

مدير المركز الثقافي في ميسان

 

نشرت في وجهة نظر

 

الاستاذ محمد عبد الجبار الشبوط مديرعام شبكة الاعلام العراقي وقناة الفضائية العراقية المحترم

 

 

 

تحية طيبة

 

 

 

أود في البدء ان اقدم لكم تعريفا مبسطا عن هيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق. هي منظمة مجتمع مدني عراقية دولية تضم مجموعة من الأكاديميين والمثقفين العراقيين من داخل العراق وخارجه ومن كافة مكونات الشعب العراقي ، تدافع عن اتباع الديانات والمذاهب المختلفة في العراق وليس لها علاقة بالديانات نفسها. وهي تسعى الى ترسيخ مبادئ احترام حقوق الانسان في حرية اعتناق الدين والمذهب الذي يراه مناسبا له. تأسست هيئتنا عام 2004 وكان مؤتمرها الاول برعاية السيد رئيس الجمهورية الاستاذ جلال الطلباني في 2012.

 

موضوع رسالتنا هذه يتعلق بما اثاره موضوع مسلسل (حفيظ) الذي تعرضه قناة العراقية الفضائية من تساؤلات جدل في الشارع العراقي وبين الجاليات العراقية في المهاجر وخاصة لدى اتباع المكون العراقي الاصيل الصابئة المندائيون حيث صدر بيان من رئيس الطائفة المندائية (الريش أمَّة ستار جبار حلو) يستنكر فيه ما يعرضه المسلسل من تشويه وتهجم وانتقاص من طقوس وعادات المكون المندائي. كما أستلمت هيئتنا العديد من الرسائل والإتصالات من داخل العراق وخارجه ومن شرائح عراقية مثقفة من الاكاديميين والادباء والمثقفين ومن شخصيات عراقية مرموقة ومعروفة على الصعيد الوطني والدولي تطالبنا فيه باصدار بيان شجب ما ورد في المسلسل وما تضمنته حلقاته من تهجم بصورة مباشرة أو غير مباشرة على هذا المكون الاصيل والمسالم بطبيعته.

 

وانطلاقاً من موقعنا الرائد المدافع عن أتباع الديانات والمذاهب في العراق ارتأت الامانة العامة للهيئة مخاطبتكم من خلال هذه الرسالة للوقوف معا على ما طلبه منا مناصرينا من أبناء الشعب العراقي والمكون المندائي حيث نرى ان من الضروري عدم اشاعة التشويش الاعلامي و التضليل في الخطاب الثقافي والديني والسياسي بين مكونات شعبنا عبر حلقات مسلسل حفيظ.  كما تعلمون ان هذه الامور تثير وتشحن مشاعرالبغضاء والكراهية بين مكونات شعبنا وتقود الى تعميق فكرة التمييز الطائفي والعنصري ولما كانت قناتكم المؤقرة هي الناطقة شبه الرسمية باسم حكومة العراق فقد كان من الافضل على هذه القناة عرض مسلسلات تتضمن بث روح التسامح والتعاون بين مكونات المجتمع العراقي ونشر ثقافة احترام طقوس الاخرين لكننا بالعكس فوجئنا بعرضها المسلسل المذكور الذي عكس صورة سلبية عن المكون المندائي.

 

لذا ندعوكم من خلال هذه الرسالة بمتابعة جدية لحلقات المسلسل للوقوف على تلك المشاهد التي اثارت حفيظة المثقف الوطني العراقي والمكون المندائي مهما كان نوعها. ثقتنا عالية بإن الإعلام العراقي قادر على تفهم مثل تلك المواقف المثيرة للأفكار الطائفية والعنصرية خاصة عندما تكون ارضية المجتمع هشة وفي طور البناء الديمقراطي. نحن نؤمن بحرية الاعلام ونبدي إهتماماً بالاعلام الهادف الى البناء والتأخي والتسامح وخاصة ان الوطن وكما تعرفون يفقد يوميا مئات من الشباب العراقي ومن كل المكونات بسبب التمييزالطائفي والإرهاب.

 

 نأمل ان تتظافر جهودنا معاً في حسم موضوع هذا المسلسل وننتظر منكم إيضاحاً تقدمونه لمشاهدي قناتكم المؤقرة معتمدين مبادئ الأحترام والتآخي والوئام بين مكونات شعبنا.

 

تقبلوا وافر تقديرنا

 

نهاد القاضي

الامين العام لهيئة الدفاع عن اتباع الديانات والمذاهب في العراق

 

04-08-2013

 

 

 

العنوان الالكتروني للهيئة     عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.  

 

نشرت في اخبار عامة
الأحد, 14 تموز/يوليو 2013 18:56

الذاكرة وصبيحة الرابع عشر من تموز 1958

من الامور التي وقعت محض صدفة هي ان طبيب جراحة المجاري البوليةالمقيم  في المستشفى الملكي في بغداد كان قدد حدد يوم الاثنين 14/7/1958موعدا لاجراء عملية جراحية لي لاستخراج حصاة مستقرة في حويض كليتي اليمنى , عندما زرته في مقر عمله في نهاية الشهر الخامس من العام المذكور يومها كنت طالبا في السنة الثالثة من دراستي في كلية التربية برفقة  طالب  يعرفه وهو زميل من كلية الحقوق  والذي تعرفت عليه بحكم عضويتي في ذلك العام  في اللجنة الاتحادية التي كانت تدير نشاط ( اتحاد الطلبة العراقي العام) سريا في كلية التربيةوالتي كان من نشاطاتها التزاور بين القيادات  الاتحادية والوجوه الطلابية البارزة للكليات المختلفة في بغداد .وبعد انتهاء السنة الدراسية 1957-1958 عدت الى المدينة التي تعيش فيها عائلتي ( وهي مدينة المدحتية احدى النواحي التابعة لمحافظة بابل) انتظارا للموعدالمذكور

و عصر يوم 13/تموز/1958سافرت وبصحبة اخي الاكبر الى بغداد  ونزلنا في( فندق الامين) القريب من ساحة الرصافي حاليا ، تمهيدا للالتحاق بالمستتشفى  في اليوم الذي يليه وهو 14/7 لاجراء العملية الجراحيةلاستخراج الحصاة الكلوية.  وعند صبيحة اليوم االموعود  اي 14/7 اسيقظت مبكرا كعادتي وامضيت وقتا في قراءة كتاب لرواية( شارع السردين المعلب) كنت قد احضرته معي، وبعدحوالي ساعة من الزمن اي بعيد السادسة صباحا ذهبت الى صالة الفندق واذا بي ارى جمهرة من نزلاءه قد تحلقوا حول راديو تلك الصالة وكان ساعتها استمعت معهم الى صوت من شخص ليس بمذيع وهو يقول( بعد الاتكال على الله وبمؤازرة اخوانكم في  قواتنا المسلحة الوطنية تم  ازالة

الطغمة الحاكمة التي نصبها الاستعمار....الخ

وبعد ان تمت قراءةالبيان المذكور تعالى تصفيق المتجمهرين حول الراديو واخذ كل واحد منهم بنادي بانه قد حصلت ثورة قام بها الجيش وازيلت الملكية وتحول العراق الى جمهوريةوبعدها استمعنا الى بيان بتعيين الوزراء وعندما سمعت اسم الاستاذ الدكتور ابراهيم كبة قد تم تعيينه  وزيرا للاقتصاد تيقنت ان الحكم اصبح وطنيا لمعرفتي السابقة باسمه الذي كان يتردد بين الاوساط التقدمية كخبير اقتصادي مرموق وذي اتجا ه فكري تقدمي

وبعد ان تناولنا فطورنا في احد المطاعم القريبة من الفندق في شارع الامين ،شاهدت ان الشارع المذكور بدا يعج بجماهير المواطنين قادمين من  المناطق القريبة للشارع ك (ابي سيفين وقنبر علي وشارع غازي وغيرها من المناطق  الاخرى )وكان البعض منهم يحمل 

  صورة جمال عبد الناصر  وبعدها تقدمت مظاهرة منظمة تحمل لافة خط فيها على عجل وبلون احمر عبارة (تحيا الجمهورية)والكل يهتف ويمجد التغيير الثوري الكبير

الذي حصل في الوطن ،وهكذا بدت الجموع  المتظاهرة يزداد عددها والكل متجه صوب جسر الشهداء للعبور الى صوب الكرخ فاندفعنا انا واخي مع الجماهير الزاحفة في ذلك الاتجاه حتى وصلنا الى فندق( تاج الكرخ) وشاهدنا في شرفة( فندق النجوم) المجاور له  قد علقت جثة شخص ابيض البشرة يمازجها لون احمر والجميع يقذفه بالحجارة ولما سالت من سبقني الى المكان عن الشخص هذا، اجاب انها جثة الوصي وولي العهدقد علق هنا بعد ان اخذته الجماهير الغاضبة عنوة من السيارة العسكرية التي خصصت لنقله تمهيدا لدفن الجثمان

وعندها حان موعد ذهابي الى المستشفى طبقا الى ما تم الاتفاق به بين الطبيب الجراح وبيني كما ذكرت آنفا

وبصعوبة بالغة استطعنا شق طريق العودة باتجاه المستشفى الملكي مرورا بشارع الرشيد وساحة الميدان وبوابة وزارة الدفاع وكانت الجموع في تلك المواقع التي مررنا بها تهدر مؤيدة للثورة الوليدة .

وبعدها وصلنا الى ردهة (جراحة الكلية والمجاري البولية )حيث ان المستشفى يقع قريبا من وزارة الدفاع وقصدت الطبيب الجراح  ولما قابلته طلب من ان ارقد في الردهة تمهيدا لاجراء العمليةالجراحية التي سبق وان اتفق معي على اجرائها، فنظرت الى الطبيب الجراح مبتسما طالبا منه تاجيل العملية الى وقت آخر ليتسنى لي مشاركة الشعب افراحه بانتصار ثورته الفتية ولكنه اجاب : ولكن يجب ان تضع في حساباتك ان التاخير ليس في صالحك ولكن اصوات الجموع وهي تهتف للانتصار الكبير جعلني اغض الطرف عن تحذير الجراح فاعتذرت له وخرجت مودعا له، وفعلا كانت كليتي اليمنى هي( اضحية الثورة )حيث بعدعامين اي في  تموز 1960 وجد الجراح الدكتور( طلال ناجي شوكت) الذي اجرى العملية ذاتها  في مستشفى ( فيضي الاهلي) ان الحصاة قد كبرت وازداد حجمهاونتواءاتهالشوكية مما سبب ذلك تلفا كبيرا للكلية وهكذا خسرت كليتي اليمنى لاشارك الشعب فرحته الكبرى وبقيت طيلة حياتي الباقية بكلية واحدة هي اليسرى

 

نشرت في وجهة نظر

 

كان من الممكن ملاحظة ذلك التاثير في الكتابات الفرعونية القديمة ، كما جاء في الملحمة الاسطورية الاوزيرية التي تعتبر من اهم مصادر الميثولوجيا المصرية ، تقول ملخص الاسطورة ( ان لدى عودة اوزيرس الى مصر الذي كان في احد غزواته ، دبر له اخاه سيت مكيدة للاستلاء على عرشه وعلى زوجته فوضعه في صندوق واطبق علية حتى مات وامر بتقطيعه الى اربع عشرة قطعة ووزعها في جميع انحاء الدلتا المصرية ، الا ان زوجته ايزيس جمعت اجزائه من جديد ، واخذت تندب وتنوح حتى وصل نواحها عنان السماء فاشفق عليها رع كبيرالالهة فجمع اوصاله ولفها في قطعة بيضاء من الكتان ثم اشرف على طقوس التحنيط ، والتي مارسها المصريون على موتاهم فيما بعد ، ثم طارت ايزيس زوجته باجنحتها الفضية فوق الجثة وراحت ترف عليها حتى عادت الروح الى اوزيريس ، لكنه كما تقول الاسطورة ترك العالم وتوجه للسكن في العالم الاسفل حيث صار ربا للابدية وحاكما على الموتى ) .

ففي اسطورة صعود ( رع ) الفرعوني الى السماء تقول الاسطورة ، لقد جمع رع مجلس الالهة واعلن امامهم انه اضحى عجوزا ، ولذلك عزم على ان يحلق الى السموات ، فتحولت الالهة السماوية نوت الى بقرة ، جلس رع على ظهرها بعد ان اعطى الصولجان الملكي الى الاله غب ، ثم انطلق الى الاعالي فوق ظهر البقرة السماوية ، واعلن رع انه اذ يغادر هذا العالم الارضي ، يوصي كل من يرى وجهه بضرورة ان يحذو حذوه ، واعد لهذا الغرض مكانا يمكن ا ن ياتي جميعهم اليه ، فقد خلق ( حقل العالم ) وغدا جزؤه المركزي ( حقل القصب ) الذي يحيط ( بالنيل السماوي ) ، تبعا لارادة رع التالية ، ظهرت في ( حقول الاليزيه ) المصرية نجوم كانت بمثابة الزهور السماوية ، وفي النهار كان رع ينتقل عبر السماء في قارب الشمس متخذا صورة صقر ، وترافقه في رحلته من الشرق الى الغرب حاشيته ، وبعد ذلك استدعى رع الاله توت ، ومضى معه الى مكان ناء يدعى ( دوات ) ( الحضيض ) ، ولما وصلا الى هناك امر رع توت كاتب الحقيقة ، ان يدون في الواحة اسماء كل الموجودين هناك ، وانزل عقابه بكل من ارتكب اثمأ ضده ، واقام رع توت ممثلا له بعد ان منحه القدرة على احتواء السماء ، وهكذا تنازل رع عن العرش ، اي جعله سيد اله القمر ، وترك الاله توت مكانه . وتعيد هذه الاسطورة التي ساقها بلوتارخ زمن وضع التقويم السنوي الى تلك الحقبة

الزمنية .

كذلك نجد في الاسطورة السومرية المشهورة – اسطورة الفردوس المفقودة – نفس الدلالة وهي تصف دلمون ارض المعاد ( كانت دلمون جزيرة تقع عند ملتقى النهرين في منطقة القرنة من جنوبي العراق حسب ما وصفته الاساطير السومرية الاولى وهي تختلف عن دلمون في العصور التاريخية اللاحقة التي لعبت دورا اقتصاديا في منطقة الخليج وجنوبي الرافدين) وهي جزيرة تتمتع بقدسية خاصة ، وفيها اّّلهة عبدها اهل العراق القدماء ، وقد وصفت ( ارض الخلود او الجنة الموعودة التي لا يوجد فيها مرض او موت او حزن ..) كما جاء في النص الذي نشر لاول مرة في عام 1915م ، وترجمه فيما بعد عالم السومريات Kramer والمؤلف من 278 شطرأ والذي يحمل عنوان اَنكي وننخرساك يقول النص : } مقدسة هي المدينة التي منحت لكم ، ومقدس بلد دلمون النقي مقدس سومر ...، ومقدس بلد دلمون ، بلد دلمون نقي ، بلد دلمون مغمور بالنور ، متميز بالاشعاع ، يوم أقيم الاول في دلمون ، حيث استقر اًَّنكي مع زوجته ، اصبح المكان هذا نقياًَ ومشعاًَ بالنور ، الغراب لا يصيح في دلمون ، والحجل لا توصوص والاسود لا تقتق احدا ، والذئب لا يلتهم الحمل الوديع ، لم يكن الكلب يتقن اخضاع الغزلان ، ولم يكن الخنزير البري يأكل الحبوب ، لم تكن طيور السماء تأتي لتنقر شعير الأرملة وهو يجف على السطح ، ولم تكن الحمامة تحني رأسها ، ولم يكن مريض العينين يشكو من مرض عينيه ، ولا مريض الرأس كان يشكو من مرض رأسه ، لم تكن أي امرأة عجوز تقول ( انني عجوز ) {.

كذلك يمكننا ملاحظة جملة من الملاحم البطولية الاسطورية قد وردت ضمن التراث الاسلامي ، والتي ورثها من ادب الشرق القديم ، بعتبارها جزءا من اساطير الاولين .

ان مؤثرات المعراج واضحة جدا ولم تقتصر على الاداب التركية والفارسية والاوربية ، بل تعدت ذلك الى اشكال التعبير الاخرى كالخط والرسم ، ولهذه المسالة دلالة على اهمية هذا الاثر لا من الناحية الدينية والروحية فحسب ، بل من الناحية الجمالية والفنية ايضا لذا فان ولادة الاداب الاوربية كولادة فنون عصر النهضة ، وحركات الاكتشاف الجغرافي والعلمي والفلسفي لا يمكن ان نفهم فهما كاملا ، ان هي عزلت عن مؤثراتها من الحضارة الشرقية الصاعدة ، وان حركة بحث منظم في الاداب يقود الى ما فادت اليه حركة البحث المنظم في الفلسفة والعلوم ، وهي ان فنون اوربا وادابها في عصر النهضة والتكوين تنفست الحياة في رحم الانجازات الفنية والادبية والحضارية في المناطق الشرقية السابقة اللامعة . ان من نتاج الادب الاوربي العظيم كانت الكوميديا الالهية وهي ملحمة شعرية قصصية لمؤلفها دانتي اليجيري ( 1321- 1265 ) وهو من اعظم شعراء ايطاليا ، في عصر النهضة الاوربية ، كما قال عنه ت.س. اليوت ( دانتي وشكسبير اقتسما العالم بينهما ، ولا ثالث لهما ) ، ويقول عنه ايضا دوروتي سايرز ( دانتي هو اعظم شعراء ايطاليا وكوميدياه الالهية هي اعظم اثار العالم المسيحي ) ويعود تاريخ كتابتها الى مطلع القرن الرابع الميلادي ، وتعتبر الكوميديا الالهية قصة رمزية ، لخبرة دانتي الروحية ، ومساره من عالم المادة الى عالم الروح ، وعروجه من الجحيم الى النعيم مرورا بالمطهر ، حيث تتطهر الارواح من ادرانها وذنوبها وتستحق الانتقال الى النعمة الالهية اي الفردوس ، وتعتبر هذه الملحمة منعطفا مهما في نشاة الاداب الاوربية ، لم تكن لتشذ عن عملية التمازج الثقافي هذه ، بل ان نشاتها لتتصل اتصالا مباشرا بمؤثرات المعراج وتصوراته الفكرية والغيبية وبنيته الفنية . وتتالف هذه الملحمة الشعرية من ثلاث اقسام الاول : الجحيم ، والثاني : المطهر ، والثالث : الفردوس ، وهي من ملاحم الرحلات في العالم الاخر كالمعراج ، ولا تختلف كثيرا عن الفردوس المفقود لملتون ، ورسالة الغفران للشاعر الفيلسوف ابي العلاء المعري .

يتبع لطفاًَ .

 

نشرت في وجهة نظر
السبت, 06 تموز/يوليو 2013 15:45

الانقلابيون

 

حين نسمع بكلمه انقلاب فأول ما يتبادر الينا هو الانقلاب العسكري

او الانقلاب الشتوي الذي ترتد فيه الشمس من اقصى انحرافها بالنسبه

للارض ويكون اول يوم من ايام الفصل الشتوي او الانقلاب الصيفي

والذي ترتد فيه الشمس ايضاً من اقصى انحرافها للارض ويكون اول

يوم من ايام الفصل الصيفي.

هذا ما عرفناه ... ولكن الانقلاب يأخذ اشكال اخرى غير تلك المتعارف عليها

فقد يكون الانقلاب في الفكر والمبادئ وهذا اخطر انواع الانقلابات ,, او الانقلاب

في الولاء والانتماء وكما نراه اليوم واضحاً وجلياً من اكثر الانقلابيين,,, فنرى

البعثي اصبح شيوعياً وترى الشيوعي اصبح بعثياً والسلفي اصبح علمانياً

والعلماني اصبح سلفياً والشريف والنزيه اصبح لصاً محترفاً وبجداره ,,

وارتد الكثير عن المبادئ والافكار التي كانوا يحملونها.

ان الارتداد الفكري والتنظيمي والعقائدي هو خلل في السلوك لدى هؤلاء

وهو مرض يصعب علاجه وله تأثيرات خطيره وجسيمه على المجتمع.

قد يكون لكل انسان الحق بتغير موقفه ولكن الانتقال من النقيض الى النقيض

يدعو الى التساءل والاستغراب بل الى العجب,, نحن مع الانقلاب على الماضي والتنكر له ان كان مشيناً

.. لاننا نؤمن بالتطور والتقدم وليس مع التدهور والانحطاط والانحلال وفساد القيم

هذا ما يمليه علينا المنطق والعقل.

يقال ان المال يفسد اهل المبادئ وانا والكثير من امثالي ضد هذه المقوله

فالذي لديه مبادئ ثابته وراسخه لا تفسده ولا تغريه كنوز العالم كلها,

ولكن الخلل يكمن في النفوس المريضه التي سال لعابها حين رأت المال ..

وتخلت عن قيمها .. ومبادئها .. وتخلت عن شرفها.

ان مرتدي الفكر والانتماء قد يحاججوك بأن المرحله تتطلب هكذا

ولكن نقول لهم ..انكم اذاً كالحرباء حين تغير لونها وكالافاعي حين تسلخ

جلدها وتصبح بجلد جديد ولكن يبقى سمها قاتل ,,انكم كذلك تسلخون

جلودكم ليس كل سنه بل كل يوم وتظهروا للناس بأشكال جديده وغريبه ..

وعجيبه وحسب ما تتطلبه مراحل استحالتكم الحياتيه ولكن سمكم القاتل

هو افكاركم السامه والهدامه التي تحملوها والتي وكما ذكرنا

تغيروها متى ما اردتم حسب اهوائكم ومنافعكم انكم اصحاب العقول والمبادئ الفارغه

والتي يجب ان تتخلص منها الشعوب ,,لان سبب خراب الاوطان هو انتم ...

انكم الفاسدون بالارض...

السويد

نشرت في وجهة نظر

مسابقة المقالة

كمن ينتظرُ موسمَ الحصادِ في حقـلٍ لا زرعَ فيه - فاروق عبد الجبار - 8.6%
مكانة المرأة في الديانة المندائية- إلهام زكي خابط - 3.3%
الدلالة الرمزية في قصص ( امراة على ضفاف المتوسط ) للقاص نعيم عيَال نصَار - عزيز عربي ساجت - 0%
رجال الدين المندائيين بين الاعداد التقليدي والتحديات المعاصرة - الدكتور كارم ورد عنبر - 85.3%
الإباحية في الفن الروائي والقصصي - هيثم نافل والي - 2.5%

Total votes: 360
The voting for this poll has ended on: تموز/يوليو 15, 2014