• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 23 أيار 2013 08:18

القيثارة في الكونشرتو

اعتبر الفنانون الأوروبيون القيثارة رمزاً للموسيقى، ولاحقا للشعر. ويمتد هذا التصور في جذوره إلى عصر الاغريق الذين صورت منحوتاتهم البارزة ورسومات مزهرياتهم الأدوات الموسيقية التي كانوا يستعملونها. فنجد صوراً ومجسمات الناي والقيثارة (الهارپ) التي كانوا يسمونها λύρα، وتقرأ ليرا، وهي كلمة اصبحت في اللغات الأوروبية مرادفاً للغنائية، لأنها كانت تصاحب المغني أو قارئ الشعر، وحتى الملاحم الاغريقية القديمة كانت تؤدى بمصاحبة القيثارة. لكن القيثارة منبعها سومر، وقيثارة اور الشهيرة التي عثر عليها وولي تعود إلى 4500 سنة خلت، وكان للمصريين القدماء أدواتهم الموسيقية كذلك، بينها القيثارة.

استعملت القيثارة منفردة، ولمصاحبة الغناء، وفي العصر الرومانتيكي أصبحت من الأدوات المكملة للأوركسترا، وتؤدي مقاطع هامة في الأعمال الموسيقية لما يمتلكه صوتها من جاذبية وتأثير عاطفي هائل. وأبدع في استخدامها عدد من الموسيقيين، مثل تشايكوفسكي الذي استعملها في باليهاته. بالمقابل هناك عدد من المؤلفين الذين خصوا هذه الأداة الجميلة بأهمية قصوى، وكتبوا لها كونشرتو مع الاوركسترا، اليكم باقة من أشهرها:
كونشرتو الهارپ والأوركسترا لجورج فريدريك هاندل، من بين الأعمال المفضلة عندي:

http://www.youtube.com/watch?v=bp7fPvWks3c

كونشرتو الهارپ، للنمساوي غيورغ كريستوف فاغنزايل (1715-1777):
http://www.youtube.com/watch?v=whWWrm3RAbw

الحركة الثالثة من كونشرتو الهارپ والوتريات للفرنسي فرانسوا بوالديو (1775-1834)، كثيراً ما نسمع هذه الحركة:
http://www.youtube.com/watch?v=Ba4WzGC692c

ونتقدم في الوقت إلى عصر متأخر، هذا الموسيقي الاوكراني-الروسي ثم السوفيتي ذو الأصل البلجيكي راينهارت غْليير (1875-1956) مع كونشرتو الهارپ والاوركسترا، وهي واحدة من أجمل الأعمال:
http://www.youtube.com/watch?v=N1CdBxGurCI

الأربعاء, 22 أيار 2013 20:35

باخ وعائلته - الجزء الأول

أخال أن الجميع سمع بأسم يوهان سباستيان باخ (1685-1750) أحد أعظم الموسيقيين الأوروبيين على مر العصور. وهو أحد أفراد عائلة موسيقية عريقة اشتغل أعضاؤها بصنعة الموسيقى منذ القرن السادس عشر، وبرز بينهم إلى جانب يوهان سباستيان باخ الكبير العشرات من الموسيقيين الموهوبين.

ويقال أن جد باخ الأكبر فايت (أو فيتوس) كان يعيش في مدينة فسپريم الواقعة في غربي المجر (هنگاريا)، وهي مدينة جميلة صغيرة عزيزة على قلبي، فقد أمضيت فيها سنوات دراستي الجامعية للحصول على ماجستير الهندسة البتروكيمياوية. ولد فايت في 1550، وهاجر إلى تورينگيا بألمانيا بسبب الاضطهاد الديني الذي وقع عليه لمعتقده البروتستانتي، في خضم الهجمة التي قام بها آل هابسبورگ النمساويون الكاثوليك لإعادة كثلكة المجر التي اعتنقت البروتستانتية في القرن السادس عشر. كان فايت خبازاً ويهوى العزف على أداة موسيقية تشبه القانون (سيترن)، أما ابنه هانس، فكان أول أفراد العائلة الذين احترفوا الموسيقى.

لنبدأ اليوم بيوهان برنهارت باخ (1676-1749)، إبن العم الثاني ليوهان سباستيان، وكان يوهان سباستيان معجباً بموسيقاه التي لم يصل إلينا منها سوى القليل، أربع سويتات للأوركسترا (متتابعة أو افتتاحية)، وبعض القطع الاخرى للأورگن. وكان باخ يحتفظ بمدونات يوهان برنهارت ليدرس اسلوبه وطريقته في التأليف. من أعماله الباقية استمعت ذات مرة إلى عمله سويت رقم 1 (صول الصغير) من راديو وسط ألمانيا MDR، بإداء عازف الكمان البارع آنتون شتَك، وكان من الأعمال النادرة التي يمكن للمرء أن يقول عنها أنها أحد الأعمال المفضلة بالنسبة إليه. كانت ذلك الصنف من الأعمال الموسيقية التي يستمع إليها الانسان يومياً عدة مرات ويكررها دون أن يملها. لنستمع اليوم إلى مقطع من السويت رقم 3 (صول الصغير) بأداء فرقة برازيلية من ساوبالو:

http://www.youtube.com/watch?v=ZTmNLf95QDk

وحتى نتعرف على أناقة اسلوب يوهان برنهارت، لنستمع إلى هذه المقاطع القصيرة من سويت رقم 2 (صول الكبير)

http://www.youtube.com/watch?v=X65eGKylnvM

للأسف، لم أعثر على تسجيلات أكثر لهذا الموسيقي الكبير، بالخصوص سويت رقم 1 التي اعتبرها جوهرة ثمينة من جواهر الموسيقى. لقاؤنا القادم في أول أيام العام المقبل 2011، مع باخ آخر. كل عام وأنتم بخير وسلامة،

أتمنى لكم عطلة هانئة

السبت, 18 أيار 2013 00:33

الأوبرا ثورة في الموسيقى

كان ظهور الاوبرا في السنوات الأخيرة من القرن السادس ثورة في الموسيقى بمعنى الكلمة. لأن هذا الشكل الموسيقي الغنائي كان يعني ظهور فن جديد بما يحمله الأمر من معاني. فن يجمع الموسيقى والشعر والمسرح في وحدة عضوية متكاملة، تعطي الفنان امكانية جديد للتعبير الفني لم تكن معروفة من قبل. والاوبرا فن ايطالي خالص، عنوانه يدل على المسرح، وكانت تسمى كذلك دراما موسيقية، في إشارة واضحة إلى المسرح.

برغم تأليف جاكوبو بري أول اوبرا سنة ١٥٩٧ بعنوان دافني (فُقدت موسيقاها) وثاني اوبرا بعنوان يوريديتشيه، فإن كلاوديو مونتفردي (١٥٦٧-١٦٤٣) كان أول من ألف اوبرا بالمعني المعروف، لذلك تعتبر اوبراه اورفيو أول اوبرا حقيقية، ألفها سنة ١٦٠٧. ولحق مونتفردي اورفيو باوبرات ثلاث آخرها أعظمها، هي تتويج بوبيا (١٦٤١). في تتويج بوبيا الكثير نجد الكثير من الاشارات إلى الدور المستقبلي للاوبرا، كأداة فعالة في التأثير على الوعي الاجتماعي. فهذه الاوبرا تعبير مبطن عن الصراع السياسي والاقتصادي بين فينسسيا ومنافستها روما، عبر توظيف رواية نيرون وحبيبته بوبيا في هذا الاتجاه. وفيها استعمل مونتفردي قصة تاريخية لأول مرة، بعد أن كانت الأساطير هي المواضيع المستعملة في الاوبرا. وأصبح الثنائي العاطفي الختامي لنيرون وبوبيا من أشهر آريات الأوبرا، وهي واحدة من أجمل ماكتب.

لكن التطور الحقيقي في الاوبرا حصل على يد كريستوف فيليبالد غلوك (١٧١٤-١٧٨٧)، ويا للعجب، فهو موسيقي ألماني، وليس ايطالي. ويتلخص جوهرها، أن غلوك أدخل تغييرات واسعة على شكل الاوبرا ووضع اسس الاوبرا الحديثة. من التغييرات التي ادخلها اعتبار الافتتاحية جزءاً من الأوبرا وليس عملا منفصلاً كما كان في السابق، وخدمة الموسيقى النص وليس العكس، وتحرير شكل الآريا (الأغنية) من قيودها، وادخال شكل الالقاء الملحن بمصاحبة الاوركسترا، وإعطاء الكورس دوراً أكبر (والعودة إلى الدراما الاغريقية في هذا الشأن). وحملت أوبرا غلوك الجديدة اسما قديماً، هو اورفيو ويوريديتشه. لكن خلف هذه الاسطورة الاغريقية القديمة توارت الاوبرا المعاصرة. هذه رقصة الأرواح المباركة، وهي بين أشهر مقاطع هذه الاوبرا

الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2013 18:19

رحلة التقاويم عبر التاريخ

تستعمل الدول العربية اليوم التقويم الميلادي الغريغورياني (وهو تقويم شمسي) الذي تتكون السنة فيه من 365 يوماً وربع اليوم. وفي المشرق (وفي تركيا أيضاً) تسمى الأشهر كانون الثاني شباط آذار ... الخ، وهي الأشهر البابلية المعروفة. أما في باقي الدول العربية (ابتداءاً من مصر وكذلك دول الخليج واليمن) فيستعمل السكان الأشهر اللاتينية يناير فبراير مارس .. الخ (أو الصيغة الفرنسية جانفي فيفيري .. الخ). من جانب آخر لا تزال الدول العربية تتمسك بالتقويم العربي بسبب ارتباط مواسم الحج والصيام وغيرها من الفروض الإسلامية بالتقويم القمري، أحد أقدم أشكال التقويم في العالم. فكيف حصل هذا التطور في أنظمة التقويم، ولمن يعود الفضل في هذا التطور؟

 الأبجدية والتقويم:

 عند المحاولات الأولى للتدوين، والتي جرت في منطقتنا، كانت الكتابة الصورية – المقطعية هي الخطوة العملاقة التي نقلت البشرية من عالم عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية، ثم تطورت إلى نمطي الكتابة المسمارية والهيروغليفية اللذين سادا في الشرق القديم لقرون. أما الخطوة الأعظم فهي ابتكار الحروف والأبجدية من قبل الفينيقيين والكنعانيين (1400-1200 ق.م.) ووصف العالم سيروس غوردون هذا الإكتشاف المذهل بـ ”الإكتشاف العرضي غير المقصود“ وذلك في أحد أبحاثه الصادرة في مجلة ”دراسات الشرق الأدنى“ عن علاقة الأبجدية بالتقويم والقيمة العددية للحروف. فعند تحليل أسماء الحروف في العبرية (وهي لغة مقتبسة من الكنعانية كما نعلم) نرى أنها أسماء حيوانات (نون = سمكة، قوف = قرد الخ) أو عناصر طبيعية (ميم = ماء) أو أجزاء الجسم (كاف = الكف، يود = اليد، عين = العين، ريش = الرأس) .. الخ. وعدد أحرف الأبجدية الفينيقية 29-30 حرفاً. هذا العدد يقابل معدل عدد أيام الشهر القمري، وهو 29,53 يوماً (فقد استعمل الفينيقيون التقويم القمري، واستعمل الإغرق والعبرانيون هذا التقويم أيضاً في البداية). ونرى أن الحرف الثلاثين في الأبجدية الفينيقية هو حرف يمكن اعتباره زائداً، إذ يمكن تعويضه بحرف السين، وهذا هو الدليل الذي ساقه غوردون على أن الرموز الـ 29-30 (الأبجدية) إنما وضعت للتعبير عن أيام الشهر القمري في بادئ الأمر، ونسب لكل يوم رمز معين (تحول لاحقاً إلى شكل الحرف وصوته)، ومن هنا نفهم تعبير غوردون ”بعرضية“ اكتشاف الأبجدية.

واستعمل الانسان بادئ الأمر تقويماً قمرياً لسهولة متابعة دورة القمر وتمييزها، وعدد أيام السنة القمرية 354 يوماً. غير أنه لاحظ عدم تطابق السنة القمرية مع تناوب الفصول، فالسنة القمرية تقل عن السنة الشمسية بحولي 11 يوماً. لهذا عمد إلى إجراء تصحيحات معينة بهدف انطباق التقويم على دورة الفصول.

كان الكلدانيون ضليعين في علم الفلك، فقد حسبوا مواقع الشمس والكواكب المختلفة ووضعوا لذلك جداول فلكية دقيقة، وحسبوا قيمة السنة بدقة أربع دقائق ونصف الدقيقة. واستناداً لهذه المعرفة قام الكلدانيون بتعديل السنة القمرية وفق نظام معقد عن طريق إضافة شهر كبيس ثالث عشر سبع مرات كل 19 سنة. والتسعة عشر عاماً هذه تعرف بدورة ميتون التي اكتشفها البابليون وأعاد اليونانيون اكتشافها لاحقاً، وتعني أن 235 شهراً قمرياً تعادل 19 سنة شمسية. وهذا التعديل يقرب السنة القمرية من السنة الشمسية كثيراً (الخطأ هو 33 دقيقة تقريباً كل 19 سنة). وأخذ العبرانيون هذا النظام الذي يمكن حسابه مقدماً من الكلدانيين في القرن الرابع ق.م. بعد أن كانوا يستعملون سنة قمرية خالصة، واحتفظوا بهذا النظام إلى اليوم، وأخذوا أسماء الأشهر الكلدانية – البابلية: طبيتو، شباطو، ادارو نيسانو، ايارو، سيمانو، تموزو (أو دموزو)، آبو، ألولو (أو أولولو)، تشيرتو، اراشامنا، وكانونو (كسليمو أو كسليفو). وهذ الأشهر بالعبرية: طبيث، شباط، ادار، نيسان (أبيب = الربيع)، ايار (زيو)، سيوان، تموز، آب، ألول، تشري (إيثانيم)، مرحشنان (بول)، وكسليف. وأسماء الأشهر هذه أخذها العرب والأتراك أيضاً مع تغيير بسيط، وقبلهم الأراميون والمسيحيون والسريان والمندائيون. ولدى الصابئة تسمى الأشهر طابيث، شباط، آدار، نيسان، أيار، سيوان، تموز، آب، ألول، تشرين، مشروان، وكانون.

وكان لفيضان نهر النيل المنتظم واعتماد النشاط الزراعي في مصر الفرعونية على النيل الأثر الأعظم في تطوير المصريين القدماء لنوع من التقويم الشمسي، فقد قسموا السنة إلى 12 شهراً، كل شهر بثلاثين يوماً، وأضافوا ”شُهيراً“ صغيراً من 5 أيام لتعديل الرقم من 12× 30= 360 يوماً إلى 365 يوماً، وهو أقل من السنة الشمسية الفلكية بأقل من ست ساعات. وعرف المصريون القدماء ذلك الفارق، وحسبوا الدورة التي يعود عندها التطابق بين السنة المصرية والسنة الفلكية، وهي 1460 عاماً وأسموها دورة سيث (نسبة إلى نجمة سيريوس وهي الشعرى التي يرتبط ظهورها بفيضان النيل).

ومن الغريب أن تكون السنة المندائية مماثلة تماماً للسنة الفرعونية بسبب بعد وطن الصابئة عن مصر الفرعونية، وتسمى الأيام الخمسة الكبيسة لدى عامة الصابئة بالبنجة، وهو موعيد عيد الخليقة، والأسم مأخوذ من الكلمة الفارسية بنج أي خمسة. وانحرف التقويم المندائي عن التقويم الميلادي المستعمل حاليا بحوالي 193 يوماً، فقد قابل اليوم الأول من كانون الثاني 1992 يوم 11 تموز حسب التقويم المندائي، أي أن آخر تعديل جرى على التقويم المندائي حدث العام 1220 ميلادية، في أواخر أيام الدولة العباسية، وكما يبدو، لم يعدل الصابئة تقويمهم منذ ذلك الحين.

 

التقويم القمراني:

 ويستحق التقويم القمراني (نسبة إلى قمران حيث وجدت مخطوطات البحر الميت الشهيرة) وقفة خاصة لغرابته.

استعمل القمرانيون الذين كتبوا لفافات البحر الميت الشهيرة، تقويماً خاصاً يختلف كثيراً عن التقويم القمري الذي استعمله باقي اليهود. فقد قسموا السنة إلى 52 اسبوعاً، بذلك تتكون سنة القمرانيين من 364 يوماً، أي أقل من السنة الشمسية بيوم وربع اليوم. وحسب هذا التقويم قسمت الأشهر الـ 12 إلى 4 فصول من ثلاثة أشهر، وعدد أيام الشهور الثالث والسادس والتاسع والثاني عشر 31 يوماً، أما باقي الأشهر فتتكون من 30 يوماً، بهذه الطريقة تبدأ السنة بنفس اليوم دائماً، يوم الأربعاء، وكذلك تقع المناسبات الدينية في نفس اليوم من أيام الأسبوع على الدوام (أموسين ي. د.: مخطوطات البحر الميت والجماعة القمرانية الترجمة المجرية 1986)

وهناك اختلاف آخر، إذ يبدأ يوم القمرانيين بالفجر (النهار) وينتهي بالليل، على العكس من باقي اليهود، أي أن النهار لديهم يسبق الليل، ولهذا ارتباط بالفكر الثنائي عندهم، والتناقض بين الظلام ”حشوخ“ والنور ”اور“ وتفضيل النور على الظلام.

 

التقويم الغريغورياني

 استعمل الغرب التقويم الروماني الشمسي المعروف بالتقويم اليولياني، الذي أدخله يوليوس قيصر العام 46 ق.م. مستنداً إلى التقويم المصري الفرعوني، وأضاف سنة كبيسة كل أربع سنوات ليكون طول السنة اليوليانية 365 يوماً وربع اليوم. لكن هذا التقويم يقل في الواقع بـ 11 دقيقة و 14 ثانية عن السنة الفلكية، هذا يعني اختلاف يوم واحد كل 128,2 سنة أو ثلاثة أيام كل أربعة قرون تقريباً. وقد أصلح البابا غريغوري الثالث عشر هذا الخطأ العام 1582 م، حين أمر باستعمال التقويم المعروف حالياً بالتقويم الغريغورياني. وحسب هذا التقويم يكون عام بداية القرن كبيساً إذا قبل القسمة على 400 من دون باق، في حين تكون سنة بداية القرن التي لا تقبل القسمة على 400 من دون باق سنة عادية بـ 365 يوماً (بالرغم من أنها قابلة للقسمة على 4 من دون باق). هذا يعني أنه عند بدايات أربعة قرون هناك سنة واحدة كبيسة بالرغم من وجود ثلاث سنوات قابلة للقسمة على أربع، ومع ذلك لن تكون كبيسة، مثلا سنة 1600 كبيسة، والسنوات 1700، 1800 و 1900 غير كبيسة. وفي الوقت نفسه أصلح الاختلاف الذي تراكم على مر القرون بين التقويم اليولياني والسنة الفلكية، وقيمته 10 أيام، فقد أمر أن يتبع يوم الرابع من تشرين الأول 1582 يوم 15 تشرين الأول 1582. وبدأت الدول الكاثوليكية استعمال التقويم الغريغورياني في القرن السادس عشر، أما الدول البروتستانتية فلم تستعمله إلا في القرن الثامن عشر. ولم تعترف الكنيسة الباروسلافية الروسية بهذا التقويم، ولم يجر اصلاح التقويم في روسيا إلا العام 1918، ولهذا السبب اختلف التقويم الروسي عن التقويم الغريغورياني المستعمل عالمياً (وصل الفارق إلى 13 يوماً). وهذا هو سبب احتفال الاتحاد السوفيتي لأكثر من 70 سنة بثورة اكتوبر (التي قامت في 25 اكتوبر / تشرين الأول 1917 حسب التقويم القيصري) في يوم 7 تشرين الثاني من كل عام.

من ناحية اخرى نود أن نلمح إلى أن التعديل الغريغورياني يشير إلى احتمال ابتكار التقويم الميلادي العام 300 بعد الميلاد. وتفسير ذلك هو أن الأيام العشرة التي جرى حذفها من التقويم تعني 10×128,2 = 1282 سنة، وعند حذف هذا الرقم من سنة 1582 نحصل على سنة 300م. وهذا العام (300 م) يقع في الفترة التي شهدت تعاظم الصراع بين مختلف الكنائس المسيحية واعتبار المسيحية دين الدولة الرسمي في الامبراطورية الرومانية الشرقية، وهي الفترة التي سبقت مجمع نيقيا المنعقد العام 325 م، حيث تم إقرار العديد من عقائد الكنيسة، ومنها الوهية المسيح وعلاقة الأبن بالآب والثالوث المقدس وغير ذلك من نقاط الصراع بين مختلف التيارات المسيحية في ذلك العصر، وغلبة التيار الذي دعمه الامبراطور قسطنطين أملاً في تجييره لخدمة مصالح الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية). ومن المعروف أن عدداً من الكنائس الشرقية رفض مبدأ الوهية المسيح ومبدأ الأبن. خلاصة القول، أن بداية القرن الرابع الميلادي شهدت ميلاد المسيحية التي نعرفها اليوم بعد أكثر من قرنين ونصف القرن من التاريخ المفترض لصلب السيد المسيح، وهو البداية الحقيقية للتقويم الميلادي.

 

نشرت في وجهة نظر

تعتبر نصوص التعاويذ المكتوبة باللغة والحروف المندائية من أقدم النصوص التي وصلت إلينا التي دونت بهذه اللغة الآرامية المميزة لجنوبي وادي الرافدين، ولهذا تكتسب دراستها أهمية عظيمة في تحديد تطور اللغة المندائية ومقارنتها باللغات المعاصرة لها، ناهيك عن أهميتها في تسليط الضوء على بعض جوانب تكون الدين المندائي. ونصوص التعاويذ متنوعة أهمها تلك المكتوبة على ألواح من الرصاص، والنصوص الوقائية المكتوبة على الأواني الفخارية التي يحدد العلماء تأريخها بالفترة بين 600-800 ميلادية، أو أقدم (بين 350-500 ميلادية حسب كاوفمان ). وقد درس العلماء نصوص الأدعية المختلفة في أوقات مبكرة، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان بين أبرزهم مارك ليدزبارسكي، وسيروس غوردون، وليدي درور، وروبرت ماتسوخ، ومؤخراً أريكا هنتر وكريستا مولّر – كسلر. لكن أهم المتخصصين في هذا الموضوع هو البروفيسور أدوين ياماوتشي (من جامعة ميامي في أوكسفورد، ولاية أوهايو بالولايات المتحدة) والذي أعد رسالة دكتوراه بهذا الموضوع ونشرها في سنة 1967 .
ويمكن المخاطرة بتصنيف هذه النصوص المكتوبة باللغة المندائية إلى ثلاثة أقسام: الأول نصوص وتعاويذ هي من نتاج أتباع الديانة المندائية أنفسهم، تنسجم مع الرؤيا الدينية المندائية لحد ما. وفيها يجري الإبتهال إلى الخالق وطلب العون من ملائكته للتخلص من الضرر أو الوقاية منه. القسم الثاني نصوص بابلية وتلمودية لا علاقة لها بالدين المندائي، لكنها افتتحت وختمت بنص ديني مندائي (بشميهون د-هيي مثلاً). والقسم الثالث نصوص سحرية لا علاقة لها البتة بالدين المندائي وتصورات المندائيين الدينية، والقسمان الثاني والثالث استعملهما سكان وادي الرافدين القدماء وقد دونوها باللغة والحرف المندائيين المنتشرين في ذلك الوقت. ومثلما يعتقد علماء غربيون أن بعض النصوص السحرية المكتوبة بالسريانية هي نصوص كتبت لوثنيين، فمن المنطقي تماماً إفتراض أن بعض النصوص المكتوبة باللغة المندائية قد كتبت لزبائن وثنيين .
وينبغي لنا هنا التأكيد أن الدين المندائي بصفته دين سماوي موحِّد يرفض أعمال السحر، ويتوعد السحرة بعذاب شديد في المطهر. والمندائيون، على الضد من بعض ما يشيع عنهم، لا يعبدون الكواكب، فهي عندهم خاضعة لقوى الظلام والشر، وتوجههم صوب النجم القطبي في الصلاة لا يعني عبادة هذا النجم، بل لأنهم يعتقدون بوجود بوابة عالم الأنوار (الجنة) في جهة الشمال، حيث يجري وزن النفس في ميزان الملاك أباثر، فمن تغلبت حسناته على سيئاته، انطلق فوراً نحو الإتحاد بصنوّه السماوي، ليسكن في عالم الأنوار، ومن رجحت كفة السيئات عنده، ذهبت نفسه إلى المطهر لتكفر عن ذنوبها قبل الإنطلاق إلى عالم النور. ويحذّر الدين المندائي من الوقوع تحت سيطرة الكواكب والبروج (شفياهي أي الكواكب السبعة وترسّر أي الأبراج الإثني عشر)، وهي مصدر كل الشرور والبلاء.
تستند التعاويذ إلى القوانين الدينية وإلى ممارسة الطب الشعبي والشعوذة التي تكاد تختلط به. وظيفتها حماية الإنسان من الآلام والكوارث والمشاكل المتعلقة بالأمراض. فالمرض والمصائب والكوارث كلها من صنع الجن ونتاج الحسد حسب الفهم الشعبي .
ضمن هذا التعريف نجد في علم الآشوريات ما يعرف بأواني العفاريت البابلية، وهي أوان خزفية كتبت عليها الأدعية وفي بعض الأحيان رسمت عليها أشكال تمثل العفاريت. انتشر استعمال الأواني هذه في وسط وادي الرافدين (بابل) وفي جنوبه (بضمنه الأهواز) خلال الفترات المتأخرة من العصور القديمة. فقد عثر على هذه الأواني في مناطق مختلفة، يعود معظمها إلى ما بين القرون الرابع والسابع الميلادي، وهي عادة غير معروفة خارج هذا النطاق الجغرافي. وعثر في بلاد الشام وفلسطين وآسيا الصغرى على ما يقابل هذه الأواني من الأدعية اليهودية المكتوبة على الألواح المعدنية المصنوعة من الرصاص أو النحاس أو الفضة باللغة الآرامية، لحماية الحوامل وعلاج الأمراض والسيطرة على الآخرين، تعود إلى نفس الفترة. ودرس كل من نافيه وشيكد بعض النصوص اليهودية وترجما العديد منها . وقد استعملت اللغات اليهودية الآرامية (التلمودية) والسريانية والمندائية، وفي حالات نادرة الفهلوية للكتابة على الأواني. إلى جانب هذا نجد الكثير من اللقى التي نقشت عليها خرابيش أشبه بالكتابة، إما لأن صانعها لا يحسن الكتابة، أو لأن النص السحري معروف ويمكن تلاوته شفاهاً، وأنه ثانوي الأهمية مقارنة بالوعاء وطقس وضعه في مكانه. تدفن الأواني عادة تحت عتبة الدار أو في زوايا البيت، مقلوبة إلى الأسفل أو يلصق وعاءان أحياناً بالقير، وفي هذه الحالة توضع بعض الحاجات بينهما مثل قشور البيض أو العظام. الهدف من استعمال الأوعية هذه هو حبس العفاريت (الديوي) أو طردها أو إخافتها ومنعها من إيذاء أهل البيت. بالتالي يمكن التعبير عن هذه الأواني بأنها "مصيدة" للعفاريت، وتندرج ضمن مفهوم الأدعية الوقائية.
مثال: وعاء طيني من مدينة سلوقيا (على دجلة قرب سلمان بك) يعود إلى القرن السادس أو السابع الميلادي (متحف كلسي رقم 19504). وهذه ترجمة تقريبية لمقاطع النص الانكليزي (الأصل باللغة المندائية):
"نغراي بنت دنداي وأولادها ... سمعت وصوت .. الرجال المحاربين .. والمرأة الغاضبة التي تلعن وتؤذي، نزل عليهم أزداي ويزدون ويقرون وفرائيل الكبير وروفائيل وسحتئيل، ومسكوهم من شعورهم وضفائرهم وكسروا العظام... وعلقوهم من ضفائرهم وقالوا لهم: "جعلتك تحلف بأن تطلق وتحرر .. نغراي بنت دنداي و .. الرجال والنساء من .. كل اللعنات .. المنطلقة ومن لعنة .. الأم ولعنة المومس ... والجنين ومن لعنة الصانع والأسطة الذي سرق أجره ومن لعنة الأخوة الذين لم يتقاسموا بينهم بالحق ومن لعنات كل الناس الذين يلعنون بأسم عفاريت باطلة ومن بطاناتها ، أنت الشافي أنت الشافي الذي يشفي من المرض بالكلمات أنت الشافي الذي يبعد المرض ولعنات الذين لعنوا نغراي بنت دنداي بأسم أزداي ويزدون ويقرون وفرائيل وروفائيل وأشف وأمح لعنات الذين يلعنون نغراي بنت دنداي.
جلست على حجر لم ينفلق وكتبت كل اللعنات على صحن جديد من طين وأرجعت اللعنات الموجهة ضد نغراي بنت دنداي إلى حيث أتت. ويبارك بأسم صاريئيل الملاك وبرخئيل الملاك وبأسم صاريئيل وبرخئيل تتحررون من لعنات الذين لعنوا نغراي بنت دنداي مثل الرجل مثل الرجل الذي تحرر من بيت القيود ونت بيت السلاح، آمين آمين سيلاه لتحل الصحة والمنعة على بيت نغراي بنت دنداي وأولادها.."
ويتكرر هذا النص في العديد من الأواني الأخرى، ويجري تغيير أسم المستفيد حسب الحاجة. نلاحظ أن النص وإن كتب باللغة المندائية، فهو لا يرتبط بالدين المندائي إطلاقاً، بل بالمحيط الحضاري القديم لجنوب وادي الرافدين، بالذات بالنصوص البابلية. فهو يخلو من العبارات الدينية المعتادة في الدين المندائي. ومن الطبيعي أن يجلس الكاتب على صخرة غير مشققة، لأن العفاريت تسكن الشقوق حسب التصور الرافديني القديم.
وفي نص ثان ترجمه البروفيسور ياماوتشي نجد أن الصحن يبدأ بعبارة "بشما د-هيي نخرايي من آلمي د-نهورا .." وكتب لحماية فروخزاد بن كوماي وزوجته بسبب موت أطفالهما، وفروخزاد اسم فارسي. وفي هذا النص نعثر على اسم بوزناي بنت أغليما الجنية ( أي ليليث، وهي كائنات اسطورية سومرية-بابلية اقتبسها التلمود كذلك، ويرتبط اسمها بالليل والظلام)، وولدها العفريت غيداق وزوجها أبوغدانا (بوغدانا). والأخير عفريت أو ديو هو بغدانا اقتبسته الميثولوجيا الرافدينية من الميثولوجيا الإيرانية . هناك مئات من هذا النوع من الأواني في متاحف وجامعات العالم، بينها نحو 200 لقية عثرت عليها بعثة جامعة بنسلفانيا في تنقيبات نفّر في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. وقد حصل متحف اسطنبول على عدد مماثل جرياً على العادة القديمة التي تقاسمت بموجبها البعثات الغربية "الغنيمة" مع السلطات العثمانية مناصفة. ولا يزال الكثير من هذه الأواني دون دراسة وترجمة، وتجري في السنوات الأخيرة محاولات لدراسة بعضها، منها تلك المحفوظة في المتحف العراقي في بغداد. وقامت المستشرقة د. كريستا مولّر – كسلر من معهد اللغات والثقافات الشرق أوسطية في جامعة فريدريش شيلر في يينا الألمانية بالإشراف على بحوث لدراسة نصوص 66 إناء من اللقى التي جلبتها بعثة جامعة يينا من تنقيباتها في مدينة نفّر خلال السنوات 1890-1900. وتستند الباحثة مولر – كسلر إلى النصوص المندائية القديمة ومن بينها هذه الأدعية لتستنج أن الدين المندائي إنما تكون في بيئة جنوبي وادي الرافدين. كما قامت الباحثة فريال زهرون الخميسي بإعداد إطروحة حول نصوص محفوظة في المتحف العراقي (1996) وقد نشرت عنها مجلة الصدى الصادرة في ستوكهولم مقالة في العدد 15 (1998).
وعن العلاقة بين اللفافات الرصاصية المندائية وأواني التعاويذ تقول د. كريستا مولّر – كسلر: "لأغلب العفاريت الذين نصادفهم في التعاويذ أصول رافدينية قديمة أو إيرانية. وأحياناً أخذت أسماءها من أسماء الآلهة القديمة" .
وتتكرر في النصوص المكتوبة بهذه اللغة الآرامية أسماء الآلهة البابلية ليبات (وهي عشتار التي تقابل فينوس) ونيبو أو إنبو (اله الحكمة) وكيوان وبيل (بعل أو مردوخ كبير آلهة بابل) ونيرغ إله الحرب. وهي في هذه الأدعية ملائكة نافعة "ببيل وإنبو ونيرغ بشوميهون إد هالين تلاتا مالاكيا مروميا" . وتورد درور "أنا هو بيل الاها ربا د-بابل" (DC 40:680). ويتكرر كذلك اسم أدوناي صبابوث كثيراً، وهو أحد أسماء يهوه اله اليهود (وعندهم أدوناي صباؤوت، أي سيد أو رب الجنود)، ونقرأ في الأدعية التي ترجمتها ليدي درور الإستنجاد بالملاك روفائيل الشافي وبياهو "بشوما د- روفئييل اسيا ربا د-ملاكي د-الاهوثا بشوما د-ياهو ياهو اشاد ياهو ياهو ادوناي اسرئييل ياهو بياهو جابرا.." وهذا نص يهودي كتب باللغة المندائية دون شك. ويكثر استعمال يا وياهو (من حروف يهوه) إلى جانب ادوناي. ونجد في القاموس المندائي لدرور وماتسوخ أن "أدوناي اسم اعطي إلى الشمس حيث يصور اليهود كعبدة للشمس". وفي الجانب الأيمن من الكنزا " شامش إد أدوناي قريلي" أي شامش الذي يسمى أدوناي.
إلى جانب هذه الأسماء نجد أخرى أقل شهرة، مثل صاورئيل (وهو ملاك الموت)، روفئييل (رافائيل ملاك الشفاء)، هاربئييل (ملاك القتال من حربة، سيف)، اسرئييل (إسرائيل)، ماركيئيل (؟) جابرئييل (جبرائيل كبير الملائكة، واسمه مركب من انسان واله). كما نصادف أسماء غير معروفة: بلياييل (من بيل-إيل؟ في القاموس المندائي يعني روح الفساد)، زرزياييل (ملاك الحماية؟ زرز يعني يسلّح)، سيماييل وعشرات غيرها. وفي نص الصحن السابق نجد أزداي ويزدون ويقرون وفرائيل وسحتئيل وبرخئيل. كما يكثر استعمال مصطلحات السبعة والإثني عشر (أي الكواكب: شفّا ومنها الشفياهي، والأبراج: ترسّر)، وهي معتقدات رافدينية موغلة في القدم لا نزال نجد أصداءها في التقاليد الشعبية (تعبير الشِفِيّة مثلاً). ويوجد في النصوص الدينية المندائية تعبير الروها (الروح المادية للعالم).
جميع نصوص التعاويذ تحمل بصمات الأصل البابلي بوضوح، وهي أحياناً يهودية- -تلمودية. ورغم كتابة الكثير منها باللغة المندائية وبالحرف المندائي فالكثير منها ليس نصاً مندائياً، بل هو بابلي أو بابلي-يهودي. مثلاً تبدأ بعض تعاويذ الحب بأسم ليبات سيدة الآلهة والرجال، أو بأسم الملائكة. ونعرف أن المندائيين يبدأون نصوصهم الدينية عادة بالبسملة: "بشما د-هيي وشم د-مندا د-هيي" أو "بشميهون د-هيي ربي"، ويختتمونها بعبارة "هيي زاخن" ، لذا فهذه التعاويذ ليست مندائية سوى في لغتها.
ونجد في تعويذة للحب "ليبات إسترا" . وإسترا هي عشتار البابلية التي انتقلت إلى العبرية بشكل عشتروت، لكننا نجد بين كتب اليهود سفر استر، واسم استر الذي دخل أوروبا عن طريق العهد القديم هو في الحقيقة اسم عشتار البابلية (أي ليبات، فينوس باللاتينية). والأدهى من ذلك أن كلمة star الانكليزية التي تعني نجمة، هي من نفس الأصل البابلي، وكذلك المصطلح العلمي المستعمل للدلالة على علم الفلك، الأسطرولوجي Astrology.
الكاتب ممتن للبروفيسور أدوين ياماوتشي لتفضله بإرسال عدد من الدراسات القيمة التي كتبها عن موضوع الأواني البابلية والمندائية.

الأحد, 14 نيسان/أبريل 2013 12:30

اللغة الفينيقية وحوض البحر المتوسط

كان الفينيقيون من الشعوب التي تركت بصماتها الواضحة على تطور الحضارة البشرية. فالى جانب ابتكارهم حروف الأبجدية ونقلها الى النصف الغربي من العالم القديم، سادت لغتهم واللهجات المتفرعة منها على مساحة شاسعة من الأرض لمئات السنين، وكانوا من الأمم التي قاومت الامبراطورية الرومانية، ولم يتمكن الرومان من قهرها عسكرياً إلا بشق الأنفس. وارتبط الفينيقيون بالتجارة منذ القدم، وأسماهم اليونانيون بالفينيقيين نسبة الى Phoinikes وهي صبغة الارجوان التي كانوا يتاجرون بها، أما هم فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم كنعان، وكذلك سمتهم وثائق تل العمارنة بمصر. وأطلق عليهم العهد القديم اسم السيدونيين احياناً نسبة الى صيدا، احدى المدن الفينيقية المهمة. اما تسمية البونيين فهي من ابتكار الرومان الذين أطلقوها على الفينيقيين الذين سكنوا قرطاجة والمستوطنات الفينيقية في البحر المتوسط، وهي الصيغة اللاتينية لكلمة فينيقي اليونانية. ومن المعروف ان حوض المتوسط مدين للفينيقيين بكلمة "أدون"، ومعناها سيد، فقد استعلمها العبرانيون في "أدوناي" للدلالة على الرب، وأخذها اليونانيون ايضاً بصيغة "ادونيس" وهي الاله الذي يقابل الاله البابلي تموز، وكذلك أخذت اللغات اللاتينية (الايطالية والاسبانية) الكلمة للدلالة على السيد، واسم اوبرا موتسارت "دون جيـوفاني" معروف في عالم الأدب والفن ومعناه التملك للمتحدث المفرد، وتستعمل الكلمة على نطاق واسع ايضاً كلقب للسيدة مريم العذراء .

ولو عدنا الى التقسيم المعروف للغات السامية، نجد عائلة اللغات السامية الشمالية - الغربية، التي تتألف من الكنعانية وفروعها المعروفة مثل السريانية والسامرية والنبطية والتدمرية (من المجموعة الآرامية الغربية) والتلمودية والمندائية (من المجموعة الآرامية الشرقية). ويعتقد العلماء بأن النصوص التي وجدت في مدينة ماري (تل الحريري) على الفرات وفي مناطق من شمال سورية والتي تعود الى القرن الثامن عشر ق.م. هي نصوص كتبت بلغة تعتبر اللغة السامية الشمالية الغربية قبل انقسامها الى آرامية وكنعانية. اما في القرنين السادس عشر والخامس عشر ق.م. فقد تميزت الكنعانية كلغة مستقلة عن الآرامية، وذلك في نصوص جبيل، وسرابيط الخادم (في سيناء)، على رغم عدم وضوح هذه النصوص بشكل كاف. كذلك وجدت كلمات وأسماء كنعانية ضمن الرسائل الأكدية التي عثر عليها في تل العمارنة. اما اللغة الاوغاريتية، وهي لغة مدينة أوغاريت (رأس الشمرا على الساحل السوري) والتي ورثنا عنها مكتبتها الشهيرة التي تعود الى القرن الرابع عشر ق.م، فهي لغة كنعانية شمالية، وظهرت الفينيقية كلغة كنعانية شمالية (ساحلية) في العصر الحديدي (بعد 1200 ق.م . ) .

اما العبرية فقد حفظت لنا في أسفار العهد القديم التي كتبت غالبيتها باللهجة العبرية لمنطقة القدس (عدا عدد من أصحاحات سفري دانيال وعزرا واجزاء من بعض الأســفار الأخرى التي كتبت بالآرامية)، وهناك جزء يسير من الأسفار التي كتبت بلهجة السامرة الشمالية مثل سفر هوشع وأجزاء من نشيد الأناشيد. وتعود هذه النصوص الى فترات مختلفة، كتب آخرها في القرن الثاني ق.م. واختفت اللغة العبرية كلغة حية واقتصرت على الكنيس فحسب ولم تستعملها عامة اليهود إلا في تأدية الطقوس الدينية، إذ ازاحتها اللغة الآرامية التي أصبحت لغة التخاطب في المنطقة، وبدأت تسود تدريجاً منذ القرن الرابع ق.م .

انتشرت اللغة الفينيقية على طوال الساحل الشرقي للمتوسط وامتدت الى اطراف من جنوب شرق آسيا الصغرى والى قبرص (منذ بداية الألف الأول ق.م) والجزر اليونانية مثل رودس وحتى الى اليابسة اليونانية (اثينا وبيريوس، وديميترياس في تساليا) وذلك خلال القرون الثالث - الأول ق.م. وكان التوسع الحقيقي حدث في شمال افريقيا، بعد بناء قرطاجة (قرت حدشت أي المدينة الجديدة) العام 824 ق.م، وبناء المستوطنات الفينيقية على سواحل وجزر البحر المتوسط. فقد استوطنوا جزر مالطا وصقلية وساردينيا (واستعملت اللغة الفينيقية لغاية القرن الثاني الميلادي في ساردينيا)، وسواحل شمال افريقيا واسبانيا، وعبروا أعمدة ملقرت (التي اسماها الرومان اعمدة هرقل وهي مضيق جبل طارق) وسكنوا ساحل المحيط الأطلسي ايضاً. وملقرت المذكور هو أحد كبار الالهة الفينيقيين، ومعناه مختصر من "ملك قرت" اي ملك القرية او المدينة. وعرفت لغة المستوطنات الفينيقية (وعلى رأسها قرطاجة) باللغة البونية، وبعد سقوط قرطاجة العام 146 ق.م. اصطلح على تسميتها باللغة البوينة الحديثة. واستمر تأثيرها لقرن بعد ذلك، فقد تحدثت شعوب شمال افريقيا بالبونية (مثلا استعملت المملكتان النوميدية والموريتانية هذه اللغة لغاية القرن الثاني الميلادي)، وتمكن الرومان من اجبار سكان المدن على الحديث باللاتينية، غير انهم فشلوا في التأثير في سكان الأرياف الذين بقوا أوفياء الى لغتهم القديمة، خصوصاً في مناطق ليبيا والجزائر الحالية .

بعض الخصائص اللغوية

مقارنة باللغة الآرامية شقيقة الكنعانية، نلمس تحول الألف الممدودة الى واو (في البداية O ثم U ) في حين ظلت في الآرامية القديمة (مثلاً "راش" - "روش" وهو الرأس)، ويتميز جمع المذكر باستعمال لاحقة "يم" بدلاً من "ين"، مثل العبرية (بعليم مثلا، وهو جمع بعل أي سيد او اله). ومن الميزات الأخرى تحول أحرف ما بين الأسنان ( interdental ) مثل الثاء والذال، الى أحرف صفير مثل السين والصاد في الكنعانية، في حين تحولت في الآرامية الى حروف نطعية كالتاء والدال .

اما الاختلاف عن العبرية فيكمن بالدرجة الأولى في المفردات، ومنها أساسية، مثل الفعل (عمل، فعل) فهو في العبرية "ع س هـ"، وفي الفينيقية "فعل" أي مشابه تماماً للفعل العربي، وكذلك فعل الكينونة، فهو في العبرية "هـ ي ي" وفي الفينــيقية "كون". واستعملت الفينيقية تاء التأنيث في الوقت الذي تحولت في العبرية إلى ألف أو هاء. وعلى رغم استعمال العهد القديم لكلمة "حرص" بشكل ضيق في بعض الأشعار (وهي في الأوغاريتية "خرص") للدلالة على الذهب، إلا أن الكلمة العبرية المعتادة هي "زهب". ومن الغريب أن تكون أداة النفي في الفينيقية "بل" و"إي"، وهي في العبرية "لو" و"أل " .

وعدد الحروف الفينيقية 22 حرفاً، وهو نفس عدد الحروف الآرامية والعبرية، في حين كان عدد الحروف الأوغاريتية 29 حرفاً، ووصل عدد الحروف في البونية المتأخرة إلى 43 أو 44 حرفاً. ولم تبق أسماء الحروف إلى عصرنا الحالي، لكن يبدو أنها مشابهة لليونانية بالدرجة الأولى، وللعبرية أيضاً. ومقارنة الحروف العبرية واليونانية تؤكد ذلك، فقد حافظت الأبجدية اليونانية على الحرف الفينيقي "روش" ومعناه رأس في "رو" اليونانية، وهو الحرف الراء، الذي تحول إلى "ريش" في العبرية بسبب تأثير اللغة الآرامية، (وأسماء الحروف اليونانية والعبرية معروفة فهي ألفا = ألف، بيتا = بيت، غاما = غمل، دلتا = دالت... الخ).

وعلى رغم اتصال التجار الفينيقيين بعدد كبير من الشعوب، فإن الكلمات المستعارة في اللغة الفينيقية القديمة كانت محدودة للغاية، ولكن عددها ازداد بعد فترة، خصوصاً في لغة المستوطنات الفينيقية في اليونان وشمال افريقيا، وفي أغلبها مصطلحات تقنية أو سياسية، وأسماء العلم وأسماء الأشخاص. واقتبست الفينيقية من الاناضولية القديمة (اللوفية) بعض الكلمات مثل اسم الملك كيلاموا الذي حكم مملكة سمأل (شمال) في أواخر القرن التاسع ق.م. في مناطق من شمال سورية (وقد وجد نصب له في منطقة زنجرلي الحالية في تركيا، كتب بلغة تسمى بـ"پاليؤدية" وهي كنعانية في الأصل، تحمل آثار لهجة آرامية خاصة). واقتبس من اللغة المصرية بعض المصطلحات الدينية (مثل "حرسقراط" وأصلها حورس الطفل، والتي تقابل "هاربوكراتيس" في اليونانية)، ومن اليونانية أيضاً (مثل دراخمه وهو أصل الدرهم) ونقل الفينيقيون أسماء اعدائهم الرومان بصيغة لاتينية على الغالب مثل "أمبرعطور" وتلفظ امبراطور، "عوغسطس" أي أوغسطس (والعين هنا حرف علة)... الخ. وأخذوا حتى من النوميدية (وهي من لغات قبائل الطوارق) .

نماذج من النصوص

نص منقوش على تابوت الملك "أشمنعزر" ملك صيدا من القرن السادس ق. م. وبتحويله للحرف العربي: "(1) بيرح بل بشنت عسر وأربع لملكي ملك أشمنعزر ملك صدنم (2) بن ملك تبنت ملك صدنم دبر ملك أشمنعزر ملك صدنم لأمر..." وترجمته هي: "(1) في شهر بيل في السنة الرابعة عشرة من حكم الملك أشمنعزر ملك الصيدونيين (2) ابن الملك تبنت ملك الصيدونيين تكلم الملك أشمنعزر ملك الصيدونيين قائلاً..."

في هذا النص نجد كلمة شهر "يرح" التي تشابه كلمة "يرحا" التي يستعملها أهل معلولا (ولغتهم الآرامية الغربية الحديثة)، وأصلهما من الأكدية "يرخو" وهي القمر. ونلاحظ كذلك التماثل الكامل مع الصـــيغة العبرية الكلاسيكية المعروفة من العهد القديم "كلم الرب موسى قائلاً". ويبدو أنها صيغة شائعة الاستعمال في أدب المنطقة ولا تقتصر على نصوص العهد القديم .

وهذه السطور الأولى من نص الملك كيلاموا الذي مر ذكره آنفاً (ويعود إلى القرن التاسع ق.م.): "(1) أنك كلمو بر حيا (2) ملك جبر عل يأدي وبل فـ [ـعل] (3) كن بمه وبل فعل وكن أب حيا وبل فعل وكن أح (4) شأل وبل فعل وأنك كلمو بر تم [ـ] مأش فعلت (5) بل فعل هلفنيهم كن بت أبي بمتكت ملكم أد (6) رم وكل شلح يد للحم وكت بيد ملكم كمأش أكلت (7) زقن وكمأش أكلت يد وأدر علي ملك دنـ [ـنـ] ـيم..." وترجمة هذا النص الذي يصور حال الممالك السورية الصغيرة تحت رحمة الجيران الأقوياء: "(1) أنا كيلاموا بن حيا (2) ملك جبار على يَؤد (بفتح الياء) ولم أفعل [شيئاً سيئاً] (3) كان بمه (؟) ولم يفعل وكان أبي حياً ولم يفعل وكان أخي (4) شال ولم يفعل وأنا كيلاموا بن تم (؟) فعلت (5) ما لم يفعله الأسبقون، كان بيت أبي وسط ملوك (6) عظام، كل [واحد منهم] مد يده للخبز [ثروة البلد] وكنت بيد الملوك وكأنني أكلت [نتفت] (7) ذقني وكأنني أكلت [قطعت] يدي، وتجبر على ملك الدانونيين"...

والدانونيون هم قوم اسمهم باللغة الاكادية دا-نو-نا. هذا النص المؤثر يحمل البصمات الواضحة للفينيقية (مثلاً "أنك" = أنا، وصيغة جمع المذكر ملك ملكيم، "كن" = كان، والنفي بـ "بل"، وإستعمال "فعل" بدلاً من "عبد" الآرامية بمعنى صنع، فعل... الخ)، وبعض صفات اللغة الآرامية (مثلاً "بر" = إبن بدلاً من "بن") في الوقت نفسه .

الخميس, 31 كانون2/يناير 2013 06:47

ثائر صالح يستلم وسام الاستحقاق

سلم السيد جابر سنتإيفاني مساعد وكيل وزير الخارجية المجري عصر يوم 3/5/2004 إلى ثائر صالح وسام الاستحقاق المجري - صليب الضباط (الدرجة المدنية) بحضور عدد من كبار موظفي الوزارة وأصحاب السعادة السفراء العرب المعتمدين في بودابست وبعض المستشرقين المجريين. وأطرى السيد سنتإيفاني على جهود صالح في نشر الثقافة المجرية والتعريف بدولة المجر في الصحف العربية وترجمة الأدب المجري إلى اللغة العربية. وتحدث في كلمته عن قيام المحتفى به بنشر بعض الأخبار عن الثقافة المجرية في صحف عراقية مبكراً في عامي 1977 و 1978 قبل أن ينتقل إلى المجر لإكمال دراسته. ونوه بنشره عشرات المقالات والتقارير عن الثقافة المجرية خلال الأعوام السبعة الأخيرة في صحف عربية مرموقة مثل "الحياة" و"الشرق الأوسط" وكذلك في المجلات المختلفة، مثل الفيصل، واعتبر الكتابات هذه غزيرة علاوة على جودة نوعيتها. وأشار أيضاً إلى صدور كتابه "لمحات من الأدب المجري" من دار المدى في العام 2002 الذي يضم قصائد وقصص مجرية قصيرة مترجمة، وقرب صدور ثلاثة كتب له من نفس الدار هي "جسور بودابست: بين الشرق والغرب" ويضم دراسات وكتابات ومقابلات متنوعة عن الثقافة المجرية، وقصة "اللا مصير" لإمره كرتيس الحائز على جائزة نوبل للآداب، وقصتي "الراية الانكليزية" و"المحضر" لنفس المؤلف.


وقد شكر ثائر صالح هذا التكريم الذي خصه به رئيس الجمهورية المجرية السيد فرنتس مادل، وعبر عن سعادته لهذا التقدير الكبير.

نبذة عن الكاتب ثائر صالح:

  • ولد في بغداد وأكمل دراسته الثانوية هناك، ودرس عامين في الجامعة التكنولوجية ببغداد – قسم الهندسة الكيمياوية، لكنه اضطر للسفر إلى الخارج لأسباب سياسية في العام 1979.
  • عمل كصحفي متدرب في "طريق الشعب" البغدادية في عامي 1977-1978، في قسم ثقافة-منوعات وكان له عمود ثابت مخصص لحفلات الفرقة السيمفونية العراقية خلال هذين العامين.
  • حصل على البكالوريوس في الهندسة الكيمياوية ثم الماجستير في هندسة البتروكيمياويات من جامعة فسبريم في المجر.
  • يعمل مهندساً في مجال أبحاث حماية البيئة، ويشغل الآن منصب مدير مختبر أبحاث تحويل النفايات البلاستيكية إلى مواد تستخدم لتحسين مواصفات الأسفلت.
  • نشرت له الكثير من الكتابات والترجمات في صحف المعارضة العراقية في الثمانينيات والتسعينيات، وبدأ ينشر في صحيفة الحياة (صفحات تراث وثقافة وسياحة وسفر) منذ أوائل التسعينيات، وراسل صحيفة الشرق الأوسط في أواخر التسعينات.
  • ينشر في صحف ومجلات عربية متنوعة ويهتم بمواضيع الاستشراق والدراسات السامية والفنون الموسيقية، ويركز الآن على التعريف بجمهورية المجر (الآداب والثقافة والاستشراق والفنون والسياحة وغيرها).
  • صدر له كتاب واحد لحد الآن وأنجز كتب ثلاثة ستصدر خلال هذا العام، وكلها من دار المدى.
  • يعكف الآن على ترجمة كتاب يتحدث عن بعثة نمسوية – مجرية ذهبت إلى العراق سنة 1902 لشراء الخيول، صدر في 1904 مؤلفه ميخائيل فضل الله الحداد عقيد الجيش النمسوي المجري.
الصفحة 5 من 5