• Default
  • Title
  • Date
الخميس, 30 حزيران/يونيو 2016 22:25

سجلوا..أنا عراقي

قال البير كامو: الانتقال من الكلام الى العمل الاخلاقي يعني ان " تتحول الى انسان". ومن جديد يطرح الوضع العصيب الذي يعيشه بلدنا، وما تخوضه قواه المسلحة النظامية والشعبية في حملتها لتطهير ارض الوطن من البرابرة ، سؤال ان كنّا نستحق لقب " انسان "، ومن يستحقه من بين ملايين العراقيين الذين يشاركون بضمائرهم في محنة الوطن وحربه المقدسة ضد ما اكتوى به ابناء العراق بنار الفتنة الطائفية وفساد امراء الطوائف ومصالحهم الملونة بدماء العراقيين؟.
انه زمن اغبر هذا الذي يدور حول الناس في العراق وهم تحت سطوة الارهاب، وهو صدمة ومحاكمة لكل من يدعيه او لايدعيه لنفسه، ولنا، من قيم. فهل يستطيع اي منّا ان " ينشأ " انسانيته على حساب تدمير انسانية الآخر؟ وهل يستطيع ان يبتلع الوطن العراقي دون ان ينفجر، ودون ان ينتحر او يقتل بالارهاب؟ هل انا انسان؟ انه سؤال اخلاقي يطرحه علينا جميعا وضع العراق الحالي، ليرتطم بواقع لايريد العديد من اصحابه ان يعرفوه، وما علينا الا ان نكتبه وننشده ليعلن دهشته للغافلين، ولعلها المرة الاولى منذ عقود الفاشية المريرة التي حكمت ثلاثة عقود ، مرورا باحتلال البلاد، يخترق مثل هذا السؤال حاجز التنميط الذي ترسمه الطوائف العراقية وفساد امرائها ومصالحهم الملونة بدماء العراقيين ،ليقول شهادته، عن الحياة والوطن، في كلمات يصعب على الوعي المعادي لكل عراقي نبيل ان يتجاهله.
نتبنى جميعا هذه الحاجة الى مثل هذه الدعوة، بل ننقلها بالحرف والرسم والاغنية والصورة الفوتوغرافية، لنعرف كيف يحاول المعادي لشعبه ان يعرف ما لايعرف عن هويتنا الوطنية، وعذابنا الانساني، وهوسنا بالحرية، نحن بحاجة الى مثل هذه الدعوة لرسم صورة القاتل وهو يتعرف على نفسه، بحاجة لمعرفة ملامح صورة من يريد اغتيال الوطن، وهي شهادة على وعي جديد مضاد للوعي الطائفي والارهابي السائد الذي ترسمه الطوائف وميلشياتها المتحاربة في حربها ضدنا جميعا، وعي يحتاج انتقاله من مثقفين عراقيين الى وعي مجتمع باكمله.
انا كعراقي افكر الان بوطني كرمز، وحنيني الى بلدي هو نسيج من الرموز المرهقة، واحد هذه الرموز، هي النخلة ، التي تختفي من المكان وتترك فراغا يصب به الالم والغضب، ولاشيء حول ذلك المكان غير الحقد والكراهية، هل لنا ان نحلم جميعا؟ وهل يمكن ان تنشأ علاقة بين اضغاث الاحلام والحالمين مثلي بحيث نخلق لغة جديدة في العراق القادم؟
لانريد ان ننسحب من التاريخ في مطاليبنا، ولانريد ان نغمض اعيننا امام الواقع الصعب، لكننا نطبق اجفاننا بشدة لنحلم بارض العراق، ولن نتساوم او نتنازل عن الامل في تغيير واقع العراق
سجلوا بكل صبر ومكابرة في سجلاتكم النزيهة .. انا عراقي وان غبت عنه طيلة سنوات امتدت الى اربعين عاما. انا عراقي حين اقرأ عن بطل عراقي صابئي مندائي اسمه ناجي جمعة سرحان الخميسي، استشهد قبل عدة ايام من اجل انقاذ عائلة عراقية مسلمة، فبعد ان انقذ افراد العائلة واحدا بعد الاخر، سمع صوت طفل داخل بيت جاره، عاد ودخل من جديد لينقذه، وحين اوصل الطفل باب البيت، سقط متأثرا بالحروق الشديدة التي اصابت جسده، ففارق الحياة ،ليضحي بحياته. انه انتصار آخر على عصابات داعش بفكرها وممارساتها الوحشية ضد الانسان، فالفداء بالنفس من اجل انقاذ الطفولة العراقية البريئة،هو انتصار نبيل للعراق.

نشرت في وجهة نظر

أجتمع مجلس السيادة برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم بعد ثورة 14 تموز 1958 .ومن بعض قراراته تعيين العالم المندائي الفلكي ( الفيزياوي ) عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد . والمولود في قضاء قلعة صالح محافظة العمارة 1911.
ويقال أن الفريق الركن نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة بعد تموز يوليو 1958، اعترض على ترشيح الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيسا لجامعة بغداد كونه ينتمي إلى الصبة المندائيين، فردّ عليه احمد محمد يحيى وزير الداخلية قائلا: نريد إماما للجامعة، لا إماما لجامع يتقدم المصلين :
عبد الجبار عبد الله الذي طوال خدمته الوظيفية كأستاذ جامعي ورئيس جامعة كان جيب جاكيت بدلته ( السراووين ) يتزين بقلم باركر ذهبي أهداه له معلمه ومدرسة في الجامعة العالم الفيزياوي الشهير ( البرت أينشتاين ) كعرفان منه لذكاء تلميذه المندائي ( العراقي ) عبد الجبار عبد الله الذي تتلمذ على يده في معهد مساتشوست للتكنولوجيا MIT. وهو اول عراقي يقلده الرئيس امريكي هاري ترومان ( مفتاح العلم ).
ولا أدري أين ذهب هذا القلم الاثري الثمين ووسام مفتاح العلم الذهبي، فربما سرقه من جيب العالم المندائي مفوض أمن يوم سيق الى السجن ، ولو كان عبد الجبار عبد الله عالما ياباني لكان تمثاله الآن في وسط طوكيو ولكان قلمه الذهبي ووسام العلم في ارقى المتاحف.
من 59 الى 63 أدار العالم المندائي الجامعة بمهنية وحرص وأخلاص متعلما من اسلافه المندائيين تلك الرؤى الروحية الغنوصية الجميلة التي تمنح الانسان طاقة مضافة لتخدم محيطها وبيئتها والمكان الذي تنتمي اليه.
وفي ايامه تم تأسيس وزارة لقتل الجوع ، وهي وزارة الزراعة ، وكان امينا عصاميا هادئ الطروحات ومتابع لكل ما تمناه في تطوير العملية التربوية في العراق.
نال العالم المندائي الطيب عبد الجبار ما لم يناله من الاهانة سوى العالم غاليلو على يد جهلة محاكم التفتيش عندما تعرض للاهانة والضرب بعد شباط 1963 وعلى يد واحد من طلبته القدامى.
أطلق سراحه واحيل على التقاعد وصبغه الحزن والاسى من نكران الجميل هذا ، فحمل تلميذ اينشتاين حقائبه وهاجر الى الولايات المتحدة ليخدم جامعات ومؤسسات العم سام لانها تعرف قيمته وقدره .
لكن الأسى والحنين والحزن صنع غصته في عيون وجسد العالم المندائي فعجل في رحيله عن هذا العالم في 9 تموز 1969عن عمر يناهز الثامنة والخمسين .
أتى جثمانه الى بلده ليعمد بماء النهرين ورذاذ الحلم الطفولي القديم بأهوار قلعة صالح ويدفن في ارض بلاده كما تمنى هو أن يدفن ووفق الطقوس المندائية التي تجمع في بهجتها رغبة الوصول الى الفردوس الاعلى من خلال اجنحة ملاك النور والحب زيوا الذي يطهر الجسد بالماء والطين وآيات الكتاب المقدس الكنز ربا.
المندائي عبد الجبار عبد الله العالم الذي يعرف حركة الريح واتجاهاتها ونبؤات العواصف والاتربة نحتاج نبؤاته اليوم كثيرا لهذا البؤس اليومي في مشهد الحياة العراقية .
نحتاجه لنعرف كيف يفكر أؤلئك الساسة وهم يصنعون ( العجاج ) في سماء العراق ويملئون صدور ورئات الفقراء بعفن السُحت واللصوصية وفوضى ما يعملون ويفكرون .
نحتاج الى الرجل صاحب نبؤة المطر والمناخ لنتحوط من تلك العواصف التي تنغص علينا حياتنا .
أولئك الساسة الذين يشبهون فضاء من دون اوكسجين.

نشرت في وجهة نظر


انتهت قبل ايام، محاكمة الكاتب الإيطالي إري دي لوكا، إذ مَثُل أمام محكمة مدينة تورينو في الشمال الايطالي بتهمة "التشجيع على التخريب" ، وهي تهمة ، توقعت وسائل الاعلام المحلية والاوربية ،قد تدخله السجن لمدة خمسة أعوام.
بدأت القضية العام 2013 حين قال الكاتب الروائي في مقابلة صحافية مع بعض وسائل الإعلام الإيطالية إنه يجب "تخريب خط سكة الحديد"الذي لازالت السلطات الايطالية مصرّة على إنشاؤه ما بين مدينتي "تورينو" (إيطاليا) و"ليون" (فرنسا)، إذ إن هذا الخط الجديد السريع، ستبلغ تكلفته مبلغا باهظا "أكثر من 30 مليار يورو من أجل حفر نفق يبلغ طوله 57 كلم"، كما أنه سيلحق اضرارا كبيرة بالبيئة ، ذلك ان عملية الحفر ستكون سبباً في تجفيف العديد من الانهر الصغيرة والينابيع (أي ما يقارب 250 مليون متر مكعب بالسنة). وممّا قاله دي لوكا يومها إنه على اقتناع بأن هذا الخط مشروع عديم الفائدة أولا لأن الخط القديم لا يستغل منه إلا 17 في المئة من قدراته. واضاف "لذلك ليس الأمر قرارا سياسيا، بل قرار اتخذته المصارف وكل من يرغب في تحقيق مكاسب من دون التفكير بحياة واد كامل".. وأضاف دي لوكا: "إن السياسة موافقة على هذا المشروع، واليوم يحتل الجيش الورش وصار لزاما على المواطنين أن يبرزوا بطاقات هوياتهم إن رغبوا في الذهاب للعمل بحقولهم". من هنا دعا "إلى تخريب هذا المشروع" متعاطفا مع حركات الاحتجاج الشعبية، وجماعات الخضر والبيئة وتجمعات اليسار الايطالي الذي يوصف من الحكومات هنا بـ(المتطرف).
السلطات اعتبرت "الدعوة" أمراً يحاكم عليه القانون، بينما يصر الكاتب أن الكلمة التي استعملها (Sabotare) هي "كلمة نبيلة ولا تدعو إلى العنف" إذ "استعملها الماهتما غاندي بنفسه". يقول دي لوكا في مقابلة مع صحيفة الريبوبولكا الايطالية الواسعة الانتشار، إن الكلمة تفيد أيضا معنى "الرغبة في المنع"، و "عرقلة" و "مقاطعة" و "لا يمكن اعتبارها إنها دعوة فقط إلى التخريب المادي. تماما مثلما يقاطع النواب قانونا ما".
المدعي العام الايطالي ،قال أن ليس هناك إي إبهام في الكلمة التي استعملها الكاتب إذ أنها "تشير فعلا إلى التخريب"، من هنا لا يجد أن هذه المحكمة تعقد من أجل "قضية حرية الرأي والتعبير".
محامي الشركة الفرنسية الايطالية المكلفة بالمشروع ، تحدث كثيرا عن شخصية دي لوكا، وبخاصة عند النقطة التي تشير إلى ماضيه النضالي بكونه يساريا متطرفا سابقا، كما أن كونه كاتبا مشهورا قد يثير تأثيرا نفسيا كبيرا، عند الناس.
بهذا المعنى ،تحولت محاكمة الكاتب دي لوكا بسبب ماضيه السياسي، الى محاكمة سياسية ، خاصة وان اليسار الذي كان الكاتب ينتمي اليه في سبعينات القرن الماضي، مسؤولا عن العديد من اعمال العنف والاختطاف، وهي الفترة التي تطلق عليها ايطاليا تسمية" سنوات الرصاص".
الكاتب الإيطالي، إري دي لوكا، واحداً من الاستثناءات الكثيرة لما يتعارف عليه في اوربا لقاعدة "الكتّاب المتعلمين الرافضين"، المقيّدين بفضاء حرية الرأي ، فإن سيرته الذاتية ، ليست فارغة من الأحداث، فهو مناضل مع اليسار المتطرف (جماعة "النضال المستمرّ")، السنون العديدة التي قضاها خارج بلاده (في فرنسا وإفريقيا)، اختيار مهنة يدوية (عامل بناء).
ولد في مدينة نابولي )1950)، ففي هذه المدينة المتفردة بشكل كبير، الموسومة «بهذا المزيج ما بين الورع والقرف. هذا المزيج الخاص يشكل له مسقط رأسه "مصدراً" لم يستطع الانتساب اليه "منذ البداية، وكنت في الثامنة عشرة، شعرت بنفسي مطروداً من نابولي، ومع ذلك، عندما أتذكّر ذلك كله، أشعر بامتنان لهذه المدينة، لأنني لم اكن أرغب في أن أكون مطروداً من مدينة أخرى".
طفولة "نابوليتانية" مليئة المعنى إذاً، "صاخبة وبدون حنان. صحيح أن والديّ اختارا بعضهما بعضا، لكنهما لم يقعا في الحب أبداً. كان والدي يحمل شهادة جامعية في الاقتصاد، ويعمل في مجال تجارة الفواكه والخضار، أما والدتي فتعمل في التجارة بدورها. وكما العديد من العائلات، تعرّضا لمثل ما تعرضت له الطبقة البورجوازية من فقر، بسبب الحرب (العالمية الثانية) ومن ثم الاحتلال الاميركي. إذ إن نابولي، التي عاش فيها العديد من الملوك، أصبحت أشبه بمستعمرة، لأن المرفأ، وهو مركز الغنى الرئيسي لنابولي، أصبح قاعدة الحلف الأطلسي في المتوسط".
لم تكن طفولته مليئة بالفضاءات بل اقتصرت على تلك الغرفة، في بيت العائلة، التي ملأها بالكتب. منذ تلك الأيام، "بدأت بالقراءة، قرأت في البداية كل الكتب التي تتحدّث عن الحرب العالمية، رسائل المحكومين بالإعدام، قصص الناجين من غرف الغاز"... في هذه الغرفة، بنى هذا الكاتب القدير "تربيته الاخلاقية والعاطفية والسياسية"المعادية للفاشية إذ أعطته هذه القراءة "شرعية الصمت الداخلية".
كان والده يرغب في أن يكون ابنه ديبلوماسياً، فأرسله إلى مدينة "غرونوبل" الفرنسية لتعلّم اللغة. بيد أنه كان للكاتب مثل أخرى، إذ وبعد أن حاز "البكالوريا" العام 1968، هرب من المنزل، وسافر بالقطار إلى روما ليشارك في أولى المظاهرات التي كانت تطالب برحيل الأميركيين عن فيتنام كما برحيل الجنرالات عن اليونان: "وجدت نفسي داخل جيل من المتشردين الذين علموني كيف أفتح فمي. بالنسبة إلينا، كانت الشيوعية هي القاسم المشترك، إبداع طريقة للعيش، تجربة حياة مشتركة. كانت شيوعية لا تنام مطلقاً".

نشرت في وجهة نظر

كثيرون من قراء الشعر ومحبيه سيندهشون عندما يعلمون أن بدر شاكر السَّياب ، الذي ملأ حياة القصيدة العراقية والعربية في سمتها الحر ، وشغل مؤيديها ومناهضيها على حد سواء - منذ ما يقارب ستة عقود من الزمن - لم يعش أكثر من 38 عاما فقط . لكن الجميع يعرف أن أعوام السَّياب تلك كانت مزدحمة بأحداث شعرية وسياسية وفكرية واجتماعية وإنسانية ، من السهل البحث عن أصدائها في مجمل تركته الشعرية ، التي توزعت في دواوين كثيرة نُشر إغلبها قبل وفاته ، في حين نُشرت البقية منها بعد ذلك ومنها : ازهار ذابلة - أساطير - حفر القبور - المومس العمياء - الأسلحة والاطفال - أنشودة المطر- المعبد الغريق - منزل الاقنان - ازهار واساطير - شناشيل ابنة الجلبي - إقبال وشناشيل ابنة الجلبي - قيثارة الريح - أعاصير – الهدايا - البواكير - فجر السلام - وبعض الترجمات الشعرية والكتب النثرية ، حيث برزت إبداعاته الشعرية في سن مبكرة من حياته القصيرة .
لقد عاصر السيّاب من الشعراء العراقيين الرواد ، نازك الملائكة ، بلند الحيدري ، عبد الرزاق عبد الواحد ، لميعة عباس عمارة ، وغيرهم .
وكان من المرجح تطور شعرية السّياب بشكل أكبر لولا الظروف السياسية التي عانى الكثير من تقلباتها ، وهو يتقلب بينها منكويا بجمر ذلك التقلب السريع ، والظروف المرضية القاسية التي عانى منها خلال السنوات الاخيرة من عمره .
لقد شارك مع بعض زملاء مرحلته في تأسيس مرحلة جديدة ومهمة من مراحل القصيدة العربية ، وقد كانت من ابرز هؤلاء ، الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة ، التي نازعته في كتابة القصيدة التفعيلية الاولى في الشعر العربي الحديث .فعلى الرغم من التجارب التحديثية التي مرت بها القصيدة العربية منذ مطلع القرن العشرين على يد بعض الشعراء المغمورين إلا انها ظلت تجارب خجولة ، سرعان ما تخلى عنها أصحابها .
أما محاولتا السَّياب والملائكة فقد كانتا محاولتين جادتين ، وقد أصر الشاعران عليهما في كل نتاجاتهما اللاحقة ، وقد اختلف مؤرخو الأدب حول أسبقية كل منهما للآخر ، ففريق من النقاد يرى أن الملائكة سبقت السَّياب بقصيدتها ( الكوليرا ) في حين يرى فريق آخر أن السَّياب كان هو الاسبق بقصيدته ( هل كان حبا ) ؟ .
والأرجح أنهما يتشاركان في الآسبقية ، فقد كانت تجربتهما ناتجتين عن مناخ أدبي واحد ، ساد زمن واحد ، وقد نشرت القصيدتان في وقت واحد تقريبا ، إحداهما في مجلة والاخرى في ديوان ، ولكن هناك فريق ثالث يتشارك بالإيمان بأهمية السيّاب الاستثنائية في حقل الشعر العربي الحديث ، مقارنة له بالملائكة ، ففي الوقت الذي تراجعت فيه شعرية الملائكة ، وربما نكصت نكوصا غير مفهوم خلال سنوات قليلة ، فإن شعرية السياب تألقت تألقا تبدى في عدد كبير من المطولات الشعرية التي لا تقل عن اشهر قصائدة الجميلة الخالدة عن ( انشودة المطر ) في القيمة الفنية مثل ( المومس العمياء ) و( حفار القبور ) و( الأسلحة والأطفال ) ( بور سعيد ) ، (سفر ايوب ) التي غناها بصوته الشجي سعدون جابر ، وبصوت المطرب محمد عبده .
على الرغم من أهمية النتاج الشعري الضخم نسبيا الذي تركه السَّياب وراءه فان قصيدة أنشودة المطر تظل هي جوهرة التاج السيّابي ، فقد اعتبرت هذه القصيدة تحديدا إيقونة حية للشعر العربي الحديث ، وجعلت من شاعرها رمزاً لهذا النوع من الشعر ، الذي كان جديدا وغريبا الى حد كبير على الذائقة العربية ، ولعله بقى كذلك حتى يومنا هذا .
لقد كان بدر يعاني من مشكل نفسية وجسمانية قبل ان يصاب بالمرض العضال ، مرض الاعصاب الذي أودى بحياته . وكانت عقدة الموت من المشاكل النفسية التي سيطرت على تفكيره منذ سنٍ مبكرة . فقد ذكر ذلك في بعض أشعاره .
عيـوني بآفــاقـــه ســـاهرات وحولي يبيت الـــورى رقَّدا
بأرجائه ألتقي بالـممات كأني على موعد بالردى

وتذكر كتب الطب النفسي أن بعض الشباب في المرحلة الاخيرة من فترة المراهقة تسيطر عليهم أفكار عن فلسفة الحياة والغرض منها ، كما تسيطر على بعضهم فكرة الموت أو الخوف منه ، وقد سيطرت على بدر تلك العقدة ، عقدة الموت سيطرة كبيرة منذ أيام المراهقة .
كتب السَّياب سنة 1948 وهو صغير وقبل أن يصاب بالمرض القاتل باثنتي عشرة سنة في قصيدة ( في ليالي الخريف ):
كيف يطغى علي المسا والمَلال ! ؟ في ضلوعي ظلام القبور السجين في ضلوعي يصيح الردى بالتراب الذي كان أمي :" غدا سوف يأتي فلا تقلقي بالنحيب عالم الموت حيث السكون الرهيب ". سوف أمضي كما جئت واحسرتاه ! .
عانى السَّياب في آخر أيامه اضطرابات نفسية حادة ، وحين حاولوا استخدام العلاج الطبيعي معه ، سبب سوء حظه كسراً في عظم الفخذ ، لشدة ضعف العظم والعضلات ، وكانت وفاته في الرابع والعشرين من عام 1964 ، متأثرا بمرض عضال (السل الرئوي ) او ما يسمى ب( ذات الرئة الشعبي ) في احدى مستشفيات دولة الكويت ، التي كانت ملاذه الاخير .
لقد اهتم بالأدب العالمي وبالأدب الإنكليزي على وجه الخصوص ، كان لا يتوقّف عن الإشارة الى اهتمامه بالشعراء الإنكليز الذين أحبّهم واصطفاهم ، شكسبير ، بايرون ، وردزورث ، شلي ، كيتس . وكان كيتس أحبهم إلى قلبه شاعراً وإنساناً ، ومن اجلهم كان تخصصه في اللغة الإنكليزية ، وتعمقه في آدابها ، وعمله معلماً للإنكليزية في مستهل حياته العملية .
فانشودة المطر تمثل وجع العراق في وجعه ولهفته وكبريائه وشجونه ، وجد نفسه فيها ، كما كانت قصيدته العمودية ( بور سعيد ) التي نظمها اثناء العدوان الثلاثي على مصر وعلى مدينة بورسعيد بالذات ، سكب في مقاطعها روحه الشعرية العارمة ، واسترسل في إبداعها . تذكرنا بإبداع ما في تراث القصيدة العمودية عند شعرائها الكبار ، لغة شديدة الأسر والاحكام ، وتدفق شعري وايقاعي عارم ، وقافية تنصبٌ انصباباً في ختام الابيات ، واحتشاد روحي يجيش في ثناياها ويفجّر كيمياءها ، حين يقول فيها :

يا حاصد النار من أشلاء قتلانا
منك الضحايا ، وإن كانوا ضحايانا
كم من ردّى في حياةٍ ، وانخدال ِ ردّى
في ميتةِ ، وانتصار جاء خذلانا
إنّ العيون التي طفّأت أنجمها
عجّلن بالشمس أن تختار دنيانا
وامتدّ ، كالنور ، في أعماق تربتنا
عرس لنا من دم و اخضلّ موتانا
(............................الى اخر القصيدة ).
ثم يفسح هذا المعيار الشعري الباذخ مجالاً لمقطع جديد ، يصوغه السَّياب في الاطار الشعري الذي اصبح عنوانا عليه هو ورفاقه من رواد قصيدة الشعر الجديد او الشعر الحر او شعر التفعيلية ، لكن الشموخ الذي تنطق به المقاطع العمودية في قصيدة السيّاب ، هو الشموخ نفسه الذي يقوم عليه هذا المقطع الجديد .وهذا هو سر عبقرية السيّاب التي انسكبت في قصائده من الشعر الجديد حاملة كل خصائص القوة والاحكام التي حملها شعره العمودي ، فيما كانت هشاشة اللغة والتركيب والبنية الشعرية تجد مرتعها هي كثير من قصائد غيره من الرواد .
ويعود الإيقاع المجلجل ، والمعمر الباذخ ، والبناء العمودي ثانية ، ليأخذ مكانة في اللوحة الشعرية ، التي خلدت معركة بورسعيد وجَعلتها شاخصة تضج بالحياة في كل صورها وعناصرها : أصواتاً وألواناً وطيوفاً ً ، وشخوصاً وأسلحة وعتاداً وسماوات وأرضاً وأرواحاً وأجساداً . والرسام المصور العبقري : السَّياب يضرب بألوان فرشته وأصباغ ريشته في قوة واقتدار .
فالمجد الباذخ يلزمه شعر باذخ ، والكفاح المستبسل تلزمه ألوان جريئة صادمة ، والتحدي الشعري المتمثل في الشكلين العمودي والتفعيلي يصنع جديلةً شعرية لا نٌحس معها بأن ثمة تغيراً في الاحساس أو عقبة في التلقي . فقد وُظفت الصيغتان ، بطريق فذّة مدهشة ، لتحدثا روعة التكامل ، وروعة البناء الواحد ، وروعة التأثير الكلي العارم .
كان السَّياب يبدي حماسه البالغ لقصيدة ( بورسعيد ) وبنائها التركيبي العمودي التفعيلي – وصياغتها القوية المحكمة ، وكان يدرك تماماً قيمتها بين سائر قصائده ، نموذجاً فريداً لشعر الصمود والمقاومة والكفاح ، حتى عندما اقترب إيقاع القصيدة وقافيتها - في أحد مقاطعها - من قصيدة أبي تمام الشهيرة في عمورية - وأبو تمام هو شاعره المفضّل بين شعراء التراث الشعري .
فإن هوية السَّياب الشعرية لم تفارقه ، ونَفسه الشعري لم يتخلّ عنه ، وروحه الجبارة العارمة لم تغب عن كلماته ، كونه شاعر كبير لم ينصفه القدر . فهو بين مدرستين مختلفتين كلياً "أنشودة المطر" و"بور سعيد" .
في قصيدة انشودة المطر وقفات جمالية ونفسية متنوعة ، اخذت منه الشيء الكثير ، وهي عبارة عن دلالات رمزية معبرة عن تناقضات الحياة والطبيعة وفي غور أعماق الذات الانسانية.
في انشودة المطر ، وعن صوت زخاته المجلجل ، نوه شاعرنا الكبير الى مفردتين معروفتين بالقداسة ، التراتيل والغناء ومن ثَم الماء باعتباره رمز الخصب والخير والنماء في حياة الشعوب منذ أقدم العصور، ولذلك يوظِّفه الشعراء ليعبروا بدلالاته عن قضايا اجتماعية ، أو هموم فردية لصيقة ، وبدر شاكر السَّياب من أوائل الشعراء العرب الذين بادروا إلى توظيف المطر في قصائدهم ؛ ليكون رمزاً واسعاً قادراً على حَمْل الهواجسِ الإنسانية ، وعرض الأشكال المتباينة من معاناة الفرد أو الجماعة ، وقد استثمر السَّياب المطر وحوَّله إلى قيمة خَصْبة غنية بالدلالات في عدد كبير من قصائده مثل: قصيدة (السندباد) وقصيدة (مدينة بلا مطر) وهاتان القصيدتان تقعان ضمن قصائد ديوانه (أنشودة المطر) الذي حمل عنوان قصيدته (أنشودة المطر) وتُعدُّ قصيدة أنشودة المطر من أشهر القصائد العربية الحديثة التي تناولها النقاد والباحثون بالدَّرس والتحليل بسبب اشتمالها على مقوِّمات فنية جديدة ، وعناصر ناجحة من عناصر الرؤية الشعرية المُعاصرة ؛ ولأنها أيضا جاءت مُلبية إلى حدٍّ كبير حاجة التطور والتجديد التي كان يهجس بها الشعراء والنقاد في ذلك الوقت مما حدا عددا كبيرا من الدارسين على الزعم بأن السَّياب رائد الشعر العربي الحديث .
من الملاحظ أن أنشودة المطر ترتبط بمعنى الغناء والإبتهال، وهو ما كرره السّياب في ثنايا النص .
وقد استهل الشاعر قصيدته بالغزل بعينيّ مخاطبته. وقد اختار غابة النخيل وساعة السحر، للسواد في كليهما.
وكما هو معروف أن الصورة المألوفة أن تكون عينا المحبوبة لامعتين برَّاقتين ، ولكن الشاعر صورهما مظلمتين ؛ لأن المرأة تتخذ دلالات رمزية ترتبط بالوطن والوضع القائم فيه .

________________________________________
نص قصيدة (أنشودة المطر)
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ .
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا ، النُّجُومْ ...

وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف ،
وَالمَوْتُ ، وَالميلادُ ، والظلامُ ، وَالضِّيَاء ؛
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر !
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ...
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر...
مَطَر...
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ .
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام :
بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ
فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال
قَالوا لَهُ : " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " -
لا بدَّ أنْ تَعُودْ
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر ؛
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ .
مَطَر ...
مَطَر ...
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟
بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،
كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَر !
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ،
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ .
أصيح بالخليج : " يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ :
" يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى ... "

أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ،
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين :
" مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وفي العِرَاقِ جُوعْ
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد
وتطحن الشّوان والحَجَر
رِحَىً تَدُورُ في الحقول ... حولها بَشَرْ
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا - خَوْفَ أَنْ نُلامَ – بِالمَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء
تَغِيمُ في الشِّتَاء
وَيَهْطُل المَطَر ،
وَكُلَّ عَامٍ - حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ .
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة !
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر ... "

أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ...
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـهُ النشيجْ :
" يا خليجْ
يا واهبَ المحارِ والردى . "
وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ،
عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار
وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لُجَّـة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ
من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى .
وأسمعُ الصَّدَى
يرنُّ في الخليج
" مطر .
مطر ..
مطر ...
في كلِّ قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . "

وَيَهْطُلُ المَطَرْ ..

وقد غنى قيصر الغناء العربي الفنان كاظم الساهر اغنية ( الشمس اجمل في بلادي...) وهي مقطع من قصيدة غريب على الخليج .

الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متى أنام
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرى المتهيّبات خطاي و المدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه ،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار
فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديّة
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
(.................. الى آخر القصيدة )

المصادر :
*معاناة الداء والعذاب في أشعار السَّياب / د.حجر أحمد حجر البنعلي
*موسوعة كنوز شوارد التراث / الكاتب المصري - سامح كريم .
*بدر شاكر السياب .. انشودة المطر الخالدة / الشاعرة الكويتية سعدية مفرح .
*مجلة الفكر المندائي / كراس فصلي / يصدر عن مجلس شؤون الصابئة المندائيين في ذي قار - الناصرية / العدد / التاسع / السنة الرابعة - 2005 / قسم أدب / معاناة السيّاب / بقلم : السيد حكيم سليم .
*بدر شاكر السيّاب / عن ديوانه "أنشودة المطر"، ضمن مجموعته الكاملة المجلد الاول ص474. / دار العودة - بيروت - 1997.
* وقفات جمالية مع قصيدة انشودة المطر للسَّياب / للكاتب محمد سعد/ شبكة ضفاف لعلوم اللغة العربية .

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 25 كانون2/يناير 2016 13:37

استذكارٌ لعالم آثار مَنسي

في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ولم يكن قد مضى على عملي كمنقب آثار في الهيئة العامة للآثار والتراث سوى بضعة أشهر، حدث أن جاء يوماً أحد الزملاء الى قسم التنقيبات والتحريات الاثرية حيث كنت أعمل، ليبلغ منتسبي القسم (جاء عمو علي).. فما كان من الجميع ألا أن تركوا ما بأيدهم مسرعين الى حيث يتواجد الرجل للترحيب به... بعد قليل وبدافع من الفضول سرت بخطى بطيئة للغرفة التي التقى فيها الزملاء بالضيف المجهول (عمو علي). عند بابها وقفت أتطلع بالرجل الجالس مُحاطاً بالجميع، وهم يصغون بصمت مُطبق لكلامه كما لو كان أب يروي قصة ً مشوقة لأبنائه، فتراهم يريدون اقتناص كل كلمة يقولها. كان قد تعدى الثمانين من العمر، بسيط الملبس أنيقه.. يجلس بوقارٍ لطيف.. لم تستطع سنين الدهر التي سلبته الصحة وسواد الشعر من أن تسرق أبتسامته الطفولية الجميلة الملازمة لكلامه وحدّة ذكائه الواضحة من عينيه رغم ضعف بصرهما. بقيت بوقفتي عدة دقائق مُمعناً النظر في الرجل حائراً مُحاولاً تحديد هويته، حتى أنتبه هو لوقوفي مُدركاً عدم معرفتي له، فسأل الزملاء كأنه يعرف جميع العاملين في الهيئة (الأخ جديد هنا؟)، بعد أجابتهم بالايجاب دعاني الى مشاركتهم الجلسة ماداً يده لمصافحتي والابتسامة تأبى أن تفارقه، فبادر أحد الزملاء ليزيل حيرتي، أستاذنا (محمد علي مصطفى). ما أن تفوه هذا الاسم حتى عقدت المفاجأة لساني... (أذن هذا هو العالم الكبير الذي طالما درسنا على مدى سنين الدراسة الجامعية أبحاثه واكتشافاته الأثرية وأساليبه المميزة الرائعة في علم التنقيب، الذي كان منذ ثلاثينات القرن الماضي أحد أهم ركائز وأعمدة علم الآثار في العراق ومن أوائل مشيدي ومطوري مؤسسته العلمية)... بعد أنضمامي للجلسة تابعت مع الباقين الأصغاء لحديثه المشوّق ذو الكلمات المعبرة المنتقاة، الذي غلب عليه ذكريات عمله الجميلة المضنية على مدى عقود عديدة مع آثار الوطن متنقلاً من (أريدو) الى (واسط) ثم (سامراء) و(الحَضر) التي أسهب بالحديث عنها، وغيرها من مواقع ومدن أرض الرافدين التي أفنى زهرة شبابه بين روابيها وتلولها الأثرية... لعل أكثر ما يشّد المقابل لهذه الشخصية أضافة لعلمه وجمال كلامه هو شدة تواضعه وبساطته المتناهية، هذه الصفة التي كانت على مدار الزمن أجمل ميزات العلماء والمفكرين... لم يستمر اللقاء أكثر من ساعة حيث غادَرنا هذا العالم الجليل متعللأ بصحته المُتعبة. لكن على الرغم من قصر اللقاء والذي كان الأول والأخير لي معه ألا أنه كان كافياً ليكمل الصورة التي كنت قد رسمتها عنه في مخيلتي من خلال قراءتي لمؤلفاته وبحوثه العلمية واكتشافاته الأثرية الكبيرة، كذلك ما قاله عنه أساتذتنا الجامعيين ومنقبي الآثار الذين عملوا معه وتتلمذوا على يديه..... بعد سنوات من هذا اللقاء سمعنا عن سوء حالته الصحية وتدهورها، ليردنا فيما بعد خبر وفاته في خريف عام 1997 بعد حياة حافلة بالانجازات العلمية.. عانى ما عانى خلالها من ظروف قاسية أحاطت به.. لم يتزوج طيلة حياته ولم يكوّن أسرة ناذراً نفسه لعلمه ومهنته التي عشقها منذ شبابه (الآثار)، فلم يتبقى له من عائلة في هذه الحياة سوى أبنة أخ وحيدة كفلت رعايته في شيخوخته.. عاش بسيطاً ومات بسيطاً.. كان يبتعد عن كل وسائل الأعلام فلم تجد له على الأطلاق أية لقاء أو حديث عبر صحيفة أو محطة اذاعية وتلفازية، أو حتى صورة ولو عابرة له، مفضلاً العزلة والعيش منزوياً عن الاضواء ليعمل بهدوء ونكران ذات قلّ نظيره في هذه الدنيا. كره أن ينادى بلقب (أستاذ) رغم حصوله على درجة (بروفيسور) ولم ينادى في المحافل العلمية العالمية أو يُذكر أسمه في مؤلفات الآثاريين الأجانب ألا (بروفيسور علي)، بل يفضل بدلاً عنه كما سبق ذلك اللقب المُحبب الى قلبه (عمو علي) كونه الكنية التي كان ينادوه بها عمال التنقيب.. يعتبر أقدم الآثاريين العراقيين وأجّلهم سمعة دولية حتى عُرف لدى الجميع ب(شيخ الآثاريين).. فاق بعلمه وانجازاته ومعرفته الآثارية بمراحل عديدة أقرانه من العلماء الذين زاملوه في المهنة. أضافة الى أنه كان مُرشداً وموجهاً ومُعلماً للعديد من علماء الآثار من مختلف دول العالم مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا الذين تدربوا على يديه، وهؤلاء تحدثوا باسهاب عن هذا العالم في معظم مؤلفاتهم واستشهدوا بأنجازاته الكبيرة، أضافة الى العشرات من الكوادر الآثارية العراقية التي تدربت على يدييه وكسبت خبرة كبيرة منه في مجال التنقيب والمسح الأثري والصيانة الأثرية.... لكن المفارقة المؤلمة جداً هي انه رغم كل هذا وما كان قد أنجزه هذا العالم الكبير على مدى سنين طويلة من الزمن إلا أنه يكاد لا يعرفه أحد غير المختصين بحقل الآثار أو من واكبوا حقبة الأربعينات وما بعدها من القرن الماضي، أما جيل الشباب فمن المؤكد أنهم لم يسمعوا حتى باسمه... وهذا هو بالأساس ما دفعني لاستذكار هذه الشخصية الفذة..... فمن هو (محمد علي مصطفى) أو (عمو علي)....
_ ولد عالم الآثار (محمد علي مصطفى) في بغداد بتارخ 28_11_1911 .... وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها.... درس الهندسة المدنية ليحصل على أجازتها عام 1935. في عام 1936 عيّن في مديرية الآثار العامة (كما كانت تسمى حينها).
_ عمل في التنقيب الأثري في مختلف المواقع لمختلف الفترات التاريخية... حيث بدأ عمله عام 1936 حتى عام 1938 ممثلا ً عن مديرية الآثار العامة لدى البعثة الأمريكية لجامعة بنسلفانيا في كلا ًمن موقعي (تبة كًورا) و(تل بلا) في شمال العراق الذين يعودان لعصور ما قبل التاريخ. للفترة 1938_ 1940 ترأس هيئة التنقيب في مدينة (واسط)، ليكشف خلال تلك التنقيبات عن عيوب بنائية في جامع (الحجّاج) فيما يتعلق بأتجاه القِبلة. كما ترأس الهيئات التنقيبية في موقعي (الدير) و(العقير) في جنوب العراق للفترة من 1940_1942 اللذان يعودان للحقبة السومرية، كما أجرى التنقيبات الأثرية في موقع (حسونة) في شمال العراق للفترة 1943_1944 الذي يعود لفترة العصر الحجري الحديث. وخلال السنوات 1944_1949 قام بتنقيبات واسعة في مدينة (أريدو) وكشف عن أهم الأبنية والطبقات الأثرية فيها، كما قام خلالها بواحدة من أعظم عمليات التنقيب في العراق، حيث كشف بمساعدة زميله عالم الآثار الراحل (فؤاد سفر) بأسلوب التنقيب المُدرّج، وهو أسلوب صعب ومعقد جداً عن ثمانية عشر معبداً متسلسلاً عند طرف زقورة المدينة تمتد فترتها الزمنية من 4500_2100ق.م. وترأس للفترة ما بين 1950_1956 أعمال التنقيب والصيانة الأثرية في مدن (سامراء) و(نفر) و(الكوفة). بعد عام 1957 وحتى مطلع الستينات قام بأعمال التنقيب والصيانة الأثرية في مدينة (الحَضر) حيث كشف الكثير من معالمها ليضع كذلك التصاميم والمخططات الهندسية لإعادة ترميم أبنيتها.
_ في مطلع الستينات من القرن الماضي، أنيطت به مهمة الأشراف العام على كافة التنقيبات الأثرية في العراق.... وكان من بين أهم الأعمال التي أنجزها خلال هذه الفترة أشرافه المباشر على التنقيبات التي اجراها عام 1967 وما بعدها (د. بهنام أبو الصوف) في (تل الصوان) قرب سامراء، والذي يعود لفترة العصر الحجري الحديث. وبقى في منصبه هذا حتى آخر أيامه الوظيفية.
_ أحيل على التقاعد عام 1973 بعد مسيرة حافلة بالعطاء... لكنه أستمر بأبداء النصح والمشورة للباحثين والآثاريين العراقيين والأجانب، خاصة في مشاريع التنقيبات الأنقاذية الكبيرة في أحواض (حمرين) و(الموصل) و(حديثة) خلال سبعينات و ثمانينات القرن الماضي.
_ نشر مئات البحوث والمقالات الآثارية وتقارير التنقيبات في مجلة (سومر) التي تصدرها الهيئة العامة الآثار والتراث، كذلك في مجلات وموسوعات الآثار العالمية وبمختلف اللغات .. كما الف مع العالم الراحل (فؤاد سفر) كتاب (الحضر مدينة الشمس)، وكتاب (أريدو) باللغة الانكليزية .. كما قدم للطبع العديد من الكتب لكنها للأسف لم ترى النور، مثل (تطور المعابد و البيوت الخاصة بين الألفين السادس والثالث ق.م) و(عمارة مدينة الحضر) و(العمارة الاسلامية في القرون الثلاثة الأولى للهجرة).
_ توفي في 10_10_1997
وأذ أنهي هذه السطور بحق عالم الآثار الكبير (محمد علي مصطفى) واستذكاري البسيط هذا، فأني استذكر معه جميع علماء ومفكري العراق، لاسيما المنسيين منهم، أولئك الذين طمست سيرهم الناصعة فوضى هذا الزمان، ممن رحلوا عن عالمنا وتركوا أرثاً علمياً وثقافياً ثرّاً منح وطننا سمعته وبريقه الحضاري، هؤلاء الأفذاذ الذين أفنوا حياتهم لأجل بلدهم وشعبهم والعلم الذي أبدعوا فيه، ولم يتبقى منهم شيء سوى كتابات متناثرة هنا وهناك، وشواهد قبور ضمها ثرى الوطن.. وكما قال فصدق الشاعر الفيلسوف (عمر الخيام)...
يا ثرى كم فيك من جَوهر ٍ .... يَبين لو يُنبش هذا التراب

نشرت في وجهة نظر
الأربعاء, 09 كانون1/ديسمبر 2015 12:47

مجرد كلام ـ كونتاكت

 

مع أني لا أحب الخلط بين لغتين أو حتى لهجتين عند التحدث، لكن اللجوء إليها يمكن أن يكون ضروري بحالتين، أن المادة علمية ـ طبية أو هندسية مثلاً ـ ونفتقد لمرادفاتها، أو أن بعض الكلمات نستأنس بأستخدامها لعدم وجود كلمة مرادفة وأنها توفر علينا شرح أو استخدام عدة كلمات بديلة عنها...
ومع أن كلمة (كونتاكت) بالأنكليزية يمكن أن نترجمها لكلمة (أتصال)، لكن أيضاً لها عدّة معاني أخرى تقترب من نفس المعنى ولا تطابقه تماماً، أحتكاك أو تلامس أو تماس. ويكون معنوي عند التحدث بشكل مباشر أو عن طريق أحدى وسائل الأتصال التكنلوجي، الهاتف والشبكة الأجتماعية... أو مادي، فتماس جسمين ببعض أو العلاقة الحميمة بين الأزواج هو نوع من (الكونتاكت) وسوء التوصيل الكهربائي يسمى (باد كونتاكت)...

في مقالنا هذا، نناقش سبل الوصول لـ (كود كونتاكت) أي علاقة جيدة بين الناس، كيف يمكننا تحسينها وأظهارها بشكل حضاري، فـ (الأتيكيت) والتي هي كلمة فرنسية تعني أحترام الآخرين وحُسن التعامل معهم، ويشمل ذلك أدب السلوك واللباقة بالتعامل بالمواقف الحياتية لا سيما الصعبة منها، وهي فن ينم عن الثقافة والذوق وحسن التصرف بالمأكل والملبس والمعاشرة والحب... حتى بالمشي وعبور الشارع، وليس لهذه الكلمة أيضاً من مرادف يشتمل على كل معانيها بلغتنا العربية...
× × ×

عندما كنت بالإعدادية، وقعت يديّ على كُتيب مترجم لكاتب أمريكي بعنوان... (مئة نصيحة كي تُطاع)،
ورغم أن الكُتيب تجاري على شاكلة سلسلة كتب كيف تتعلم الإنكليزية بدون معلم خلال أسبوع التي غزت الأسواق في حينها، ورغم قناعتي بعدم الجدوى من هكذا كتب، لكنني قرأته، كان ذلك قبل أن أدخل الكلية لعله ـ قلت ـ يساعد باجتذاب الأصدقاء من (كلا) الجنسين !
كتب تجارية كهذه ممكن أن يغتني منها المؤلف بسهولة ودون عناء، فقط عليه تجميع المعلومات ممن سبقه سواء من قواميس اللغات وغيرها ووضع تسمية رنانة لها، وهي في الواقع لا تُغني القارئ بشيء، بل بالعكس تستنزف جيبه.
أي كُتيب يقول بأننا سنتعلم ـ الهولندية مثلاً ـ بغضون أيام، (يكذب) علينا من عنوانه، لذا نبقى بانتظار أن يقوم العلم باختراع عقار على شكل مصل أو كبسولة أو أن تُزرع تحت فروة رؤوسنا شريحة الكترونية صغيرة لكي نتقن لغةٍ ما، وهو أنتظار ربما يطول لأن اللغة هي ليست مجرد معلومات نظامية تُغذي الدماغ، وإنما هي ثمرة خبرة وتجربة وممارسة... أي أنها (كونتاكت) مع المحيط والأشخاص حولنا.
هذا يعني أننا في الوقت الحاضر سوف نبقى (نُجاهد) لأجل تعلم لغة إضافية غير لغتنا الأم، وستتباين إمكانياتنا في استيعاب اللغة الثانية بحسب الامكانيات والعمر والاجتهاد، وتتباين طُرق تدريسها وتنفق البلدان الغربية أموال طائلة في نشرها، على العكس من بلداننا العربية للأسف الشديد، التي تتسابق (بطمر) لغتها وثقافتها.
لنعُد لكتابنا الذي يقدم النصائح في كيفية كسب الأصدقاء، الجميل أن الكاتب وقبل إعطاء النصيحة، يتطرق لتجربة قام فريق متخصص بأجرائها، الغرض منها إيصال فكرة في كيفية إنهاء شخصاً تعوّد تكرار أخطاءه دون عمد.
ولمّا كان الكُتيب منشور في السبعينات حين كان التدخين مسموح في غالبية الأماكن عدا المشافي ومعامل المحروقات وغيرها القليل، فقد قام الفريق في أحد مصافي النفط وبالإتفاق مع الإدارة التي تعاني من قيام موظفيها بالتدخين قرب خطوط الإنتاج رغم تواجد أماكن (كابينات) مخصصة للتدخين، بمحاولة لنهي العمال عن ذلك.

تمت أولاً مراقبة العمال المدخنين من بعيد وتحديد المخالفين لشروط السلامة، كان أحدهم وبمعدل كل ساعة يبتعد عدة أمتار عن الخط الإنتاجي لتدخين سيجارة دون أن يقصد ولو مرة واحدة المكان المخصص لذلك، فأقترب منه المتطوع وقبل أن يوقد العامل سيجارته، ألقى عليه تحية ومازحه قليلاً ثم أخرج علبة سيجائر فاخرة من جيبه ووضع سيجارة بين شفتيه وشرع بأيقادها، لكنه تباطأ وسأل العامل... (هل تود أن تدخن هذا النوع من التبغ؟).
وكان جواب العامل وعينه على ماركة السيجارة... (أجل بالتأكيد).
فقدم له المتطوع سيجارة فوضعها بين شفتيه، ووقبل أن يقوم بضغط (قداحته) قال له ...
(ما رأيك لو نذهب لتلك الكابينة المخصصة للتدخين فنجلس ونستريح ونتمتع بتدخين سيجارتينا؟).
طاوعه العامل بكل لطف، وهكذا نجح بمرافقته في اليوم التالي أيضاً، قام متطوع ثاني بنفس المحاولة مع غيره... في الأيام التالية كان سلوك العمال وبشكل لا إرادي هو الذهاب للتدخين في الكابينة المخصصة للمدخنين.

يقدم الكاتب النصيحة بأنه لكي نصل لهدف معين علينا مراعاة أسلوب ووسيلة ايصاله في الوقت والزمان المناسبين.
الشيء الآخر أنه من المحتم علينا أن نطالب المقابل بما يمكنه أن يفعل بدون أن يدفع أي ثمن، جهداً أضافياً أو مبلغاً من المال أو وقتاً هو بحاجة إليه، فالمحادثة داخل معمل غير ما في مدرسة أو في طريق... وهي غير ما يمكن أن نتبادله في البيت أو عند الأسترخاء على أريكة في ساحة أو حديقة عامة...
هذا الأمر يذكرني بنصيحة تُقدم للضباط الجُدد بأن لا يأمرون الجندي بما لا طاقة له... (إذا تريد أن تُطاع... أطلب بما مستطاع).
× × ×
في سنوات إقامتي بهولندا، كنت جاداً بتعلم لغة البلد الذي يحتضنني، لأنني أجد أن تعلم اللغة ـ أية لغة ـ يفتح أبواب جديدة للمعرفة من خلال نظرة مجتمع جديد للحياة والثقافة وغيرها، وأن أطلع على (كونتاكت) هذا المجتمع المتحضر بكل شيء، منها آداب الحديث وفن احترام المقابل، شخصه وووقته وكرامته، فإسلوب التعامل الودّي مع الآخرين وتجنب إستفزاز المقابل والصبر ربما هي سمة ونعمة يتحلى بها الأوربي ويتفوق علينا بها، فلو كنت على حق ولم تستطع أظهاره بشكل حضاري، أضعته واضاعك.
× × ×
لو نتفق بأن التعامل بحد ذاته فناً، وأن مَن يَحترم يُحتَرَم، سيدفعني ذلك للاسترسال بالحديث عنه لأننا ـ نحن العرب ـ نُدركه جيداً لكن لا نُحسن أو نتقن تطبيقة أبداً.
ولي مثال، فلو تقدم مواطن (إسرائيلي) من سفارة لبلد عربي (ثوري) يطلب منحه (فيزا)، فسيكون محظوظاً لو أنه فقط يُطرد من الباب دون أن يتلقى سيلاً من الشتائم.
لكن لنجرب العكس وأن يتقدم شخص يحمل جنسية تلك البلدان بطلب فيزا من سفارة إسرائيلية في بلدٍ ما، فستقول السفارة له تفضل قدّم طلبك وإملأ الإستمارة وإنتظر جواب بعد أيام، وسيكون سلبي طبعاً لكنه بإحترام، الفرق بين الحالتين هي أن الإسرائيلي يخرج من باب سفاراتنا غاضباً بينما نخرج نحن من أبواب سفاراتهم راضون لأنهم أحترمونا وتعاملوا معنا حضارياً، في هذه النتيجة يكمن الفرق وهو كبير جداً في طريقة وإسلوب التعامل، وهو ما لم ندرسه نحن بمدرسة ولم يدرسوه هم، وهي لا تنِمُّ عن ثقافة أفراد بل دول.
× × ×
سنبحث معاً في إسلوب التعامل مع الغير، فعندما نبث رسالة موجهة بشكل مباشر الى المُقابل علينا أن لانستخدم أفعال الأمر أو الضمير أنت، بل نعكس الحديث من خلال مشاعرنا نحن ورأينا، فإنّ بثْ الرسالة للخصم هو فن بحد ذاته، فلو وجدت نفسك بجانب أحدهم يُدخن في عربة قطار أو مصعد أو أي مرفق عام وأزعجك أمره، سيكون رد فعلك أحد إحتمالين ...
(أظن التدخين هنا غير ممكن، لدي تحسس شديد تجاهه) وهنا الرسالة موجهة له لكن من خلالك، وهي تتطلب رد فعل ايجابي منه غالباً ما يكون بالأعتذار أو أطفاء سيجارته أو مغادرة المكان.
أو أن تقول (لا يمكنك التدخين هنا، إطفأ سيجارتك أو غادر المكان) هنا سيتطلب رد فعل من المقابل يوازي هجومك عليه أو ربما أكثر وفي أحسن الأحوال أنه يقوم بتجاهلك مما قد يتطلب منك تصعيد الموقف.
الحالتين هما أسلوبان لهدف واحد، لكن الطريقة الأولى لا تتطلب إجابة قد تكون سلبية، بل مجرد ردّة فعل تضع المُخطأ (المُدخن) في ناحية كونه ربما لا يعلم أن ذلك ممنوع وبالتالي وفي أغلب الأحيان سيُغير سلوكه، وهنا يُطلق على إسلوبك (بالفعل الإيجابي)، ولم يتجاهل (الخصم) طلبك لأنك إحترمته رغم وقوعه هو بالخطأ.
لكن الحالة الاُخرى (الفعل السلبي)، ستتلقى أنت ردة فعل بهجوم مقابل ومبرَر وستفقد زمام الأمور أو ربما أن يُجيبك ببذيء العبارات لأنك ستكون البادئ بالإساءة في التعامل، ولم تعُد عملية التدخين هي سبب بدء (الكونتاكت) السيء وإنما ما صدر منك، أي عملية الفعل أي العتذاء ستكون منك وسيتطلب ذلك منه ردة فعل غالباً ما تكن حمقاء أو على الأقل ستواجَه بعدم إكتراث وتجاهُل مما يستفزك أكثر !
إن التجاهل وحُب الإنتقام والإنفجار والإشتباك بالأيادي يحدث في مجتمعاتنا العربية ليس فقط بسبب حادث إصطدام سيارتين أو تحرش برفيقة... وإنما لأتفه الأسباب أيضاً، فصغائر الأمور نحن الذين نخلق منها كبائرها !
أن عملية الدفاع عن مكسب كي تحضى به لا يتأتى من الهجوم بل بإسلوب الدفاع، وهو الأذكى والأصعب من عملية الهجوم التي تتسم أحياناً بسلوك حيواني.
عندما تبث رسائل كلامية للآخرين، الأفضل أن توجهها بشكل غير مباشر وبدون أستخدم لغة التهديد ولا أن تبدأ بفعل أمر ...
عبارة (أنت تقوم بعمل خاطيء) يمكن صياغتها (أتمنى لو أرى منك فعل صحيح).
و(لا ترفع صوتك فهو يزعجني) تكون (أعتذر لك، لا أستطع التركيز إذا الصوت عالٍ).
و(لن أجعلك تعرف حتى يتم ذلك) تكون (سأضعك بالصورة حالما تتوضح الإمور).
إذا زاحمَنا أحدهم في طابور، يجب أن نفترض أنه تصرف غير متعمّد، وبدل أن نقول (اُخرج من الصف فهذا ليس مكانك) ننتقي كلمات أكثر وديّة (أعتقد أن هذا صفّي أرجو منك أن تلاحظ ذلك).
من آداب الحديث :
ـ أن نتكلم عن الموضوع فقط عندما يسكت الآخرين ويكون لنا الحق بذلك.
ـ الكلام يكون بنبرة مسالمة وديّة وغير عدائية وبصوت واطئ وبدون توجيه أصابع.
ـ أن نترك تقدير الأمور للآخرين أيضاً.
ـ أن نستمع بقدر ما نتكلم أو أكثر، لأن الإستماع هو أيضاً ضمن جوهر الحديث.
ـ أن لا نطلق الكلمات كالرصاص، لأن عندئذ سنرغم المقابل بالدفاع بشتى الوسائل المتاحة لديه.
ـ أن لا نتجاهل المقابل ولا أطروحاته ونتوجه بالنظر إليه عندما نتحدث معه.
ـ أن نعطي إجابة محددة ومختصرة وبتركيز وبقدر السؤال دون الخروج عن لب الموضوع وأن لا نقاطع المقابل ونشرع بالحديث بدون مبالاة.
ـ أم نجعل الطرف الآخر يحس بأن رأيه مهم لديك.
ـ يكون الحديث من خلال رسالة مدعومة بلغة أرقام وأدلة نكون متأكدون من صحتها وبأمثلة حية معروفة للآخرين.
... وبينما أنهي مقالي بتقديم نصائح نعرفها جميعاً ولا تخفى علينا لكننا ((لا)) نطبقها، تذكّرتُ الكتيب الذي قرأته في الإعدادية وتساءلتُ، أي العبارتين أنجع بتحقيق الهدف ...
(التدخين ممنوع هلا تتوقف عنه، أن الرائحة مزعجة لا تُطاق).
أم ...
(أظن بأن التدخين هنا غير مسموح، لديّ للأسف حساسية مفرطة تجاهه).

 

نشرت في وجهة نظر
الأربعاء, 09 كانون1/ديسمبر 2015 12:40

فلسفة الثورة في الفكر العراقي القديم ـ 2

القسم الثاني والأخير

 

عرفنا من ما تقدم في القسم الأول بأن المجتمع العراقي القديم كان قد شُيّد على أساس الصراع، أبتدأ بالصراع مع البيئة، ثم الصراع بين المدن أي بين المجتمعات الصغيرة المشّيدة على الأسس القبلية الزراعية من أجل الأراضي الخصبة ومصادر المياه، ليأتي بعدها الصراعات فيما بين تلك المجتمعات أنفسها بسبب التمايز الطبقي والاجتماعي... أن نظرة دقيقة للنصوص الاقتصادية والقانونية المتأتية من الألفين الثالث والثاني ق.م تشير الى المجتمع الرافديني كان بالغ التعقيد، تجاوز أطاره العام كونه مجتمع أحرار وعبيد، أذ يبقى ذلك نسبياً حسب تذبذب الظروف الاقتصادية وتبدل المناخات السياسية القائمة، حيث أن كل من هاتين الفئتين لها تفاصيلها ودرجاتها... فهناك أحراراً دون مستوى العبيد، كما كان هناك عبيداً وصلوا الى درجة من الرخاء الاقتصادي بعد تمكنهم من امتلاك وسائل الانتاج أوصلتهم الى درجة عالية من الرخاء الاقتصادي جعلتهم يمتلكون حتى العبيد رغم عبوديتهم... وحتى الحكام والملوك قد تدور بهم الدنيا فيكونوا يوماً تحت سلطة ورحمة أباطرة يحملون في مخيلاتهم فكرة جنون التوسع التي بدأت بعد تأسيس أول امبراطورية في التاريخ، تلك التي أسسها سرجون الأكدي عام 2370 ق.م على أنقاض المجتمعات الزراعية المتناحرة... ولامجال هنا لتفصيل أكثر في بنية المجتمع الرافديني، لكن من المهم ذكره بهذا الصدد أن الفلسفة الدينية التي وضعها كهنة المعابد لأسباب سبق التطرق اليها، وضحّت أن مجتمع وواقع الأنسان الارضي ما هو إلا صورة مصّغرة لمجتمع الآلهة وواقعه في السماء، بكل تفاصيله وتناقضاته وصراعات طبقاته ومكوناته... فالآلهة بدرجات ومستويات تباينت حسب نتائج الصراعات بين المدن التي كانت تتزعمها تلك الآلهة، فهناك آلهة للخدمة والكدح وهناك آلهة للقيادة والحكم، كما أن هناك آلهة للثقافة والالهام الفني والفكري، بل أن هناك آلهة أبيح قتلها من أجل تنفيذ رغبات كبار الآلهة، كما حدث مع الإله المسكين (كنكًو) الذي ذُبح وعُجن دمه مع الطين في أسطورة الخليقة البابلية من أجل خلق الانسان... وما يُهمنا من كل ذلك ووفق هذا الترابط أن تلك الفلسفة قد جعلت من الملك مُمثلاً لكبير الآلهة ونائباً عنه في قيادة الناس، عليه يتم تسليمه شارات الملوكية من السماء بشكل دوري كل عام وفق مراسيم طقوسية خاصة مع احتفالات رأس السنة (الأول من نيسان)، دلالة على ان الملك مُعّين من قبل الالهة وله حقاً إلاهياً لا يجوز لاحد المساس به سوى الالهة نفسها، وبالتالي فان جميع الاوامر والتشريعات التي يُصدرها انما تتم بوحي من الالهة، لذا فهي واجبة التنفيذ من قبل جميع أبناء المجتمع دون نقاش... ويتضح ذلك من احدى التراتيل الدينية السومرية (الرجل ظِل الإله، والعبد ظِل الرجل، لكن الملك صورة الإله)... أن تلك التراكمات الهائلة التي تم طرحها بما حوته من قهر للفئات والطبقات المعدمة، جعلت النُظم السياسية الحاكمة موضع التساؤل وبالتالي الرفض من قبل عموم المجتمع بعد وصول تلك التناقضات القاسية بين حاجات وتطلعات الناس بالعيش بكرامة وبين رغبات تلك النُظم المُستقوية بشرعية الآلهة المسيطرة على مُقدرات الكون حد السخط العام، ليحدث الصِدام العنيف بينهما بعد ذلك، خاصة بعد أن ترسّخت في ذهنية الانسان الرافديني وقناعته بأنه عنصراً أساسياً فاعلاً في بناء الحياة وازدهارها وليس جزءً مكملاً أو ثانوياً لها... وهنا يبرز الدور الخلاّق للفكر الرافديني في تبرير التمرد والثورة على تلك النظم الباغية، موجداً الشرعية في جواز الثورة، وذلك بإعطائها بُعداً إلهياً الهمته الآلهة للناس، مانحاً اياها بذلك وضعاً دينياً مقدساً أسوة بسلطة الحكام المناطة بهم من قبل الآلهة، والمُتمثلة بإحلال الرخاء والنماء في الأرض ورعاية مصالح المجتمع، ليكون بسلطته السياسية عنصر توازن بين رغبات الآلهة وحاجات عموم الناس، أي أن يحول دون ان تؤدي التناقضات ما بين الطبقات الاجتماعية الى انهاكه عن طريق النزاعات العقيمة بين أفرادها... فاذا ما أخّل هذا الطرف بواجباته وغدا لا يمثل (الإحسان) الإلهي، بل أخذ يمارس الجَور والظلم والقهر لمصلحته الخاصة، عندها يصبح فاقداً لتلك الشرعية الممنوحة له من قبل الآلهة وبالتالي يمكن أن تسترجعها منه، كونه في كل الأحوال مخلوقاً بشرياً مصيره الفناء (كما سبق ذكره في القسم الاول)، لذا يصح الخروج عن طاعته ومن ثم الاطاحة به عن طريق الثورة... وقد أرجع الفكر الرافديني أساس فكرة الثورة الى الرغبة الإلهية نفسها، حيث أنها أوضحت بشكل صارخ أن الآلهة نفسها أول من قام بتلك الثورات ولنفس الأسباب الانسانية التي أشير اليها من ظلمٍ وحَيف... أن ما ورد في قصة الطوفان البابلية (قصة أتراحاسيس) المدونة في حدود 1650 ق.م، بقسمها الأول المتعلق بموضوع خلق الأنسان وما حَوته من تفاصيل دقيقة عن الثورة التي قامت بها الآلهة الصغار المُستضعفة (الأيكيكي)، وأسبابها وكيفية نشوبها ثم تتابع أحداثها وتهديدهم سلطة كبير الآلهة (أنليل) ومحاولة قتله، كذلك ترويع مَجمع الآلهة السبع العظام (الأنوناكي)، ثم انتصارها الكبير واستردادها لحقوقها، من المؤكد أنها تشير بوضح الى أحداث واقعية حدثت في حِقب قديمة سابقة، لاسيما أن أهم ما كان يميّز الأدب البابلي (النص الأول من الألف الثاني ق.م) أنه أعادة صياغة وتجميع للأدب السومري القديم لكن برؤيا ونظرة جديدة... ولأهمية هذا النص الأدبي، نقتبس بعض من ما جاء فيه... (عندما كانت آلهة (الأيكيكي) مثل البشر تنوء بمشقة العمل وتعاني من التعب.. لقد كان التعب عظيماً والعمل شاقاً والعناء كبير)، (كان (الأيكيكي) يتذمرون ويشكون بينما (الأنوناكي) نائمون مسترخون.. أننا نعمل هنا منذ أربعين سنة، لقد قتلنا التعب.. دعونا نواجه (أنليل) كي يريحنا من عملنا الشاق.. دعونا نحطم النير ونقتله أو نثير الهلع في قلبه وهو بيته)، (أشعلوا النار في (مَساحيهم) وفؤوسهم ليجعلوا منها مشاعلاً.. ساروا الى بيت (أنليل) وأحاطوا به)، (أيقظ (نِسكو) وزير (أنليل) سيده.. أن بيتك محاصر.. وأن ثورة (الأيكيكي) وصلت الى بوابتك)، (أن كل واحداً منا مُصمم على اعلان الثورة، لقد هدّ أجسادنا تعب العمل، ولن نتوقف حتى نسترجع كرامتنا والوهيتنا)... ليعلن حينذاك انتصار هذه الثورة الإلهية بعد أن خضعت الآلهة الكبار مُرغمة لمطالب الثوار، بعد أن وقفت الأرض متمثلة بإلهها الحكيم (أينكي) الى جانبهم، في عبرة رمزية بالغة الروعة مفادها أن الأرض لأهلها، وهي دوماً في صف الكادحين والمُتعبين، موجدة الحل المناسب، المتمثل بخلق الأنسان ليحمل عن تلك الآلهة الثائرة مشقة العمل... هنا ترتبط هذه الأسطورة مع أسطورة الخليقة البابلية في نتيجة واحدة مفادها أن خلق الأنسان ما هو إلا نتاج عمل ثوري بامتياز، أو أنه بعد الثورة لابد أن يأتي الأنسان الجديد... ولو انتقلنا للبحث بين الكتابات والنصوص الأدبية المعروفة عن أمثلة تتضمن تجسيداً حياً لثورة الشعوب على السطلة الحاكمة في العالم الأرضي البحت سوف لن نجد أبلغ من ما ورد في (ملحمة كًلكًامش)، والاقتتال العنيف الذي حصل بين (أنكيدو) و(كًلكًامش)، الاول باعتباره رمزاً للشعوب التي أخذت مجتمعاتها تسلك مَنحاً تصاعدياً في رقيها يعكس طريقها المنطقي في عملية التطور، والثاني باعتباره الحاكم المستبد الظالم.. (ما فتئ يضطهد الناس بمظالمه.. لم يترك عذراء طليقة لأمها ولا أبناً طليقاً لأبيه)... كما توضح العبارة الواردة في الملحمة (ما أن رأى الناس (أنكيدو) يدخل المدينة، حتى تجمهروا حوله) صورة التجمع الجماهيري والتفاف الشعب حول رمز الثورة وقائدها من أجل الوقوف سوية بوجه الطغمة الغاشمة... ورغم أن تلك المواجهة في نهاية المطاف لم تكن في صالح الشعب (أنكيدو)، لكنها انتهت بعقد صلح متين مع السلطة القائمة (كًلكًامش)، بعد أن قوّم الشعب حالها وأبدلت منهج تعاملها مع الشعب باتجاه الخير... أن هذين المثالين الثوريين (سماوي وأرضي) ربما يسلطان الضوء على الكثير من الحقائق عن واقع الصراع القائم في المجتمع الرافديني المترابط مع نموه الاقتصادي... ففي المثال الأول (ثورة الآلهة الصغار) نجد أن الثورة كانت نتيجة صراع طبقي بامتياز، على اعتبار أنه يتم بين فئتين متساويتين في الصفة الاجتماعية (الألوهية)، لكن الفارق هو التمايز الاقتصادي الذي أعطى نظرة فوقية للآلهة الكبار على الآلهة المُستضعفة، في إشارة الى تحول كبير في الفكر الرافديني من قضية الصراعات القبلية المناطقية من أجل الاراضي ومصادر المياه الى الصراع داخل المؤسسة الاجتماعية الواحدة، من أجل ازاحة الاستغلال الطبقي الذي تمارسه الطبقة المستغِلة... أما في المثال الآخر (ثورة أنكيدو) نرى أن الثورة الجماهيرية لا يمكن ان تندلع أو يُكتب لها النجاح إلا اذا وصل الانسان الى مرحلة متطورة من الرقي الفكري والاجتماعي تنقله من مرحلة التبعية المطلقة للطبيعة (شرعية الآلهة) الى مرحلة الاستقلال الذاتي والحضاري، كي يستطيع استقطاب عموم الجماهير المضطهدة المظلومة ويكون نداً مماثلاً في القوة للسلطة الحاكمة المستبدة... ولو نعود الى الوقائع والاحداث التاريخية الفعلية بما كشفت عنه الكتابات التذكارية والقوانين والمرثيات وحوليات الملوك خلال مختلف الفترات، لوجدنا اشارات واضحة الى العديد من الثورات والانتفاضات الشعبية على أنظمتها الحاكمة، لكن يمكن اعتبار الثورة التي اندلعت في دويلة (لكًش) السومرية عام 2400 ق.م بما حوته من تفاصيل وتسلسل احداث تعتبر الأبرز من بينها، ويمكن اعتبارها تلخيص لكل ما سبق ذكره... فقد اصبحت لمؤسسة الاقطاع ممثلة بسلطة المعبد السطوة العليا في هذه الدويلة العريقة فاقت سلطتها السياسية ممثلة بالأمير (لوكًال لندا)، لتمارس شتى أنواع القهر والظلم بحق الفلاحين والطبقات الفقيرة من المجتمع، واقترفت بحقها الكثير من المساوئ فأبدلت الكثير من الاعراف الأخلاقية والاجتماعية السائدة بشكل يخدم مصالحها، ليصلوا بشعب الدويلة الى أدنى درجات الفقر... كما ورد في أحد النصوص.. (أن الفلاحين والعمال والشغيلة صاروا يستجدون من البيوت، ويأكلون فضلات الطعام من أبواب المدينة، بينما مخازن الكهنة والحكام وحاشيتهم مليئة بالحبوب)، (كان الكهنة ينهبون الثمر من بستان أم الولد الفقير)، (كان الشعير والملابس والأقمشة والماعز والطيور يستولي عليها الكهنة ورجال الأمير كضرائب)... لتنقلب هذه الاوضاع بغضبة جماهيرية عارمة أسقطت هذا النظام التعسفي بسلطتيه السياسة والدينية. لقد جسّدت هذه الثورة بشكل واضح عمق الصراع الاجتماعي والطبقي في المجتمع، بين الشعب وما حمله من كمٍ هائل من المظالم والسلطة الحاكمة بما مارسته من جَور واضطهاد... كما تكمن أهمية هذه الثورة أيضاً أنه رغم أن الثقل الأكبر في اندلاعها قد وقع على عاتق عموم الجماهير (فلاحين، شغيلة، عمال التحميل، الجنود وصغار ضباط الجيش)، لكن قيادتها كانت من الطبقة الوسطى (الفئة المثقفة) المُنبثقة من الطبقات الفقيرة من الشعب، والتي ظهرت نتيجة طموحات الطبقات المُعدمة آنذاك واصرارها بحصول أبنائها على العلم رغم عَوزها، كونه الطريق الوحيد المتاح لديها لنيل قدر من المساواة الاجتماعية بعد تعذر ازدهارها الاقتصادي، وهذا ما يمكن تلمسه من النص التالي الذي يعود الى أواسط الألف الثالث ق.م.. (من أجل أن يتعلم ولدي سأقود الثور للحراثة، من أجل أن يتعلم ولدي سأخرج لجمع الحطب من البرية)... وقد تمثلت هذه القيادة بالمُصلح الاجتماعي (أوروأنمكًينا)، الذي كان آنذاك أحد كتبة المعابد، لذا جمع قائد الثورة هذا بين خلفيته الثقافية العالية وانتمائه الطبقي لعامة الناس الذي جعله يحس بمعاناة أبناء شعبه ويستشعر آلامهم... وقد وضع هذا المُصلح بعد انتصار الثورة وتوليه الحكم اصلاحات اجتماعية تعتبر بواكير التشريعات القانونية في التاريخ، ذكر في مقدمتها.. ( منذ الآن لن يطأ الكاهن أرض البستان.. منذ الآن لن يقتلع الكاهن شجرة الفلاح أو ينهب ثمارها)، (منذ الآن لن يُسلم الارملة واليتيم والضعيف الى الحاكم والقوي، والفقير الى الغني والكاهن)، (سيكون بيت الفقير بجانب بيت الغني)، كما ذكر هذا المصلح لأول مرة في التاريخ كلمة (الحرية) التي تقرأ في السومرية (أماركًي) حيث ورد (أن الحرية ستكون لكل فرد في لكًش)... ويكاد يُجزم أن كاتب أسطورة ثورة الآلهة الصغار السابقة، قد أستند في كتابته بشكل كامل على تفاصيل ثورة (لكًش) بعد أن أصبحت من ضمن التاريخ، حيث أن الفارق الزمني بين تلك الاحداث وزمن تدوين الاسطورة أكثر من ثمانية قرون... ورغم أن انتصار هذه الثورة لم يدم أكثر من ثمانية أعوام، حيث سقطت (لكًش) بتجربتها الثورية وقُتل قائدها (أوروأنمكًينا) على يد جيوش مدينة (أوما) المناوئة لأسباب عديدة يطول شرحها، لكنها هزّت بعنف نظام الأقطاع المُتخلف المُتمثل بسلطة المعبد، ممهدة الطريق لتحجيمه ثم زواله نهائياً، لتُشيد على أنقاضه بدايات الدولة الاستبدادية بعد سيطرة السلطة الدنيوية بالكامل على مجريات الأمور، وذلك بقيام أول امبراطورية في التاريخ وهي الامبراطورية الأكدية 2371_2230 ق.م التي أسسها الملك (سرجون الأكدي)... ولإكمال الاجهاز على ما تبقى من قوة للسلطة الدينية وبطريقة غاية في الخبث والذكاء معاً، أبتدع عدد من ملوك العراق القديم فكرة جديدة بل وغريبة على السياق العام للمعتقدات الرافدينية، ألا وهو ادعائهم الألوهية، وكان أبرز من سار بهذا الأسلوب الملك (نرام سين) 2291_2255 ق.م وهو الملك الرابع في الامبراطورية الأكدية، و(شولكًي) 2195_2047 ق.م الملك الثاني في امبراطورية أور الثالثة، والغرض من هذه (البدعة) هو سحب البساط من تحت أقدام السلطة الدينية التي أدّعت وروّجت طيلة الحِقب الماضية بأن جميع أراضي البلاد هي مُلكاً صرفاً للإله، لتنتقل تلك الاراضي وفق هذا الادعاء تلقائياً الى مُلكية الملك (المؤله)... ويحق لنا القول في ذلك أن هذه الحركة أنها كانت البدايات الأولى لثورات التأميم في العالم، لتدق السلطة السياسية بذلك آخر مسمار في نعش سلطة الدين الاقتصادية، ليأخذ الصراع بعد ذلك منحاً آخر أطاره المصالح المحلية والاقليمية... وما ساعد على ذلك هو التطور الكبير الذي طرأ على وسائل الانتاج وزيادة القدرة على التحكم بعوامل الطبيعة، مما ساعد على التحرر من هيمنة الآلهة التي تمثل قوى الطبيعة تلك، لدرجة جعلت ببعض الكتاب يسخرون من تلك الآلهة بشكل سافر (لا تقدم القرابين للآلهة من تلقاء نفسك، أن الإله هو الذي سيركض خلفك كالكلب عندما يحتاج اليك)... ونتيجة لذلك فأن المعبد بعد خسارته لامتيازاته القديمة وسلطته المستمدة قوتها من الاعتماد على الزراعة والارض بشكل رئيسي ويأسه من استردادها، ولغرض الحفاظ على كيانه أصبح دوره تملقياً انتهازياً بدعمه الكامل للسلطة الدنيوية، وفق قاعدة (الجدار الذي لا تستطيع أن تقفز فوقه سر بجانبه) مغيّراً بذلك توجهاته وفق تقلّب موازين القوى، مؤيداً هذا ونابذاً ذاك حسب توافقه مع مصالحها، مُستعيناً بأسلوبه القديم البغيض بترويجه أفكاراً تصب في هذا الاتجاه، خصوصاً في عمليات قمع الثورات والانتفاضات في داخل البلاد، وكذلك لقبر محاولات أرادات شعوب الاقاليم البعيدة المحتلة في الانفصال والتحرر من استبداد السلطة المركزية... فمن ضمن التراتيل التي كانت تقرأ عند تجديد تنصيب الملك في عيد رأس السنة، يرد هذا النص.. (الإله سيكون عون الملك.. سيرافقه كظله.. سَيعينه عند التمرد والثورة والعصيان)... وهنا يظهر لاعب جديد لكنه أكثر خبثاً على الواقع الاجتماعي لكن بصورة مغايرة ليملئ ذلك الفراغ الذي خلفه المعبد، الا وهو طبقة التجار وأصحاب رؤوس الاموال والاحتكاريون والمُرابون. وهذه الفئة رغم أن وجودها كان مرافقاً لتأسيس المدن خلال الألفين الرابع والثالث ق.م، لكنها كانت مقيدة بسلطة المعبد الاقطاعية، لكنها أخذت تنمي نفسها بهدوء وبشكل تدريجي منتظرة فرصة ظهورها وتسلطها، لتعلن عن نفسها كقوة مؤثرة في المجتمع، مُكشّرة عن أنيابها في أواخر عهد سلالة أور الثالثة، بعد أن ساهمت بشكل فاعل في أسقاط هذ الامبراطورية... لتغدوا هذه الفئة مع العهد الجديد أي العصر البابلي القديم (الألف الثاني ق.م) السند القوي للسلطة الحاكمة، طالما كانت تلك السلطة ترعى مصالحها وتساهم في انتفاخها الاقتصادي، مما ساعد الملوك في زيادة سطوتهم على الشعب، خصوصاً بعد أن تشكّل فيما بعد ذلك الثالوث البغيض المؤلف من الملك والمعبد والتجار (القوة+الدين+المال)، والذي غدا أداة قهر رهيبة ضد تطلعات الجماهير، ولعل مقولة (عصفور بين النسور) الواردة من تلك الفترة تعبر بشكل واضح عن حجم الفارق بين امكانيات المواطن البسيط وذلك التحالف المتنامي على حساب بؤس الناس... لكن رغم ذلك يبدو أن الشعب الرافديني قد وصل الى درجة متقدمة من الوعي الطبقي والاجتماعي والفكري، جعلته يرفض كل أنواع الاستغلال أو المساس بهويته الانسانية، كاسراً بذلك حاجز الخوف الذي كبّله طيلة ماضيه السابق، لتصبح الاشارات في الكتابات عن قيام الثورات والانتفاضات في أرض الرافدين والأقاليم التي الحقت بشكل قسري بجسد الدولة الرافدينية، شيئاً اعتيادياً بل من ضمن تقاليدها الشعبية العامة المتوارثة، ومرافقة لتتابع الحقب واشكال الدول، منذ قيام الدولة الاستبدادية وحتى انهيار آخر رموزها امبراطورية أور الثالثة عام 2006 ق.م، ثم قيام الكيانات السياسية الجديدة المعتمدة في اقتصادها على النشاط الحر في فترة العصر البابلي القديم خلال الألف الثاني ق.م، ثم الدولة الآشورية، وحتى سقوط مدينة بابل على يد الفرس الأخمينين عام 539 ق.م... ولعل أبرز هذه الثورات، الثورة التي كادت تطيح بالملك (سرجون الأكدي)، والثورات العديدة في أرجاء (امبراطورية أور الثالثة) التي أدت تدريجياً الى انهيارها اقتصادياً ثم سقوطها السريع على يد العيلاميين عام 2006 ق.م، وثورة مدينة (ماري) ضد الملك (حمورابي) 1792_ 1750 ق.م التي سعت للاستقلال عن سلطته، وكذلك الثورة التي حدثت في القسم الجنوبي من أرض الرافدين المتاخم للخليج ومناطق الاهوار، والتي قادها الثائر (أيلوما أيلو) عام 1470 ق.م، وأدت الى انفصال تلك المناطق عن الجسد البابلي، ليؤسس ذلك الثائر سلالة جديدة عرفت باسم (القطر البحري) وفي السومرية (أورو كو كي)، وسميت كذلك (سلالة بابل الثانية)، والتي أستمرت حتى عام 1500 ق.م... والحديث يطول ولا يقصر عن الثورات التي اندلعت ضد الامبراطوريات الكشّية والآشورية والبابلية الحديثة في الداخل والخارج والتي يَصعب احصائها، لكن نتائجها كانت واحدة بانها نخرت كيانات تلك الدول من الداخل بشكل كبير مما أدى الى سقوطها بشكل دراماتيكي سريع فيما بعد... في مقابل تلك التحركات الجماهرية الثورية فأن السلطات الحاكمة كان لها حساباتها بشأن ذلك، بعد شعورها بقوة خصمها وخطورته، ومن من أجل وقاية كياناتها والحفاظ على ديمومته سارت في أتجاهين.. الاول هو أنشاء جهازها القمعي المُتمثل بحرس المدن أو بالأحرى (حرس الأنظمة الحاكمة) الذي تأسس بمهمته التخصصية مع تأسيس الدولة الاستبدادية، وواجبه هو مراقبة التجمعات الساخطة، وضرب وثبات الجماهير، والاقتصاص من القيادات الشعبية، للحيلولة دون وصول تحركات الشعب الى درجة الانفجار الذي لا يمكن السيطرة عليه، وكذلك تقوية الجيوش وتدريبها وتطويرها عدة وعدداً، لتكون جاهزة ومستعدة للتحرك في أي وقت واتجاه تظهر فيه بوادر تمرد أو عصيان في الأقاليم المُستعمرة، لقبر تلك المحاولات وهي في مهدها... أما الثاني فهي المجابهة الفكرية التي تتمثل بالكثير من الكتابات الادبية والدعائية لغرض تخويف وترويع عموم الناس من مَغبة الوقوف بوجه السلطة الحاكمة، موظِفة في ذلك العديد من الكتّاب المأجورين الذي غدوا أبواقاً لتلك السلطة، لتظهر الكثير من الكتابات الموجهة في هذا الجانب، منها هاتين المقولتين الواردين من فترة سلالة أور الثالثة... (الدار التي ثارت ضد الملك.. الدار التي لا تستلم للملك.. الفأس ستجعلها تركع للملك)، (أذا ثارت المدينة فأن الفأس هي التي ستحمي العرش).. كذلك في مثال آخر يعود الى فترة العصر الآشوري الحديث (مطلع الألف الاول ق.م)، وهو جزء من محاورة بين سيد وعبده.. (السيد/ عزمت أن أقوم بثورة... العبد/ أفعل يا سيدي ذلك، فاذا لم تفعل ماذا سيتبقى من شخصيتك (كرامتك)..... السيد/ لا، لن أقوم بثورة... العبد/ لا تفعل ذلك، فأن من يقوم بثورة يُعذب ويُكوى جسده بالنار ويودع السجن أو يُقتل)... ومن باب الترويع النفسي وابراز مدى سطوة السلطة الحاكمة، ملئ الملوك الآشوريين قصورهم بمنحوتات ضخمة، تزرع الرهبة والخوف في قلوب ناظريها، وبجداريات بانورامية صورّت مشاهد تنكيل الملوك بمعارضيهم الثوار، من تعذيب وتكبيل وجلد وقطع رؤوس وصلب على الخوازيق، كذلك صورّت الانتصارات واساليب الانتقام من المدن المتمردة، وما لحقها من دمار وحرق وخراب وتهجير لسكانها جزاء مغامرة عصيانها... بالمقابل فأن للشعب كان له رده على ذلك وأن كان بشكل أقل عنفاً، يتمثل أما بتحذير وتنبأ بمستقبل أسود ينتظر كل حاكم طاغ لا يرعى مصالح شعبه، وذلك بشكل أقوال وحكم كانت بمثابة نصائح لأولئك الحكام، نذكر بعضاً منها والتي تعود الى العصر الاشوري الأخير (القرن السابع ق.م)... (أذا لم يعبأ الملك بإقامة العدل في بلاده فستعّم الفوضى شعبه وتُخرب بلاده)، (أذا لم يُلبي الملك رغبات شعبه فأن بلاده سوف تثور عليه وحياته ستكون قصيرة)، (اذا حكم الملك على مواطن من شعبه ظلماً بالسجن، واذا سلب أموال البلاد وأختزنها في خزائنه وفرض الغرامات على الناس اعتباطاً، فأن شعبه سيثور عليه وتُخرب بلاده وتستبيحها جيوش الأعداء)... وأما أن يكون ذلك الرد بشكل أدعية، هي في حقيقتها زفرات غضب تُعبر بشكل صريح عن مدى مظلومية عموم الناس وكرههم لهؤلاء الحكام، منها هذا الدعاء الذي يعود الى أواسط الألف الثاني ق.م (عسى أن تلعن الإلهة (عشتار) سلطته (أي الملك)، وأن تبعد عنه أولاده، وتثير في مملكته الثورات التي لا يمكن اخمادها، وتسلط عليه جيوش الأعداء، ويبقى يسير ما تبقى له من عمر هائماً كالمجنون في البرية).

المصادر (القسمين الأول والثاني)..
1_ طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ... الجزء الأول
2_ طه باقر ... مقدمة في أدب العراق القديم
3_ طه باقر ... ملحمة كًلكًامش
4_ فاضل عبد الواحد علي ... الطوفان في المراجع المسمارية
5_ فاضل عبد الواحد علي ... سومر أسطورة وملحمة
6_ فاضل عبد الواحد علي ... عشتار ومأساة تُموز
7_ رضا جواد الهاشمي ... نظام العائلة في العصر البابلي القديم
8_ فوزي رشيد ... الشرائع العراقية القديمة
9_ كًوردن تشايلد ... التطور الاجتماعي ... ترجمة/ لطفي فطيم
10_ فردريك أنجلز ... أصل العائلة والمُلكية الخاصة والدولة ... ترجمة/ أديب يوسف
11_ صموئيل نوح كريمر ... من الواح سومر ... ترجمة/ طه باقر
12_ G. Contenau ... Everyday Life in Babylon and Assyria
13_ H. Saggs ... The Greatness that was Babylon
14_ S. N. Kramer ... The Sumerians
15_ S. N. Kramer ... The Sumerian Mythology
16_ T. Jacobsen & H. Frankfort ... Before Philosophy
17_ I. Diakonoff ... Ancient Mesopotamia
18_ J. Brinkman ... political history of Babylon
19_ H. Frankfort ... Kingship and gods
20_ H. Frankfort ... The Birth of civilization in the Near East
21_ E. Chiera ... They Wrote on Clay

نشرت في وجهة نظر
الأحد, 29 تشرين2/نوفمبر 2015 10:44

فلسفة الثورة في الفكر العراقي القديم ـ !

القسم الأول

لعل أبسط تعريف لمفهوم الثورة، هي عملية تغيير جذري وشامل في الواقع الانساني القائم، تفرضها ظروف وحاجات ومتطلبات عملية التطور، يتم على أثرها نقل ذلك الواقع من حال الى حال آخر يتماشى مع مسيرة الرُقي البشري، ويكون له تأثير بعيد المدى في الكيان الاجتماعي... وفق عمومية هذا القول واستناداً الى المنطق العقلي السليم، فأن المسيرة الانسانية خلال تاريخها الموغل في القِدم منذ ظهور طلائع الأنسان الأولى على الأرض قبل عدة ملايين من السنين وحتى يومنا هذا، لا يمكن التصور أنها وصلت الى ما وصلت اليه من ازدهار حضاري ومدني دون مرورها بمحطات تطورية ثورية متعددة، أسهمت بأحداث قفزات هائلة في بنية الأنسان الفكرية والاجتماعية نقلته بثبات الى ما هو عليه الآن... نذكر بعض من المشخّصة أنثروبولوجياً.. (ثورة صناعة الأدوات الحجرية في أفريقيا قبل حوالي 1,750,000سنة)، (ثورة اكتشاف النار في جزر جاوة (شرق أسيا) قبل حوالي 100,000 الف سنة)، (الثورة الزراعية في شمال وادي الرافدين (ثورة أنتاج القوت) قبل 10,000 سنة)، (ثورة الاستيطان المدني في جنوب وادي الرافدين (نشأة المدن) قبل 5500 سنة)، (ثورة التدوين والكتابة في جنوب وادي الرافدين (مدينة الوركاء) قبل 5200 سنة)، (الثورة الصناعية في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر الميلادي)........ وصولاً ل(الثورة المعلوماتية التي نعيش مجرياتها اليوم)... ويبدو من تتابع الثورات الانسانية بشتى أنواعها ومُسمياتها وتصنيفاتها، أنها كانت مرافقة ومتلازمة ومواكبة لعملية التطور الحضاري الذي أنتجه البشر، بل كانت المُحفز لنجاحها، لتكون الثورات أحدى السِمات التي مَيزت الأنسان أو (أبن الطبيعة الثائر) كما سماه (دارون)، وأكدت خصوصيته وتفوقه العقلي عن سائر المملكة الحيوانية.

أن الفكر الثوري لا يمكن فهم كيفية نضوجه وتبلوره في عقلية الأنسان العراقي القديم ألا من خلال فهم طبيعة واقعه البيئي والاجتماعي والاقتصادي والظروف العامة التي أحاطت حياته، وطبيعة الارض التي شيد عليها حضارته منذ بداية تكوين مجتمعاته القروية البدائية خلال الألف العاشر ق.م، وفيما بعد عند أنشائه أولى مدنه في أقصى سهل الرافدين الجنوبي... أن قساوة تلك البيئة الموحشة القاسية، المتناوبة بين قحط وجدب محدثة المجاعات تارة، وأمطار غزيرة يهّل معها الخير تارة أخرى، ثم الى فيضانات مُدمرة تُهلك الأرض ومن عليها، قد طبعت شخصية الأنسان الرافديني بنفس صورتها المتناقضة المُتطرفة تلك، من قسوة وغضب الى سَكينة وصفاء، وأجبرته أن يكون عنصراً متفاعلاً معها، ليتطور ذلك التفاعل فيغدو بهيئة صراع محتدم أخذ في معظمه شكل العنف، بين أرادة تلك البيئة وتطلعات الأنسان لأنشاء مجتمعه وكيانه الخاص الذي أيقن أنه لن يتمكن بنائه من دون ترويض ذلك الخصم اللدود واخضاعه لسيطرته، كي ينقل حياته الى واقع جديد يمسك زمام تسيير تفاصيله بيده... ومنذ ثورة الأنسان الزراعية في شمال وادي الرافدين التي ساهمت رغم اعتمادها بشكل كلي على ما تهبه الطبيعة من أمطار ومقدرات أخرى في استقراره اقتصادياً بعد أن جعلت منه كائناً منتجاً، وحتى زمن ابتكاره الكتابة بعد انتقاله الى جنوب وادي الرفدين وأنشاء أولى مدنه هناك، تطلب من الشعب الرافديني تغيير أسلوب كفاحه بشكل يتلاءم مع بيئته الجديدة التي أنتقل اليها، والعمل بديناميكية متصاعدة لكبح جماحها كي يشيد فيها مهد حضارته والمتمثلة باستصلاح الأراضي المغطاة بالأحراش، ومجابهة الحيوانات المفترسة الهائمة فيها، وأنشاء نُظم ومشاريع فعّالة ودائمة للري والبزل، والسيطرة على المجاري المائية لدرء خطر فيضاناتها... وقد أقتضى أنجاز كل ذلك توحيد الجهود البشرية وتجميع كافة الأيدي العاملة في تلك المجتمعات. لذلك فأن الأنسان الرافديني غدا عنصراً ملتحماً بالجماعة والطبيعة، بشكلٍ جَعله لا يستشعر وجوده الذاتي المستقل دون ذلك الواقع الذي فرضته الطبيعة عليه وفق مبدأ (الفرد للكل والكل للفرد)... ورغم محدودية معلوماتنا عن طبيعة تفكير الأنسان ونظرته الفلسفية للحياة خلال تلك الفترة (أي التي سبقت التدوين) والتي لا تتعدى الرسوم والنقوش التجريدية المنفذة على الأواني الفخارية لأغراض طقوسية خاصة، مثل رسوم الثيران والنمور والعقارب والأيائل وأشكال النسوة الراقصات وعمليات الصيد، وكذلك بعض الدُمى المصنوعة من الطين أو الحجر التي مثلت قوى غيبية خفية، بعضها لتقديس الأسلاف وبعضها لعبادة قوى الخصب وأخرى غير محدد أو مفهوم مغزاها، عُملت بأشكال وهيئات متنوعة لأغراض ممارسات طقوسية تعبدية صرفة، والتي تعود لفترات (حلف) و(سامراء) و(العُبيد) اللواتي يمتددن على مدى الألفين السادس والخامس ق.م، وحتى منتصف الألف الرابع ق.م... لكنها أشارت بوضح الى مدى تفكير وتأمل أنسان وادي الرافدين بواقعه الصعب، وفهم حقيقة وجوده الذي لا يمكن تغييره ألا من خلال الثورة عليه، وبينت أيضاً أن الأنسان بمقدراته المحدودة البسيطة آنذاك المتوافقة مع مستوى تفكيره، قد حدد بصور وأساليب عدة الاطار العام لمتطلباته التي أخذت بالتطور بشكل مضطرد مع رسوخ حضارته، وشخّص بدقة خصومته في هذه الدنيا التي قرر اعلان الثورة عليها، والمتمثلة بكل ارادة غيبية أو بشرية، مادية أو معنوية، تحاول خنق تطلعاته وتحجيم طاقته المتنامية لبناء كيانه الفردي والجماعي... وهذا ما يمكن استبيانه فيما بعد بوضوح من الأدب الرافديني بنصوصه المتنوعة (حكمة، ملاحم وبطولات، مناظرات، رثاء، أساطير....... الخ). أن هذا الأدب أضافة الى اعتباره الأقدم بين الآداب العالمية فأنه كان أولى محاولات الأنسان للتعبير عن ذاته وتطلعاته ومستوى تفكيره عن صراعه الدنيوي، بشكل يعّبر عن أحساس شعبي عام وليس من خلال وجهة نظر فردية... لقد واكب ذلك الأدب منذ تدوين أولى نصوصه في منتصف الألف الثالث ق.م (رغم أنه كان أدباً متناقل شفاهياً لقرون بعيدة قبل تدوينه)، قد واكب مع تتابع تطوره لغوياً وفكرياً وفنياً جميع الفترات التاريخية المتعاقبة على البلاد، والمتغيرات الهائلة التي لحقت في هيكلية بنائها الحضاري، والأسس التي بنيَّت فوقها أنظمتها السياسية القائمة على مفاهيم اقتصادية وفكرية (عقائدية دينية) معينة، كذلك التناقضات الكبيرة الحاصلة في بنيّة المجتمع نتيجة التباينات الكبيرة التي حدثت بين مكوناته الاجتماعية، كما أنه تعايش مع حِراك أفراد المجتمع باختلاف خلفياتهم وانتماءاتهم الطبقية مع تلك المتغيرات والتبدلات سلباً أو أيجاباً حسب ما حققته له من استقرار ورفاه في هذه الحياة... كما أن من أهم مميزات الأدب العراقي القديم أنه كان أدباً مُتداخلاً، أي أن النص الأدبي شعراً كان أم نثراً وأن كان يحمل في أطاره العام موضوعاً أو شكلاً خاصاً يهدف الى غاية محددة، لكن بين طياته كان معبئاً بكثير من الموضوعات الأخرى التي من خلال الفهم الصحيح لرمزيتها يمكن افراز أنواعاً عدة من الرفض الثوري للإنسان على واقعه، منها ما يدخل في الجانب الفكري أو العقائدي، ومنها ما يوضح بجلاء التمرد على السلطة السياسية الحاكمة، لكنها جميعاً رسمت شكل ومنهج الثورة على من أمتلك سلطة أعلى من سلطة الأنسان... ومن خلال ما تركه لنا ابناء الرافدين من تلك الكتابات أمكننا التصور أن المفهوم الثوري في العراق القديم قد أخذ منحاً تطورياً منطقياً مُتدرجاً، واكب التغيرات الحاصلة في عقلية الأنسان الرافديني بدأت باكورته مع انبثاق الثورة الفكرية ثم أعقبتها الثورة الاجتماعية، لتكوّنا هاتين الثورتين فيما بعد الأساس الراسخ للثورة السياسة الساعية لتغيير الأنظمة القائمة والمتسلطة على مقدرات المجتمع.

لقد تجّلت باكورة الثورات الفكرية الرافدينية بمحاولة الأنسان قلب المفاهيم السائدة التي فُرضت قسراً عليه، والتي اعتبرت خطاً أحمر لا يجوز المساس به كونه قدراً فرضته الآلهة على بني البشر، كما يتضح ذلك في معظم التراتيل الدينية (أن حكمة الآلهة مثل البحر العميق لا يمكن سِبر أغواره)، لنيات وغايات في دواخلها يصعب على البشر أدراك المغزى منه... أن مثل هذه الأفكار رغم أطارها الفلسفي الديني، ألا أنها في الحقيقة تخفي بين ثناياها أغراضاً سياسية واضحة سعت اليها الزعامات الدينية القبلية التي تولت تسيّير الشؤون العامة للتجمعات القروية البدائية، وفيما بعد عند أدارتها المدن الأولى في بداية نشأتها لتطبعها بطابع ديني متزمت، من أجل السيطرة على مجتمعاتهم الصغيرة من خلال احتواء عقول الناس وتكتيفها بذلك القيد الفكري بعد أن أضفيَّ على هذا الدهاء السياسي صبغة دينية، مانحين الدين طابعاً سياسياً... فتمثلت تلك الثورات بمحاولات التحرر من ذلك الاحتكار الفكري الذي استحوذت المؤسسة الدينية وجعلته في منأى عن عقول عموم الناس المتقوقعين ضمن أطارهم الضيق في مجتمعاتهم الزراعية وانتماءاتهم العائلية... ليبدا ذلك الصراع الثوري عند بدايات التنوع الاجتماعي في هيكلية المجتمع مع ظهور العبيد لأول مرة على مسرح الأحداث في منتصف الألف الرابع ق.م، وهؤلاء كانوا أما من أسرى المعارك التي تنشب مع القرى الاخرى، أو يتم شرائهم أو اختطافهم من المناطق الجبلية، وهذا ما أوضحته العلامة الكتابية الصورية الدالة على العبد، وهي عبارة رمز الانسان (ذكر أو أنثى) والى جانبه صورة جبل... وكان هؤلاء العبيد يعاملون كأشخاص مسلوبي الارادة وفاقدي الأهلية الاجتماعية، فأنيطت بهم الاعمال الشاقة في الزراعة واستصلاح الاراضي وكري الأنهار، بصورة من القهر بعيدة كل البعد عن معنى الانسانية، ليظهر بذلك بداية التنوع الاجتماعي وصراعهما متمثلاً بفئتين غير متكافئتين اجتماعياً (أحرار وعبيد)، ليعقبه فيما بعد مع مطلع الأف الثالث ق.م التنوع الطبقي بسبب تعدد المهن وقبر مبدأ (أنتاج الاكتفاء الذاتي)، فظهر السوق وحاجاته ومتطلباته، وظهرت الحرف الأخرى بمشاغلها وتخصصاتها المتنوعة الساندة للعملية الزراعية، والتي أنتجت بدورها العديد من الابتكارات الحضارية التي ساهمت في تغير ديناميكية تفكير الأنسان الرافديني، وفي مقدمتها ابتكار العجلة... لتظهر نتائج ذلك الانتصار الثوري فيما بعد مع ظهور الطبقة الوسطى المُنبثقة من خضم ذلك التنوع، والتي مزقت قيود ذلك الاحتكار بعد دخولها المدارس التي أنشأت في مطلع الألف الثالث ق.م لتنتزع بذرة الفكر وامتلاكها بعد جهد وصبر ناصية العلم، فأصبحت تقارع الحجة بالحجة مع واضعي (النواميس الإلهية المقدسة)، مؤسسة البدايات الأولى لنظرية (صراع الأفكار) سابقين بذلك (هيكًل) بعشرات القرون... لقد كان في مقدمة تلك الثورات محاولات التمرد والانتفاض على مبدأ قدرية الموت المفروضة على الأنسان والسعي لنيل الخلود الذي احتكرته الآلهة لذاتها، أي رفض التبعية لسلطة الآلهة والتحرر من وصايتها عليه... وقد سار في هذا المسعى الرموز الثلاث الأساسية من مكونات أي مجتمع وهي (القوة والجمال والحكمة)... فكان في المقدمة الشباب الأشداء، المتمثلين بالبطل (كًلكًامش) ورحلاته الخطرة ومغامراته التي جال بها بقاع العالم الواسعة وتحمله المخاطر من أجل قهر الموت والحصول على أبدية الحياة... ليعقبه الرمز الثاني متمثلاً بالفتيات الجميلات الحالمات مرموزاً لهن بإلهة الحب والخصب (عشتار) وكيفية نزولها المحفوف بالمخاطر الى عالم الأموات (العالم الأسفل) من أجل تحرير الموتى وأعادتهم للحياة... ليكون الرمز الثالث هو الأنسان الزاهد المترفع على جماليات الدنيا، والذي مُثل بالشيخ الوقور (أدبا) حكيم مدينة (أريدو) وعروجه الصعب الى السماء حيث موطن الآلهة من أجل معرفة سر خلودها... أن ذلك التنوع في قيادة السعي لمحو هاجس الموت يعطي انطباعاً بأن تغيير الأفكار السائدة كان مطلباً شعبياً يشمل كافة شرائح المجتمع الرافديني... ويتضح ذلك بجلاء من أن الباحثين الثلاث عن الخلود انما أرادوا الوصول لسر الخلود من أجل جميع بني البشر ولم يدر بخلدهم احتكاره أو المساومة به لأنفسهم، وهذا ما قاله (كًلكًامش) صراحة عند أيجاده نبتة الخلود (سأحملها معي الى (أوروك) ذات الأسوار.. وأشرك معي جميع الناس ليأكلوا منها)... وعلى الرغم من فشل جميع تلك المحاولات (الانتفاضات)، لكنها استخدمت بذكاء حاد نفس السلاح الموجه الى عقلية الناس.. فاذا كان الموت هو ما مُقدر على البشر ودنياهم فهو كذلك مُقدر على الملوك والحكام وأنظمتهم الحاكمة أيضاً مهما بلغوا من قوة، بمعنى آخر أنها قطعت الطريق أمام أولئك الحكام (ولو نظريا) ليترفعوا عن جنسهم الآدمي، كما أنها أعطت في ذات الوقت البديل المناسب لسمو الأنسان من خلال تخليد نفسه ومجتمعه حضارياً... ولو انتقلنا الى المرحلة الثانية ألا وهي الثورة الاجتماعية لرأينا أن أبن الرافدين بعد قناعته باستحالة الخلود وحتمية الفناء أخذ يتمسك بواقعه بشكل كبير، رافضاً منح حياته التي لن يعيشها مرتين لأي سلطة كانت مُصّراً أن يحيا تلك الحياة باستقلال وكرامة، موجهاً نظره الى المستقبل المعنوي وما يرمز اليه بتجدد الحياة، فغيّر مسعاه ليبّشر بفكرة التطور الانساني من خلال نبذ كل ما هو عتيق وبالي ولا يتفق مع المتغيرات الجارية في الحياة اجتماعياً واقتصادياً... حول ذلك طرح أفكاراً غاية في الشجاعة لاتزال تطرح وتناقش حتى يومنا هذا، بل أن بعض مجتمعاتنا العصرية تخشى حتى الخوض فيها، صوّرها الفكر الرافديني بشكل صراع محتدم بين اضداد، وهذه الافكار هي... صراع الأجيال، والصراع بين البداوة والتحضر، وصراع الأنسان ضد الفقر والقدرية الاجتماعية... لقد كانت قصة الخليقة البابلية التي دونت في مطلع الألف الثاني ق.م أوضح مثال على ذلك الصراع بين الجيلين القديم والجديد، الذي وصل حد الثورة والاقتتال الدموي بين الآلهة القديمة العجوز التي تقودها الإلهة (تيامات)، وبين الآلهة الشباب التي تزعمها الإله (مردوخ)، والذي انتهى في النهاية لصالح جيل الشباب الذي تولى بناء الحياة على أنقاض الفكر القديم، مؤكدين بذلك أن الحياة لا يمكن بنائها ألا وفق مبدأ التطور... كما كانت واحدة من أهم نتائج انتصار هذه الثورة هو عملية خلق الأنسان من أجل أن يُعمر هذه الأرض، مُبينة فكرة فلسفية رائعة مفادها أن المخلوقات البشرية ما وجدت ألا كنتاج منطقي لعملية التطور الثورية... واذا ابتعدنا عن رمزية عوالم الآلهة وانتقلنا الى العالم الواقعي حيث حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، فهناك مثال يعكس بوضح ذلك الصراع لكنه أكثر جرأة ووضوح وسلمية، ورد بشكل رسالة شكوى أبن على أبيه تعود الى فترة حكم سلالة أور الثالثة 2113_2006 ق.م، نذكر بعض مما ورد فيها.. (لقد أتعبني أبي.. هو لا يدعني أعيش كما أريد.. أنه يجبرني على الذهاب الى المعبد.. ويجبرني على أعمل نفس عمله وأرتدي نفس ملابسه.. ويجعلني دائماً أن أعيش مثل حياته وحياة أبيه.. متى يعرف أبي أن الدنيا قد تغيرت، وأن هذا الزمن هو غير زمانه وزمان أبيه.. سوف لن أطيع أبي وأهاجر الى مدينة ثانية)... ما ابلغ ما جاء في هذه السطور، أليست الثورة بعينها هي رفض الطاعة والانصياع للمفاهيم البالية؟؟ ولربما قد يصعب التصور أن هذا الكلام قد قاله أبن الرافدين قبل أكثر من أربعة آلاف عام... كما يأتي في سياق الثورة الاجتماعية أيضاً ذلك الصراع المحتدم بين مرحلتين في سُلم التطور الحضاري للإنسان، هما (البداوة) بما فرضته على الأنسان بعدم الاستقرار ومن ضيق في الأفق والتفكير، نتيجة اعتماده بشكل كامل على الطبيعة خاضعاً لنزواتها ومقدراتها كي تجود بعطاياها عليه، ليكون في ترحال وتجوال دائمين، وبين النقيض التام من كل ذلك ألا وهو (التحضر) بقراه ومدنه المستقرة، وما يجلبه للإنسان من رخاء اقتصادي وتطور ونضوج عقلي خلاّق جعل الأنسان في سباق مع الزمن لتعمير حضارته... وهذا نراه في المناظرة الكلامية البليغة بين الراعي (تُموز) الذي يمثل البداوة وبين رمز التحضر الفلاح (أينكمدو) التي تعود الى أواسط الأف الثالث ق.م، وكانت بهدف كسب حب رمز الخصوبة الإلهة (عشتار) التي تقول.. (أنا العذراء.. سوف لن يتزوجني سوى الفلاح.. الفلاح الذي يجعل النباتات تنمو بوفرة.. الفلاح الذي يجعل الغَلة تنمو بغزارة)، وفي مكان آخر من النص يقول (أينكمدو) ل(تُموز)... (في أرضي المزروعة دع غنمك تسرح.. وفي حقولي الخضراء دعها ترعى.. ومن جداولي المُنسابة دع جديانك وحملانك تشرب الماء)... وكان من نتاج ذلك التمايز الطبقي الذي أخذ يترسخ في بنية المجتمع الرافديني منذ مطلع الألف الثالث ق.م، ظهور الفقر ومظلوميته القاهرة تزامناً مع سيادة نظام الاقطاع خلال تلك الفترة التي كان المعبد عرابه الأول الأقوى، مستنداً بذلك الى قاعدة دينية قديمة مورثة من الحقبة القروية القبلية السابقة، زرعوها في عقول البسطاء لتخدم مصالحهم أولاً وأخيراً، مفادها (أن الارض هي مُلك الإله) أي أن العمل في الأرض هي في المقام الاول خدمة للآلهة وهو عمل بالغ القدسية (له أجره عند الآلهة)... وقد تمت شرعنة تلك الأفكار بعد النمو الكبير للمدن وغدت بشكل دويلات متحاربة كل واحدة تتبعها عدد متفاوت من القرى بما استحوذت عليه من الأراضي الزراعية نتيجة تلك الحروب، وكانت هذه النزاعات أحد أهم صفات الفترة المُسماة عصر فجر السلالات 3000_2370 ق.م... عند ذاك غدى حجم فئة العبيد لا يتناسب مع متطلبات ذلك النمو، وظهور الحاجة الى أيادي عاملة أخرى من طبقة الاحرار لتمتد الأيادي اليها. وبطبيعة الحال كانت الطبقة الفقيرة من المزارعين والمُعدمين هي الحلقة الأضعف في المجتمع رغم صفتهم القانونية كأحرار، مستغلين فقرهم وفاقتهم ليكونوا ضمن قيد الاستغلال هذا، وذلك مقابل مواد عينية شحيحة لا تكاد تسد الرمق، تُمنح بشكل جرايات خلال فترات معينة من العام لأولئك البائسين الذين سموا في السومرية (كًوروش)، والتي لا تتعدى بضعة أكيال من الشعير والحبوب الأخرى، أضافة الى بضع جرار من الزيت والنبيذ البخس... ليُجعل من هؤلاء أقناناً أشبه بالعبيد مسلوبي الحرية والارادة بعد أن تم تجريدهم من قوَتهم الاقتصادية بالكامل، حتى أنهم لقبوا في السومرية (أيكًينودو)، وتعني الشخص الذي لا يستطيع رفع رأسه الى الأعلى أي (الذليل)... وقد صوّرت النصوص المسمارية بعض من تلك المعاناة القاسية لهؤلاء المظلومين.. (الفقراء هم الصامتون وحدهم في بلاد سومر)، (أولى بالفقير أن يموت من أن يعيش، فاذا حصل على الخبز عدم المأوى، واذا حصل على الملح عدم الخبز، واذا كان لديه بيت عدم الفراش).. (لكي يعيش الفقير فأنه يبيع أولاده)، (يلبس الفقير دوماً الملابس القذرة)، (يقترض الفقير فتركبه الهموم)... من كل هذا الجَور حتماً كان يتولد الرفض لتلك القدرية القاهرة البعيدة عن العدالة التي فُرضت على هؤلاء المُستضعفين دون أية مسوغ أخلاقي، لتتم ثورتهم على ذلك الحال الذي أرسخت قواعده السلطة الإلهية بعد أن أوصّلتهم الى حالهم المُزري الذي جَردهم الصبر والشعور الانساني... لنقرأ ما يرد في النصوص الأدبية التي أشارت الى رفض صريح لإرادة الآلهة.. (ليس كل أولاد الفقراء مُستسلمين خانعين لأوامر الآلهة على الدوام)، (ما جدوى الصلوات والقرابين اذا بقي الفقير على حاله)، (رغم تعبدي فقد كتب عليّ إلهي الفقر والبؤس.. منذ الآن سوف لن أنصاع لأوامر الآلهة، وسوف أدوس على شعائرها بقدمي)... ويتضح من ذلك أن الاحتجاج على مُقدرات الآلهة بسبب ازدواجيتها في توزيع الرفاه الاجتماعي ما هو في الحقيقة إلا رفض للواقع السياسي الذي يقوم على أساس الأيمان بوحدة الحاكم والإله المُستند الى قاعدة التفويض الإلهي... لكن أبلغ ما يوضح صراع اولئك البائسين هي تلك الحكاية الهزلية التي يعود زمن تدوينها الى فترة سلالة أور الثالثة، والتي عرفت باسم (فقير نفر).. ببطلها الفقير المُعدم (كًيمأيل ننورتا) الذي لا يمتلك أي شيء في هذه الدنيا سوى بؤسه، لكنه رغم ذلك أستطاع بذكائه من قهر وأذلال حاكم المدنية المُتسلط بما أمتلكه من قوة وجبروت، وتمكنه من استرداد حقه المغتصب أضعافاً مضاعفة. أن اهم ما بينته هذه الحكاية أن مفهوم العدالة حق للإنسان وليس منّة أو هِبة تمنح له من قبل أحد، وأن على الأنسان ان يثور ضد من يبغي سلبه ذلك الحق.

نشرت في وجهة نظر
الأحد, 29 تشرين2/نوفمبر 2015 10:35

الغذاء وتناقض الآراء

كل إسبوع أو أقل أقرأ مقالاً ، بحثاً أو تقريراً حول التغذية والغذاء الصحي وفوائد الغذاء الفلاني ومنافع الغذاء الفلتاني !!! وهذا يقلل السمنة وذلك يطيل العمر وتلك تمنع الإصابة بالأمراض ومنها السرطان والسكّر وأمراض القلب (أبعدكم الله عنها ) !!! وعند عدِّ أنواع الغذاء وفوائدها لاتكفيها ( دفتر أبو المية ورقة) فالخضروات كثيرة جداً ولكل نوع منها فائدة وكذلك الفواكه وأنواعها العديدة جداً والأعشاب واللحوم وأنواع الغذاء البحري والطيور والحبوب والبهارات والكرزات وما أكثرها وتنوعها وكذلك منتجات الحيوانات كالحليبوالبيض والعسل وما أدراك ما العسل ! و و و غيرها من المواد الغذائية – هذه تحتوي على الفيتامينات وتلك تحتوي على الأملاح والمعادن والأخرى فيها بروتينات وتلك فيها الكربوهيدرات وما بينها تحتوي على السوائل المفيدة و الملونة خزين لمضادات الأكسدة وضد الكوليسترول ومجددة للشباب ومنشطة للحيوية وإدامة الحياةوهلمَّ جراً ---- والشيء الغريب بالبحوث هو بحث يناقض بحثاً فقبل فترة كنت أقرأ إن القهوة ترفَعْ ضغط الدم وحذاري منها ؟ وبنفس الإسبوع أقرأ بحثاً آخر يؤكد الباحثين فيه إن القهوة تُخفِّض من ضغط الدم !!! عجيب ؟ لوكانت الفترة الزمنية طويلة بالإمكان القول كانت معلومات قديمة والآن تمَّ تصحيحها ! ولكن لايزال الأطباء يؤكدون القهوة تسبب إرتفاع الضغط والآخرين يؤكدون العكس ! فترى نتبع مَن ؟ لقد كتبت في مقالة سابقة قديمة بعنوان " كُل ما تشتهي " وفي مقالتي هذه أُريد النتأكيد على بعض الملاحظات المهمة المختصرة حول الغذاء والتغذية الصحية وعلاقتهما بأعضاء الجسم الأخرى كالهورمونات والأنزيمات والدماغ والحالة النفسيةوالأمراض التي يعاني منها وكذلك الموقع الجغرافي- أهالي الجبال أو الصحراء أو قرب البحار...؟؟؟ حيث هناك إرتباط وثيق بينها ولها تأثير كبير – لأن للهورمونات والأنزيمات تحفيز على عملية هضم وإمتصاص وتمثيل الغذاء فهورمون الثايروكسين على سبيل المثال الذي تفرزه الغدة الدرقية يحتوي على اليود الذي تمتصه الغدة مباشرة من الغذاء أوبشكل غير مباشر من الكبد ويُعتبر السمك من المصادر الغنية باليود ولهذا الهورمون تأثير على تمثيل الكربوهيدرات والدهون والبروتينات وعلى نمو الجسم وعلى مزاجه وحركته وعقله ( بالذات على الأطفال مسبباً تخلفاً عقلياًعند قلَّته - وضعف في القوى الجسمية والجنسية عند الكبار) وهناك فرق واضح بين الذين يتناولون السمك بكثرة وخاصة البحري وبين الذين لايتناولونه وهنا يجب أن نعرف ما للدماغ من تأثير وتحفيز كبير على الغدد وما تفرزه ( الهورمونات) وعلى كل أعضاء الجسم وتنظيم وتنسيق دقيق لكل فعالياته وتصرفاته وعلى سبيل المثال السابق فإن الدماغ والغدة النخامية التي تحته - لهما تأثير على الغدة الدرقية وإفرازها لهورمون الثايروكسين وما تأخذه من الغذاء--- وكذلك تنطبق الحالة على بقية أعضاء وغدد الجسم ! فليس كل ما يُقال في البحوث والمقالات هو الصحيح مائة بالمائة كما في مثال القهوة ! والصحيح هو تناول مامتوفر لديك من طعام ولا تأكل حتى الشبع وكُل ماتشتهي (على أن لايؤثر على حالتك المرضية) وكُل وأنت مرتاح وليس بحالة نفسية مُتعبة ولاتهتم بنوع الغذاء كثيراً فمعظم المواد الغذائية تحتوي على ما يحتاجه الجسم وعلى الدماغ ( هذا الجهاز الرهيب) الإيعاز لأعضاء الجسم والغدد والأنزيمات لتأخذ حصتها من البروتينات والأملاح والفيتامينات وغيرها بشكل عادل ومحسوب بشرط أن لاتتجاوز كما قلت حدود المعقول وحد الإشباع( كُلشي يتجاوز حدَّه ينقلب ضِدَّه)
وستين ألف صحة وعافية لكم

 

نشرت في وجهة نظر
السبت, 21 تشرين2/نوفمبر 2015 22:03

نظرة على الطب في العراق القديم

لم تعرف أو تحدد البدايات الأولى لطبيعة الطب في العراق القديم وتفاصيل ممارسته في العصور التي سبقت التاريخ، لذلك تبقى معرفتنا فيما يخص تلك الفترات من باب التصورات والتكهنات المنطقية لا أكثر. مع هذا واستناداً الى ما كشفته التنقيبات الأثرية والبحوث العلمية في هذا الخصوص يمكن القول أن أول ممارسة طبية واضحة تم الاستدلال اليها، والتي كانت بمثابة نوع من التداخل الجراحي قد عرفت مع أنسان (النيادرتال)، الذي عاش في شمال العراق قبل 60,000 الى 25,000 سنة. حيث كان قد عُثر في كهف (شانيدار) على عدد من الهياكل العظمية لذلك الأنسان، وبعد دراستها وأجراء الفحوص الطبية والمختبرية عليها تبين أن أحداها قد تم قطع ذراعه عند أسفل الكتف بأداة حادة، في الغالب كانت سكين من حجر الصوان، وقد ثبت أيضاً أن تلك الذراع كانت مصابة لسبب ما بموت الأنسجة (الكًنكًرين)، فتمت عملية القطع تلك لإنقاذ حياة ذلك المصاب، لتأتي هذه الممارسة البدائية في مسعى غريزي من قبل الأنسان للتمسك بالحياة والحفاظ على جنسه وديمومة نوعه البشري.
وفي العصور التاريخية زودتنا النصوص المسمارية الواردة الينا منذ منتصف الألف الثالث وكذلك الألفين الثاني والأول ق.م بمعلومات لا بأس بها عن الطب وكيفية مزاولة مهنته خلال هذه الفترة، كما رسخت تلك المعلومات ما كشفته التنقيبات الأثرية في العديد من المواقع الأثرية في وادي الرافدين، سواءً داخل عدد من القبور أو في بعض الأبنية الصغيرة، وذلك بعثور المنقبين على أدوات دقيقة مثل مشارط وملاقط وكلاليب وأبر، كلها بأشكال وأحجام مختلفة كانت مُصنّعة بدقة وعناية، بعضها كان من النحاس والبرونز والبعض الآخر كان من الحجر أو العظم، تبين أنها تستخدم في العمليات والممارسات الطبية الجراحية، كما تم العثور أيضاً على الكثير من الأواني والقوارير الفخارية المختلفة الأحجام والمتنوعة الأشكال والاستخدام، ثبت بعد تحليل بقايا محتوياتها أنها مخصصة لبعض الخلطات العشبية المستخدمة في التداوي الطبي ومعالجة بعض الحالات المرضية.. لكن ما يؤسف له أن تلك التنقيبات رغم بداياتها المبكرة لم يرافقها دراسات علمية مُمنهجة للهياكل العظمية المكتشفة داخل القبور لمعرفة أسباب وفياتها، والذي من شأنه يعرفنا بطبيعة الأمراض الشائعة في هذه المنطقة من العالم خلال تلك الفترة، عكس الحال مع الدراسات الفرعونية في وادي النيل حيث جرت هناك ابحاث طبية رصينة على عدد كبير من المومياوات قادت الى نتائج باهرة في استبيان طبيعة الأمراض الشائعة هناك منذ أقدم العصور.
لقد وضحت النصوص المسمارية بشكل أدق وأكثر تفصيلاً طبيعة مهنة الطب وطبيعة عمل الأطباء في العراق القديم، كما بينت مدى شهرة الطب الرافديني وسعة أنتشاره في مناطق عديدة من العالم القديم، وذلك من خلال اكتشاف العديد من النصوص الطبية المدونة بالأكدية (بابلية وآشورية) في تلك المناطق، مثل بلاد الشام وهضبة الأناضول وايران وأرض النيل، ويُعتقد أن الكثير من الممارسات الطبية التي أتبعها مشاهير أطباء اليونان استندت الى قواعد وأصول الطب الرافديني، والذين استخدموا نفس المصطلحات الطبية التي كان يستخدمها أسلافهم أبناء الرافدين بما فيها أسماء الأدوية والعقاقير الطبية. والجدير بالذكر هنا كلمة (مرض) العربية ترجع الى أصل سومري هو (مَرَس) الذي أنتقل بدوره الى الأكدية بهيئة (مُرصو).... لقد بينت النصوص الطبية الرافدينية ما أعتقده العراقيون القدماء من أن المصدر الرئيسي للأمراض هي الشياطين والأرواح الشريرة، لذلك بالمقابل أصبح مصدر الطب وملهمه هي الآلهة (حامية البشر)، والتي اليها يعود الفضل بالشفاء من تلك العلل التي يصاب بها الأنسان... وكان الاله (أنكي) بالسومرية ويقابله بالأكدية الاله (أيا) اله المياه والحكمة هو بنفس الوقت اله الطب والأطباء. أن لعلاقة هذا الاله بالطب ذو مغزى ودلالة فلسفية كبيرة لدور الماء الكبير في ذلك، كونه أساس الحياة ومنبعها. ويتجلى هذا المفهوم بوضوح من خلال التسمية التي عُرف بها الطبيب، حيث سمي بالسومرية (آزو)، ثم انتقلت نفس التسمية الى الأكدية بهيئة (آسو)، والتي تعني في الاثنتين (العارف بالماء).. في حين سميّ الطب بمفهومه العام (آستو).... مع تطور المفاهيم الطبية أفرزت المعتقدات الدينية الرافدينية إلهاً خاصاً لمهنة الطب هو الاله (ننكًزيدا) الذي لُقب بالسومرية باسم (ننآزو) ويعني (سيد الأطباء)، وكان يرمز له في المنحوتات وصور الأختام الأسطوانية بأفعى مُلتفة على عصى والمستوحى شكله من فكرة وفلسفة الخلود الواردة عِبرتها في خاتمة ملحمة (كًلكًامش) الخالدة، علماً أن هذا الشكل لايزال يستخدم حتى اليوم رمزاً للطب وشعاراً للمؤسسات الطبية في جميع بلدان العالم.
انقسمت الاجراءات الطبية في العراق القديم الى نوعين... الأولى تتمثل بممارسات خاصة يقوم بها المشعوذون أو صنف خاص من الكهنة يعمل تحت أمرة المعبد يدعى بالأكدية (أشيبو)، الغاية منها طرد الشياطين الخبيثة والأرواح الشريرة المسببة للمشاكل الصحية (كما سبق ذكره)، والتي كان يُعتقد أن الآلهة هي التي تسلطها على الناس لغضبها عليهم لإثم ما اقترفوه، أو لعصيانهم تعاليمها. فاستخدموا لدرئها والشفاء منها أنواع شتى من أساليب التعزيم والتعويذ وعمل الرُقي والأحراز، وغيرها من الأمور التي تدخل في جانب السحر.... ويعتقد بعض الباحثين أن هذا الأسلوب من العلاج كان بمثابة البذرة أو النواة الأولى لنشوء الطب النفسي.... أما الثانية فهي تلك المتعارف بأسلوبها العلاجي العلمي المادي والملموس.. وقد أنقسم الأطباء في هذا الجانب الى نوعين، الأول كان يعمل في ما يشبه الحانوت أو العيادة البدائية يستقبل فيها المرضى ومن لديه مشكلة صحية ليقدم لهم فيها العلاج اللازم مقابل أجر معلوم. أما النوع الثاني فكانوا يسمون الأطباء الجوالين، وهؤلاء كانوا يتنقلون بين الأحياء السكنية أو بين المدن بأزياء خاصة تميزهم حاملين ما يحتاجونه من أدوات وأدوية وعقاقير بسيطة عارضين خدمتهم على عموم الناس لقاء أجر، وقد أظهرت صور عدد من الأختام الأسطوانية المكتشفة في مدينة (لكًش) السومرية المؤرخة الى 2200 ق.م، كما وصفت أيضاً بعض النصوص الأدبية السومرية هيئات هذا النوع من الأطباء برؤوسهم الحليقة وحقائبهم وملابسهم المميزة.. وعلى الرغم من أنه لم يعثر لحد الآن خلال التنقيبات التي أجريت في وادي الرافدين على مخلفات بنائية تشير آثارها على أنها كانت مؤسسات تعليمية تعلم وتدرب مهنة الطب، لكنه تم الاستدلال على وجود مثل هذه المؤسسات من خلال بعض الرسائل المتبادلة بين أمراء مدن وادي الرافدين خلال الألف الثاني ق.م، والتي أشارت بوضوح الى مدينتين عريقتين هما (الوركاء) و(بورسبا) قد احتويتا معاهد تعلم الطبابة، كذلك يمكننا الافتراض دون تردد أن هذه المهنة خصوصاً في البدايات الأولى لنشأة المدن كان يتم تعلمها بشكل شخصي أو أنها تنتقل بالتوارث كحال المهن الأخرى من الاباء الى أبنائهم، ومعها كل أسرارها وخفاياها، ومن المنطقي جداً الافتراض كذلك أن النصوص الطبية العديدة التي عثر عليه خلال التنقيبات والتي خلفّها أطباء العراق القديم بمختلف أنواعها في أماكن منظمة وبشكل مؤرشف، لم تكتب اعتباطاً أو للتسلية، بل من أجل تدريب وتعليم الأطباء الجدد، ومن كانوا في خطواتهم الأولى لتعلم هذه المهنة، وأن تلك النصوص كانت بمثابة مراجع لتدريبهم والاستزادة بمعرفتهم وخبرتهم العملية... كان الأطباء على درجات متفاوتة في عملهم، حسب خبرتهم وتخصصهم، فمنهم الطبيب العادي الذي يدعى (آزو) أو (آسو)، أو أن يكون بدراجة مهنية متقدمة كالطبيب الاختصاصي أو رئيس الأطباء والذي سميّ بالسومرية (آزوكًال)، وبالأكدية (رابآسي).. وكذلك يجب أن لا ننسى الأطباء الذين لايزالون تحت التدريب، والذين يطلق عليهم بالأكدية (آسوأكًاشكًو).. وكان هؤلاء الأطباء على اختلاف درجاتهم يجتمعون في تجمعات صغيرة أشبه بالنقابات لتنظيم عملهم وتحديد أجورهم حسب تخصصاتهم ودرجاتهم. وكان يترأس هذا التجمع كبير الأطباء في المدينة، والذي يكون عادة أقدمهم في هذه المهنة وأكثرهم خبرة ودراية بأمور التطبيب. وقد أوردت النصوص الطبية والقانونية أسماء عدد من تخصصات الأطباء منهم الجراحون، مجبري العظام، أطباء العيون الذين يسمون بالأكدية (آسوأيني) والأسنان وكذلك الأطباء البيطريين.. كما وردت أشارت الى طبيبات من النساء كن مختصات بالقبالة وعمليات التوليد، وأيضاً علاج ورعاية المشاكل الصحية النسائية... كما حددت القوانين العراقية القديمة العقوبة المترتبة على الطبيب الذي يخطأ في علاجه أو يهمل في رعاية مرضاه مما يؤدي الى أحداث أذى أو عاهة لدى المريض والتي تصل أحياناً لدرجة قطع اليد.. وهذا تماماً ما نصت عليه المادة 218 من قانون الملك الشهير (حمورابي) 1792_1750 ق.م حيث تقول (أذا أجرى طبيب عملية لمريض بسكين العمليات وتسبب بوفاته، أو فتح محجر عين مريض وأتلف عينه، فعليهم أن يقطعوا يد الطبيب)... وكانت مهنة الطب من المهن الراقية في المجتمع العراقي القديم وينظر الى ممارسيها بكثير من الاحترام والتقدير. كما كان عدد من الأطباء لهم صفة رسمية يلحقون بالقصور الملكية لعلاج العوائل المالكة، وبعضهم كان يرافق الملوك والأمراء لدى سفرهم أو حروبهم، وكان الطبيب هو أحد ثلاثة يستلزم وجودهم الدائم مع الملك أو الأمير الى جانب كبير الكهنة والمُنجم. وهنا لابد من التنويه الى اهمية وجود الاطباء مع الجيوش خلال المعارك لعلاج الجرحى والمصابين من المقاتلين...وتشير بعض النصوص القانونية من الفترة الآشورية خلال الألف الأول ق.م الى وجود أطباء ملحقين بالمحاكم أو معتمدين لديها، يقومون بتحديد مدى الأضرار الجسدية التي تنشأ عنها الدعاوى القضائية التي ترفع لتلك المحاكم، ويبدون رأيهم الطبي بشأنها للقضاة الذين يبتون بأمرها.. ويمكن اعتبار ذلك البدايات الأولى للطب العدلي في التاريخ.
لقد كشفت النصوص المسمارية أن أطباء العراق القديم قد توصلوا الى معلومات مهمة ومعرفة ممتازة عن تكوين جسم الأنسان وطبيعة ووظيفة أعضائه الخارجية والداخلية، وذلك من خلال خبرتهم الممتازة بعلم التشريح، وبالتالي عرفوا الأمراض التي تصيب الجسم من خلال تشخيص الأعراض التي تبدوا على تلك الأعضاء مثل حرارة الجسم، لون الجلد والعينين، لون البول والدم، تشنجات الجسم ومدى قابليته على الحركة.. مثل النص الآتي (أذا كان جسم المريض أصفر، ووجهه أصفر، وعيناه صفراوتان، وبشرته مترهلة، فأنه مصاب باليرقان).. وعرفوا أيضاً بعض الحقائق عن الدورة الدموية ومدى تأثير ضغط الدم على الأنسان بعد أن عرفوا كيفية جس النبض وحساب ضربات القلب.. كما أسمو بعض الأوعية الدموية بأسماء لازالت مستخدمة حتى يومنا هذا مثل كلمة (شريان) العربية التي وردت بالأكدية بهيئة (شريانو).... من جانب آخر فقد عرف أطباء العراق القديم مختلف أنواع الأدوية والعقاقير وتركيباتها المناسبة لعلاج كل مرض والتي تنوعت موداها الأولية بين نباتية (أعشاب، بذور، لحاء أشجار، عصارات ومنقوعات بعض الفواكه والنباتات....الخ) وحيوانية (دهون، دماء، عظام مسحوقة، بعض الأعضاء المجففة....الخ) وكيمياوية (الملح، الشب، مسحوق بعض الأحجار والترسبات الكلسية والطينية....الخ)، لكن تبقى النباتية منها هي المصدر الرئيسي للتركيبات الدوائية، ويُستدل على ذلك أضافة الى طبيعة معظم الخلطات، من كلمة (شمّو) التي تعني بالأكدية (نبات أو عشب) كانت تعني أيضاً (دواء).. وذكرت النصوص أيضاً طرق أعداد تلك العقاقير وكيفية صناعتها وتهيئتها أما يدويا عن طريق السحق والخلط والمزج مع مواد أخرى، أو كيميائياً عن طريق التقطير والترشيح والتركيب.. على سبيل المثال هذه الوصفة (الصبر دواء لعلاج المرارة، يسحق ويدق ويسخن ويشرب قبل الفطور مع الزيت المُصفى).. وقد أمكن تحديد عدة أساليب تم أتباعها لعلاج المرضى، تبدأ بالعلاج بالعقاقير والتمريض وتنتهي بالعلاج العملي، كالتداخل الجراحي والترميم الجسدي كحالات كسور العظام وخلع المفاصل.. لقد خلف أطباء وادي الرافدين العديد من النصوص الطبية التي تبين أسلوب عمل الطبيب من خلال تبيان مراحل علاجه المرضى، فتكون أولى المراحل مقتصرة على فحص المريض ورأي الطبيب في المرض من خلال تحديد فرص الشفاء من عدمها.. على سبيل المثال.. (أذا كان المريض أعضائه مشلولة، وكان ينزف دماً من فمه، فأنه سيموت)... (أذا كان المريض حاجباه أبيضين ولسانه أبيض، فأن مرضه سيطول لكنه سيشفى)... أما المرحلة الثانية تصف المرض وأعراضه بدقة وكذلك أسلوب علاجه الناجع دوائياً كان أم عملياً، فمثالاً على العلاج الدوائي... (المريض المصاب بالسعال، علاجه أن يشرب عِرق السوس المسحوق والممزوج مع الزيت والخمر).. (المريض المصاب بألم الأسنان، علاجه أن يوضع على الضرس المصاب ورد عين الشمس).. (المريض المصابة ذراعه أو ساقه بضربة، علاجه أن تسحق جذور (العشبة الحمراء؟؟) مع القير والبيرة، ويوضع على المكان المصاب بعد دعكه بالزيت بشكل وسادة (أي كمّادة)).. (أذا كانت معدة أنسان مضطربة ولا تتقبل أي طعاما أو شراب، تأخذ بذور الطرفاء وتمزج مع العسل واللبن الخاثر.. يأكلها المريض فيشفى).. وعلى نفس السياق فأن هناك العديد من الوصفات الدوائية التي رُتبت حسب أعضاء الجسم والأمراض التي تصيبها، مثل الرأس، العيون، الأنف الحنجرة، الصدر والبطن والمجاري البولية، الأمراض الجلدية، الأمراض الصدرية والبطنية، أضافة الى العديد من الأمراض التي لم يتم تحديد أسماءها بدقة حتى اليوم، بسبب ضبابية ترجمة معانيها وغموض ما كان يقصد بتلك الأسماء.. بالمقابل تنوعت أيضاً أساليب اعطاء تلك الأدوية، فقد تكون عن طريق الفم شرباً أو أكلاً، أو طريق الحقن في الشرج أو المنخر أو الأذنين أو القضيب، وكان يتم ذلك أما بواسطة قصبة رفيعة أو أنبوب رفيع معمول من النحاس أو البرونز.. كما كان تغطيس المريض بالسوائل الحارة ودهنه بمختلف أنواع المراهم واستنشاقه أبخرة بعض المستحضرات والخلطات العشبية أساليب أخرى مضافة من طرق اعطاء الأدوية... أما الأسلوب الثاني وهو العلاج العملي فقد ورد كذلك اضافة لما سبق العديد منها، مثل إزالة الماء الأزرق من العين و التضميد وخياطة الجروح وايقاف حالات النزيف وبتر الأطراف التالفة والمصابة بالتسمم، كذلك بدايات العمليات القيصرية، والتي كانت تجرى في محاولة لإنقاذ حياة الجنين من بطن المرأة المتوفاة..... وبنفس الوقت فقد أهتم الأطباء بطعام المرضى وما ينصح بتناوله أو تجنبه من قبلهم خلال فترة المرض.. مثلاً (على المرضى الذين لديهم مرض في عيونهم عدم أكل (الكرّاث) و(الكزبرة)، والذين يشكون الماً في آذانهم عدم أكل الباقلاء).
ولعل أجمل وأطرف ما يمكن أن يختتم هذا الموضوع هو ما ورد في أحد النصوص الطبية التي تعود الى مطلع الألف الثاني ق.م لأحدى الأعراض المرضية ومن ثم تشخيص علتها... ((أذا أعتلى الحزن بإنسان رجل كان ام امرأة، وغدا لا يستسيغ تناول الطعام أو شرب الماء، وكان يتكلم باستمرار مع نفسه، ويضحك لسبب أو بدون سبب، ويقول دوماً (آه يا قلبي) ويستمر بالأنين..... فأعلم أنه مصاب بمرض الحب)).

نشرت في وجهة نظر