• Default
  • Title
  • Date

تنطلق عملية التنشئة الاجتماعية من المجتمع ذاته ، حيث يندمج مفهوم الفرد مع مفهوم المجتمع ، وبالرغم من أن التنشئة الاجتماعية تمتد كعمليات تعلم في مراحل الفرد المختلفة ، فإن مرحلة الطفولة تحسب من أكثر المراحل حساسية وتأثرا بها . 

وتعتبر الأسرة ، أولى هذه الجماعات وأهمها وأقواها أثرا وسلطانا على الفرد ، وكل طفل يولد في اسرة ، تكون لها أساليبها السلوكية الحاضرة وما ترتضيه وتقبله من القيم والاتجاهات ، كما أن الأسرة قد تتشابه أو تتفاوت فيما بينها من حيث الأساليب السائدة أو المقبولة من أساليب السلوك ، التي حددت بأربعة أنماط شائعة :

•النمط التسلطي : ويتميز هذا النمط بالضبط الحازم والحاسم ، وإصدار الأوامر وإيقاع الأذى ( العقاب ) المتكرر، وعدم الاستماع الى الطفل ، والبرود ،والتأكيد على القواعد السلوكية على أنها قواعد فقط .

•نمط الضبط التربوي : ويتميز بالضبط المعتدل ، والحزم من غير عنف ، التواصل ، الحب ، إيقاع العقاب البدني أحيانا بهدف تقويم اعوجاج معين ، مكافأة السلوك الجيد ، إعطاء تفسيرات للقواعد التي ينبغي اتباعها ، التناغم ، والإنجاز فيه يعتمد على التهديد تارة والوعيد تارة أخرى بالمكافأة وعدم الخوف من نشوب صراع أحيانا بين الوالدين والطفل .

•نمط ترك الحبل على الغارب ( التساهل المفرط ) : ويتميز هذا النمط ، بالدفء دون صرامة ، ووجود قليل من القواعد السلوكية ، ندرة العقاب ، عدم الثقة في مهارات الأطفال ، أو عدم الثبات في المعاملة .

•النمط المهمل : وهو ترك الطفل دون توجيه وعناية ، وفيه يستمد الطفل خبراته عن طريق المحاولة والخطأ ومن تجاربه العملية في الحياة، ولا يملك قواعد أو سلوكيات معينة ، إذ لم يستقي من والديه أي توجيه يذكر .

إضافة الى هذه الإستراتيجيات الثلاثة ، توجب الإشارة الى بعض ممارسات الوالدين ، مثل التناقض في المعاملة ، فالأم تترك الحبل على الغارب ، بينما الأب يمارس سلطوية فعلية ، أو العكس ، إن هذا التذبذب في المعاملة يتيح للاضطرابات الكلامية أن تترك أثرا في نموه اللغوي والمعرفي والاجتماعي. .

إن مشكلة الاضطرابات الكلامية ، ومنها التلعثم ، مشكلة متغلغلة في تاريخ الأنسان منذ أكثر من 2500 سنة مضت ، حيث يرى كثير من الباحثين ، أن نبي الله ( موسى )(ع) كان يعاني من التلعثم في الكلام ، بينما تذكر التوراة ، أنه كان بطيء الكلام ، وقد ذكر الإنجيل والقرآن الكريم أنه كان يعاني من صعوبات في الكلام .

ثم جاء ابن سينا ، وتناول هذه الظاهرة وأرجعها الى أسباب نفسية واجتماعية .

أما العلاجات الحديثة ، فقد ظهرت في بريطانيا ، في العهد الفكتوري ، على يد ( جيمس ثيلويل ) ، فقد اعتمد على العقاب البدني للمريض ، ووصف الذين يعانون من التلعثم ، في أول كتبه ، على أنهم يعانون من القلق والتوتر .

أما من وجهة نظرنا ، فنرى أن الطفل يواجه بعض الصعوبات التي قد تثير التلعثم لأسباب منها ، 

•تطور اللغة نفسه ، خلق لدى الطفل ضغوطا كثيرة ، فهو مطالب من قبل الأهل والمحيطين به ، بمعرفة أكبر قدر ممكن من الكلمات كي يستطيع الأهل أن يتباهوا بما يعرف طفلهم من معلومات أمام الآخرين .

•الأصوات التي ينطق بها الطفل في بداية حياته ، هي قليلة ومحدودة وتسبب له عملية الضغط التي يمارسها الكبار ، إرهاقا وضغطا ، هو في غنى عنه ، فهو مثلا ينطق حرف ( الراء ) ، ( واوا ) ، وحرف (الكاف ) ، ( تاءا ) .. ويعد هذا نطقا طبيعيا للنمو اللغوي للطفل في بداية تعلمه أصول الكلام والنطق بشكل جيد .

• اكتساب العادات السيئة في النطق ، من حيث حذف بعض حروف الكلمة ، أو الإضافة ، أو الإدغام ، أو قد يظهر حرف ليس في موضعه الصحيح ، وقد يستمر لديه النطق الخاطئ حتى بلوغه سن السادسة من العمر ، فعندما يجيء وقت القراءة مثلا ، ينطق الطفل كلمة ( دمل ) بدل من كلمة ( جمل ) ، وقد يربط الحرف ( دال ) بالحرف ( جيم ) في كلمتي ( جمال ) و ( جبل ) ، على أنهما ( دمال ) و ( دبل ) .

إن المشاعر السلبية للطفل الذي يتلعثم أو يلجلج ، قد تصبح أكثر حدة وتدوم أطول فترة ، وتختلف طبيعة هذه المشاعر السلبية من طفل لآخر ، وليس من الضروري أن يكون رد الفعل بقدر حدة التلعثم ، فقد يكون التلكوء بسيطا جدا للسامع ، ولكنه بالنسبة للطفل ، أمر كبير ويسبب له الكثير من الإزعاج والغضب ، فقد يلجأ الطفل الى التمارض والهرب من المواقف التي قد تواجهه .

إن صعوبات الكلام تتخذ أشكالا متنوعة ، تظهر في لغة الطفل منها :

( التكرار للمقاطع ، المد والطالة ، التردد ، التجمد ، الإضافات ، دفع الكلمات الى الخارج بشدة ، عدم إكمال الكلمة ، مشاكل التنفس ، استخدام الحركات الإيمائية ، حركات العين ) .

وبذلك يمكن أن نتوصل الى أن اللغة ، مظهر اجتماعي ، وهي نتاج الاتصال بالغير ، واللغة وسيلة للتواصل بين أفراد الجماعة الإنسانية . فوجود اللغة يفترض وجود مجتمع ، والمجتمع يتكون من أسر عديدة ، والأسرة الواحدة تملك أساليب مختلفة يجعلها مصباح لها في معراج التعلم والاندماج في الحياة الاجتماعية ، لذا وجب اختيار أفضل الطرق لتعليم أطفالنا على النشوء نشأة اجتماعية صحيحة وسليمة خالية من جميع أشكال الاضطراب .

نشرت في وجهة نظر

 مقدمة: 

1- هذه نظرة سريعة الى موضوع على درجة كبيرة من الأهمية. أنه أمر يشغل بال اعداد كبيرة من العلماء والمفكرين والمثقفين والعاملين في التربية وغيرهم في كل أرجاء العالم خاصة في الولايات المتحدة وأوربا.

2- من الواضح صعوبة تغطية الموضوع بكل جوانبه، لذا فهو يدعو الى مواصلته وإكماله والإفاضة فيه . إن المتتبع الجاد لهذا الموضوع الشيق قد يعثر على ضالته المنشودة في الجمع بين المعلومات العلمية والاقتراب من الحقائق وبين التسلية.

 ****

 من الطريف أن بعض "العلماء" و "أساتذة الجامعات" الذين يظهرون في قناة "التأريخ العالمي" International History Channel أو في الجغرافي الوطني National Geographic ينفذون أحدث التقليعات "العلمية" المبنية على اسس قديمة وذلك بمحاولاتهم ايجاد تفسيرات "علمية"لبعض الملاحم التي وردت تفاصيلها في العهد القديم، والتي تقول إحداها، مثلا، أن موسى، الذي قاد اليهود خارج العبودية من مصر، رمى بعصاه فانشق البحر ونشف وسطه فعبر اليهود المطارَدون من جيش الفرعون، وعندما حاول هذا الجيش اللحاق بهم، عاد البحر فاطبق عليه فهلك كل أفراد الجيش عن بـِكرة أبيهم. وقد أوضح "عالم" بريطاني امكانية ان ريحاً قوية قد هبّت في تلك اللحظة وازاحت البحر، فلكي يثبت لنا نظريته هذه وضع منفاخاً كهربائيا ليدفع الماء في داخل حوض زجاجي، و"نجح" في وصفه! ثم راح آخر يتحدث عن احتمال "تسونامي"، الموج العملاق، ربما شبيه بما حصل في بندرآجي بإندونيسيا، جاء بسبب زلزال او بركان دون ان يذكر كيف يمكن لهذه الصُّدْفة العظيمة ان تزيح مياه البحر الأحمر وتجففها لا أن تزيدها اضطرابا. 

 إن مشكلة هؤلاء ( ولا أدري ِلمَ خُيِّل لي أن بعضهم كان على وشك الانفجار بالضحك مثلما يفعل الممثلون عند احساسهم بفشل تصوير مشهد من المشاهد وسط انغمارهم فيه) تكمن في محاولتهم أن يصوروا للمُشاهد بأن هذا قد حصل فعلا لكنه إنما كان بحاجة الى تفسير علمي! وهم الآن يقدّمون هذا التفسير؛ لكن فاتهم ان المشاهد البسيط يدرك ان هذا في الواقع التفاف من نوع ما، لأن الكتاب القديم يقول نصا وبوضوح ان ذلك حصل بتاثير العصا ، ولابد ان يكون ايّ تفسير آخر خروجاً واضحاً عن المعتاد في الدين، وقد يعدّه البعضُ نوعاً من الهرطقة! 

 لا يستطيع احد ان ينفي باي شكل اي حدث تاريخي يدعيه البعض مع ادلة معقولة ما لم يثبت احدٌ بشكل معقول خلاف هذا، ومن المحتمل ان تكون هجرة اليهود من مصر قد حدثت فعلا، لكن الذي يصعب تصديقه هو ان البحر يمكن ان يُزاحَ من مكانه لأن راعياً رمى بعصاه هناك ، فلو حدث هذا في افلام الصور المتحركة (الكارتون) او في بعض افلام قصص الخيال "العلمي" science fictionاو ما شابه لما اعترض أحد، لكن عندما يقف أمامي عدد من "العلماء" للحديث باسلوب شبه علمي لمحاولة اثبات ان هذا قد حصل فعلاً مستخدمين بعض الاساليب العلمية والعلم الحديث بالذات مثل 3D pictures صور بابعاد ثلاث مولدة بالكومبيتر فان هذا لا ينفعهم بشئ بل يزيد في شكي ليس فقط باحتمال حصول الحدث وانما يزيد في تساؤلي عن السر في الاصرار على الخطأ التاريخي ومحاولة تبرير الخرافة علمياً. 

 

وسرعان ما تتضح المعضلة: اذا تم الاعتراف بانهيار واحدة من هذه القصص المقدسة فان الدّور سياتي ليشمل القصص الاخرى وبذا ستتعرض اسس الدين الى ما يسمى بمفعول االدومينو Domino effect ( أي ستكون الحالة شبيهة بقطع الدومينو الواقفة طولياًً جنب بعضها، ما أن تـُسقِط الاولى باتجاه الاخرى حتى تتهاوى جميعا الى النهاية، وهي لعبة معروفة) بمعنى آخر وضع الكتاب المقدس في مهب الريح لتنزع اوراقه واحدة واحدة ، ثم يصرخ طفلٌ في الشارع : إن الملك بدون ملابس!! ولهذا يتوجب الدفاع عن جميع القصص دون استثناء والى النهاية (وهو موقف يوضح الفارق بين الحكمة والحماقة ، والحماقة الحقيقية تكمن في الاصرار لان كثيرا من البالغين أوضحوا، منذ زمن طويل، وضع الملك تماماً) وان افضل وسيلة للدفاع هي استعمال أساليب الغريم الذي ثبت نجاحه: العلم. 

 

وكذلك الأمر بالنسبة لاسطورة نوح حيث حرص "علماء" مشابهون على تفسير ظاهرة المطرالذي استمر لأسابيع، وهذا ممكن تصوره في حالة شبيهة بامطار الرياح الموسمية التي تهطل على شبه القارة الهندية، لكن هذا يتطلب كثيراً من التخيل والمبالغة إذ ينبغي أن تتم تغطية "الكرة الأرضية" بمياه الأمطار (وبقائها في مكانها، دون تسربها الى البحار) تغطية تامة وبارتفاع يكفي للقضاء على كل اثر للحياة عدا ما يصطحبه نوح في سفينته؛ بيد أنهم لا يتطرقون الى كيفية جمع ذلك العدد الغفير من ملايين اجناس الحيوانات millions of species وكيفية معيشتها على ظهر السفينة أو ماذا كان حجم السفينة وهندستها وأي حوض بنيت فيه وكيفية بنائها...الخ ( يقول "الكتاب المقدس"استغرق بناؤها 120 سنة، ونوح عاش 900 سنة!!)، ثم يستدرك البعض من هؤلاء "العلماء" قائلاً أن الجيولوجيين لا يوافقون على هذا! لأنهم يعتقدون ان عمر الأرض يقرب من اربعة بلايين ونصف من السنين بينما يقول العهد القديم ان الله قد خلق الكون قبل ستة آلاف سنة فقط! ليس هذا وحسب، انما نظم هؤلاء حملات الى جبل آرارات لمحاولة العثور على بقايا فـُلـْك نوح ونترك الباقي لخيال القارئ! (أود التنبيه الى ان هذا النوع من "العلم" هو ما يُطلـِق عليه العلماء مصطلح "العلم المزيَّف" pseudoscience ، ومن أمثلته المسلسل التلفزيوني "علم الكتاب ’المقدس‘" Science of the Bible والاطباق الطائرة UFOs وظهور التخطيطات الهندسية في حقول الحبوب ومثلث برمودا وغيرها.)

 

ان موضوع الصراع بين العلم والدين يحتاج الى كثير من الصبر والحِـلـْم من لدن القراء الذين لم يتمكنوا بعد من حسم الصراع في داخلهم لصالح الفكر العلمي وأنماط التفكير الحديثة. لديّ قناعة كبيرة بأن هناك أعداداً غفيرة جداً من مثقفي العراق وأمم الشرق الأخرى قد تخطت مرحلة حسم هذا الصراع، وأعتقد بأنهم سعداء جدا بما توصلوا اليه، على الرغم من أن هذا الحسم يغلب عليه أحيانا طابع السرية بسبب الظروف الاجتماعية في بلدانهم.

قد ننتبه الى حقيقةٍ في منتهى الأهمية والخطورة، قد تـُصبح من الظواهر، تتمثل في بدء الرأسمالية بتبني واستعمال بعض "المواقف" من الفلسفة، وحتى بعض المواقف "اللادينية" غير المرتبطة علميا، وتطبيقيا بصورة خاصة، بالفلسفة، كبدائل محتملة للدين، أي للمسيحية بالذات، وقد يبدو كلامي هذا منطوياً على بعض المبالغة او الإبهام، لكني أرى تباشيرَ ظاهرةٍ جديدة، على المدى القريب تاريخياً. فتطرُّف المواقف الرئاسية والإدارية الأميركية عامة من العلم والدين في الفترة منذ عام1980 (رئاسة رونالد رَيـْكَن الى اليوم) بلغت مرحلة خطيرة لاأعتقد ان العلم سوف يلتزم جانب الصمت إزاءَها الى أجل غير مسمى ، وعند ذاك سوف يدخل الصراع شبه الخفي مرحلة جديدة تؤذن بأفول المسيحية في الولايات المتحدة ، التي تمثل إحدى أكبر وآخر معاقلها. 

 

فما هي المرحلة التي سوف تلي، وهي آتية، تسخير السودا ساينس والمناورة "العلمية"؟ ألن تكون منسجمة مع التطور التاريخي وتسلسل الأحداث؟ ألن تكون المرحلةُ القادمة تمثيلاً جديداً "لإرتقاء" السدَساينس الى "فلسفة" لادينية سائبة؟

 

لكن يبدو ان السُّودَساينس هو اليوم حجر الزاوية البديل والعظيم، وسيظل كذلك ردحاً من الزمن لايُستهان به، كمحاولة للإبقاء على الخرافات وإلباسها لبوس العِلم، وهو ما يسمى أحياناً "بالتوفيق" بين العلم والدين، وهي عملية شائكة وشاقة، وتبدو مستحيلة تماماً، ولا تخلو تناقضاتها ودقائقها (للمراقب الحَذِر والملم بالأمور العلمية والدينية على حد سواء) من كونها مصدراً للمتابعة والتسلية. 

 

أرى أن من الحكمة، قبل الخوض في بعض تفاصيل هذه الثنائية، في عصرٍ صعب كالذي نعيش فيه، أن نولي الأسئلة التالية بعض الإهتمام، محاولين الاجابة َعليها بكل الصدق والاخلاص الممكنـَيْن مع أنفسنا (وربما بالتصوّر المعقول أيضاً)، ويجدر التنويه الصريح هنا ان هذه الأسئلة مصاغة لمساعدة القارئ على الحسم المنطقي لصالح العلم:

 

أ- هل أن الكون cosmos لانهائي infinite حقاً؟ أم أنَّ هناك حدوداً أو نهاياتٍ من نوعٍ ما في كل "الجهات" ؟ أو ربما بعضها؟!! وأية "جهات"؟ وإن وُجدت حدودٌ، فما إحتمالاتُ طبيعتِها؟ وماذا يأتي بعدها؟ فراغ vacuum؟ هل الفراغ جزءٌ من الكون؟ وهل للزمن بداية أو نهاية؟ وإذا كان الأمرُ كذلك، فمتى كان من المحتمل أن يكون قد بدأ الزمن؟ ومتى سيكون من المحتمل أن ينتهي؟ ولنتوقف قليلا بعد هذا السؤال الصعب المعقد لاستحضار بعض ما أ ُتيحت لنا معرفته من علم الفيزياء.

 

ب- هل نعتبر الانسان كائناً عضوياً organism؟ (ما هو الكائن العضوي أوالكائن الحي؟) أم هل نعتبره غير عضوي؟ ( هل هناك "كائنات" لاعضوية على هذا الكوكب؟ وإن وُجدت، فما طبيعتها؟) وماذا عن بقية الحيوانات، من ذوات الخلية الواحدة الى الفيلة والحيتان الزُّرق؟ و ماذا عن النباتات، من ذوات الخلية الواحدة الى السِـكـْوويا sequoia ، أكبر الأشجار؟

لنتوقف هنا أيضا ً لتذكـّر ما تـَسَـنـّت لنا معرفتـُه من علوم الأحياء (الحيوان والنبات) والكيمياء.

 

ج- فيما يتعلق بالبقاء survival، وكذلك موضوع "السعادة" :

 

1- هل نعتبر الفرد (البشري) أكثر أهمية ًمن المجموعة community ؟ ولماذا؟ قد يبدو هذا الشق من السؤال تبسيطاً متعمداً، فمن المفهوم أن الفرد لا يستطيع العيشَ وحيداً إذ لا بُد من شريك (زوج) أوّلا ً لغرض التكاثر (نقل الجينات)، لكنَّ العصرَ قد تغير فهو لم يَعُـدْ بحاجة الى مجموعة أكبر لأغراض الصيد أو درء الأخطار؛ فهل ان انتفاء هذه الحاجة تجعله اقل التصاقا بالكوميــُنـِـتي أم العكس ولماذا؟

 

2 - أم هل أن تنظيم حياة الكـُميـُنـِتي، على كل صعيد، من قِـبَل الجميع، تنظيما ًعادلاً، حكيماً، مبنيّاً على ضرورة بقاء (وإسعاد) المجموعة، ككل، أولاً، هو الأهم، لأنه سيُفضي بدوره الى سعادة الفرد أيضاً، فالفرد سيُبدع حقاً فقط من خلال الشعور السامي اتجاه الكوميـُنـِتي ولأن عمل الأفراد لمصالحهم الذاتية فقط (بحجة الحرية)، يؤدي عادةً الى فوضى، الى انقسام الكـُمـْيـُنِتي الى فقراء وأغنياء (انقسام المجتمع والبلاد الى طبقات، بما يحتويه هذا الإنقسام من فوضىً في كل أركان الحياة إلى مآس ٍ وبؤس وعلل وغياب "الضمير" و"الأخلاق"، ومخاطر اخرى عديدة، كما يتضح للجميع بشكل صارخ في المدن الرأسمالية الكبيرة على وجه الخصوص)؟ 

 

إنَّ إجابتي على هذا السؤال الطويل، بشقيه، سوف تشير الى ما تعلمتـُه من كثير من المعارف الإنسانية، والى نوع هذا التعلم وطبيعة المعارف، وتأثيرهذا فيَّ، ومستوى استيعابي واهتمامي بتطويري لما تعلمتُ؛ أي قد توضح كيف أفكر الآن، وربما تـُلمّـح الى احتمالات تغيـّـُري فكرياً، لكنها، وهذا مهم، ستكشف موقعي في الكـُـمْـيُـنِتي، وأين يمكن أن أقف في الإصطفافات الطبقية (وربما السياسية) في المكان حيث أحيا؛ باختصار: قد تحدد من أنا.

 

سؤال يفرض نفسه الآن: هل استطاعت البيئة (التي عشتها وأعيشها)، بضمنها النظم التربوية المسؤولة عن خَـلـْق نمط الثقافة الذي أحملُه، أن تربط بوضوح في ذاكرتي بين هذه الأمورالثلاثة، وأن ترافق هذا الوضوح بتفصيل صادق، وأقرب ما يمكن من الحقيقة، في المهم منها؟ أم هل أنها شوّشت المفاهيم عليَّ بذكاء وتخطيط، ونجحت في تضليلي بالنزِر اليسير من العلوم الصرفة، كالرياضيات، وبقليل ٍلم يُشْفِ غليلي من العلوم الاخرى ومن هنا وهناك، والإهمال الواضح لعلوم الفلك، وإلغاء كل إشارة الى نظرية النشوء والارتقاء في البايولوجيا، أو التطور وأصل الأنواع لدارْوِن Charles Darwin، لكن بالإكثار، الى حد الإشباع، من التافه من المعلومات، ومن العلم الزائف، وبخلق التناقضات في رأسي، فأحس بأن الأمور ليست على ما يُرام، إذ أن هنالك شيئاً ما يعوزني، فلربما كنتُ بحاجة الى تنظيم أفكاري؟ وغير هذا من المشاعر الانسانية والتساؤلات والتطلعات المشروعة.

 

ألا يصدق هذا التساؤل في حياة كثيرين من الضامئين للمعرفة؟

 

هذه التساؤلات تفرض على الكاتب أن يلبي رغبة قرائه المشروعة بأن تكون مواضيعهُ واضحة ً كل الوضوح الممكن من ناحيتين: وضوح الفكرة الرئيسية، ومجموعة الأفكارالأخرى المطروحة والمتعلقة بها؛ ثم وضوح اللغة: وضوح الأسلوب، وضوح الجملة، وضوح العبارة ووضوح المفردات. إنما الوضوح هو ما يقود الكاتب الى تماسك الموضوع cohesion ، التحام أجزائه ببعضها البعض؛ إنما الوضوح هو ما يرشد الكاتب الى الترابط المنطقي coherence الذي يتجلى في انتظام وتطور الفحاوى الفكرية للموضوع ككل. ان وضوح الفكرة ينبغي ان يصاحبه وضوح اللغة ؛ وفي الاختصاص ينبغى على القارئ ان يُلِـم بالرطانة jargon أي "اللغة" الخاصة بذلك الموضوع كي يستطيع المواكبة. 

 

لكن الوضوح بحد ذاته موضوع مُشكِل problematic، فماذا يفعل كتاب الشرق في مجتمعات تعيش عقلياتِ القرون الوسطى؟ هل هم يسلكون ككتاب عصر النهضة الأوربية؟ هل يُسمح لهم بذلك؟ أم ان كثيراً منهم قد تخطوا هذه المرحلة ايضا (بصورة أقرب الى السرية) كي يواكبوا متطلبات الفكر الحديث فخُلقت هوة واسعة بينهم وبين مجتمعاتهم؟ من ذا الذي يَفيد من منع الكتـّاب من ان يكتبوا بحرية تامة في الدين كواحد من أهم الامثلة؟ من يقف وراء هذا المنع في اقطار الشرق وهل لبعض حكومات الغرب ضلع في المنع من خلال الأنظمة السياسية في الشرق (التي يُطلق عليها أحيانا دول الساتالايت، أي التي تدور في افلاك دول اخرى، وهي نفطية خاصة) والتي تسن الممنوعات؟ 

 

ولابد من التأكيد هنا الى ان الأمم الغربية َ مبتلية ٌ بذات الداء، لكنَّ هناك قوانيناً تحمي حرية كتـّابها، وهذه القوانين جاءت نتيجة كفاح طويل ومرير خاضه الكتاب والفنانون وعموم السكان استغرق عقوداً كثيرة من السنين، فقد بُدِئَ بحسم كثير من الأمور بالنسبة لنقد المسيحية ووضع النقاط على الحروف منذ القرن الثامن عشر، لكننا في الشرق ما زلنا نحبو في بداية الطريق، وهي طريق اكثر وعورة ً واشد خطرا. 

 

بيد ان الفرق بين الغرب والشرق في محاولات الحسم في هذا النمط من الازدواجية يكمن في طابع أو درجة تسخير احد طرفي المعادلة او كليهما من قبل الدولة المعنية. مثلا: لم تتخلَّ الدولُ الرأسمالية الغربية عن تسخير الدين، الذي ورثته عن الاقطاع، بنفس المستوى والحماس الذي تـُسخـّّر فيه العِلـْم، اي انها لا تحاول ان تميل الى الاقتصار على استخدام احدهما فقط (الدين) كما تفعل دول الشرق. تستعمل معظم دول الغرب الديانة َالمسيحية وتحميها لوظيفتها الفذة في الاستهلاك الشعبي لأنها تكاد تكون الآيديولوجيا الشعبية الرئيسية في النظام الإجتماعي، إذ ليس لها من منافسٍ قوي يمكن ان يُسَخـَّر كبديل لها في الوقت الحاضر. ومن مكاسب الأمم الغربية ان الناس عموما لا يبالغون في استعمال الدين كما نفعل في الشرق. ونرى هذا الفرق واضحا في ما يجري في بدء المؤتمرات على سبيل المثال. فكيف يبدأ مؤتمرٌ ما في الغرب؟ بالطبع يحرص مدير المؤتمر (او عريف الحفل) على ان يُشيع البهجة َ في نفوس المؤتمِـرين بكلمة جميلة او حتى بنكتة، فتعلوالوجوهَ بشاشةٌ ويباشر المؤتمر أعماله بجو من الود. أما في معظم الشرق فيبدأ مؤتمرٌ مماثل بتلاوة من القرآن، فيطأطئ الحاضرون رؤوسَـهم، وتـُضطر الوجوه الى اتشاح وَقار من نوع ما، ويُمنـَح الحشدُ جواً مجانياً من التوتر يسوده حزنٌ وكآبة لا مبرر لهما؛ أما إذا كان المؤتمر علمياً او ذا طابَع ٍ علمي أو فكري، فهذا الاستهلال يُؤْذِن بنسفه حتى قبل أن يبدأ!

 

لا ينبغي أن يدخل في رَوْعنا عند ملاحظتنا لسلوك الناس في الغرب أن السكان قد تجاوزوا في قرارة أنفسهم مرحلة انهاء التناقض الفكري لصالح التفكير العلمي، فهذا أقرب الى الخيال؛ فعلى الرغم من أنَّ على المرء، كي يستطيع مواصلة العيش ضمن النظام الاقتصادي القاسي في فوضاه ، في معظم أنواع المهن، أن يسلك على الضد من كثير من الإرشادات السطحية الموجودة في كتاب الدين، والتي يتطرق اليها القسس أحيانا كثيرة، بشأن المحبة والصدق والاستقامة في التعامل مع الآخرين، ولايمكن اعتبار السلوك المعاكس لهذه الارشادات حصيلةً للتفكير العلمي، بل هو خرابٌ عميق للنفس البشرية مصحوبٌ بكارثة الإنعدام التام للثقة بين الأفراد؛ لأن من نتائج التفكير العلمي، المقترن بالفلسفة، هو تفضيل مصالح المجموعة البشرية ونكران الذات والحب والاستقامة الحقيقية، حيث تكمن امكاناتٌ هائلة ورائعة للأخلاق البديلة السامية في ظل نظام اقتصادي بديل يسوده العدل ويحل السلام والنظام فيه محل الفوضى. وإذا اعتبرْنا هذا الكلام تبشيراً بطوباوية أو اشتراكية صعبة التطبيق (وقد يعزز البعضُ هذا الرأي بأمثلة من انهيار انظمة اشتراكية في الشرق لعوامل سياسية) فما هو الحل؟ ما هو البديل؟ ماذا يجب على البشرية ان تفعل؟ 

 

من الطبيعي أن تلعب بعض الإعتبارات السياسية والضرورات الآنيّة دوراً في السلوك القطيعي للأفراد حتى وإن كان البعض منهم في مواقع قيادية معينة، في غاية الأهمية أحياناً؛ فليس من الغريب أن نرى هـِـلــَري كْـلِـنـْـتـِن (زوجة الرئيس السابق) وبَراك أوباما أو قبلهما آل كَور أو جون كــَري وغيرهم من تقدميّي قادة الولايات المتحدة يتبارون في إثبات أنهم يؤمّون الكنائس أصباح الآحاد، فلا يَسمح لهم عصرُهم أن يجهروا بالوضوح الفكري الكامل، رغم الاحتمال الكبير بأنهم شخصياً يعانون هذا الكابوس، أو أنهم يفضلون قراءة "العدد الصيفي الجديد"! من هاري بوترHarry Potter مع بعضٍ من أطفالهم على القراءة قي كتابٍ بالٍ ممل مع بالغين يبدون أقل فطنةً من بعض الأطفال المتخلفين! بأي شئٍ يختلف هذا الموقف من حيث الجوهرعن تظاهر صدام وهو يصلي بمرقدٍ في النجف (دون مسدسٍ على إلـْيـَتِهِ)؟ في الحقيقة ان هذا السلوك هو استمرار وإكمال للكذب في التعامل التجاري اليومي بين الناس في كافة شؤون المجتمع الرأسمالي، الذي ينسحب على الثقافة والفنون أيضا(200 كذبة في اليوم للفرد الواحد حسب بعض الاحصائيات الطريفة!) إن هذه البانوراما الداكنة والكئيبة هي امتداد لطبيعة العلاقات في الكولونيّات (المستعمَـرات) الإنكليزية القديمة، التي أسسها "الحجاج" القادمون من بريطانيا للإستقرار في أميركا سعياً وراء "الحرية الدينية" منذ بداية القرن السابع عشر، ويساهم فيها اليوم ربع مليون كنيسة وآلاف المعابد الأخرى. (من الطريف ملاحظة أنه كان من الممكن تقويم الوضع بعض الشئ في منتصف الطريق، أي بـُعيد الثورة، 1776 ، لكن القيادة الأساسية، بقيادة العسكري جورج واشنطن أصرت، رغم نضج الظروف، على عدم اجراء اصلاحات جذرية مثل اعتاق الأفارقة من العبودية والذي صدر قرار به بعد حوالي مائة عام مسببا حرباً أهلية أوشكت أن تقضي على السكان) .*

 

لابد من التوقف للتنويه الى نقطتين: 

 

أ - هناك في القراءة الإنتقادية أمورٌ ممتعة، لا تُحصى في غزارتها ووفرة تفرعاتها وهي تدعو القارئ بالمقابل الى أن يتحلى بسعة الصدر والتتبع وروح الدعابة. ومن الأمثلة على ذلك هو التظاهر باتخاذ موقف "وسط"، على قاعدة "خير الأمور اوسطها"، أي بالإدعاء بعدم وجود أي صراع بين العلم والدين، فيقوم هؤلاء بسَوْق الأدلة "العلمية" على "صحة" كثير من النصوص الدينية، وينتهي المطاف بهم إلى صياغة "نظريات" و "فلسفات" جديدة "تعزز" مواقفهم القديمة ذاتـَها! 

 

ب - ان الاطلاع على ما يكتبه رجال الدين (أوالدخول في نقاش مع "مؤمنين") قد يكون مفيداً وقد يكون كارثياً، فهم يتكلفون الجد، فيضيفون لك وهماً جديداً. ولكنَّ القارئ اللبيب ذا العقلية العلمية، الذي يعتمد القراءة الإنتقادية ولا "يسلـّم جدلاً" أو يعتبر كل ما يقرأ أمراً مفروغاً منه قد تم اثباته مسبقاً take things for granted، بل يشك بكل ما يقرأ، مهما كان،(بضمنه هذا المقال طبعا!) الى ان يتسنى له رؤية ما يدعو الى اعتباره أقرب ما يمكن الى الحقيقة (ولا أقول اعتباره صحيحا)، أو أقرب ما يمكن الى اعتباره معقولا في تلك الساعة. 

 

أنت لا تستطيع مناقشة امور الدين بحرية بسبب ارهاب الدولة وارهاب المنظمات الدينية والرعب الذي ساد المجتمع قروناً ، ولا يزال؛ فاذا استطعتَ نقاشَ أمورٍ من الخارج ( كما أفعل هنا)، أو من الداخل (ان تكون واحدا منهم)، فأنت مخطئ مائة بالمائة وقبل أن تفتح فمك، وقبل أن تبدأ فانك ستـُقابَل بالشك اولا ثم الادانة بتهمة "الإلحاد"، وربما العزلexcommunication والتهديد وربما أخطار أخرى بدنية؛ وعند العرب المسلمين تشبه هذه الحالة ما يصفه الدكتور فرج فوده، الكاتب المصري المعروف الذي اغتاله "مؤمنون" في شارع بالقاهرة. يقول في مقدمة كتابه"زواج المتعة": (هذا الكتاب العاصف متوفر على الإنترنت)

 

"ان أسوأ خصائصنا الفكرية، في تقديري، تتمثل في الاعتقاد بالصواب المطلق، حتى في فروع الفروع وتفصيلات التفصيلات، واعتقادٌ هذا شأنه لابد وان ينعكس في نتيجة منطقية وهي الاعتقاد بالخطأ المطلق لمن يختلف معنا؛ أما أسوأ خصائصنا (التفكيرية) فهي في اسلوب التفكير احادي الاتجاه، حيث لا سبيلَ للحقيقة غير اسلوبنا في التفكير، ولا احترامَ لأسلوب الآخرين ولا اعتقاد بأن لهم منهجاً أو عقلاً أو أسانيد، فالمنهج لدينا هو ما ننهج والعقل في مفهومنا هو ما نعقل والأسانيد في تصورنا هي ما يساند أفكارَنا ومنهجَنا ونتائجنا." انتهى كلام الدكتور فوده.

 

إن طبيعة المعركة شبه السرية التي تدور رحاها هذه الأيام بين العلماء والإدارة الأميركية التي يهيمن عليها اليمين الديني سوف تنتهي بخذلان الادارة. لقد اعتادت الادارات الاميركية، والجمهورية خاصة، أن تقوم بكبح جماح التقدم العلمي بصورة دورية ومنتظمة، لكنها في عهد جورج بش الابن قد بلغت مرحلة العداء الواضح. وهذا الصراع الحساس، العريض، الذي اصبح واضحا لكل ذي عينين، يبدو من الخارج صراعاً أميركياً تقليدياً يتسم رسمياً، من الخارج، بتقريب كبار رجال الدين (بـِلي كَـْـرَيْهام مثلا) من قبل رؤساء الجمهورية. لكنه بدأ باتخاذ بعدٍ جديد في عهد الرئيس بُـش الإبن.

 

حتى كْرِسْ مووني Chris Mooney ، في كتابه "حرب الجمهوريين على العلم" الصادر عن دار "بَيْسِك بـُكـْـس" Basic Books 2006 ، الذي يستعرض ويحلل بدقة المواقف المعادية للعلم، وتغلغل الادارة الأميركية في التدخل ضد العلم في كل اركانه، يقدم جواز سفره نحو ترشيحه من قبل نيويورك تايمز كأكثر الكتب المباعة في العالم، وذلك بإلقائه اللوم على العلماء في كثير من الفقرات، (التي كان باستطاعته حذفـُها من فصول كتابه)، في محاولة توفيقية لاسترضاء الذين خصّهم الكتاب بالكشف والنقد!

 

يبدو لبعض الناس، من خلال ما تقوله وسائل الاعلام، أن الصراع هو خلاف حول بحوث الخلايا الجذعية stem cell researches كما يجري الحديث عن الخلاف على الاجهاض والإنتحار المؤازر طبياً euthanasia ( هذه تـُترجَم الى العربية بعبارة "القتل الرحيم"، بسبب اهمال الفرق بين القتل والانتحار، فيتذكر القارئ (في مشهد سينـَمي) حصاناً يُـقتل برصاصة رحمة في راسه coup de grace "كو دي كَراص"). 

 

لكن مووني يوضح ان العلم في الولايات المتحدة يتعرض الى ما يلي: (باختصار)

 

1- الإضعاف والتشويه، والادعاء بأن الداروينيات والتطور البيولوجي هي "مجرد نظرية" ، بالمفهوم العامي لكلمة "نظرية"، ويشترك في هذا الهجوم الساسة وعلماء "نظرية الخليقة" ووسائل الاعلام ورجال الدين.

2- القمع، ويتمثل بالغاء التقارير العلمية او تشويهها لأغراض سياسية وهذا يسئ الى سمعة العلم اساءة جدية.

3- استهداف العلماء كأفراد بحجة شؤون أمنية.

4- التلاعب بالعملية العلمية: من خلال ممثلي السلطة، حشر مؤيديهم السياسيين في اللجان الاستشارية، تغيير القوانين وغيرها.

5- التغليط وتحريف الحقائق وتشويه الاعمال العلمية.

6- تضخيم الشك العلمي (مبدأ الريبة ومواصلة الإثبات) وتزييف معناه النبيل، وذلك لجعل الشك ذاته يشمل اموراً أنفق العلماء سنين طويلة لإثبات صحتها، كمسألة النشوء والإرتقاء وتطور الأجناس، وهذا قد سبب ويسبب الأذى والإساءة الى العلم.

7- استحداث وتوطيد "العلم" النقيض : يتمثل بجهود بعض الصناعات (كشركات التبوغ) والفئات السياسية والدينية لتوليد "العلم البديل" لخدمة اغراضها، ويتجلى ذلك بالانفاق بسخاء على كتابة مقالات مزيفة ذات طابع علمي ونشرها في الادبيات العلمية الدورية. ان غزارتها ومظاهرها العلمية جعلت فلاسفة العلم يجدون صعوبة في رسم خط واضح بين العلم الحقيقي من ناحية وبين العلم المزيف والشعوذة والدجل من ناحية اخرى. (إنتهى ملخص الكتاب)

 

من الممكن، على العموم، تعريف سودَساينس او العلمُـزيَّف (العلم المزيَّف) بانه العلم الردئ الذي يقدّم ادعاءات باطلة غير مدعومة بالحجة الواقعية ثم يرفض التخلي عنها واحيانا يرفض مناقشتها عند تقديم البراهين المخالفة لها. وهو يخاطب عامة الناس لا المنتديات العلمية. إن العمود الفقري للعلمزيف يبدو واضحاً في الأشعة العلمية: انه الدفاع المستميت والملتوي عن الخرافات والأكاذيب. إنه النصّاب (أو رجل الدين) بمعطف أبيض.

 

إن مُنـَظـِّري "العلم" الخليقوي الغيبي قد جاءوا بمصطلح جديد- قديم وهو "التصميم الذكي" intelligent design ، وهو تعبير مختلس من كتاب قديم، ونسخة من نظرية الخليقة، والتي هي عقيدة دينية وليست علماً، وطالبوا بتدريسها الى جانب نظريات التطور البايولوجي، بمعنى آخر أنهم طالبوا بتدريس الدين في دروس البايولوجي: تحرُّش يؤْذِن بردّةٍ في الساحة العلمية وذات روابط سياسية واضحة، وهي بالذات سمة مهمة من سمات الإعاقة الدورية أو كبح الجماح الذي ذكرتـُه والذي تمارسه الادارات اليمينية دورياً.

وبقدر تعلق الأمر بالشرق فتجدر الاشارة الى ان الغرب حريص على الوضع الديني هناك خاصة في دول الساتالايت النفطية؛ وما نسمعه من "حرب على الاسلام" ما هو الا محض هراء، لأن أنظمة دول الساتالايت النفطية هي نفسها حريصة كل الحرص على بقائها في السلطات من خلال استمرارية الوضع الذهني لسكانها دون تغيُّر. أما "الارهابيون" أو "المتطرفون" أو"السلفيون"..الخ، فدورهم معروف، وهو ضمان بقاء السلطات الثيوقراطية وشبه الثيوقراطية وذلك بمطالبتها بأن تكون اكثر ثيوقراطية ً وإلا جاءوا ليحلوا محلـَّها! وكلاهما (الدولة الثيوقراطية الارهابية وغلاة الإرهاب خارجها ، وهما واحد) في هيمنة شبه تامة من خلال تعريض السكان للرعب بشكليه السري والعلني؛ لكن السكان بدأوا بالتذمر هناك أيضاً. (هناك دراسات في سلوك "المطاوعة" كمثال، وهي جديرة بالتأمل، لقد بدئ بالمطالبة بالغاء حركة المطاوعة منذ فترة ليست بالقصيرة). 

وفي المعركة السرية العالمية يُسنِد رجالُ الدين الشرقيون نظراءَهم في الغرب، والقراءة الدقيقة لكتاباتهم تشيرالى هذا بوضوح، وربما كان مرجع هذا الموقف، ظاهرياً، هو العلاقة العضوية للأديان الإبراهيمية الرئيسية الثلاث (تطورها من بعضها البعض)؛ لكن تشابه ملامحها الأساسية ، وأحياناً عدة تماثلـها الصارخ، لايكفي لأن يضع اتباعَها المتنازعين في خندقٍ واحد، فهذه ليست مسألة ًدينية بقدر ما هي سياسية، إذ ينبغي الفحص الدقيق لطبيعة العلاقات التي تربط المنظماتِ الدينيةََ في الشرق عموماً، وقادتـَها خاصة، بالجهات السياسية داخلَ البلد المعني وخارجَه، وهذه مهمة ليست باليسيرة، بل مُشكِلية. أن الصراع الأساسي هو في الواقع هو صراع اقتصادي، وأطرافه واضحة والمشكلة في ما يسمى ب"عصر العولمة" هي مشكلة تبعية اقتصاد البلدان الشرقية لاقتصاد الغرب ؛ أما الخلافات الظاهرية بين الأديان الثلاثة (مثلاً قضية كون عيسى هو المسيح ام لا، وهي مشكلة مسيحية- يهودية؛ وقضية كون عيسى هو ابن الله، أو الله نفسه، ام لا، وهي في الغالب مشكلة مسيحية-اسلامية...الخ ، وهي مشاكل كثيرة إذ يعتقد أتباع كل من هذه الأديان الثلاثة أن دينهم هو الحق وأن نبيهم هو الصادق ثم يلصقون شتى النعوت بالدينَيْن الآخرَيْن، بضمنها الكذب والكفر والجريمة وغيرها) فهي خلافات سطحية تفيد غالباً في الاستهلاك الشعبي، بين الأتباع ، وتُستخدم أحيانا لأهداف سياسية متباينة.

ولا ينبغي أن تجعلنا هذه الملاحظة أو الاستنتاج السابق بشأن دور المتطرفين في الساتالايتات ان ننظر بعين الريبة الى كثيرٍ من "الكتاب" البسطاء الذين تبدو البراءةُ واضحةً على كتاباتهم، فهؤلاء الأبرياء، ببساطة، يعانون من مشكلتين: الأولى أنهم لم تـُتـَح لهم الفرصُ الجيدة للإطلاع الكامل وغير المشوّه على نظرية التطور وأصل الأنواع لأنّ تداوُلَ هذا النوع من الكتب والمعلومات هو من المحرمات القانونية في بعض البلدان والدليل الواضح على هذا هو عدم السماح بتدريسها الكامل واهمالها التام أو شبه التام في المناهج التعليمية، وكذلك موقف الرقابات في العديد من الأقطار العربية من ملخص النظرية بقلم المربِّي المصري الدكتور سلامة موسى والذي صدر في الخمسينات من القرن الماضي! أتذكر أن هذا الكتيّب المفعم بالتبسيط والصور كان يُتداول في العراق بصورة شبه سرية، وليس هنالك الآن ما يشير الى ان تلك البلدان قد أبدلت سياستها تلك. بالمقابل من هذا فان هؤلاء الأبرياء قد تعرضوا منذ طفولتهم الى نوعٍ واحد من "الثقافة"، وهو نفس النوع الذي يحجب المرء عن التجديد بسبب من هالة القدسية المضفاة على طريقة التفكير ذاتها، رغم كون طريقة التفكير هذه لا تخلو من العجرفة الواضحة ورفض النقاش العلمي الهادئ والمتواضع. 

ان العِلم، على خلاف الدين، يتسم بالإصغاء الى آراء الآخرين واحترامها والأخذ بها، إن إعتـُبـِرتْ معقولة، وتبادل المعلومات الجديدة وتطويرها ثم نشرها ليتناولها آخرون بالشك والأسئلة والنقد والتجريب الذي يؤدي الى أفكار ومعلومات جديدة وهكذا؛ أما الدين فيرفض أن يحرك ساكناً ويظل ملتصقاً بهموم محددة (مدونة عادةً في كتابٍ أساسي واحد) يرفض أن يناقشها بحجة كونها مقدسة. لقد تمكن العلماء والكتاب والفنانون في الغرب من "توسيع صدر" المسيحية، لكن هذا كان قد كلف الكثير من التضحيات والعناء والوقت بسبب كون المسيحية "دين الدولة الرسمي"، أما في الشرق فالحدود القديمة ما زالت تضرب أطنابها في كثير من البلدان والصدر الضيق يصر على أن يضيق أكثر فأكثر، واحياناً يُعمَـد الى حد السيف "لتصحيح الأمور" أو "اعادة الأمور الى مجاريها الطبيعية"، فالسلطات الثيوقراطية وشبه الثيوقراطية والمدّعية بالدين والمتملقة لرجال الدين ولثلك الشرائح المستفيدة من أممها التي يغط الكثيرون منها بالنوم العميق، كانت وما زالت ترفض أي تحديث في المجتمع، وان أبلغ دليل على هذا هو وضع المرأة في الشرق إذ يتم الاصرار على عبودية وعزل وتغليف نصف المجتمع وتشيـيئِه، حيث يقتصر "التحديث" الذي تقوم به الدول على ما يقوم به فاحشو الثراء من رجال الأعمال من مشاريع لا إنتاجية وما تقوم به الطبقات الأرستقراطية "المؤمنة"، الغارقة الى أذنيها في الغرام مع الراسمالية الغربية، من خلق مطبات(طبقات بورجوازية تعمل كزيت التشحيم في المكائن) أو وسائد طبقية عازلة تكون بمثابة الحزام الواقي بينها وبين غالبية شعوبها. أما المشكلة الثانية التي يعاني منها اؤلئك الكتـّاب الأبرياء فهي واضحة : إنه إرهاب الدولة الديني المعهود: فإن حاول أحدٌ منهم أن يجدد في فكره أو أسلوبه في التفكير، فإنه يكون كمن يُصْدِر على نفسه حكم الإعدام، إذ سيُعَد مرتداً عن الدين فتتعرض حريته الشخصية، وربما سلامته الى الخطر. 

 إن الإختبار العملي (litmus test) أو ما نطلق عليه بالعربية "المحك" (لمعرفة عيار الذهب) للمثقف هو عادةً موقفـُه مِنْ، او طبيعة فهمهِ لمسألة النشوء والارتقاء، وان ايمانه بلامحدودية "الزمكان" فقط تجعل منه مثقفاً متضبـّباً. (من المفهوم لماذا ينظر المثقفون باستغراب الى الطبيب اوعالم الأحياء أو مدرس العلوم أو الفيلسوف اذا كان متديناً، على سبيل المثال.) 

 وعلى الرغم من أهمية الاقتناع التام بلانهائية الكون فإن هاتين المسألتين مرتبطتان ببعضهما تماماً، بل إنهما موضوعٌ واحد، فالمادة العضوية، بضمنها الجسم البشري، هي في حقيقة الأمر مواد نجومية star stuff، وكلُّ ما نحتاج هنا سيكون الربط الزمني وقراءة بعض التاريخ (العلمي) وشيئاً من عِـلمَيْ الأحياء والجيولوجيا، وقليلاً من التأمل، وذلك لكي نتأكد بشكلٍ قاطع من انتفاء أي نوع من التدخل الخارجي بما حصل ويحصل على هذا الكوكب، خلال الأربعة ونصف بليون سنة الماضية عدا ما وصله ويصله من اشعة ونيازك وجاذبية ...الخ من هذه المنظومةالشمسية او ربما من مجرتنا (الطريق الحليبية أو درب التبانة Milky Way ) أو من المجموعة المحلية للمجرات local group. 

 ولكي نتأكد تماماً من مِـحَكـّنا هذا، لنذهب الى الكومبيوتر ونـَنقر على عبارات مثل "النشوء والإرتقاء" أو "التطور وأصل الأنواع" أو "داروِن"، وما نكاد نفعل ذلك حتى نسمع صليل السيوف "دفاعاً عن الدين"، وهجوماً عنيفاً موتوراً ضد النظرية العلمية الجبارة، وضد شخص داروِن، وكثرة المواقع من هذا النوع توحي بأن هؤلاء يدركون تأثير الكم على النوع، وهي مليئة بتشويه يعتمد في الأساس على ما يلي (باختصار):

 

1- اعطاء صورة غير صحيحة ومشوهة عن النظرية من خلال شرحٍ سريع لها بلغة غير علمية ومن زاوية الناقد فقط (كالادعاء بان النظرية تقول ان الكلب يتحول الى أسد ثم الى قرد ثم الى انسان!) 

2- التركيز على ما كان يُدعى"الحلقة المفقودة" رغم اعلان العلماء عن العثور على حلقات مفقودة (انسان جاوه، النياندرتال، ..الخ) قبل أكثر من قرن.

3- تحميل النصوص الدينية معانيَ علمية ً مقوِّضة لِذات النصوص، أو الاستشهاد بنصوص لا علاقة لها البتة بسياق الكلام وانما الغرض منها هو ان الكاتب يحاول ان يثبت للآخرين انه يكتب ما "يرغبون" قراءته!

4- تحريض القراء البسطاء ضد المؤمنين بالنظرية والتأليب الرخيص عليهم بتسميتهم بالملحدين، وحتى تهديدهم وارهابهم وغيرها من الأساليب القرووسطية المدانة. 

 

هذه المواقع تتحاشى، بل تخشى، ان تقدم لقرائها تفسيراً علمياً او وصفاً دقيقاً او على الأقل مُنـْصفاً بعض الشئ لعملية التطور process of evolution ، تلك العملية البطيئة جداً، التي استغرقت مئات ملايين السنين، على الأرض تماماً وفي مياهها تماما؛ كما تخشى الاشارة الى انتقال الجينات في مجموعات الأجيال، والأسلاف المشتركة common ancestors وموضوع الإنتقاء الطبيعي natural selection ولا تريد مناقشة ان علم الجينات، والجينوم الذي توطدت أركانه عام 2000، وما يليها، ما هي إلاّ امتدادات طبيعية للداروينيات التي تؤكد كل البحوث العلمية (لا العلمزيفية) صحتـَها، كونـَها حقيقة، يوما بعد يوم. إن هذه المواقع، الغريبة في مراوغاتها، تفسر وجود حقائق علمية يعلن العلم عن اكتشافها فتوعزها مباشرة الى قوة خارقة للطبيعة موجودة خارج الأرض أو المنظومة الشمسية، وهي جاهزة دائماً لمثل هذا الاعلان في أي وقت وبأي شكل، لكنها تُصر على أن توجه الإهانات الى ذكاء قرائها بتقديم طروحات كـَسْـلى في تفسير الكون وتطور الأحياء، مما يقدم تفسيرا متخلفا للتأريخ البشري عامة (احدى المشاكل هي أن القول بان الكون قد "خُـلـِـق" قبل ستة آلاف سنة فقط أدى الى القول بان عمر الأهرام المصرية هو أقل من هذا، مثلاً، هو أربعة آلاف سنة فقط والاصرار على هذا الادعاء، وغيرها من المشاكل الكثيرة التي ترتبت على الإصرار على التصور المجافي للمعقول في تفسير الطبيعة والتاريخ..الخ والتي تنتظر الحل) ؛ هذا التفسير الذي لابد ان يُفضي الى تفسير تاريخٍ وأحداثٍ في بلدٍ ما بنهج مماثل، حيث تكمن الأخطار الجمة للتربية المغلوطة للأجيال. وكمثالٍ صغير جدا: تأريخ الصف الثاني المتوسط في العراق ( وُضعت لـَبـِناتـُه الأولى ابان الاحتلال البريطاني)، وكمثال مصغـّرجداً منه: اعمال الخليفة، ايِّ خليفة،( فكل الخلفاء تقريباً قاموا بنفس الأعمال!!) ذلك الرجل "المؤمن" الذي قاد الأمة وكان "عادلاً"، "يعطف" على الفقراء !! فما هي اعماله؟ (ألا ترون معي ان صدّاماً كان شديد التأثر بتاريخ الثاني المتوسط بالإضافة الى عدم تخطيه هذه المرحلة؟ ):

 

أولاً – قضى على الفِتـَن والإضطرابات! (توطيد الدكتاتورية الفاشية)

ثانياً – قام بالفتوحات: وسّع حدود المملكة ! (الإعتداء على الجيران) 

ثالثاً – أسس البريد! (تشكيل خط مخابرات جديد)

رابعاً – بنى القصور والمساجد !! (لم يبلغ عددُ قصورأي خليفة عددَ قصوره) 

خامساً – سك النقود !! (انيطت المهمة بالخَـلـَفِ الصالح!)

سادساً – شجع العلماء ! (في الغالب "علماء" الدين والفقه ورجال السفسطة)!

 ولستُ هنا بصدد هذا الكتاب-الكارثة، ولا المناهج الكارثية عامة، انما العقلية والخلفية الفكرية لمخططيها وواضعي الستراتيجية التربوية والسياسة التي تقف خلفهم والتي هي أوطأ بكثير من مستوى أحد موظفي الامبراطور العثماني قبل 200 سنة تقريبا والذي تمكن من اقناعه آنذاك بالموافقة على ترجمة ونشر العديد من الكتب الغربية التي اعتقـَـدَ انها كانت من اهم العوامل في تطور الغرب موضحا له المخاطر التي كانت تهدد الأمبراطورية بسبب الفوارق الثقافية والعلمية. 

 إن الإنترنت تضج بمواقع مليئة بتـَجَنٍّ وبتحامُلٍ، مع سبق الإصرار، على نظرية التطور البيولوجي، تجدهما جنباً الى جنب مع الاعلانات التجارية الرخيصة والمواضيع الغثـّة والدعوات الجنسية المبطنة والفاضحة والإلهاء السَّمْج. وهذا ما يدفعني هنا للإهابة بعلماء واساتذة البايولوجي العرب لتشكيل مجموعاتهم لمراسلة بعضهم والمساهمة في نشر الفكر العلمي في الانترنت والاكثار من المقالات البناءة والهادفة، ولأجل توطيد اركان نظرية النشوء والارتقاء (التطور البيولوجي) في الفكر العربي، فهذه الأمة لن تنهضَ ما لم تعرفْ أهم ركنٍ من أركان الحقيقة على الاطلاق، كخطوة مهمة، الى جنب التحرر السياسي والاقتصادي، في طريق التقدم.

___________________________

* هذا التعبير يرد في بعض كتب التاريخ الاميركي بالانكليزية، وهو صحيح الى حد كبير، لكن يبدو ان هذا التعبير ملتصقٌ بأذهان البعض مثلما كانت ملتصقة ً "أعمال الخليفة" في ذهن صدام حسين كما يرى القارئ في نهاية هذا المقال.

مراجع:

1 - الدكتور فرج فوده - زواج المتعة ، المقدمة ، الكتاب متوفر على الانترنت

2. Exodus Decoded - History Channel Program

3. Chris Mooney, The Republican War on Science, Basic Books, 2006.

4.Cosmic Perspective , Bennett et al , Pearson Education, 2004.

5. NCSE Resources مصدر رائع لقراء الانكليزية متوفر على الانترنت

__._,_.___

نشرت في وجهة نظر

الكتب المقدسة في تعريفها الروحي هي الوسيط لتعلم الطرق الواضحة، وهي صلة الوصل بين العبد وخالقه، وهي المرآة التي تعكس حقيقة هذا المهيمن علي روح العالم، وهي ثبات البرهان لكل من بعث لهداية قوم ما. وكما تقول الحكمة السومرية:اللوح في كف الحكيم، كشمس في كبد السماء.ولأن سفر التكوين يقول:أن العالم خلق بكلمة. هذا يعني في دالته الكونية أن إيصال الفكرة ورغبة الرضوخ لها لا يأت إلا من خلال الكشوف المدونة، ويبدو أن اختراع الكتابة بعد عهود من الشفهية والإشارة، خلق ظروفاً مناسبة للآتيان بحكمة اللوح وجعلها مرشداً للتفكير الإنساني كي يهتدي إلي ما يراه قناعة بما يحدث في مشاهدات الطبيعة ولما يتعرض له هو من لحظة الولادة حتي اللحد الأخير، حيث ظل الاعتقاد السرمدي ذو الصورة الشفافة الذي يقول أن الحياة تمر علينا بفاصلين، واحد هذا الذي نعيشه في حقل القمح وكوخ الطين، والأخر في سرمدية بيوتها من رخام وأنهارها من حليب وعسل.

والمندائية كدين توحيدي أمتلك أزلية البقاء مر بعهود لا تحصي أفترض فيها لذاكرته ديمومة لا تنحني لطوارئ الحروب والكوارث، وقد قاد الرهبان الصابئة مسيرة حلم نأت بصمتها وتأملها بعيداً عن فوضي كل الأشتغالات الحضارية ومخاضها. واليوم هم موجودين بذات الكيانات التي تطبعت علي شفافية التعاليم السماوية وأدركت معها طبيعة أن يكون الفرض واجباً مقدساً مليء بالعبر والإيحاءات التي تدفع النفس إلي مستقر الحالة، وكانت هذه الطقوس تؤدي بوسائط كثيرة هي صلة الوصل بين المندائي وصاحب الروح النقية ويقصد فيه الإله الواحد. ومن هذه الوساطة، الماء، الطيور، عناصر التعميد،الإيحاء، أثبات طهارة الروح والجسد، الصلاة، التسبيح، غير أن الماء يمثل بالنسبة للمندائية شكلاً روحانياً تيسر بفضل حب الإله لهذه الطائفة. وهو أداة التعميد الأولي. ويري المندائي الماء بأنه:(الصورة المتخيلة للتغير والحركة، وهو كامن بعدة أشكال وأماكن ويمكنه إلغاء النجاسات وأخطاء المرء، كما أنه يغسل كل عالق لايمت للروح بصلة، وهو مسيرة تحول إلي الجديد، ويمسح عن جبين الميت قلق الموت ويحيي شجرة الآس ويعيد تجدد الأعياد ويجعل خيال المندائي مطلقاً، كما أنه سيد الطقوس).. تلك الرموز الحافلة بنشيد المعني بالنسبة لهذا العنصر الذي لا يتوقف عند مكان أو لحظة وأنه الأكثر أزلية في دورة الحياة من خلال متغيراته ثم العودة لما كان لهذا نظر المندائيون أليه بشيء من التقديس والوقار وجعلوه واحداً من أدوات إكمال مراسيم التقرب إلي السماء أو الوصول إليها. لهذا فهو موجود للاحتماء من كل خطيئة كما في النص المندائي التالي:(بشم أد واشم أد مندا أد هيي مدخر إلي نسخت إبر زلة وهللت إبيردنه أنا نخاسة وماري هياسه) وترجمتها العربية:(بسم الحي واسم مندا أد هي منطوقان علي، ذبحت بالحديد وغسلت بالماء الجاري، أنا الخاطئ وألهي الاغفر)..

أذن الماء هو الأنموذج الأصلح للتعبير عن رغبة الذات المندائية في التواصل مع التكوين العلي لهذا نراه في أغلب الممارسات يمثل حاجة لاكتمال فعل روحي قبل الجسدي، ولهذا فأن أي رؤية جدلية لتأريخ المنطقة التي عاش فيها المندائيون وهي منطقة السهل الرسوبي لبلاد الرافدين والأطراف المجاورة لها في أيلام سيجد أن الرؤية الأسطورية لتراث هذا السهل يشكل مقاربات لا تحصي مع التدوين التي نجده في الكتب الروحانية للمندائيين ومنه ما يطلق عليه المندائيون:الماء النقي أو الماء الطاهر أو الماء المقدس وهو في عرفهم تعريفاً:الماء المقدس (ممبوهه) هو ماء صرف، والكهنة أثناء تأدية طقوس القداسة لا يشربون سوي الماء الصافي، المقدس.

وقد ذكر العالم الأنثروبولوجي:أن ماء الحياة كان يشرب أيضاً ولا يستعمل فقط لرش الماء المقدس وللتطهير، وكان يري في دجلة والفرات أنهاراً مقدسة تجري الأضاحي لمياههما كما تؤكد علي ذلك النقوش والمدونات، وتقام علي ضفافهما التطهير المقدس وآيا وأبنه مردوخ هما ألها ماء الحياة. هذا الترابط الجدلي بين المدون والموجود يؤكد رؤيتنا إلي أن الهم التوحيدي لإنسان وادي الرافدين كان مرتبطاً بالهاجس المدفوع لإثبات أحقية الانتماء إلي المكان من خلال الشعور التنبؤي وهو ما يحرص المندائيون علي تأكيده دائماً في أثبات أحقية انتمائهم التوحيدي منذ آدم ع وحتي هذه اللحظة. وأن كشوف التراث الإنساني للشعوب وخاصة تلك التي ولد وأنطلق منها الأنبياء صنعت قناعة لدي الباحثين أن شكل التوحيد المندائي أرتبط مع إرهاصات آدم ع ولذلك هم يصرون دائماً بعودة أزليتهم إلي آدم ع وأن الطقوس المقامة في أيامهم الروحانية وأعيادهم أنما هي تمثل الإرث المأخوذ من تلك الأيام وأن الماء بصيرورته المتحركة يمثل البدء الحقيقي لرغبة الإنسان ليكون ملتصقاً بالذات العليا من خلال طهارة روحه وجسده وهذا لايتم إلا من خلال الماء، فالمندائيين ربطوا مثل تلك الشعائر بلحظة الولادة البشرية والتي تنم عن استمرار الخصوبة والحياة ولأن المرأة هي رمز الخصوبة لهذا صار تعميدها في النهر بعد الأسبوع الرابع من ولادتها لمندائي جديد قادم إلي العالم وهو محروس بصدي تبريكات الملائكة كما يقولون، فتتم بطرائق غاية في الجمالية والإحساس بالانتماء إلي روح هذا المجري الأزلي الذي هو النهر. والوصف التالي الذي شاهدته المستشرقة الليدي دراوور يمثل النمط البعيد الذي يربط الذات المندائية بالماء من خلال طقس التعميد: (توقف هدير الدعاء لحظة حين غادر الكنزفرة الدار إلي النهر، ثم عاد وقد جلب معه الماء لعمل بهثة وهو يقبض علي عجينة غير مشوية في يده اليمني وعلي قنينة في يده اليسري. خبز وأكل البهثة وشرب الماء ثم نزع البندامة عن وجهه وذهب إلي النهر ثانية وحين عاد رش ماء علي صولجانه ثم أخذ طرف عمامته بيده وكرر دعاء إحدي وستين مرة).

ترتبط الطهارة بالماء في كل الديانات. والصينيون يقولون نجاسة الأرض كلها يغسلها النهر الأصفر. وكذلك ما قيل عن الماء المسفوح من جنبي إناء النذر السومري وهو لنهري دجلة والفرات، لهذا فالطاهرة منذ عهود الأنبياء الأولي تمثل النقاء الجسدي بشكله الظاهري والخارجي وهي تمثل واحدة من أفكار التي دعا من خلالها الأنبياء إلي الاقتراب من الذات العلية لهذا كانت الوصايا تقول :لا تقترب من المسجد إلا وأنت طاهر، لا تقترب من المذبح إلا وأنت طاهر، من المعبد كذلك، من كل شيء يمتلك القدسية والعظمة، لأن النجاسة كما يقال:روح صدئة في جسد.

 

نقاء الأفكار

وهذا التعبير للفيلسوف الألماني نتشه. لهذا مثلت الطهارة لدي المندائيين حالة من صفاء الذهن والجسد، وأعتقد أنني في هذا النص القادم سألملم من بين أوراقي تعريفاً موجزاً هو عبارة عن خاطرة مندائية طويلة دونها المندائي والتربوي المرحوم دهلة قمر، بناءاً علي مداخلات وحوارات متعددة الأطراف حول ثبات التوحيد في الدين المندائي وأحقية أزليته ولماذا لم يدخل أروقة الفقه والتفسير بذات السعة التي دخل إليها الإسلام والمسيحية. ولكني سأنقل فقط سؤالي له عن مفردة الطهارة:(الطهارة تعني الجسد نظيفاً، مغسولاً بماء، ويفضل أن يكون جارياً، لأن كل طاهر معرض للتعميد، والطاهرة تعني عند المندائي نقاء الفكرة والتعامل مع الآخرين والابتعاد عن معترك الفوضي الحياتية عندما يريد الآخرون إقرار مبدأ ما بقوة السلاح، وهي الرشامة الواجبة التي تشبه الوضوء عند المسلمين. طقس يدخل الماء في تكوينه، وكما قيل قديماً عند أجدادنا شمة غصن ألآس يطهر نصف الجسد، لكن السباحة في النهر والصلاة في المندي يطهر الروح والجسد بكاملهما. وهي تعني في التعابير الروحانية التخلص من كل موبقة وأثر لضغينة أو طمث. وكما يقول المندائيون الأوائل. الله خلق الروح الطيبة من طهارة النفس ورغبة آدم ليكون الطهر قبل العهر. أنها تبعد عنك هجمات الشياطين (شفيا هي) وكل الأرواح الشريرة، وهي الذات التي تسعي لعمل الخير وتذكر ما يجب عمله اتجاه المندي والكاهن والأب والأم والطفل. ولكي تكون طاهراً كن عاقلاً ومدبراً، ولكي تكون طاهراً تعلم ما يقوله (كنزه ربه)، ولكي تكون طاهراً أجعل من علمك وحكمتك مشكاة تنير طريق الوضوح لكل أبناء آدم)

والطهارة ترتبط بالاغتسال جدلاً وفعلاً وتأريخاً، ولا عجب أن سمي الصابئة المندائيين بالمغتسلة. وهو تعبير حضاري عن النظافة بشتي أشكالها لأن تأكيد الوجود الروحي لأي مندائي لا يتم إلا من خلال التعميد وهذا لا يتم إلا في الماء الجاري. أذن فمفردة الطهارة لم تدخل في المندائية كفقه خاضع لجدلية التفسير أنما هي فعل تترتب عليه حقيقة انتماء المندائي إلي دينه وطائفته. لهذا يقول أحد المستشرقين الروس: (كنت أراهم مهندمين، ناصعين ببياض الضوء، هادئين في سيرهم، حسنهم يذكرني بشباب العاصمة القيصرية بطرسبرغ.)

ومن هذا استنتجت دوورا:(أن الإجراءات لدي الشوافع فيما يخص الطهارة ـ الوضوء ـ تقترب كثيراً من الطهارة - الرشامة - لدي المندائيين)

ولأن الطهر في معناه الحقيقي يعني النقاء فلقد حرص المندائيون أن يجعلوه هاجساً دائماً في كل واجب ديني وحياتي من خلال الاهتمام بالتحضيرات الطقسية لكل منشط ويكون في المرتبة الأولي الاهتمام بالأشياء المحضرة،الأواني أم الثياب أوالماكولات لأن الطهارة تعني الاحتماء بالذهن الصافي وهو الكفيل بإيصال المندائي إلي ما يريد الوصول إليه حتي في رغبته للحصول علي مرتبة كهنوتية أعلي، لهذا فقد عدت الطهارة فرضاً يدخل في مفاصل كل الجمل الطقسية ومنها مايهم الوضوء عند اقتراب المندائي من مجري النهر لأداء الرشامة : (أبرخ يردنه ربه إد ميه هي، بشميهون أدهي ربي أسويثه وزكوثه وترجمتها: أبارك اليردنه العظمي، الماء الحي، باسم الحياة العظمي لك الشفاء والطهر ياأبي وأباهم ملكا برياويز، اليردنة العظمي للماء الحي) ويتعاظم فعل التطهير في هذا الطقس حين تستكين روح المتوضئ لتلك القناعة المكتسبة من رضا النفس بإتمام ما وجب عليها عمله، وتظل تردد ما يعتقد أنه اكتساب للراحة النفسية عند شعور المرء بحصوله علي شئ من هذه الطهارة التي تغذي في الذات المندائية شعورها بعظمة وقدسية ما تملك جراء قناعتها بأن الطهارة تمنحنا الصلة المواصلة مع القدير الذي فوقنا وهذا هو شعور عام عند جميع الديانات ومنها جمل الشكر المقامة في فضاء الطقس ذاته - الرشامه - كقوله :(إبرخ، أشمخ، ماري منداد هيي، إبرخ مشبخ هاخ برصوفه ربه ديقاره إد من نافشي أفرش.

وترجمتها:مبارك أسمك ومسبح أسمك مولاي منداد هي، حمداً لسيماء الجلال الأعظم الذي قام من ذاته..) 

هاجس ثالث روحي وصعب هو ما يتملك الذات المندائية، الإيحاء. أنهم، أي المندائيون الأوائل قد تماثلوا لبهجة الحس آلاتية من السماء البعيدة، وكانوا يرتقبون في سطوع المرئيات في الفضاء الواسع سطوعاً للروح الأخري التي تجلب النور والسكينة وفطنة التأمل.

الإيحاء عند المندائي هو اكتمال لصورة مفترضة تجعلنا ننال بهجة التواجد في الساحة الفسيحة للعماد الأول عندما توضأ آدم ببركة الماء وغسل عن وجه الأرض صمتها وفراغها. وفي الإيحاء يمسك المندائي ما يستطيع المتصوفة إمساكه لأنه وأنت تقرا المدونات وأسئلتها وتستبيحها تجد العالم مفتوحاً علي متون الفكرة الصافية، فهم لا ينشدون الماديات من أجل لذة أو سلطة أو جاه بين الأمم أو الأديان بل أنهم يخلقون لمجدهم الصامت قناعة البقاء والديمومة وهذا ما حصلوا عليه رغم قلة عددهم وتواجدهم في بيئات قليلة تتجاور مع الأنهار حصراً، ولأن الإيحاء يقترن بجدلية المكان وتأثيراته المناخية والتضاريسية، ولأن المياه أجمل أوطان المندائيين سنري في هذا الدعاء التعميدي والباحث عن فضاء لطهارة الروح والجسد خير مزاوجة بين إيحاء التمكن من حصول المودة بين الإنسان وخالقه وضرورة إكمال أجواء التعميد في ظروف طاهرة : (باسم الحياة العظمي أسال القوة لتنعشني قوة اليردنه، الماء الجاري، لتأتي ألي لقد ارتسمت في اليردنه تحت سطحها وقبلت العلامة الطاهرة، لقد لبست أردية النور ووضعت علي رأسي متألقاً، أن أسم الحياة وأسم منداد هيي منطوقان علي. أنا فلان بن فلانه المتعمد بعماد أبراهام الكبير بن القدرة وعمادي، سيحرسني ويرفعني إلي الأعلي) فسر لي أحد الكهنة، أن إيحاءات هذا الدعاء تمنحنا القدرة علي تحمل كل الظروف مهما كانت قسوتها. البرد، الحر، سعير النار، أو إعصار العاصفة، فجملة سيرفعني إلي الأعلي هي وليدة لإيحاء التماثل الروحي والجسدي بين المندائي وخالقه وهذا لا يتوفر كما يقول الكاهن إلا حين توفر طقس التعميد بطهارته الواجبة.

 

يسبح تحت ضوء القمر

ولكي أثبت أن رائية المندائي تعتمد علي الإيحاءات الحسية المبثوثة من ذات عظيمة فأني سألت أحد المندائيين من سكنة منطقتنا في الناصرية أيام كنا نبقي يقظين طوال الليل للمراجعة في امتحانات البكالوريا وكان هذا المندائي الكهل يستيقظ في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ليسبح في نهر الفرات وتحت ضوء القمر المكتمل وقد كرر هذا الطقس أمامي لأسبوع كامل. وقد أدهشتني دقة التوقيت في نهوضه الليلي وممارسة هذا الطقس، وأنا أعرف عنه أنه لا يملك ساعة وليس لديه من أبناء في البيت مما اضطرني لأوقفه بعد أن أنهي فصل السباحة والخشوع العجيب في مساحة الضوء الذهبية المنتشرة علي الماء مثل قماش جديد.

أجابني:هل أنت مندائي أم مسلم ؟

قلت: مسلم.

ـ وما شأنك فيما أفعله ؟

ـ أعجبني تأملك وتمدد جسدك علي الماء وأنت تتأمل القمر، ثم أني كنت أري شفتيك تهمسان 

بكلمات لم يتسن لي سماعها.

ـ أنها الآرامية النقية.

ـ ولماذا كل هذا وفي الوقت نفسه.؟

ـ ولدي أنا أنام فوق السطح. منذ أسبوع تحسست عيناي الضعيفتان ضوءاً آت من جهة المندي. حين اجتمعت حزم الضوء في عيوني، يأتيني الإيحاء بعمل هذا الطقس.

ـ وماذا تفسره ؟

ـ أعتقد أنه تعميد لرحيل أبدي.

ـ موت ؟!

ـ نعم. وعن قريب.

في الصباح. كنت لم أزل أراجع دروسي في ذات المكان حين سمعت نحيب إمراة في أحد البيوت. وحين سألت.قالوا إن فلان توفاه الله. كان هو ذلك المندائي الذي كان يتأمل ضوء القمر وهو ممددا علي سطح الماء مثل سجادة كاشان.

نشرت في وجهة نظر
الثلاثاء, 16 نيسان/أبريل 2013 00:13

لن يصير شعب العراق شذر مذر

 بعد أن أطاح الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه بالنظام الملكي الموالي للإنكليز .

وراح يعمل لاستعادة حقوق الشعب العراقي في أرضه ونفطه وحرية قراره . 

جن جنون المستعمر بعد أن تهددت مصالحه في العراق وفي المنطقة فراح يتآمر على النظام الجمهوري الفتي ، وكالعادة راح يسخر عملائه في تلك المهمة القذرة .

وبما أن قليلي الذمة وخونة الشعب لم يكونوا عملة نادرة في عراقنا وفي كل وقت ، تبرعت مجموعة منهم في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم .

و بعد فشل تلك المؤامرة ألقى عبد الكريم خطابه الشهير مخاطبا جماهير الشعب الثائرة ومنه:

( أتعلمون لماذا اعتدوا علينا ؟ إنهم أرادوا أن يفرقوا الشعب شذر مذر ). 

وأي شذر مذر نعيشه اليوم .

لست هنا بصدد استعراض ما يلاقيه الشعب العراقي من التشتت اليوم ولا تعداد خونته الذين جندهم المحتل ، ولكن شدتني عبارة المرحوم عبد الكريم قاسم ( شذر مذر ) فرحت أنقب في كتب اللغة والتراث بحثا عنها .

وكما تدخل مدينة كبيرة جديدة لا تعرف عنها الكثير فتتيه في شوارعها 

فالضياع والمتاهة في كتب اللغة والتراث ربما أشق وأكثر ضياعا .

وعلى الرغم من عشقي للتسكع في البلدان والطرق التي لم تطأها قدمي من قبل .

إلا أنني لم أجازف في قراءة ذلك الكم الهائل من التراث من دون مرشد .

يقول ابن خلدون :( سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي : " كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب النوادر لأبي علي القالي وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها ).

تركت التبع والفروع رغم حلاوة العديد منها ورحت أبحث في تلك الأركان وكان جلها يشعرك بضآلة معلوماتك إلى حد اليأس من معرفتك اللغة العربية.

وجدت في كتاب النوادر للقالي ما هو اعم وأشمل من الشذر مذر فرأيت أن أشرككم في محنتي وأليكم ما يقوله العرب في الكلمات التي تتعاقب فيها الحروف.

كلمات تتعاقب فيها تعاقب الصاد والضاد :

يقال عاد إلى " ضئضئة وصئصئة " أي عاد إلى أصله.

ينوض وينوص و مناص ومناض واحد

انقاض وإنقاص والمنقاض هو المنقعر والمنقاص المنشق طولا

تصافوا وتضافوا أي وقفوا على الماء

صلاصل الماء وضلاضله أي بقاياه

مضمض لسانه ومصمصه

قبضت قبضة وقبصت قبصة والقبصة أقل من القبضة والقبص بأطراف الأصابع والقبض بالكف كلها

تضوّك وتصوّك

صاف وضاف إذا عدل السهم عن الهدف

تضيّفت الشمس وتصيّفت إذا مالت ودنت من الغروب

جاص وجاض إذا عدل

 

تعاقب الفاء والثاء

الدفينة والدثينة 

اغتفتّ واغتثتّ "الغفةّ والغثةّ "وهو ما تصيبه الخيل من الربيع. 

فلغ ولثغ إذا شدخ رأسه

جدف وجدث تقال للقبر

الدفئي والدثئي مثاله الدفعّي من المطر

الحثالة والحفالة وهو الرديء من الشيء

الفناء والثناء فناء الدار

ثوهد وفوهد وهو الناعم

الأرففة والأرثة للحد بين الأرضين

الأثافي والأثاثي

توفر وتوثر وهو التحمد

المغافير والمغاثير سيء ينضجه الرمث والعشر كالعسل

نتمغفر ونتمغثر ناخذ المغفور

الثوم والفوم

عافور وعاثور الشر

الفم والثم

النكاف والنكاث

يداف ويدلث إذا مشى مشيا ضعيفا

اللفام واللثام

فروة وثروة كثرة المال

انفجر الجرح وأنثجر

طافّ وطلثّ أذا زاد على

 

وتظل المرادفات تتوالى حتى ( طالت وطاثت ) على قدرة المتابعة لتبرهن على أن ( عربيتنا ) أكبر من أن يلمّ بها . 

ورفق بحالكم وبحالي تركت ( الشذر مذر ) عسى أن يجنب الله هذا الشعب من شرّ الكونغرسات وشرّ " ال ستانات " ويحفظ وحدتنا ووحدة بلدنا .

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013 23:56

الثقافـة والتعصـب ولغـة العصـر

أذا رأيتم حكيما" صادقا" فتقربوا إليه وخذوا من حكمته ، وإن رأيتم حكيما" شريرا" فأبتعدوا عنه ما استطعتم ان حكماء الشر من أتباع الشيطان .

الكتاب المقدس ( الكنزا ربا )

 

تتعرض الطائفة المندائية ومنذ عقود طويلة الى أبشع انواع الأضطهاد الديني والأجتماعي ، وتجسد هذا الأضطهاد خاصة بعد الأحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ، ووصول الأحزاب الدينية والقومية والطائفية المتخلفة للسلطة وفقدان الأمن وأنعدمت كليا" سلطة الدولة والقانون . واصبح المندائيون مجبرين وسط العنف الطائفي في عراق اليوم الذي تطحنه الصراعات القومية والطائفية والدينية ، ووصل الأمر الى تعرض الطائفة الى حالة الأبادة الجماعية حسب تعريف الأمم المتحدة حيث القتل والخطف والتهجير والأغتصاب والأجبار على تغيير الدين مما أدى الى هجرة الآلاف منهم الى دول الجوار أو ما تسمى دول الأنتظار وهم يعيشون في ظروف قاسية حيث العوز والمرض وسوء التغذية وأنعدام فرص التعليم وفقدان أبسط مقومات العيش السليم وهم ينتظرون ما تقدمه لهم المنظمات الدولية من مساعدات وما يجود عليهم ابناء جلدتهم من دولارات بسيطة مخجلة ، وأما من بقي في الوطن لظروف قاهرة خارجة عن أرادته فهو يعيش أيامه وساعاته بصبر وخوف ورعب وتهديد دائم . أما العوائل التي حالفها الحظ بالأستقرار النسبي فقد توزع أبنائها على بلدان لجوء عديدة ومن الصعوبة جمعهم ثانية وهذه هي معاناة أضافية للعائلة المندائية خاصة وللطائفة عموما" .

وبجهود ابناء الطائفة الحريصين على وحدتها وديمومتها أنشأت صفحة الياهو المندائية منذ سنوات عدة واصبحت اليوم وسيلة للتخاطب وطرح الأفكار وعرض وجهات النظر في قضايا الساعة التي تحتاج الى حلول من قبل ابناء الطائفة لغرض النهوض بواقع المندائيين المـأساوي الحالي أضافة الى سرعة أتصال العوائل الموزعة بدول الشتات . وقد قامت الشبكة والمشرفين عليها بجهود كبيرة لطرح مواضيع جادة وهامة للنهوض بالطائفة ، وبعد نقاشات طويلة وملاحظات عديدة ساهم بها الكثيرون من المثقفين المندائيين ورجال الدين بدأ التحضير لها لغرض أنجازها خلال الفترة اللاحقة ومنها على سبيل المثال لا الحصر المبادرات التي طرحت لتشكيل المجلس الروحاني الأعلى أو ما يسميه البعض بالمرجعية الدينية .... هذا من جانب .

ومن جانب آخر ليس كل ما يطرح من أفكار ومواضيع من قبل بعض الأخوة على الشبكة يمكن تحقيقها وذلك بحسب الظروف القاسية والمعقدة التي تمر بها الطائفة ، وبدلا" من مناقشة ما يطرح من هذة الآراء والأفكار بروح عالية من الشفافية وأحترام الرأي الآخر للوصول الى قواسم مشتركة يطالعنا بعض الأخوة مع الأسف بالتهم الجاهزة للمبادرين بها مستعملين مفردات لغوية مرفوضه من الجميع .

وقد تحدثنا في موضوعنا السابق عن ( الثقافة ما بين الحوار والتكفير ) ، واليوم بودنا الكتابة عن الأسلوب الذي يتعامل به بعض الأخوة المندائيين في رسائلهم عبر شبكة الياهو المندائية مع أخوتهم الذين يملكون آراء وأفكار تختلف عن أفكارهم وآرائهم ويتبعون في رسائلهم لغة التعصب والتهديد والأقصاء وعدم أحترام الرأي الآخر . ... ومن خلال متابعتنا للشبكة التي تجاوز عدد أعضائها السبعمائة مشترك وتصلها عشرات الرسائل يوميا" نقرأ رسائل من البعض وبغض النظر عن ما يحملونه من ألقاب علمية أو اختصاصات مختلفة تحمل روح التعصب والتشنج وقمع الرأي الآخر وكأنهم في موقع سلطوي يبرر لهم ما يكتبون .... 

أن هذا الأسلوب في الكتابة والذي يحمل في طياته طابع الخشونه في مفرداته والبعيد عن اسلوب الحوار المتحضر الناضج يدل بالتأكيد على المستوى الثقافي للكاتب وضعف قدرته على أتباع الأساليب المتحضرة في طرح الآراء التي يحملها ولربما بعدم معرفته بمفردات اللغة العربية بشكل كامل والا لكان أختار الكلمات المناسبة الهادئة في رسائله ، ومع الأسف لا زال بعض الأخوة لا يجيدون الا هذا الأسلوب العقيم الذي مارسه الكثيرون من المندائيين بشكل خاطئ ولسنوات طويلة ، ومن هذه المفردات المستعملة والتي بقيت في الذاكرة ( زنديق ، كافر ، ملحد ، نحذر ، سبق وحذرنا ، هذا تحذير نرسله له ولاخر مرة ، لا نسمح مطلقا" ، قلناها مرارا" ونقولها حاليا" ، نرفض بشدة وأخيرا" أستعمال لغة الأمر مثل ...الى كافة المندائيين ) وغيرها من الكلمات والعبارات المرفوضة والتي من المفترض قد تم تجاوزها منذ زمن ونحن نخاطب مجموعة كبيرة من قراء شبكة الياهو من المندائيين الذين يملكون قدرا" كبيرا" من الثقافة والعلم والخبرة ولهم آرائهم الفكرية ومعتقداهم السياسية والثقافية الخاصة بهم وليس طلبة في المرحلة الأبتدائية كما يتصور البعض . والغريب ان يكون هناك مَن يملك الشجاعة ويبعث رسائله الى القراء بتعصب ويكلمات مرفوضة وينتقد لمجرد النقد ويهاجم بدون سبب ، ومن ثم يحاول أن يقدم النصح والأرشاد والتوجيه ، ولكنه في الوقت نفسه لا يملك الشجاعة الأدبية والمقدرة لكي يسمع أو يتقبل الرأي الآخر أو الصوت المخالف .!؟

إن الأساءة لللآخرين والانتقاص من قيمهم وافكارهم لأسباب مختلفة هو الأسلوب المفضّل هذه الأيام لدى المتعصبين والذين وصل بهم تعصبهم الديني والفكري حد الجهالة ، لا يستطيعون أن يروا في هذا العالم المختلف سوى أنفسهم وأفكارهم ، ويحملون لمن يخالفهم في الرأي التهم الجاهـزة بمعاداة الدين والعداء للطائفة .

وهنا نتسائل هل بيننا نحن المندائيين ، الناس البسطاء ، الطيبين ، المسامحين والمسالمين أشخاص متعصبين لأفكارهم ويرفضون الحوار وقبول الأخر . وهل يمكن اعتبارهؤلاء من المثقفين ام المتعلمين الذين يدعون الثقافة ؟ ؟ 

وقبل ان نتطرق الى تفاصيل الموضوع لا بد من معرفة ماهي الثقافة و ماذا نعني بالمثقف ؟ وماذا نعني بالمتعلم ؟ وماذا نعني بالتعصب الفكري والتسامح ؟ 

ماذا نعني بالثقافة ؟ ... بالتأكيد هناك العديد من التعاريف التي تطرقت الى الثقافة ، وهي تختلف وحسب العلماء والفلاسفة والمثقفين وأختلاف وجهات نظرهم في تعريف الثقافة فقد توصل العلماء الى تعريف شامل ويحمل جميع الأراء وهي ... ( الثقافة هي عبارة عن مقاييس أخلاقية ونظرة عامة الى كل جوانب الحياة الروحية والمادية تؤثر على السلوك والعادات وتهدف الى رفع مستوى الإنسان الى الأحسن والأفضل وتتناقل من جيل الى آخر عن طريق اللغة والمحاكاة ويعتبر المثقف هو المرآة التي تعكس هذه النشاطات الثقافية ) . وتعتبر الثقافة تراكم لنشاطات الأنسان لقرون طويلة بأعتبارها نشاطات مكتسبة من المجتمع ، وبما إنها أي ( الثقافة ) نشاط إنساني فهي تنتقل من جيل لآخرعبر التأريخ ، ومن مجتمع لآخر من خلال اللغات والعادات والتقاليـد والقوانين والأعراف والموروث الأحتماعي . وبما انها تمر بمراحل مختلفة وحسب كل مجتمع فهي قابلة أذن للتعديل والتغير واضافة مفاهيم جديدة لها من جيل لآخر .

وهنا لابد ان نعرف ما هو المثقف ؟ هناك من يعريف المثقف ، ( بأنه الذي يمتلك قـدراً من الوعي والثقافـة والإطـلاع على الأشكال المتعـددة للثقافة ) ، وهذا الأمر يتطلب من قبل المثقف عملا" وجهدا" مضاعفا" متواصلاً لحركة التطور لأنواع الثقافـة المتعددة في العالم . ومن يتخلف عن هذه المتابعة ، لايمكنه التواصل مع حركة التطور الثقافي وبالتالي فأنه سيتخلى من ذاته عن صفة المثقف .

ومن التعريفين السابقين للثقافة والمثقف يمكننا ان ندرك ان للمندائيين مثقفيهم التي تتوفر فيهم كل الصفات المطلوبة ولهم ثقافتهم الخاصة التي اكتسبوها من تراثهم ولقرون عديدة . وهنا نستنتج ان ما يكتبه البعض لغرض الأساءة غير صادر بالتأكيد من مثقفين مندائيين .

أمأ المتعلم ... هو الشخص الذي يملك قدرة وذكاء تتيح له حفظ المعلومات التي تعلمها من المعاهد التعليمية والجامعات ويوظفها في خدمة مصالحه ومصالح المجتمع ، وعادة ما يكون المتعلم غير مبدع لأنه يضيع في جزئيات العلوم التي يأخذها بالحفظ والتلقين . أذن فالمتعلم هو ذلك الشخص الذي يحمل شهادةً معينة مهما كان مستواها ويكون على الأغلب هدفه من العلم والمعرفة هو تحصيل الشهادات والعمل بها لخدمة الوطن. والطائفة المندائية تملك اعداد غزيرة من المتعلمين يحملون شهادات عليا وجامعية تفتخر بهم الطائفة في تأريخها المعاصر لما قدموه من خدمة كبيرة ساهمت في بناء العراق منذ عقود طويلة . ولكن يواجهنا السؤال هل يعتبر المتعلم مثقفا" .

وهنا يمكننا القول ( ان كل مثقف هو متعلم ولكن ليس كل متعلم هو مثقف ) . فهناك مع الأسف العديد من المتعلمين المندائيين يعتبرون أنفسهم ( مثقفين ) وهم بعيدون كل البعد عن الثقافة ، وهم غير قادرين على كتابة عدة سطور متسلسلة متوازنة ومفيدة لتبيان ما يحملونه من أفكار . ولكي يمكننا ان نسمي هذا المتعلم ( مثقفا" ) يجب ان يملك قدرا" معقولا" من التعليم والمعرفة يؤهله للتواصل مع مسيرة العلم والثقافة ، وأن يكون متمكنا" في اختصاصه وله معرفة بباقي التخصصات . ولا يؤمن بالخرافات والتطرف والتعصب بأنواعه . و يؤمن بأسلوب النقاش والحوار الديمقراطي وعدم فرض آرائه بشكل تعسفي على من يحاورهم . أن يكون متزنا" ، متواضعا" ، عفيف اللسان ، مراعيا" لمعايير الأخلاق العامة والذوق العام ، والأخلاق السائدة في الأوساط الثقافية .... ومما سبق هل هذه الصفات متوفرة في كل متعلم يحمل شهادة ما ، بالتأكيد لا !!!!!

أما التعصب ونعني به بالأنكليزية Chauvinism ( أنه شعور داخلي يجعل الأنسان المتعصب Chauvinist يرى نفسه على حق ويرى الأخر باطل ويظهر هذا الشعور بصورة ممارسات ومواقف متزمته ينطوي عليها أحتقار الآخر وعدم الأعتراف بحقوقه وانسانيته ) .

والتعصب هو سلوك عقلي وأخلاقي مرفوض في المجتمعات المتحضرة وهو تعبير عن شعور بالضعف وعدم الثقة بالذات ‏.، فالإنسان المؤمن حقيقة بما يعتقد فيه والواثق من قدرته علي الدفاع عن معتقداته لا يحتاج إلي ممارسة أساليب التشنج اللفظي أو الإثارة الفكرية بل يعرض لها ويدافع عنها بالمنطق والحجة والدليل ‏.‏ والسلوك العدواني الذي يمارسه المتعصبين تكشف عن ضعف داخلي وشعور بعدم القدرة علي الدفاع عن الأفكار التي يعتقدون يها ‏.‏ مما يؤدي بهم الى استعمال الضجيج والعويل والتشنج لأخفاء ضعف الأفكار التي يحملونها وسبل الدفاع عنها . ‏.

ومع الأسف نلاحظ ان نسبة ظاهرة التعصب بين المندائيين أصبحت عالية مقارنة بعدد نفوس الطائفة القليل وهو بالتأكيد ليس من تراث الطائفة بل جاء من مخلفات المجتمع العربي والأسلامي المتعصب والمتخلف الذي عاش به المندائيون لقرون عديدة . والتعصب هي ظاهرة ليست بالجديدة ويرتبط بها العديد من المفاهيم كالتمييز العنصري والديني و الطائفي والحروب والصراعات التاريخية التي مرت بها البشرية ، وما زالت آثار هذه الظاهرة تتجدد باستمرار في عصرنا الحالي وتشكل آفة تدمر المجتمعات والشعوب . وهذا ما نشاهده في الكثير من الصراعات الدولية في عالم اليوم تعود اسبابها الى التعصب القومي والديني والطائفي والقبلي حيث تتميز الشخصية المتعصبة المسببة لهذه الألام بالتسلط والجمود في التفكير وعدم تقبل الحوار مع الآخرين واللجوء الى العنف لتحقيق الغايات التي يؤمنون بها ، وما يحدث من قتل وتدمير في العراق ولبنان وباكستان والسودان ويوغسلافيا السابقة وافريقيا ودول عديدة أخرى اكبر دليل على ذلك

 وقد ادرك المجتمع الدولي تأثير التعصب على ما يحدث في العالم من صراعات مأساوية ومخاطره المستقبلية لذلك أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني عام 1981م إعلان خاص بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد ..

 وبسبب الظروف الصعبة التي نمر بها نحن المندائيون يتوجب علينا ان نتحرر من التعصب والفهم السليم للتعاليم الدينية والمرتبطة بالأفكار المتنورة والثقافة الحرة والتعايش والتسامح مع الآخرين وتقبل الحوار مع الرأي الآخر والتمسك بمبادئ الديمقراطية وقيمها وبحقوق الأنسان التي تضمنها المعاهدات والمواثيق الدولية جميعها في حرية الرأي والمبدأ والعقيدة وأحترام الآخر. وان يتحلى الجميع بروحية التسامح ونسيان الخلافات ، التسامح بمعناه الديني والاجتماعي والفكري ، فالتسامح يعني البساطة والشفافية في تناول الامور ، ومن يفقد التسامح سيفقد إنسانيته ، وسينحاز للتعصب والجهل والعنف .

ان عدم تحقيق التسامح يؤدي الى كوارث أنسانية ، وهذا واقع لمسته شعوب كثيرة خاضت تجارب مرة ودخلت في معارك دمرت بلدانها ، وبقيت لغة الدم وسيلة للحوار والتفاهم ، وهنا يمكننا ان نذكر هذه السطور ما نص عليه ميثاق الامم المتحدة في ديباجته المتعلقة بالتسامح .... ( لقد آلينا على انفسنا ان ننقذ الاجيال المقبلة من ويلات الحروب.. وان نؤكد من جديد ايماننا بالحقوق الاساسية للانسان وكرامة الفرد وقدره، وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا ان نأخذ انفسنا بالتسامح وان نعيش معا" في سلام وحسن جوار ) .

وأخيرا" وبعد كل ما ذكر فلتبقى شبكة الياهو المندائية صفحة للمحبة والحوار والتسامح والتصالح ولتبادل الأراء الحرة وأحترام الرأي والرأي الآخر بعيدا" عن التشنج والقمع والتعصب وبأشكاله المختلفة ، ولتقريب المسافات بين المندائيين الموزعين في دول الشتات ولسماع اخبار بعضهم البعض ولنأكد الشعار ان المندائيين عائلة واحدة .

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013 23:30

كمندائيين نعيش اليوم تحديات كبرى

لاشك إننا كمندائيين نعيش اليوم تحديات كبرى .ولغرض مواجه تلك التحديات علينا فرزها ودراستها ومعرفة أسبابها وطريق الخلاص منها.

لا يتم كل ذلك بحديث أو مقالة وإنما بعمل جاد يعكس حرصكم جميعا بلا استثناء. فكل مندائي مخلص لمندائيتة وأهله بطريقة التي يعرفها ويجيدها . ليس بالضرورة أن نكون جميعنا متفقين على طريقة واحدة والمهم النية واحدة.

والحديث عن الهموم المندائية لم يبدأ اليوم وإنما تمتد جذورها إلى ماض بعيد .

الجديد في الأمر أنكم تدركون ما يحيط بكم وتناخيتم للذود عن المندائية .

التحديات التي تواجهنا اليوم منها ما هو خارج عنا ويتمثل بالحملة الشرسة في القضاء علينا جسديا . وقد تكالبت قوى ظلامية جاهلة لتنفيذ تلك الجريمة .

العشرات من الجمعيات لا بل المئات منها ومن والناس الشرفاء وعلى رأسهم جمعياتنا المندائية

في كل مكان تبذل ما تستطيع للدفاع عن المندائيين . لندعمهم ونشد على أيديهم على أي جهدا يبذل في هذه الوقفة المصيرية. سنذكرهم بالخير دائما وسيذكرهم أبناؤنا وبكل فخر وتقدير.

 

ليست هذه مقالة مدح أو تقييم ولكنني أود أن الفت نظركم بأن التحديات التي تواجه المندائية ليست جميعها من الخارج ولكن التحديات الداخلية قد تكون أخطر .

 

علينا دراسة ما استجد في ديننا . فلم تعد الظروف كما كانت ولم تعد العقول كما كانت تقبل كل شيء. لا وحتى الطبيعة ذاتها قد تغيرت.

 

الدين المندائي ككل الأديان تكون من رحم المجتمع وتأثر بعاداته وظروفه ونمى وتطور بتأثير تطور المجتمع الذي نعيش فيه . فنحن نتفاعل كدين حي مع مستجدات الحياة .

 

من يستذكر المندائية قبل خمسين عام لا أكثر ويقارنها بمندائية اليوم ماذا سيجد ؟

 

لقد تبدلت العديد من الطقوس والعادات والممارسات اليومية للمندائيين ولكن بشكل عفوي وعشوائي . أي كردود فعل تجاه تطور الحياة الجديدة.

 

أضرب لكم بعض الأمثال :

 

لم يكن هناك مندائي حليق الذقن والرأس. وكان قص الشعر من المحرمات التي لا يمكن التساهل معها ومن أساسيات الدين وقد عرف المندائيين بتلك اللحى ! أين هي اليوم ؟

 

كانت عيد الكرصة من أخطر الأيام وأكثرها تزمتا في المحرمات أين هي اليوم ؟

 

كانت الصباغة وحتى صباغة الأواني لا تنقطع يوما أين هي اليوم ؟

 

كانت المهور تتم تحت إشراف أكثر من مومن وبينهم كنزفرا . أين هي اليوم ؟

 

لحم ( أبو ذويل ) ما رأيكم في حلاله وحرامه ؟

 

هل أستمر في التعداد والغرض منه ليس عملية التعداد بل فقط لأعطيكم مثلا بأن الدين في تغير غير مدروس.

ترى لو كان لأهلنا استعداد وقدرة ثقافية لمناقشة ما سيجري لمندائيتهم الم يضعوا أسسا صحيحة لتطور الدين مع مقتضيات ما يتطلبه تطور الحياة ؟

الآن وأغلبكم مثقفين ومطلعين دينيا إن لم تكونوا كلكم. ماذا ينقصكم لتناقشوا أمور دينكم بشكل علمي بعيد عن المزايدات وعن المغالاة بالسلفية ودفن الرؤوس في الرمال .

 

سوف لن أعدد كل التحديات التي تواجه المندائية اليوم ولكن سأذكر بعضها . وأحثكم لتتفكروا بكل ما يواجه المندائية اليوم أو في غد وأبدأ أولا:

 

1- مسألة الصباغة في المياه الجارية :

 

بالحقيقة ما دفعني للبدء بهذه المسألة بالذات قبل غيرها . حادثة جرت أمامي الأسبوع الفائت وإليكم ما جرى :

 

كنت في مدينة مالمو بضيافة عائلة مندائية . وعند العشاء جلس الأب والأم وبنتهم ذات العشر سنين وابنهم ذو الأربعة عشر ربيعا والضيف الذي هو أنا طبعا حول المائدة .

 

قبل بدء تناول الطعام رأيت الصغار وأمهم ينطقون ب ( اشمت هيي واشمت مندا اد هيي ) وبعدها تناولوا الطعام الذي كان شهيا.

 

سألت الأم عن تلك الممارسة النادرة اليوم بين المندائيين ؟ أجابت ببساطة إنها تحاول غرس المندائية في قلوب صغارها . بارك الله فيها.

 

في اليوم التالي ذهبت معهم للقاء مع رئيس الطائفة شيخنا الجليل الكنزفرا الشيخ ستار.

 

كان اليافع يجلس بجانبي وعندما رأى الشيخ والكل وقوفا لتحيته والترحيب به هب واقفا أيضا .ظننته يقلدنا ولكنه كان غاضبا وممتعضا وأراد مغادرة المكان . سايرته وخرجت معه وهناك سألته عن سبب امتعاضه أجابني والقرف باد على وجهه الصبوح:

 

إن هذا الشيخ أجبرني على شرب الماء القذر عند صباغتي !

 

تصورا ما تبنيه الأم بمشقة وصبر بتحبيب المندائية وغرسها في عقول صغارها يذهب بلحظة نتيجة تصرف قد نراه نحن عادي ولكنه همجي وبدائي بالنسبة للجيل الجديد .

 

وما مصير المندائية إن لم تكن مكرسة للجيل الجديد؟.

 

من هو المحق ؟ شيخنا الجليل ؟ أم الشاب الصغير ؟ أجيبوني رجاء

 

أطرح أمامك تقرير مختصر لأشهر علماء ماء الشرب في السويد وفي العالم ربما وبالمناسبة هو مندائي وحلالي وليس ذلك غريبا فالمندائيون هم أولاد اليردنه . أتحدث عن الدكتور حسام صالح جبر .

 

واليكم رسالته المختصرة التي كتبها لي إجابة على سؤالي عن الماء مشكورا .

 

( في العصور القديمة كانت المياه السطحية والمياه الجوفية نقية وصالحة للشرب والسباحة والنشاطات الإنسانية المباشرة وغير المباشرة الأخرى. وكانت المصادر المائية على العموم قادرة على استيعاب الملوثات الطبيعية وتنقيتها ذاتيا. حيث أن مقدار التلوث لا يتجاوز إمكانية المصادر المائية على التنقية الذاتية.

 

مع مرور الزمن ونتيجة نشاط الإنسان والتقدم الحضاري وما رافقه من تطور الصناعة وخاصة الصناعات الكيماوية واستخدام المواد الكيماوية في الزراعة. وتطور وسائط النقل . وكذلك نتيجة الزيادة السكانية وتركيز السكان في المدن الكبيرة ، وما تطرحه من أنواع مختلفة من الملوثات الدقيقة والتي تؤثر بتراكيز قليلة ( ميكرونية ) على نوعية المياه . فقد ازداد بنطاق واسع استخدام المنظفات ومشتقات النفط والمواد الفينولية والمبيدات والأسمدة وكذلك الفلزات الثقيلة والمواد المشعة....الخ.وتم توريد عشرات الآلاف من المركبات الكيماوية التي صنعها البشر في المصادر المائية .

 

ونتيجة لكل ما تقدم فقدت مصادر المياه من نوعيتها وأصبحت التنقية الذاتية في أغلب الأحيان غير كافية. وتغيرت خواص الماء الفيزياوية كاللون والطعم والرائحة وتركيز المواد العالقة والكيماوية . كنقصان تركيز الأوكسجين المذاب

 

وزيادة تركيز المواد العضوية وغير العضوية والمواد السامة والبيولوجية مثل الطحالب والبكتيريا بما فيها البكتريا المرضية والفيروسات والطفيليات. وأصبح لاستهلاك المباشر للمياه غير ممكن حيث يؤدي إلى أضرا صحية ويسبب الأوبئة أحيانا.

 

إن مصطلح نوعية المياه الصالحة للشرب . كمفهوم عام يشمل الصفات الفيزياوية والكيماوية والبيولوجية للماء ، ويعتبر الماء صالح للشرب إذا توفر ما يلي :

 

خالي من الأحياء المهجرية المرضية

 

خالي من المواد السامة

 

تركيز المواد العضوية وغير العضوية تحت النسب المحددة

 

حرارة ولون وطعم ورائحة الماء وكذلك عكرة الماء تناسب المعايير المحددة لمياه الشرب.

 

ومن الواضح فإنه من الصعب توفر مثل هذه الشروط في المياه الطبيعية وبدون تصفية ملائمة. وكذلك من الصعب تقييم نوعية الماء بدون إجراء الفحوصات المختبرية الأساسية والتي ما تتم بشكل روتين في مشاريع وشبكات مياه الشرب .)

 

كما ترون فأن لم نمتنع من ذاتنا في استعمال المياه بالشكل العشوائي الذي نستعمله اليوم. قد نمنع عن ذلك بأوامر الدول التي نحن فيها. هذا إذا نكن حريصين على المندائيين في تجنيبهم تلك المياه الملوثة .

 

أدعوكم لمطالبة رجال الدين والمعنيين بالامتناع عن استعمال تلك المياه سواء للصباغة فيها أو الشرب منها للمندائيين ولهم شخصيا . فمن أجل المندائية عليهم أن يحافظوا على صحتهم أيضا.

 

أقترح استعمال المياه المعقمة في أحواض مخصصة للصباغة ومراعاة النظافة التامة. ويمكن أن تكون تلك الأحواض من أي مادة وبحجم مناسب يمكن وضعها في أماكن مغلقة ويتم تبديل ماءها بجعله جاريا.

 

وماء الشرب الذي في ( الممبوهة )يكون من الماء المسموح بشربه رسميا .

 

قد تكون هناك اقتراحات أخرى حتما . وحبذا لو تتم مناقشة كل الآراء قبل البت بأي تغيير في طقوسنا بشكل عفوي.

 

سأطرح مسألة أخرى في المرة التالية بعد أن نشبع هذا الموضوع نقاشا.

 

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013 23:23

فراس السواح: حوار في الغنوصية والمندائية

 يعتبر مؤرخ الأفكار السوري فراس السواح واحدا من المنقبين في آثار الحضارات البائدة عل أجوبة تتجلى على أسئلة عصرنا.. فمن كتابه الأول "مغامرة العقل الأولى" الذي صدر اواخر سبعينات القرن الماضي وحتى كتابه الأخير "الوجه الآخر للمسيح، مدخل إلى 

 

الغنوصية المسيحية"، يستبطن الميثولوجيا وتاريخ الأديان. التقيناه في حمص مؤخرا، فكان هذا الحوار:

س ـ اصدرتم مؤخراً كتابكم "طريق اخوان الصفا" وفيه تشيرون الى تأثر اخوان الصفا بالغنوصية والفكر اليوناني وتأسيسهم لإسلام كوني شمولي يستوعب المذاهب كلها من خلال نظرة منفتحة ترى الوحدة من خلال التنوع. الا تجدون في بحثكم هذا طرحاً جريئاً لم يتناوله احد من قبلكم؟ 

السواح ـ نعم، هو بحث جديد لم ينتبه الباحثون العرب الى المعنى الذي تذهب اليه رسائل اخوان الصفا، فقمت بدراسة وتحليل هذه الرسائل فوجدت مذهبهم مذهباً غنوصياً وعلى هذا حللت الأفكار وجمعتها في محاور سبعة هي: نظرية التكوين وصفة العالم ومعرفة النفس وارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة والآخرة والنشأة الثانية والاسم اخوان االصفا وطريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية. ويقوم مذهب اخوان الصفا على التوفيق بين الأديان والابتعاد عن التعصب الذي اعتبروه "آفة العقول يعميها عن رؤية الحقائق". ومثل الغنوصيين يقول اخوان الصفا بأن موت الجسد هو ولادة الروح، ويشبهون ملاك الموت بقابلة الأرواح لأنه يستولد النفس (الروح) من الجسد كما تستولد القابلة الجنين من الرحم.

 

ـ باعتقادي انه بحث ناجح ويمكن ان يكون مصدراً من مصادر البحث.

السوح ـ نعم، انا اعددته لهذا الغرض.

 

ـ وماهي التأثيرات الشرقية على الفكر الغنوصي الثنيوي وهل الغنوصية هي نتيجة لتلاقح الأفكار الغربية مع الشرقية البابلية والزردشتية؟

السواح ـ زرادشت مصدر الثنيوية ثم اتخذت اشكال متعددة، الغنوصية والمانوية وحتى الأزيدية في سوريا معتقدها ثنيوي، ولدينا في سوريا الكثير من الأزيدين.

 

ـ هل تعتبر يوحنا المعمدان غنوصياً وكيف تفسر علاقة المندائيين به؟ 

السواح ـ يوحنا المعمدان ليس له صلة عضوية بالغنوصية، بعض الفرق الغنوصية نسبت نفسها الى يوحنا المعمدان ولكن لم تكن له صلة بهم. يوحنا المعمدان اقرب الى الشخصية الأسطورية لأننا لانملك معلومات عنه ولانعرف ماهي تعاليمه. المندائية مثل مانقول عبارة عن صدفة جيولوجية اي مثل الأحفور الذي جاءنا من العصور القديمة بسبب محافظة المندائيين عليها مما ادى الى عدم ذوبان المندائية في المحيط الذي كانت تعيش فيه. مع الأسف ان اكثر الدراسات التي تمت عن الغنوصية تمت على ايدي باحثين معادين لها، اي من قبل خصومها، الا ان النظرة تغيرت بعد السبعينات من القرن الماضي مثل كتابي "الوجه الآخر للمسيح"، كما ان هناك حركة علمية بدأت بالظهور في اواخر القرن الماضي تعنى بالدراسات الغنوصية في الولايات المتحدة والمانيا وفرنسا. اليهود ليس لهم مصلحة في دراسة العقيدة الغنوصية لأن الغنوصية تقف على طرف نقيض مع الفكر اليهودي... فالغنوصية معتقد خلاصٍ، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. ولكن الخلاص الغنوصي لن يتأتى عن طريق العبادات الشكلية والطقوس اذا لم تترافق مع المعرفة وتكون مقدمة له. فعلى العكس من بقية النظم الدينية التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن البعث الذي تبشر به الغنوصية هو بعث الأرواح، انه خلاص من الجسد ومن العالم في آن واحد. ان مايبحث عنه الغنوصي ليس الإله الذي صنع العالم المادي الناقص والمليء بالألم والشر والموت، بل هو الآب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولايحده وصف او يحيط به اسم. فالغنوصية ديانة خلاص، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص أخيراً في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. والصراع الرئيسي الذي يخوضه الانسان هو صراع بين العرفان الذي يقود الى الخلاص، وبين الجهل الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت. 

 

ـ هل للمندائيين (الناصورائيين) علاقة بالطوائف التي ظهرت اثناء الوجود الهلنستي في فلسطين بحدود القرن الثاني ق. م. وماهي علاقة المندائيين بالأسينين وكذلك بالطوائف الغنوصية فيي الشام؟

السواح ـ تاريخ الغنوصية هو تاريخ غامض فالغنوصية ظهرت في المشرق العربي في مطلع القرن الأول الميلادي، وهو يموج بالحركات الفكرية ويفيض بالثقافات المتنوعة، ويمكننا تلمس أصول الغنوصية في الرسائل الهرمسية وهي رسائل اسكندرانية وعليه فإن منشأ الغنوصية هو مصر وهي البوتقة الأولى التي احتوت هذه الأفكار ثم اصبحت لها علاقة بالثقافة الهلنستية. ومن اهم معلمي الغنوصية في مصر هو فالنتينوس، الذي ولد بمنطقة الدلتا المصرية من أسرة ذات أصول يونانية عام 100 م. وتلقى علومه بالاسكندرية، مدينة العلم والثقافة في ذلك العصر، وبؤرة الفكر الأفلاطوني والهرمسي. وقد اخذت الغنوصية من الأفلاطونية كذلك ويمكن اعتبارها خلطة لمعظم التيارات التي كانت سائدة في المنطقة. في الحقيقة ان تاريخ الغنوصية في سوريا غامض لأننا لانملك اية وثائق عنهم. لانستطيع القول بأن هناك غنوصية سورية مميزة لأنه في ذلك الوقت لم يكن اي قطر من الأقطار ذا خصوصية مميزة فسوريا لم تكن تتميز ثقافياً عن بلاد الرافدين ولا عن الثقافة المصرية. نزوح الغنوصية الى اوربا متأخر وأصول الغنوصية هي اصول مشرقية وليس العكس. نعم هناك غنوصية سورية ولكن معلوماتنا عنها مبعثرة. بعض الباحثين من امثال سبنسر لويس يعتقد بأن الناصورائيين هم شيعة سرانية غير يهودية مثل شيعة النذريين وشيع اخرى وكان لهم مقام ديني مقدس على جبل الكرمل، ودير هو أشبه بالمعهد الديني يلتحق به الفتيان في سن الثانية عشر، من أجل الإعداد الديني وتلقي الأسرار، وكان لهذا المقام الديني شهرة واسعة خارج فلسطين وقصده العديد من الحكماء وامضوا فيه وقتاً لابأس به خلال فترة اعدادهم الروحي، ومنهم فيثاغورس الذي تروي سيرة حياته عن اعتكافه لسنوات في جبل الكرمل. 

 

ـ بعض المستشرقين مثل الألماني ليدزباركسي، الذي ترجم كتاب المندائيين المقدس "الكنزا ربا" او الكنز الكبير في بداية القرن العشرين، يعتقد بأن اصل المندائيين من شمال بلاد الشام بدلالة تشابه تسميات بعض الكائنات النورانية المندائية مع بعض الإلهة السورية القديمة مثل حراس النهر الحي شلمي وندبي؟

السواح ـ من الجائز تماماً، الا ان الموضوع يحتاج لمزيد من البحث. ولكن حسب علمي لم تكن هناك فرق مغتسلة في سوريا.

 

ـ المندائية كلمة آرامية تعني المعرفية وقد حولها اليونانيون الى كلمة غنوستكا ومن ثم الى كلمة "الغنوصية" في اللغة العربية، ماهو أصل الغنوصية برأيك؟

السواح ـ أصول الغنوصية غامضة ولانستطيع متابعة تاريخها الا بحدود القرن الأول الميلادي، وتاريخ الغنوصية تاريخ يشوبه الغموض حيث ظهرت في زمن كانت منطقة الشرق الأوسط تموج بالحركات الفكرية نتيجة لتمازج الثقافات والشعوب وظهور وغياب طوائف فيها بكثرة، ويرجح ظهورها في القرن الأول الميلادي في الرسائل الرمزية لهرمز مثلث الحكمة او مثلث العظمة وتعتبر الشرارة التي فجرت هذا الاتجاه. وقد اخذت الغنوصية من الأفلاطونية ـ الوسيطة والمحدثة ـ الكثير من الافكار رفدها تيار يهودي غنوصي حيث ان الكثير من يهود الاسكندرية قد تحولوا الى الغنوصية آنذاك كما ان المسيحيين قد ساهموا بتطوير الفكر الغنوصي وعليه فإن الغنوصية هي بمثابة مزيج من معظم التيارات التي كانت سائدة في تلك الحقبة. أما بالنسبة للغنوصية السورية فنحن لانعرف عنها الكثير، كما اسلفت، لعدم وجود وثائق ولكننا نعلم بوجودها من خلال وجود سمعان ماغوس او سايمون ماغوس (الساحر)، والذي يقال بأنه كان من تلاميذ يوحنا المعمدان، وهو مؤسس المدرسة الغنوصية السورية ولكنه من اكثر الشخصيات الغنوصية غموضاً، لأن مؤلفاته قد ضاعت، ولم يبق منها إلا افكار متفرقة وصلت الينا عن طريق نقاده المسيحيين. وقد نشط سمعان خلال اواسط القرن الأول الميلادي، وهذا يعني انه قد عاصر يسوع ونشط خلال فترة نشاط الرسل الأوائل.

 

ـ وماهي تعاليم سايمون ماغوس؟

السواح ـ يقول سمعان وفقاً لناقده هيبوليتوس، بأن الله قوة أزلية موحدة وغير متمايزة، منغلقة على نفسها في صمت مطلق. ثم إن هذه القوة اتخذت شكلاً وانقسمت على نفسها فظهر العقل Nous وهو مذكر، والفكرة Enoia وهي مؤنثة. وبذلك انشطرت الألوهة الى قسم علوي وهو عالم الروح، وقسم سفلي هو عالم المادة. وقد كان لسمعان عدد من التلاميذ اشهرهم دوتيسيوس وميناندر اللذان بشرا في سورية، واتخذا من انظاكية مقراً لهما.

 

ـ المندائيون لديهم وثيقة تسمى "حران كَويثا" اي حران الداخلية وهي تتحدث عن هجرة المندائيين من اورشليم الى ارض ميديا ومن ثم الى بابل ومملكة ميسان في جنوب العراق وذلك عند خراب الهيكل الثاني اي بحدود سنة 70 ب. م. نتيجة لاضطهاد اليهود لهم، كيف تفسرون انتقال هذا الفكر المصري الغنوصي الى مندائيو بلاد الرافدين؟

السواح ـ هذا ممكن، ولكن ليس لدينا وثائق تاريخية تثبت هذا القول.

 

ـ تشهد الغنوصية والآرامية حركة انتعاش فكرية كبيرة في الجامعات والمعاهد الغربية، والآرامية كما نعلم منشؤها بلاد الشام، لماذا لاتشجعون مثل هذا التوجه البحثي بدلاً من الأعتماد على المستشرقين والباحثين الغربيين؟

السواح ـ هذه الدراسات تمر في حالة سبات في سوريا فالجامعات السورية لاتقوم بواجبها في هذا المجال. البحوث والدراسات بحاجة الى التفرغ وبحاجة الى تمويل، فمثلاً انا متفرغ للبحوث منذ عشرين عاماً ولولا ان لدي مردوداً مالياً من اعمالي لما استطعت الاستمرار لأنه لاتوجد جهة تسند البحوث وتعطي المنح للباحثين. ومع ذلك توجد جهود فردية قليلة في مجال الآراميات منها اخيراً كتاب "اللغة الآرامية القديمة" للدكتور فاروق اسماعيل الأستاذ في جامعة حلب، بالاضافة الى كتابي آراميو دمشق واسرائيل.

 

ـ ممكن نبذة عن حياتك؟

السواح ـ انا مولود في مدينة حمص سنة 1943 ودرست ادارة الأعمال في جامعة دمشق.

 

ـ اذاً انت بعيد عن مجالك الحالي!

السواح ـ نعم، وقد تفرغت خلال العشرين سنة الأخيرة تفرغ كامل للبحث والكتابة وهما مجال عملي الوحيد الآن.

 

ـ كيف تكوّن لديك هذا الأهتمام بالتاريخ والأديان والتراث؟ وماهي انطلاقتك الأولى؟

السواح ـ دائماً يوجه لي هذا السؤال، والحقيقة لا أعلم! انطلاقتي االأساسية هي كتابي "مغامرة العقل الأولى" الذي صدر سنة 1976 وطبع منه العديد من الطبعات. لقد كان همي دوماً البحث عن وحدة التجربة الروحية الإنسان عبر التاريخ، بصرف النظر عن مصدر الخبرة الدينية، وهل هي من أصل ماورائي ام نتاج تجربة انسانية وكدح روحي!

 

ـ الكثيرون يثمنون عملكم "جلجامش"، وخصوصاً الجزء المسرحي الذي قمتم باعداده. هل اعتمدتم النص السومري ـ الآكادي في هذا العمل، أم على النصوص المترجمة؟

السواح ـ أنا لا اقرأ أية لغة قديمة، وانما اعتمدت على النصوص المترجمة الى الأنجليزية وعلى ترجمتي طه باقر و سامي سعيد الأحمد.

 

ـ كم يبلغ عدد مؤلفاتك، وبماذا تعزو اقبال القراء عليها؟

السواح ـ اعمالي تتجاوز الأربعة عشر عملاً منها جلجامش ولغز عشتار ومغامرة العقل الأولى والوجه الآخر للمسيح وارام دمشق واسرائيل وطريق اخوان الصفا وغيرها. لحد الآن لا أسمي نفسي باحثاً محترفاً بالرغم اني اعيش من دخل مؤلفاتي. انا هاوي ولكني اعمل بغرام ومحبة والموضوع هو الذي يختارني ولست الذي انا اختاره ويمكنك القول بأن الموضوع يهجم علي ومن محبتي للموضوع اتعمق فيه، فأنا ابذل نصف جهدي بتوليد الأفكار والنصف الثاني بطريقة ايصال الفكرة الى القارئ. انا اكتب بمرجعية حديثة وربما هذا هو سبب اقبال الناس على اعمالي.

 

ـ ماهي اعمالكم الأخيرة؟

السواح ـ انتهيت من كتاب "الأنجيل برواية القرآن" و كتاب "القصص القرآني والمتوازيات التوراتية" وكذلك كتاب "من إيل الى الله".

 

ـ لماذا انت مقل في المقابلات الأعلامية، ولماذا وافقت على مقابلتنا؟

السواح ـ في الحقيقة ليس لدي الوقت الكثير للمقابلات، فنادراً ماتأتيك مقابلة محرضة، كما اني مقل في الكلام ولا احب الكلام الكثير. حضوركم استثارني. ان ارى مندائيين في سوريا ولديكم جمعية في سوريا لم يكن بالحسبان، والحقيقة استغربت فانكم تشبهون السوريين، وجوهكم سورية. انا لم اتعمق في دراستي للمندائية لأنه تعوزني المصادر، ولهذا سأحاول ان اعمل برنامجاً تلفزيونياً عنكم لاطلاع الرأي العام عن طائفتكم وعلى طقوسكم المندائية.

 

ـ نحن مسرورون بلقائك ونعتبرها فرصة جميلة جدا?

السواح ـ انا محظوظ بلقاء المندائيين، فقد اثرتم خيالي منذ بضعة عقود ولم اتوقع بحياتي ان التقي بالمندائيين. واعتقد بأن المندائية تيار من التيارات الدينية المهمة جداً والتي حفظت لنا كل روحانية الشرق، انا سعيد جداً بلقائكم.

س ـ نطمح ان تخصصوا جزءاً من بحوثكم للمندائية في دراساتك م المستقبلية ونأمل في لقاء قريب آخر. 

السواح ـ انا سعيد جداً بلقائكم.

 

وتم تقديم كتاب المندائيين المقدس "الكنزا ربا" هدية من الجمعية المندائية في سوريا التي تقبلها بسرور بالغ وعلق بأن هذا اللقاء والتعريف بالمندائية كان يجب ان يتم قبل هذا التاريخ باعتبار ان الأرث المندائي ثروة معرفية كبيرة. 

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013 19:09

وطنية آخر زمان

 التصرف الأهوج الذي قام به منتظر الزيدي , والمحسوب على الصحافة العراقية , لايعدو ان يكون ممارسة صبيانية صدرت من شخص يريد الظهور , حتى لو كان هذا الظهور مشيناً . انني لا أتحدث عن وطنية الرجل فربما كان وطنياً صادقاً , الا ان عملهالشائن هذا أساء لكل عراقي شريف , وأساء للصحافة العراقية النظيفة ذات التاريخ المجيد , صحافة الجواهري وعدنان البراك وأبو سعيد وشمران الياسري وعزيز السيد جاسم ومعاذ عبد الرحيم وشهاب التميمي وكامل شياع وغيرهم من اعلام الكلمة الصادقة والأقلام النظيفة. وربما كان مدفوعاًمن احدى دول الجوار ذات الأجندات الخاصة , والتي لا يروق لها ان يخطو العراق خطوة واحدة الى الأمام , لأن ذلك سيعرقل خططها بتصفية حساباتها مع الولايات المتحدة الأمريكية , وبنهجها للسيطرة على مقاليد الأمور في العراق من خلال أدواتها الخاصة في الداخل

 ان التصرف المشين الذي مارسه هذا الرجل هو زوبعة في فنجان وفقاعة صابون لا تعدو ان تنفجر لتجد جوقة اللطامين والنواحين في الفضائيات المشبوهة والصحافة المأجورة , ان قبضتها فارغة وان شبكتها لم تصطد سوى فردتي حذاء بائستين ملقاة في مستنقع

آسن.

ان ضجيج (القومجية) وتجار الكلام , وأيتام النظام الدموي المقبور لم يثر استغراب أحد , فهم يلطمون على (الهريسة وليس على الأمام).فبعد ان فقدوا (كوبونات) النفط وملايين صدام التي كانت تقتطع من قوت الشعب العراقي لتصب في جيوب القيادات القومية

والقطرية ووسائل الأعلام التي كانت تنعق ليل نهار تمجيداً لذاك النظام الدموي , أقول بعد أن فقدوا كل ذلك , فليس لهم إلا البكاء

على الأطلال والأحلام المريضة والأمنيات البائسة بعودة ذلك النظام المتوحش . فهم ايتام يلطمون ولي نعمتهم الذي رحل الى

مزبلة التاريخ غير مأسوف عليه ان ما يدعو الى الخجل والرثاء معاً هو الموقف البائس لإتحاد الصحفيين العرب الذي شمر عن ساعديه الهزيلتين للدفاع عن العمل الأخرق ومن يقف وراءه ,دون اي احترام للمهنة الشريفة التي يمثلها . كما هو الموقف في التطبيل والتزميرللعصابات الأجرامية التي يسمونها (المقاومة) وهي التي اختطفت النساء وانتهكت الأعراض وقتلت الأطفال والشيوخ وابناء الشعب البسطاء ,وهم يكدحون للحصول على قوت يومهم . او في الدفاع عن مجرمي الحكم الفاشي المقبور . إن اي مواطن عراقي يتساءل : أين كان هؤلاء يوم كان نظام القتلة يزرع ارض العراق شمالاً وجنوباً , شرقاً وغرباً بالمقابر الجماعية وينشر الجوع والذل والمهانة في كل شبرمنه بل تعداه الى دول الوار , بل كانوا يطبلون ويزمرون لحامي البوابة الشرقية !! واين هم من هذه المطحنة التي تطحن شعبنا العراقي بكل اطيافه واقلياته الدينية والأثنية , منذ سقوط الدكتاتورية وحتى اليوم والتي ينفذها المجرمون من قوى الظلام والتخلف والعصابات الصدامية المهزومة . اين هم من هذه الهجمة الشرسة ضد الأقليات الدينية والأثنية , التي تستهدف تفريغ العراق من سكانه الأصليين وبناة حضاراته المتعاقبة ؟ واين هم ومواقفهم من تدخل دول الجوار بشؤون العراق الداخلية , وفتح حدودها لقوى الأرهاب والجريمة لتعيث في ارض العراق فساداً وتحرق الأخضر واليابس ان سياسة بوش الهوجاء وسلوكياته الطائشة ,الحقت الأذى بكل شعوب الأرض وفي مقدمتها شعبنا العراقي المدّمى والشعب الامريكي الذي يعيش أسوأ ايام حياته منذ الأزمة الرأسمالية في ثلاثينات القرن الماضي .وفي الوقت الذي يناضل شعبنا في العراق بكل قواه المخلصة لأسترجاع سيادته الوطنية , ومحاربة الفساد

المستشري في كل مفاصل الدولة ومن أجل بناء دولة القانون والمؤسسات, فان الشعب الأمريكي عاقب بوش وحزبه وتوجهاته 

اليمينية المتطرفة , بإلحاق هزيمة ساحقة بالحزب الجمهوري على مستوى رئاسة الدولة أو الكونكرس ومع كل هذه الأخطاء التي ارتكبتها ادارة بوش على جميع الأصعدةإلا أن بوش سيغادر حاملاً معه شعور الرضا ,بأنه اسقط أشرس نظامين دمويين في العالم , نظام طالبان والقاعدة السلفي في افغانستان , ونظام البعث الصدامي الفاشي في العراق

 وأخيراً , فأن القانون سيقول كلمته بحق (أبو قندرة). وان الموضوع بكامله لا يستحق هذه الضجة التي يطبل لها أعداء 

مسيرة العراق الديمقراطية

نشرت في وجهة نظر

 لم يسبق لسكان قلعة صالح- مسلمين ومندائيين- ان اقاموا احتفالا ضخما كالاحتفال الذي اقاموه عندما توجهوا بالسفن والزوارق الى منتصف الطريق النهري الذي يربط القلعة بالعمارة في مقاطعة المزارع الكبير داود الحميد، وذلك في انتظار ابنهم البار المعلم الجديد غضبان رومي الناشي الذي قفز من السفينة التي كانت تقله الى الشاطىء وهو يبكي فرحا، ويقبل ايادي الشيوخ الذين تجشموا عناء السفر من اجله ويشد بقوة على ايدي مستقبليه ويعانقهم بشوق وحرارة. لاشك ان المسيرة الشبابية لهذا الرجل كانت حسنة جدا، والا فكيف يستقبل بهذه الحفاوة وهذا التكريم، وهو لما يزل في مقتبل العمر، ولم يتعد عقده الثاني بعد.

 كان ذلك في عام 1923 وهو العام الذي باشرت فيه مديرية معارف منطقة البصرة افتتاح عدة مدارس في العمارة، لان العمارة كانت واحدة من ثلاث مدن تكوّن منطقة البصرة آنذاك. 

اجا كان غضبان اول المرشحين الذين وقع اختيار مديرية المعارف على تحملهم المسؤولية التربوية في مركز مدينة العمارة، فكان لها ( ابو يحيى) وهو المعلم الذي افتتح مدرسة الكحلاء- الامام الصادق في ما بعد عام 1923، والمدرسة الشرقية- فيصل الثاني- - الوثبة- في ما بعد عام 1925، ومن هناك تألق نجمه وصار علما يشار اليه بالبنان فاسندت اليه عدة مسؤوليات تربوية ومهنية اذ اسس جمعية للمعلمين عام 1926 وكانت باكورة اعماله فيها القاء محاضرة قيمة عن تاريخ مدينة العمارة في العهد العثماني. ومن يقرأ تلك المحاضرة يتنبأ بامكانية هذا الباحث، وهو يحلل الاحداث التاريخية، ويضع النقاط على الحروف فيما يكتب. فقد اشار الى السياسة التعسفية التي مارسها العثمانيون الغزاة ضد ابناء شعبنا في مدينة العمارة، ولمح بطرف خفي الى خطط الاستعمار الانكليزي البغيض الذي احتل مدينتنا بعد هزيمة الاتراك في الثالث من حزيران عام 1915 . 

سكن غضبان مركز العمارة، وتطلع الى حالتها الصحية، فوجدها تحتاج دعما، لذلك شمرّ عن ساعديه، واسس دارا للصحة في متوسطة العمارة الفتية، فكان موضع اعجاب وفخر، وطار صيته الى العاصمة بغداد، فتوالت الوفود الصحية على مدينة العمارة، وزاره مدير الصحة العام وامر بالتحاقه بالمستشفى الملكي لتلقي دروسا في الصحة العامة، ومعرفة مسببات الامراض، وطرق الوقاية منها. وما ان اكمل دورته حتى صار يشد الرحال ايام العطل الرسمية الى القرى والارياف النائية، وهو يرشد الناس الى الوقاية من الامراض، ويدعوهم الى زيارة المؤسسات الصحية لاخذ العلاج المناسب. 

قد يتصور المرء ان هذا الرجل سيتوقف عند هذا الحد من النشاط الانساني، فقد زار قلعة صالح في مطلع الثلاثينيات وفد كشفي من المانيا وكان غضبان على رأس المستقبلين رافقهم في عدة جولات سياحية، الى المجر الكبير والكحلاء وعرض عليهم كرم العراقيين وقيمهم الاخلاقية العالية، فترك ذلك انطباعا حسنا في نفوسهم، عبروا عنه برسائل بعثوها اليه باعتباره الكشاف الاول في قلعة صالح والتي افتتح فيها فيما بعد ناديا هو الاول من نوعه حيث جعل منه تجمعا ثقافيا للشبيبة والشباب، وكانت المحاضرات التي يلقيها فيه تنشر على صفحات الصحف المحلية في مدينتنا. 

كل هذا وغضبان منذ الثلاثينيات كان يرقب بعين ثاقبة كالعقاب، الباحثة الانكليزية ( الليدي دراور) وهي تجمع المعلومات عن الصابئة المندائيين في العمارة وضواحيها وهو لم يتدخل في شؤونها ولم يعترض على كل ما تكتب وتسأل، وهو عالم علم اليقين في ما تكتب وتسأل، حتى اذا ما انجزت كتابها البكر آنذاك، طار به شوقا يقلب صفحاته ويدعو واحدا من ابناء طائفته اليه وهو المربي القدير نعيم بدوي ليمنحه شراكة في ترجمة الكتاب الى العربية. فكان بحق واحدا من امهات الكتب التي اعتمدها الباحثون في الاطلاع على الديانة المندائية

 

 

نشرت في وجهة نظر
الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2013 22:48

حٌب الوطًن دًينٌ لا يًسقُطْ

مرت على العراق أحداث مأساوية رهيبة أصاب طائفتنا الجزء الأكبر منها  

نظراً لما يتمتع به أبنائها من وعي سياسي واخلاقي وبأخلاص للوطن

 فمن ألضروري هنا عدم التغاضي والخوف من ذكرها حاليا ولتعرف

 الأجيال اللاحقة حقيقة تلك الاحداث وما جرى فيها لأن معرفتهم بها من جانب واحد

 وربطها بما يجري ألأن للطائفة من تهميش وأبعاد واقصاء متعمد

 وكما تبين في المؤتمر الأول الذي انعقد في أربيل من اننا تركنا ورائنا كل شيىء

 من أجل النجاة بارواحنا

 وقبل 46 عاما وفي صباح يوم (8) شباط الاسود أستفاق الشعب العراقي

 على انقلاب حبلت به الرجعية وأعوانها لسنوات طوال لم تلد غير سفك الدماء

 والتعذيب وتوالت بياناتها بالأعدامات والتنكيل بابناء الشعب العراقي البطل

 

ولم تسلم الطائفة من هذا العنف الدموي .

 

فقد زج بأبناء وبنات الطائفة في المعتقلات والسجون وتعرضوا لأبشع صنوف

 

التعذيب والارهاب.

 

لهذا قررت نخبة من أبنائنا انه من ألأفضل لهم ترك البلاد

 

حينما أمتزج في قلوبهم أليأس الذي أصاب الشعب عموما بالأمل بالنجاة

 

توجهت المجموعة الأولى من المناضلين وأصحاب الحرف الى

 

ناحية (الحلفاية ) تمهيداً لغرض الذهاب الى أخوان لهم في أيران

 

وقد ذكر الاستاذ الاديب مديح الصادق الجهود التي قام بها

 

ابناء الطائفة من أجل المحافظة عليهم وأيصالهم الى أيران

 

وأضيف هنا ما أتصف به أبن الطائفه هاشم هذال الزهيري

 

من نخوة مندائية. حيث قام بأصطحاب الأخوة الثلاثه

 

وهم الفقيد عبد الواحد مطشر . وحميد. .وسعيد.. والسير بهم

 

ليلاً في الهور وأيصالهم الى عائلة مندائية في البسيتين.هي عائلة (غافل) ذهب عن هذا الطريق عدد من الأخوة منهم كلدان كبيص مصبوب

 

ونوري عبد الرحيم الناشي.وفاضل رشم الجاري.وسعد مشط علوان ويحيى حنتوش الذي أصيب

 

بمرض التدرن الرئوي في ايران نتيجة قساوة المعيشة هناك والظروف الاقتصادية حيث لم يعالج للظروف الصعبة التي صادفت

 

وكان هذا المرض سبب وفاته

 

المجموعة الثانية- عن طريق البصرة شط العرب - المحمرة

 

ومثقفي الطائفة منهم الفقيد المحامي طالب بدر لسان حال الطائفة المناضلين

 

حيث كانت كلماته أشعارا يشهد لها في المواقف الحرجة . وحمودي مطشر الهلالي

 

كذلك ابن الطائفة الحقوقي عربي فرحان وزكي فرحان. وبديع سبع

 

وأبن الطائفة الكاتب الروائي توفيق جاني سهر . وعيسى خضر الخميسي وياسين الناشئ وارجو المعذرة للذين لم تحضرني اسمائهم حاليا

 

وبعد أن القي القبض على والدي في ميسان وسجنوه بدل عن أولاده الأربعة

 

وأبنته ارسل لي رسول يحثني على ترك البصرة ..

 

وفضل التعذيب على ذكر مكان تواجدي

 

وبعده عدة ايام القي القبض على عدد من أبناء الطائفة في محلة الجمهورية

 

وأخذ زوجي سامي عبد الجادر عندما كان يعالج المرضى في مستوصف

 

الجباسي قرب شط العرب حيث دخلت عليه مجموعه من الحرس القومي سئ الصيت

 

وبصوت عال هنا (صبي من جماعة عبد الكريم قاسم) وزج به في مواقف التعذيب

 

بعد هذه الاحداث المؤلمه التي أجتاحت البلاد ذهبت أنا والأخ وليد عبد الجادر

 

بمساعدة أبن الخال النائب ضابط مجيد جابك الزهيري, حيث أوصلنا الى حدود المحمرة حيث

 

أوهم زوارق الحرس بأننا في وليمة عند أحد المعارف وكان مرتديا بزته العسكرية

 

وصل الكثير من المندائيين وغير المندائين ومنهم الشاعر مظفر النواب وعبد الصاحب الحميري وكوادر كثيرة غيرهم حيث سكن معظمهم في مدينة الاهواز والحويزة التي سكن فيها اخي حميد واصبح شخصا محبوبا ومرحبا به وذات سمعة طيبة حيث استضافته

 

عائلة الأخوان(ناعم أبو شنيشل.وغانم أبو نيسي) حيث أشتغل في محل الصياغة

 

ونال أعجاب سكان المنطقة

 

وفي الأهواز تجمع العدد الأكبر من الفارين من هذا الأنقلاب الأسود

 

ورحبت بنا عائلة (اَل خشان حسن أبو كريم ويحى ابوحامد )حيث وفرت لنا كل ما نحتاجه انا واخي سعيد الذي وفروا له ادوات الصياغة داخل الدار واعتنوا بنا حيث كنت حاملا انذاك وهناك

 

التقيت بالأخت المناضله خولة الرومي التي كانت تشع ذكاء وحيوية ومعنويات عالية

 

حيث ذكرت لنامشاهد من رفض مشاهير بغداد للانقلاب الفاشئ الاسود

 

بعد خمسة اشهر قبض على العدد الأكبر من الفارين من قبل أمن الشاه.

 

وتم تسليمهم للسطات البعثية الحاكمة وكان من ضمنهم اخي عبد الواحد وسعيد

 

عندما كنت في مشفى شبرا خورشيد ولادة ابني عادل سامي

 

التحقت بأخي حميد في الحويزة ثم أرسل بطلبنا الاخ حمودي في

 

قرية الحايي على شط الكرخة ووفر لنا دار من القصب والبردي

 

وفيها محل للصياغة واشتغل الأخوان بتصليح وصياغة المصوغات المختلفة وكان مع الاخوان

 

نوري عبد الرحيم وذهب الاخ وليد الجادر مع بعض الاخوان صاغة متجولون حيث تم القاء القبض عليه واودع في سجن الاهواز

 

بقينا في هذه القرية لغاية الشهر الرابع من سنة ( 1964

 

وفي هذا التأريخ فر أبن الطائفة كلدان كبيص مصبوب من سجن

 

قرب الأهواز حيث أشتغل مدة شهر في قص ثلاث أسلاك من شبا ك غرفة

 

السجن ووصل الى قرية الحايي يسأل عن وجود صاغة

 

بعد ثلاثة ايام جاء مسؤل المنطقة وقال للاخوان انكم من العراق

 

لم نصادف في حياتنا أشخاص بهذه الأخلاق والطيبة . بعد ان انكشف امرنا بالمنطقة قررنا العودة الى العراق بعد سقوط نظام البعث بمجئ حكومة عبد السلام عارف

 

أوصلني الاخوان الى عائلة ال خشان التي أوصلتني الى البصرة

 

الى بيت العم صدام الهلالي

 

رجع كل من حميد وحمودي الى العراق عن طريق المشرح

 

ثم الى بغداد بزي سكن سيارة حمل

 

حين وصولنا الى بغداد عرفنا ان اغلب أبناء الطائفة سجناء

 

في سجن نقرة السلمان وسجن الحلة وسجن الفضيلية .والسجن المركزي

 

اغلبهم ُسجن بمحاكمات صورية . يوضع المتهمون مجموعات في

 

قفص الأتهام ويطلب منهم السب والشتم للقوى الوطنية ورموزها حيث انهم كانوا يمتنعون ويرفضون ومتمسكين بمبداهم

 

فما كان من الحاكم وبجرة قلم 10 سنوات لكل واحد

 

كان زوجي من الذين حكموا بهذا الحكم

 

ونتيجة للمعاناة التي مر بها والتعذيب الذي تعرض له ساءت حالته الصحية

 

وأصيب بجلطة قلبية متكرره التي كانت سبب لوفاته لاحقا ونقل من سجن نقرة السلمان ثم الى مستشفى الحلة العسكري وبعدها الى مستشفى الشعب العسكري .

 

كان الشعب العراقي يغلي ضد هذه الاوضاع الشاذة

 

انضممنا انا والاخوان الى لجان الدفاع عن السجناء والمفصولين

 

وشاركت عوائل السجناء رغم كل اساليب السلطة

 

بفعاليات في الكاظم وباب الشرقي تطالب بأطلاق سراح السجناء واعادة

 

المفصولين وارساء الحريات والديمقرطاية واستمر هذا الحال لغاية عام 1968

 

خلال هذه الاحداث من القهر والتشريد كنا نتغنى باشعار المناضل الشاعر مظفر النواب

 

في ايران

 

عفاك اٍشكدْ مصايِب علكَلُب لاجن

 

طَريد بلا وطن لادار لا جْن

 

اغداي تراب الهم قسم لو جان

 

واظل ابن الشعب حتى المنية

نشرت في وجهة نظر